حسين باشا
إلى مسيو آموس بيري قنصل جنرال العصبة الأميركانية بحاضرة تونس:
أمَّا بعد، فإنه شرَّفني مكتوبكم الذي مضمونه أنكم حيث كنتم بأرضٍ كانت الحرية والعبودية بها متجاورتَين وناميتَين منذ مدَّةٍ مديدةٍ وصارتا الآن مشتبكتَين في حربٍ شديدةٍ لغاية قهرِ إحداهما الأخرى، ووجدتم في تاريخِ تونس حوادثَ مهمةً متعلقة بهذَين المبدأَين المتضادَّين، أردتم أن تعرفوا تأثير العبودية في بلادنا وهل أعقبت تأسُّفًا من الأهلِين على فقدها أو انشراحًا بذلك، فطلبتم منا شرح ذلك وبيان ما أثبتت التجربة أصلحيته هل هو الخدمة الجبرية؛ أي خدمة العبيد بدون أجر، أم الخدمة الاختيارية بأجر معلوم، وأيهما أوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية؟ أمَّا الجواب عما وجدتم في تاريخ بلادنا من تحرير العبيد ومنعنا لمُلك الآدمي في المستقبل بعد أن كان مباحًا فسبب ذلك هو أن دولتنا، كسائر الدول الإسلامية كما تُسمُّونها، دولة تيوكراتيك في المعنى؛ أي أحكامها جامعة بين الديانة والسياسة. والشريعة الإسلامية وإن أقرَّت الملكية (وقلنا أقرَّت لأن مُلك الآدمي متقدم على الشرائع الثلاث؛ فقد كان حكم السارق في شرع يعقوب إسرائيل الله أن يُسترقَّ سنةً بدل القطع في الشريعة المحمدية) إنما أباحتها بعد حصول سبب المُلك بشروطٍ وواجبات يعسُر القيام بها؛ فإن منها عدم الإضرار بالمملوك حتى جعل الشارع الإضرار موجبًا للعتق كما قال: أي مملوك مُثِّل به فهو حر. ومع ذلك فلم تزل الشريعة تؤكد الوصايا بالعبيد حتى كان آخر كلام نبينا ( ﷺ): «الصلاةَ وما ملكَت أيمانكُم.» وكان يقول: «إخوانكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلِّفه فوق طاقته.» وكان عمر بن الخطَّاب الخليفة الثاني يذهب كلَّ يومٍ إلى الموالي فكُّل عبدٍ وجده في عملٍ لا يُطيقه وضع عنه منه، وكذلك كان يخرج كلَّ يومِ سبتٍ يفتقد الدوابَّ فإذا وجد دابةً في عملٍ شاقٍّ خفَّف عنها. ثم إن من القواعد الشرعية تشوُّف الشارع إلى الحرية حتى إن من أعتق جزءَ عبدٍ لزمه عتق باقيه. وكان من مصارف الزكاة المحصورة في الأصناف الثمانية بنصِّ القرآن فكُّ الرقاب؛ قالوا بأن يُشترى من مال الزكاة عبيدٌ فيُعتقون، كما أن من لزمه كفَّارة يمين أو قتل أو فِطر أو إظهار فله التكفير بعتق رقبة؛ فلولا أن تحرير العبيد من المصالح المهمة لَما ضيَّقت الشريعة به على الفقراء والمساكين. ومن آثار التشوُّف المذكورة كثرةُ ترغيب الشارع في العتق كقوله: «أيما امرئٍ مسلمٍ أعتق امرأً مسلمًا استنقذ الله بكلِّ عضوٍ منه عضوًا منه في النار.» وتلك الشروط والواجبات حيث كان القيام بها عسيرًا في زمن عُنفوان شباب الدين فما ظنك به في زمن هرمه، لا سيما مع صنف السودان المباينين للبيض في الطبيعة الغريزية؛ فكثيرًا ما يقع بين العبيد ومواليهم المشاجرة التي لا منشأ لها إلا التنافُر الطبيعي، وذلك مما يفضي إلى مزيدٍ من الإضرار بالعبيد وتجاوز الحدود الشرعية في حقهم. ولم يزل ذلك الأمر يتزايد حتى اقتضى نظر الدولة تحجير الاسترقاق من أصله لأنه لما تعذَّر الرفق بهم والإحسان إليهم على الوجه المطلوب شرعًا لم يبقَ إلا الأمرُ ببيعها أو بعتقها، والأول لا يحصل به الغرض المقصود لِما فيه من التسلسُل وعودُ الضرر مع المُشتري، فتعيَّن الوجه الثاني. ومن ذلك الوقت بطَلَت مُلكية العبيد عندنا دفعةً وذلك في شهر المُحرَّم سنة ١٢٦٢ في مدة المرحوم المشير أحمد باشا باي. وأول ما خاطب به المجلس الشرعي في هذا الشأن قوله: أما بعد، فقد ثبت عندنا ثبوتًا لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يُحسن ملكية هؤلاء المماليك السودان؛ ولذلك اقتضى نظرنا والحالة هذه، رفقًا بأولئك المساكين، أن نمنع الناس من هذا المباح، وعندنا في ذلك مصالحُ سياسية، إلخ … والمصالح المُشار لها هنا يمكن شرحها بأمورٍ كثيرةٍ منها ما يقوله أهل الاقتصاد السياسي في أيامنا أن البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم الملكية أعمرُ من غيرها بالاستقراء. وقد رأيتُ خطبةً لبعض الأفاضل من أهل القلم بمملكتنا كتبها في ذلك الوقت يحث بها أهل المملكة على إجابة رئيس الدولة بالقلب والقالب يقول فيها: «فيا للنفوس الزكية، والقلوب التي بالشفقة حَرية، شرعكم مُتشوِّف للحرية، ورقُّ الآدمي بليَّة، والرب يقدر على عكس القضية.»
وأمَّا الجواب عن تأثير العبودية وما أَعقب فقدَها في الأهلِين فهو أن مُلك الآدمي لما لم يكن من الأمور الضرورية ولا الحاجيَّة في المعيشة لم يصعُب العدول عنه ولم تجزع لفقده نفوسُ أهل مملكتنا. وكيف يتأسَّف المعتني بشئون الترف والكمال في الأحوال والعوائد على تحرير عبده وهو قادرٌ على استرقاق الأحرار بالدرهم والدينار مع اعتقادهم الديني أنهم ينالون بعتق عبيدهم ثوابًا من الله في الدار الآخرة؟ على أن ذلك وإن صعُب في أول الأمر على بعضٍ من الناس لرؤيتهم استخدام العبيد بدون أجر أيسرَ لهم وأربحَ من استخدام غيرهم بأجرٍ أو لشحِّ نفوسهم بالعتق إيثارًا للعاجل على الآجل، إلا أن هؤلاء تسلَّوا من قريب لمَّا أثبتت لهم التجربة أصلحية الخدمة الاختيارية دون الجبرية، كما أثبتها العقل أيضًا، ورأى من عجَز عن استخدام الحر بالأجر ممن كانوا يستخدمون العبيد رجوعه إلى الأمر الطبيعي والسيرة المستحسنة وهو أن يباشر الإنسانُ قضاءَ أوطاره اللازمة بنفسه ويُقلِّل احتياجه إلى أبناء جنسه؛ فإن النفس إذا تعوَّدت استخدام الغير قد يُفضي بها ذلك إلى العجز عن أدنى الضروريات. والإنسان ابن عوائده ومألوفاته لا ابن طبيعته ومزاجه، وبذلك التعوُّد تكثر شروط استمرار حياته، وما كثُرت شروطه عزَّ وجوده. وبالجملة فالناس في باب الخدمة على أربعة أصناف: إنسانٌ يخدم نفسه بنفسه، ولا شك أن هذا يعمل ما يستطيعه في يومه ويُجهد نفسه. والثاني يؤاجر نفسه لغيره طوعًا، وهذا دون الأول في نتيجة العمل حيث لا يُجهد نفسه. والثالث يعمل لغيره بلا أجر وهو مجبور، فذلك هو العبد المملوك، ولا غرو أن تكون نتيجة عمله دون الثاني بمراحل. والرابع الذي لا يعمل لنفسه ولا لغيره، وهو العبد البطَّال الذي يبغضه الله تعالى، ومن هذا الصنف الأخير الناس الذين يترفَّعون عن خدمة أنفسهم وقضاء أوطارهم استنكافًا عن مزاحمة العبيد في أشغالهم. وقد ينفع في هذا القسم العلاج إذا رأوا مَن كان أرفع منهم يتعاطى تلك الأشغال التي أنكروا مباشرتها، وأيضًا ربما نفع هذا التعاضُد الكُسالى إذا رأوا مع ذلك التفاتًا وترغيبًا وترهيبًا من رُعاتهم إذ لا يجدون محيصًا عن المسير اقتداءً بمن سار. والإنسان أقرب إلى خلال الخير منه إلى خلال الشر بأصل فطرته وقوَّته الناطقة العاقلة؛ لأن الشر إنما جاءه من قِبَل القوة الحيوانية المركَّبة فيه، وأمَّا من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، فإذا وجد طبيبًا ماهرًا وداوى ما طرأ عليه من المرض فإنه يرجعه إلى أحسن تقويم وتجتمع الأيدي ويكثر التعاون وتتوفَّر بذلك أسباب العمران. ومن هذا يتبيَّن لكم السر في كون البلدان التي فيها عموم الحرية وعدم المُلكية أعمر من غيرها كما أشرنا إلى ذلك آنفًا؛ ولا سبب لذلك إلا كون نتيجة فِعل الإنسان المختار أربح وأبرك من نتيجة فِعل العبد المجبور. وعندي أن عموم الحرية وانتفاء الملكية كما يؤثر في نمو العدوان يؤثر أيضًا في تهذيب خُلُق الإنسان. أمَّا تأثيره في نموِّ العمران فظاهرٌ؛ إذ لا عمران إلا بعدل، والحرية نتيجة العدل، فإذا انعدمَت جاء الظلم المؤذن بخراب العُمران ونقصه بنقصها. وأمَّا تأثيره في تهذيب الإنسان فإن تعميم الحرية يُبعده عن الأخلاق الرديَّة من الشراسة والتكبُّر والتجبُّر ونحوها التي لا تنفك في الغالب عمن يملك العبيد لِما تعوَّدوا به من الإمرة والترفُّع، وربما رأيتهم ينظرون الناس بالعين التي ينظرون بها عبيدهم لا سيما إذا رأوا إنسانًا أسودَ فلا يرونه إلا كسائر الحيوانات العُجْم. وكنتُ حضرتُ مرة في أيام الكرنفال سنة ١٨٥٦ بالأوبره الكبيرة بباريس ومعي غلامٌ أسود فما راعني إلا أن رأيت رجلًا أميركانيًّا وثب وثوب القطة على الفأرة وأراد أن يأخذ بثيابه قائلًا ولسانه يتلجلج من سطوة النشوتَين: ما يفعل هذا العبد السوداني بصالون؟ أيُّ بيتٍ نحن فيه، ومتى مُكِّن العبيد من مجالسة السادات؟ فأَخذَت الفتى السوداني البهتة إذ لم يكن يدري ما يقول ولا علم لماذا يجول ذلك الرجل ويصول، فدنوتُ منهما وقلتُ للرجل: يا حبيبي هوِّن على نفسك؛ فإنما نحن بباريس ولسنا بريشموند. وبينا هما كذلك إذ وافاهما أحد حفَظة المحل وعرَّفه بأنْ لا فرق في حكمهم بين الجلود إلا بالجودة وإتقان الدبغ؛ فالحاصل أن ذلك الأسود المسكين لم تخلِّصه من أظفار ذلك الرجل محرمته البيضاء ولا فوانتواته الصفراء (أشار بالمحرمة والفوانتوات إلى ما اعتادته الإفرنج من التزيُّن بذلك عند الذهاب إلى المحافل)، وإنما خلَّصه بياض الحق وعدل الحرية. وبالجملة فالأوفق بنظام الجماعة عند الدولة التونسية هو عدم المُلكية، ولا التفات لِما عسى أن يستند إليه المخالف من أن بعض العبيد ندِموا على خروجهم من بيوت سادتهم وطلَبوا الرجوع إليها على شروط العبودية، إذ:
على أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين خرجوا جافلِين كما تخرج الدواب إذا انفَلتَت من مرابطها قبل الاستعداد إلى لوازم المعيشة والحرية. أمَّا الآن بعد الاستعداد فهل ترى لهم أدنى ميل إلى العبودية؟ ندع هذا الاعتراض الساقط ونرجع إلى ما هو أهمُّ منه فنقول: أنتم أيتها الأمة الأمريكانية إخوان الأمة التي قال فيها عمرو بن العاص صاحب نبينا ( ﷺ): إنهم لأحلم الناس عند فتنةٍ، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبةٍ، وأوشكهم كرَّةً بعد فرَّةٍ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. ولعمري لأنتم كما قال أمنع الناس من ظلم الملوك؛ حيث أنعم الله عليكم بتمام الحرية في أنفسكم وجعل سائر أموركم السياسية والمدنية بأيديكم، والبعض من غيركم يقنع بالحقوق المدنية لحماية النفس والعرض والمال فلا يجدها، فما ضرَّكم لو تفضَّلتم على عبيدكم بما لا يُؤثِّر وهنًا في شوكتكم شكرًا لربكم على ما خوَّلكم من تلك النِّعم الجليلة؟ ثم أنتم من التمدُّن والحضارة بمراحل عن أن تقتدُوا بمن يدورون وعيونهم مكنبلة على دائرة إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. واعلموا أن الشفقة والحنانة البشرية تدعوكم لأن تنبذوا من حريتكم الزيادات التي تسُوءُها وتُكدِّرها وتُلقوا بها البِشر على شفاه أولئك العبيد المساكين. والله يحب من عباده الرحماء، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. هذا، وأرجوكم أيها القنصل الجنرال أن تعتقدوا غايةَ تَكدُّرنا من حروبكم هذه الواقعة بينكم توجُّعًا على النوع الإنساني، وغايةَ شفقتنا على أولئك العبيد المساكِين، كما أرجوكم أن تعتقدوا خلوصَ مودَّتي لكم.
كتبه بيده الفانية الفقير إلى ربه تعالى حسين رئيس المجلس البلدي، تحريرًا في أواخر جمادى الأولى سنة ١٢٨١ هجرية، الموافق لأواخر أكتوبر سنة ١٨٦٣ مسيحية …