أديب إسحاق (١٨٥٦–١٨٨٥)
(١) أديب إسحاق يربط الانتفاضات الشرقية بثورة فرنسا
ثم ذَكرَت تلك الشعلة وطنها القديم فحنَّت إليه، ولا غرو أن يحنَّ الغريب إلى وطنه، نعني الشرق، مقر جراثيم الحركات الدينية والسياسية التي غيَّرت هيئة الأرض وأحوال الإنسان، فسَرَت إليه تُنبِّه غافله وتُفقِّه جاهله، وظَهرَت في بلاد «أخورا مازدا» بين أبناء «زرادشت»، تحت سماء التقاليد، نريد بلاد الفرس؛ فإن مذهب البابيِّين، نسبةً إلى السيد علي محمد الملقب «باب المهدي»، قد ظهر في تلك البلاد منذ نحوٍ من ثلاثين سنة، وعلِق بقلوب الناس فتمذهب به جمعٌ كثيرٌ منهم وأثاروا الفتنة على الحكومة وأبرزوا من الجسارة والإقدام ما لم يُسمع بمثله، وبعد مقتل إمامهم رمى بعضهم الشاه بالرصاص ولم يُصب. وقد كان من أعمالهم الأخيرة أن جماعةً منهم تشبَّهوا بالجند وقصدوا الشاه وهو سائرٌ إلى مدفن شاه زاده عبد العظيم للزيارة، ثالث أفريل (نيسان) سنة ٧٨، وقالوا له: إنَّا من جندك وقد طال علينا زمن الخدمة ونروم الانصراف إلى منازلنا. فوعدهم أن ينظر في أمرهم بعد الرجوع إلى القصر. ثُم إنهم هجَموا على عربته ورمَوه بالحجارة الكبيرة وجرحوا جماعةً من رجال حرسه. وكان على مقربةٍ من مكان الحادثة طائفةً من الجند فطيَّر الشاه إليهم الخبر فجاءوا مسرعِين وقبضوا على جماعةٍ من أهل الفتنة وعَلِم الشاه أنهم من البابيِّين.
(٢) الأمة
الأمة والجيل من كلِّ حي ومن الرجل قومه، وفي عُرف أهل السياسة الجماعة المتجنسة جنسًا واحدًا الخاضعة لقانونٍ واحدٍ. وليس المراد بوحدة الجنس التوفيق بين الأنساب لتعذُّر ذلك فيها، ولِما طرأ على أنساب الناس ولا سيما الحضَر من المفاسد الكثيرة الناشئة عن تخالُط أقوامٍ مختلفة أنسابهم، وتوالي الحروب والغارات، وتوطُّن بعض الفاتحِين فتوحهم وتزوُّجهم في أهلها، إلى غير ذلك مما جُهِلت به الأنساب وخَفِيت به الأحساب إلا ما حُفِظ بمناسبة أهله عن أن يدانيهم فاتحٌ غريب، وهو قليلٌ لا يُقاس عليه. وإنما المراد بوحدة الجنس اتفاق الجماعة على الاعتزاء إلى جنسٍ واحدٍ يتوالدون فيه ويتَّسمون به، كالجنس الأميركاني لسكان الولايات المتحدة الأميركية سواء كانوا إنكليزًا أو فرنسويِّين أو إسبانيِّين أو أميركانيِّين أصلًا، والعثماني لسكان البلاد العثمانية في أوروبا وآسيا سواء كانوا تُركًا أو عربًا أو تترًا أصلًا، والأوستري لِسكان سلطنة أوستريا سواء كانوا ألمانًا أو صقالبة أو إيطاليين أصلًا، وهلُمَّ جرًّا.
فقد ثبت بما ذُكِر أن الأمة هي الجماعة من الناس تتجنس جنسًا واحدًا؛ أي تتسم بسمةٍ واحدةٍ على اختلاف أصولها ولغاتها، وتتعارف باسمٍ تنتسب إليه وتُدافع عنه.
(٣) حدُّ الوطن
أمَّا الوطن فهو المسكن يقيم به الإنسان، وفي عُرفهم البلاد يتوطنها سواد الأمة الأعظم ويتوالدون فيها، ولا يُشترط فيه مساحة بدرجاتٍ معيَّنةٍ وإقليمٌ واحد بتخومٍ معروفةٍ، وإنما تعريفه ما ذُكر من توطُّد معظم الأمة به. وقد يُضاف إلى الوطن بلادٌ لم تكن منه، وهي إمَّا أن تكون فتوحًا ضُمَّت إليه عنوةً، وإمَّا أن تنضم إليه برضى أهلها. فإن كان الأول فإمَّا أن يكون ضمُّها قديم العهد، وتكون معاملة حكومة الوطن لها معاملتها لسائر أهله فتثبت الملكية، وإمَّا ألا تكون هذا ولا ذاك فلا تثبت، وإن كان فلا مُشاحةَ في صحة الانضمام.
… لا بد لذوي الحياة السياسية من وحدةٍ يرجعون إليها ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرًا صلدًا، وإن الوطن إنما هو خير وجوه الوحدة لامتناع الخلاف والنزاع فيه …
الوطن في اللغة محل الإنسان مطلقًا؛ فهو السكن بمعنى أن تقول: استوطن القوم هذه الأرض وتوطَّنوها؛ أي: اتخذوها سكنًا. وهو عند أهل السياسة: مكانك الذي تُنسب إليه ويُحفظ حقك فيه ويُعلم حقُّه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطنَ إلا مع الحرية. وقال لابرويير الحكيم الفرنسوي: «لا وطنَ في حالة الاستبداد.» وكان حد الوطن عند قدماء الرومانيين: المكان الذي فيه للمرء حقوقٌ وواجباتٌ سياسية.
وهذا الحد الروماني الأخير لا ينقض قولهم: لا وطنَ إلا مع الحرية، بل هما سيَّان؛ فإن الحرية إنما هي حق القيام بالواجب المعلوم، فإن لم تُوجد فلا وطن لعدم الحقوق والواجبات السياسية، وإن وُجِدت فلا بد معها من الواجب والحق، وهما شعار الأوطان التي تُفتدى بالأموال والأبدان، وتُقدَّم على الأهل والخلان، ويبلغ حبها في النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان.
أمَّا السكن الذي لا حق فيه للساكن ولا هو آمنٌ على المال والروح فغاية القول في تعريفه أنه مأوى العاجز ومُستقرُّ من لا يجد إلى غيره سبيلًا.
(٤) الوطنية
وقد اختُلف في سبب حب الوطن، فقيل: إن السبب فيه الألفة؛ فإن الإنسان إذا ألِف شيئًا أحبه. وأُجيب بأنه يخرج الإنسان من وطنه صغيرًا فينبت في آخر ولا ينسى مع ذلك حُبَّ وطنه. وقيل: إن حب السكان يُورِّث حب المكان، كما قيل:
وأجيب بأنه قد ينتقل الإنسان عن وطنه بمعظم أهله وأصدقائه ولا ينفك مؤْثِرًا وطنه بالحب. وعندنا أن «ياء» الإضافة في قولي «وطني» هي السبب في حبي لوطني، كما أن «ياء» النسبة في قولنا «فرنسوي» هي السبب في حب الفرنسوي لأمته، فتأمَّله؛ فلله من ياءَين: «ياء» نسبة و«ياء» إضافة، تدعُوان إلى فضيلتَين: حب الأمة وحب الوطن.
ولقائل: إنك قد جعلتَ مصدر حب الوطن والأمة الأنانية (حب الذات) وهي نقيصة، فكيف صحَّ في قياسك صدور الفضيلة عن نقيضها؟ وجوابه أن الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، والفضل ضد النقص. أمَّا الأنانية فهي نسبة لضمير المتكلم على غير قياس، وهي في عُرفهم إيثار الإنسان نفسه بما يراه خيرًا سواء جنى بذلك على غيره خيرًا أم شرًّا، وليس في حب الوطن أو الأمة شيءٌ من ذلك كما ترى.
أمَّا وجه كونهما فضيلة؛ أي درجة رفيعة في الفضل، فهو لأنهما يقضيان على صاحبهما بخدمة الأرض التي يغتذي بخيراتها، والإنسانية التي جعلَته في جماعة من نوعه يعينونه على استحصال حاجاته ويدفعون عنه أذى سائر الأنواع. ولعلك لا ترضى بهذا تعليلًا فتقول: إن خدمة الإنسانية والأرض لا ينبغي أن تنحصر في جماعة من الإنسان أو في جهة من الأرض، وإنما يجب أن تكون عامةً فيهما. والجواب أنه لما رأى الإنسان من نفسه عجزًا عن القيام بجميع حاجاته الطبيعية ودفْع أذى سائر الحيوان، تألَّف جماعةً تفرَّقت فيها تلك الحاجات، فصار هذا زارعًا، وهذا حاصدًا، وذاك طاحنًا، وذاك عاجنًا، والآخر خابزًا، وكلٌّ منهم في شأنه ساعٍ، فلما كبرت هذه الجماعة عن أن يسعها قسمٌ واحدٌ من الأرض تفرقَت فيها فصارت جماعات منفصلٌ بعضها عن بعض حَسَبًا، مع تواصلها بالنوعية. وأقبلت كلُّ جماعة منها على العمل في الأرض التي اختارتها مقامًا استحصالًا لحاجاتها، وأخذ كلٌّ من أهلها يعمل فيما ارتضاه لنفسه من الصناعات ليعين بمصنوعه رفيقه مستعينًا بما يصنعه ذلك الرفيق. ولو حاول الإنسان الاهتمام في جميع الأرَضِين بجميع المهن والمشاغل لفني عمره ولم يأتِ بفائدةٍ تامةٍ، بخلاف ما إذا اقتصر على العمل بمهنته في جماعته إذ تتيسر له أسباب الإعانة والاستعانة فتحصل الفائدة التامة في الجماعة وينتهي ذلك إلى حصولها في النوع لِما بين الجماعات من علاقات الإنسانية. وهذا وجه الفضيلة في حب الأمة وحب الوطن، فليُرسمنَّ اسمهما على صفحات كلِّ قلب، وليلهجن بذكرهما لسانُ كلِّ إنسان، فإنما المرء بأَصغَرَيه: القلب واللسان.
… إن النسبة للوطن تصل بينه وبين الساكن صلةً منوطةً بأهداب الشرف الذاتي؛ فهو يغار عليه ويذود عنه كما يذود عن والده الذي ينتمي إليه، وإن كان سيئ الخُلق شديدًا عليه؛ ولذلك قيل في هذا المقام: إن «ياء» النسبة في قولنا «مصري» و«إنكليزي» و«فرنسوي» هي من موجباتِ غَيرة المصري على مصر والفرنسوي على فرنسا والإنكليزي على إنكلترا، فأنكر ذلك بعض الناس، وكان الأمر لا شك سوءَ فَهم أو سوءَ إفهام.
وجملة القول أن في الوطن من موجبات الحب والحرص والغَيرة ثلاثةً تشبه أن تكون حدودًا: الأول أنه السكن الذي فيه الغِذاء والوقاء والأهل والولد. والثاني أنه مكان الحقوق والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية، وهما حسِّيَّان ظاهريان. والثالث أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسانُ ويعزُّ أو يسفُل ويُذل، وهو معنويُّ محضًا.
(٥) الثورة
قد رأيتم شهداءَ طاعةٍ عمياء ينحرهم خبثاءُ النفوس على مذابح الجَور، تزلُّفًا لطواغيت الفجور، فوقفتُ برَبع العدل مناديًا بأهل الإنسانية: يا لَثاراتِ الضعفاء!
فأجابني هاتف العصور من أغوار القبور: لقد انتجعتَ بورًا، واتَّبعتَ غرورًا؛ فإنَّا ملأنا من قبلِك الأرضَ نداءً وزفيرًا، فلم نجد من الناس نصيرًا، فعلمنا أنهم لا يسخون بالنجدة لمن ضنَّ بنفسه وتوكَّل على بني جنسه، فاقتحمنا الأوجال في طلب الآمال، فلم تكن إلا جولةً ولَّتِ الحرب أولادها، وصولةً سلبتِ السيوف أغمادها، حتى سقينا غُروسَ الأماني بالدم المُهراق، فنمَت باسقةَ الفروع، مخضرَّة العود، يانعةَ الثمار، فقِلنا في ظلالها آمنين تحسبنا أمواتًا وتخالنا رُفاتًا، ونحن في نعيم جنتها خالدون، فاقتدُوا بنا إن رمتم النجاح، وانشَطوا للسعي بالغُدوِّ والرواح.
فعُدتُ إلى بقايا الضحايا أُحرِّك في عروقهم دم الغَيرة، وأبُثُّ في صدورهم رُوح العزم، وأَنشُر من همتهم ما طوت الأيام في قبور الوهام، بما أذكُر من أخبار الأمم وما أُظهر من آثار ذوي الهمم، لعلهم يستنجزون موعد الحق بمراغمة أعدائه الذين تمرَّدوا وسعَوا في الأرض مُفسدِين، ولعلهم يفلحون.
فأتاهم وزير الملِك يُذكِّرهم أمره ويدعوهم لطاعته ويُحذِّرهم عاقبة الفتنة، فأجابه خطيبهم ميرابو: عُد إلى مولاك وقل إنَّا مجتمعون في هذا المقام بأمر الأمة، فلا نتفرق إلا بقوة النِّصال!
فعاد الوزير بالخيبة والفشل يغالب عامل الغيظ ويقاوم فاعل الوجَل، فعظم هذا الأمر على رجال القصر وصنائع النبلاء وأنصار الامتياز، فحملوا الأمير على مقاومة النواب وأخْذِهم بالعنف، فعزل من كان مستوزرًا من وسط الناس؛ أي من غير الشرفاء، وبثَّ الجند في أرجاء العاصمة فاهتزَّ لذلك أهلُها اضطرابًا، وخرجوا على الدولة ثائرِين يرومون وقاية النواب، ويلتمسون الحرية والمساواة، واندفعوا كالسيل على قلعة المدينة فاقتلعوها من أيدي الجند مُنشدِين:
فانخلع بذلك قلب الأمير جزعًا ورام الفِرار والتماسَ النجاة فقُبض عليه في فارين وأُعيد إلى العاصمة أسيرًا، ثم كان من أمر محاكمته وإهدار دمه ما يخرج بيانه عن حد مطلبنا؛ فإنَّا لم نجعله تاريخًا لثورة الفرنسيس وإنما أتينا بذكرها مثلًا وعبرةً لقومٍ يذَّكرون. وليعلم الصابرون على العنف، الطامعون في النجاة من الخَسف، كيف أدرك الناس من قبلهم هذه الغاية فانتقلوا من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العز، ومن الرق إلى الحرية، فارتفعت رءوسهم، وانبسطت نفوسهم، وصارت أوطانهم بُغية المرتجي وعَقْوة الملتجي، لا يخاف نزيلُها ضيمًا ولا يخشى دركًا؛ إذ الشرقيون عمومًا والمصريون خصوصًا بين أنياب الطامعِين ومخالب الظالمِين.
وإني لا أطمع الآن للمصريِّين في مثل هذه الحال، وإن خاضوا لها غمار الأخطار واقتحموا إليها الأهوال، فإن الطفرة محال، ولا أحثُّهم على الفتنة وإن كانوا كما تصوَّر المتنبي حيث قال:
وإنما أُبيِّن لهم أن النعمة لا تُملك من غيرِ تعب، وأن الغاية لا تُدرك من غير طلب، وأن النجاة وقفٌ على سبيل الهمَّة، وأن النجاح بإرادة الأمة لتظهر عليهم علائم القصد فتكون طليعةً لجيوش العزم، فيعلم المستخفُّون بهم أنهم لا يزالون أحياء، وإن كانوا من ظُلمهم في ظلمات القبور، فيقبضون عنهم أيدي الظلم، ولا يطمعون في بيع أولادهم من الأجنبي عبيدًا يحفِرون المعدن ويُفلحون الأرض ويَطْوون الشراع، ولا يطعمون كراعًا ولا يطمعون في باع.
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يرفع من شأن أوطاننا ما وضع السفهاء، وأن يحفظ من حقوق أهلها ما ضيَّع الخائنون.