روحي الخالدي (١٨٦٤–؟)١
نبغ فيكتور هوغو في عصر الانقلاب والتجدُّد وطال عمره وكثُر عمله. وكان لقومه الحظ الأوفر من التقلُّبات السياسية والتبدُّلات الاجتماعية، واستوقفوا نحوهم أنظار العالم المتمدِّن بأَسْره، فكان هذا الشاعر لسان حال الأمة وترجمانها في كلِّ انقلابٍ حدث فيها وتبدُّلٍ طرأ عليها وغيَّر حكومتها من مَلَكية مُطلَقة إلى جمهوريةٍ مُفرِطة، إلى إمبراطوريةٍ ديمقراطية، إلى مَلَكية مقيَّدة بقليلٍ أو بكثيرٍ من القيود، إلى جمهوريةٍ ثانية، إلى إمبراطوريةٍ ثانية، ثم إلى جمهوريةٍ ثالثة؛ فهذه التقلَّبات هيَّجت الأفكار العمومية وكثَّرت الأحزاب السياسية ودعت إلى استماع قول الشاعر الحكيم والتمثُّل بأشعاره في نوادي السمر الأدبية والسياسية على اختلاف الآراء وتبدُّل المشارب. ومتى تحدَّث أهل العاصمة بأمرٍ سارت الركبان بحديثهم إلى الولايات وأطراف المملكة، ثم فشا في الممالك المجاورة، وجسَّمه البُعد في المخيِّلات فأصبح صداه في الخارج أشد من صوته في الداخل. وبعد أن استبَدَّ نابليون الثالث بالحكم مال لأُبَّهة المُلك وعظمة السلطنة وتفاخَر بالصيت والشهرة، واشتد حرصه على السُّمعة في البلاد الأجنبية. وانتَشرَت اللغة الفرنساوية على عهده في أكثر الممالك المتمدِّنة وصارت اللسان الرسمي المتداوَل بين الدول في المناسبات الدبلوماتية وفي الاجتماعات السياسية والأدبية وفي قصور الملوك والأمراء وفي حفلاتهم وسهراتهم ومراقصهم وعلى موائد ضيافتهم وفي تحرير المراسلات والمعاهدات، كما أصبحت اللسان الرسمي في نظارة الخارجية العثمانية وفي كثيرٍ من دوائر الدولة العليَّة ومعاملاتها ولم تزل إلى يومنا هذا.
فلمَّا اقترن اسم فيكتور هوغو باسم نابليون بسبب مدحه نابليون الأول وهجره نابليون الثالث، زاد شوق الناس للاطِّلاع على أشعاره وقصصه في داخل فرنسا وخارجها، وراجت بضاعته في الأدب فلم يدَعْ بابًا من أبواب الشعر إلا طرقه ولا مسألةً إلا بحث فيها. ثم ساعدته الظروف بالانتصار على نابليون الثالث بعد حرب السبعين الألمانية وتشكُّل الجمهورية الثالثة فزاد ذلك في أهمية الشاعر وفي انتشار شعره، وبالغ رجال الجمهورية في الاحتفاء به والاحتفال له كاحتفال الإمبراطورية بشخص الإمبراطور.
أمَّا السبب الثاني لشهرته فهو سهولة أشعاره ووضوحها وتصويرها المسائل العظيمة والأفكار الدقيقة؛ فأظهر بشعره فرحه وسروره بنعمة الحياة وابتهاجه بالمخلوقات، ورأى في أُمِّنا الدنيا بقرةً حلوبًا تُدِرُّ على أبنائها بلبنٍ سائغٍ للشارِبِين، وتكلَّم على أفراح العائلة وزينة البيوت بالأولاد ولذة اجتماع الأهل على المائدة ومحبة الوالدَين وحنوِّهما، وحضَّ على الإحسان للفقراء والمساكين والشفقة عليهم. وبيَّن اعتقاده بالله الغفور الرحيم، ورجاءه بتقدُّم نوع الإنسان في الحضارة وبتحسُّن الحياة البشرية والمعيشة الإنسانية بسبب انتشار الأفكار الجديدة وتغلُّب الحق رويدًا رويدًا على القوة والنور على الظلمة حتى تتساوى الناس في الحقوق ويرتفع عنهم الضغط والاستبداد ويزول من بينهم الظلم والاستعباد وينتشر العدل ويُزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا … فجميع ذلك مما يُرغِّب الجمهور في تلاوة أشعاره وتعليمها للأولاد ونشرها في البيوت بين النساء والبنات. بخلاف أشعار المعرِّي التي لا يذكر فيها إلا بُخل أُمِّ دَفْرٍ على بنيها بالحقوق ومبادرتِهم لها بالعقوق، ولا يرى بقرة فيكتور هوغو تجود إلا بسمٍّ قطيب؛ أي ممزوجٍ بحلاوة. ومع غِنى المعرِّي وثروته لم يلتذَّ بالمالِ والبنينَ ولا بشيءٍ من زينة الحياة الدنيا، وزهِد في أكل اللحوم وشرب المكيِّفات، وعمِي بصره عن مشاهدة المناظر الطبيعية والرياض النضرة. وحيث كان لفيكتور هوغو اعتقادٌ ثابتٌ في الله ورجاءٌ كبيرٌ في حسن المستقبل وارتقاء الإنسان إلى دار السعادة، عرف وظيفة الشاعر وبيَّن ما يترتب عليه وعلى كلِّ عاقلٍ مُفكرٍ في الأمر من نشر الحقائق بين قومه وأبناء لسانه، وزعم أن الشاعر ينبغي أن يكون رسولًا للأمة ونورًا يسعى بين يديها لِيهديَها الصراط المستقيم.
وفيكتور هوغو موحِّدٌ اعترف في كثيرٍ من أشعاره باعتقاده بالله وحسن رجائه باليوم الآخر. واهتدى للتوحيد بنظره في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار كما اهتدى إبراهيم جدُّ الأنبياء عليه وعليهم السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
قال الحكيم الفيلسوف إرنيست رينان عن فيكتور هوغو وعن فولتير: إنهما سارا من قطبَين متخالفَين ولم يتلاقيا إلا على محبة العدل والإنسانية.
والباعث الثالث على شهرة فيكتور هوغو هو كثرة عمله وغزارة معارفه، عدا معرفته بدقائق اللغة الفرنساوية، وبعلم القوافي والعروض والموسيقى، وما يلزم للشعر. وكان حكيمًا فيلسوفًا يضع كلَّ شيء في موضعه وكلَّ معنًى في قالبه. ولم يغب عن علمه شيءٌ من التاريخ والجغرافيا وأسماء البلدان. وله اطِّلاعٌ على العلوم الرياضية وجميع المسائل الاجتماعية وكليَّات القوانين البشرية والسياسية. وله اقتدارٌ عجيبٌ في التخيُّلات والتصوُّرات والاختلافات. وإذا نظر في شيءٍ تمكَّن من رؤيته بعينٍ لم يتيسَّر لغيره من الشعراء الرؤية بها؛ فوقف على كنه الأشياء وحقيقتها وعلى جميع ما يعرض لها من الصور والأشكال والألوان وبقية الخواص الظاهرة والباطنة. وإذا ذكر إسبانيا مثلًا لم يترك فيها مدينة إلا وصفها بالوصف اللائق بها سواء كان وصفًا جغرافيًّا أو طبيعيًّا أو تاريخيًّا بالنظر لمن اشتُهر فيها أو لِما ينبت في أرضها أو لمرآها الطبيعي ومنظرها الخارجي، وذكر كذلك كثيرًا من مدن فرنسا وإيطاليا.
… وكان له ولعٌ بالأمور العظيمة والمقامات العالية والمناظر الواسعة والمعاني الدقيقة، فعرف لجَّ البحر الذي لا يُرى ساحله وبُعد الفضاء الذي لا تُدرَك نهايته. وقلَّد أصوات الأشياء ووصف الجمادات وصفًا يخال منه للقارئ أنها حيةٌ تنطق؛ ولذا قالوا: إن فيكتور هوغو أنطق الجماد ونفخ فيه بأساليبه الشعرية روح الحياة. وله ابتكاراتٌ بديعة وتشابيهُ ظريفة وتعبيراتٌ لطيفة. ونجد لِما ورد في كلامه من التشبيه والتخيُّل والبديع أمثالًا كثيرةً في الشعر العربي والأندلسي تكلَّم عليها الباقلَّاني في «إعجاز القرآن»، والجرجاني في «أسرار البلاغة» المطبوع في جريدة «المنار»، ومَن سلك مسلكهما من علماء اللغة والبلاغة، ولكن فيكتور هوغو يفوق بسَعة الاطِّلاع والإحاطة بالمسائل. وأكثر شعراء العرب انحصرت أقوالهم في الدائرة التي هم فيها فلم يخرجوا منها ولا تعدَّوا الأساليب التي وضعها شعراء الجاهلية. والذين خرجوا عن تلك الأساليب واتسعَت مداركهم قليلون مثل المتنبي، والمعرِّي الذي تكلَّم على كثيرٍ من المسائل الاجتماعية والسياسية، ونادى بالحرية والمساواة بين أفراد البشر، وبيَّن ماهية الحق والعدل، وشرح كثيرًا من المسائل الفلسفية، وأظهر شعوره وإحساسه بالوسط الذي أُلقينا فيه فكان سجنًا لنا لا خلاص منه إلا بالموت؛ فهو متحيِّرٌ في هذه العقدة التي أضلَّت الأُدباء في حلِّها.
ثم إن أهل النقد الأدبي من بُلغاء الإفرنج يقولون: نعم إن فيكتور هوغو أنطق الجماد وتوصَّل بأساليبه الشعرية إلى وصف المناظر الطبيعية وتصوير العصور الخالية والهيئة الاجتماعية بأحسنِ تصوير وأبدعِ وصف؛ فهذا لا يُنكر، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة باطن القلب الإنساني ولا لإيجاد أوصافٍ تامة ولا حياةٍ طبيعية للأشخاص الذين اختلقَهم على مرسح التمثيل؛ ولذا لم يكن أوحد الأدباء في تأليف روايات الدرام؛ فهو وإن أنطق الجماد لكنه أخرس البليغ.
ومما انتُقد فيه على فيكتور هوغو من جهة الأخلاق تبدُّل رأيه السياسي وتقلُّبه فيه ذات اليمين إلى ذات الشمال ومن حزب المَلَكية إلى حزب الجمهورية. ورأينا جوابه على هذا الاعتراض بقوله: إنَّ مدْحنا الرجلَ بالثبات على رأيٍ واحدٍ في السياسة مدةً طويلة ليس بمدحٍ مستحسنٍ، وإنما هو كمدحنا الماء الراكد وتفضيلنا إياه على الماء الجاري. والجواب الصحيح على هذا الاعتراض أن فيكتور هوغو مع ظهور معجزاته في المعاني ما هو إلا بشرٌ غير معصوم تميل نفسه إلى شهواتها التي منها التقرُّب من الملوك وأُولي الأمر، ولكنا نجده محافظًا على الاعتدال في أمر الشهواتِ النفسية صبورًا متجلِّدًا عند الحاجة. وبينما نرى أمثاله وأقرانه من أُدباءِ باريسَ لا يقنع أحدهم بعشرِ نسوةٍ نجده اقتصر هو على اثنتَين: أُم أولاده، والممثِّلة البارعة جوليت. ومن غريبِ أمرِ هذا الشاعر أنه خالف القاعدة المطَّردة في عظماء الرجال، فكان في شبابه من حزب الملكيين المحافظين على بقاء الحال على ما كانت عليه، فانقلب من ذلك رويدًا رويدًا حتى صار في شيخوخته من حزب المُفرِطين في محبة الحرية المائلِين للانقلاب والارتقاء الشديد العداوة للاستبداد والمُستبدِّين. وهذا خلاف المُطَّرد في أخلاق الرجال فإنهم كلما تقدَّموا في السن عدلوا عن حب التجدُّد والانقلاب والحرية ومالوا للبقاء على حالتهم الراهنة.