المطران يوسف الدبس (١٨٣٣–١٩٠٧)
(١) من حوادث سوريا أيام السلطان عبد الحميد الأول
وسافر حسن باشا إلى الآستانة، ونهض الجزَّار بعسكرٍ من صيدا إلى بيروت فاستحوذ عليها وضبط أملاك الشهابيِّين بها، وشدَّد على الأمير يوسف بطلب الأموال عن ثلاثِ سنينَ ماضية، فكتب الأمير إلى حسن باشا وكان قد بلغ إلى قبرص فعاد وأخرج الجزَّار من بيروت وطيَّب قلب الأمير. وبينما كان فرسان الجزَّار راجعين إلى صيدا أكمن لهم المشايخ النكدية في السعديات بقرب الدامور، فاندفع الفرسان عليهم وقتلوا منهم كثيِرين وأسروا شيخَين منهم. وكتب الأمير يوسف إلى الجزَّار معتذرًا بأن ذلك لم يكن بعلمه، والتمس إطلاق الشيخَين، وجعل له فديةً عن ذلك ماية ألف قرش، فأجابه الجزَّار إلى ذلك. ووزَّع الأميرُ المبلغ على البلاد فأبى الأمراء اللمعيون دفعَ ما نابهم منه، فالتمس الأمير من الجزَّار إرغامهم على الدفع فأرسل عسكرًا على المتن فأحرق المكلِّس والدكواني والجديدة وقتل جماعة، ثم دهم الشويفات فصدَّه رجالها، فقفل إلى بيروت، ثم سار إلى صيدا وخرج منها بعسكرٍ إلى البقاع وضبط كلَّ ما بها للِّبنانيِّين من الغلَّات، فاتفق حينئذٍ الأمير يوسف مع الأمراء اللمعيِّين وجمع منهم عسكرًا زحف بهم إلى المغيثة وكان بين الفريقَين وقعاتٌ كان النصر فيها لعساكر الجزَّار …
وأمَّا الأمير سيد أحمد فاتفق مع الشيخ حسن جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد على خلع الأمير يوسف، فخاف الأمير يوسف وأسرع إلى الجزَّار ووعده بثلاثماية ألف قرش فولَّاه وأرسل معه عسكرًا قام به إلى إقليم الخرُّوب، وحشد الأمير سيد أحمد عسكرًا وأرسله مع ابن أخيه الأمير قعدان. والتقى الجيشان بعانوت فانكسر عسكر الأمير قعدان وهو نجا منهزمًا. وارتاع الأمير سيد أحمد ففرَّ ومعه الشيخ قاسم جنبلاط إلى صليما عند الأمير إسماعيل اللمعي، فضبط الأمير يوسف أملاكهم وهدم مساكنهم. والتجأ الأمير سيد أحمد إلى محمد باشا العظم والي دمشق فولَّاه على وادي التيم والبقاع وأصحبه بعسكر، وأتى معه الجنبلاطية إلى قبِّ الياس. والتقاهم الأمير فكانت الحرب بينهم ثلاثة أيام، فانهزم الأمير سيد أحمد والجنبلاطية إلى الزبداني، وعاد الأمير يوسف إلى دير القمر وأخذ يصادر محاربي أخيه، ثم تدخَّل الأمير إسماعيل خال الأمير يوسف بالصلح بينهم وبين ابن أخيه، فرضي الأمير يوسف عنهم بشرط أن يدفعوا ماية وخمسين ألف قرش فدفعوها. وعادوا إلى وطنهم، وأمر الأمير يوسف الأمير سيد أحمد أن يسكن بالشويفات فأطاعه.
(٢) الثورة على الأمير بشير والجزَّار سنة ١٧٩٠-١٧٩١
تُوفي السلطان عبد الحميد الأول سنة ١٧٨٩ وخلَفه السلطان سليم الثالث.
إن قتل الأمير يوسف والشيخ غندور لم يُخمد الثورة التي ابتدأت في المتن على الأمير بشير. وعند رجوع الجزَّار من الحج أَسِف على قتل الأمير يوسف وأمر بقتل ابن السكروج. والتمس الأمير بشير منه إطلاق المسجونِين من أتباع الأمير يوسف وكفلهم، فأُطلقوا. وكتب الجزَّار إلى والي دمشق أن يرسل عسكرًا لمساعدة الأمير بشير، وأرسل هو عسكرًا إلى البقاع، وأمر الأرناءوط الذين كانوا في حرش بيروت أن يحضروا إلى صيدا. ولما شعر النكدية بمرورهم التقوهم بالسعديات وقتلوا منهم نحو مايتَي رجل، فكتب الجزَّار إلى قائدَي عسكرَيه في صيدا والبقاع أن ينهضا بالعساكر إلى المتن. وسار الأمير بشير بعسكر من صيدا، وأظهر حينئذٍ العصيانَ أهلُ الغرب والشحَّار والجرد وأهل دير القمر أيضًا وتجمَّعوا وأكمنوا للأمير عند صحراء الشويفات، لكنهم اندحروا وقُتل منهم نحو عشرون رجلًا.
وكانت بعد ذلك؛ أي سنة ١٧٩٠ وسنة ١٧٩١، سلسلةُ حروبٍ متصلة في ساحل بيروت والبقاع وحاصبيا وإقليم الخرُّوب والشوف، وكانت النهاية أن الجزَّار لما رأى أنَّ عساكره لا تستطيع أن تُكره اللبنانيِّين على طاعته كتب للأمير بشير أن يرجع بالعساكر إلى عكَّا فرجعوا، وأمر الأمير أن يقيم بصيدا وجعل له نفقةً كافيةً. وكان الأميران حيدر ملحم وقعدان أقاما في دير القمر حاكمَين فصرَفا أهل البلاد كلًّا إلى محله لكنهم بطِروا وتمرَّدوا وسطا بعضهم على أهل الساحل وبيروت فأقفل المسلمون أبواب المدينة على من كان فيها من الجبل وقتلوا ستين رجلًا، فرفع أعيان البلاد عريضةً للجزَّار التمسوا فيها الصفح وأن يولِّي عليهم الأميرين حيدر وقعدان وتعهَّدوا بدفع الأموال مع زيادة أربعة آلاف كيسٍ عليها، وبعد التوثُّق على ذلك أرسَل إليهما الخِلَع وأَمرَ بحجزِ الأمير بشير بصيدا وأخاه الأمير حسنًا ببيروت.
(٣) الثورة على أولاد الأمير يوسف سنة ١٨٠٠
كان ابنا الأمير يوسف قد عجزا عن جمع المال المطلوب للجزَّار فأنفذ ألف فارس لجباية المال من البقاع وألحَّ بطلب المال كاملًا مع مطالبَ أخرى، فأرسل الأميران محصِّلين لجمعها، فهاج أهل البلاد وطرد المتنيون المحصِّلين، وأرسل الجزَّار الأرناءوط إليهم، فاستعدُّوا لقتالهم وأجمعوا على إعادة الأمير بشير إلى الولاية، ووافقهم أكثر أعيان البلاد فأرسلوا ثلاثماية رجل إلى الحصن يستدعون الأمير بشير فعاد معهم إلى لبنان، فاضطرب الأميران وأسرع جرجس باز إلى الجزَّار فجهَّز ألفَي مقاتل من الأرناءوط ووعده بإرسالِ عسكر من الفرسان. وقام الأمير بشير إلى حمَّانا فالتقاه الجميع بالسرور واتَّحد معه أكثر الأمراء اللمعيِّين، فنهض إلى الباروك ثم كفرنبرخ، ووصل جرجس باز بالأرناءوط إلى دير القمر، وقلَّ أصحاب أولاد الأمير يوسف فأقنع بعضهم جرجس باز بعقد الصلح على أن يتولى الأميران بلاد جبيل ويتولى الأمير بشير باقي البلاد، فرضي بذلك وقام الأمير حسين بعسكر الجزَّار إلى ساحل بيروت ودخل الأمير بشير دَيرَ القمر.
على أن جرجس باز عدل عن الصلح وجرت وقعاتٌ كان النصر في آخرها للأمير، فأذعن جرجس باز وعقد الصلح بشروطه المارِّ ذكرها. ولما علم الجزَّار بما كان تمزَّق غيظًا، وكان ذلك سنة ١٨٠٠.
(٤) عاميَّة أنطلياس السنة ١٨٢٠
وأرسل الأمير جُباةً لجمع المال فهاج أهل المتن وأبَوا دفع المطلوب وكاتبوا أهل كسروان أن يَحْذوا حَذْوهم فأجابوهم إلى ذلك. واجتمع الفريقان بأنطلياس وأقسموا ألا يدفعوا إلا بحسب العادة، وأتاهم الشيخ فضل الخازن فجعلوه شيخًا للعاميَّة المعروفة بعاميَّة أنطلياس. وكتبوا إلى عبد الله باشا أن ظلم الأمير بشير إنما هو الذي أوجد الهِياجَ في البلاد، فأجابهم ألا يدفعوا إلا بحسب عادتهم. وأرسل الأمير يُحذِّرهم ويُنذِرهم فلم يرعَوُوا، فكتب إلى الوزير: إني عجزتُ عن الولاية وتركتُ بلادي منتظرًا أن يصفو خاطركم عليَّ. فوجَّه الوزير بعض مشايخ الدروز وأصحبهم بسبعمائة مقاتل وأرسل معهم خِلعة الولاية إلى الأمير حسن علي والأمير سلمان سيِّد أحمد الشهابيِّين.
فنهض الأميرُ بشير بأولاده وخدمه إلى حمَّانا فأقسم له الأمراء اللمعيون أنهم لا يقبلون واليًا غيره، ثم نهض إلى قبِّ الياس ثم إلى وادي التيم. وسار الأمير سلمان بالعسكر إلى وادي التيم مصحوبًا بأمرٍ من عبد الله باشا إلى أمراء حاصبيا وراشيا ألا يقبلوا الأمير بشير، فنهض الأمير إلى حوران. وضبط الأمير سليمان أملاك الأمير بشير وأصحابه، فكتب الأمير بشير إلى عبد الله يستعطفه فأجابه: لو لم تترك الولاية لَما ولَّيتُ غيرك، فأسرعِ الآن إلى عكَّا. فأجابه الأمير: أرجو أن تأذن لي بالإقامة ببلاد جبيل، وكنتُ أَودُّ أن أتشرَّف الآن برحابك ولكن لم أتمكَّن من ترك أتباعي ولا من إحضارهم معي. فأذن له بالإقامة ببلاد جبيل وطلبه أن يحضُر إلى عكَّا بنفسه. وكان الأميران حسن وسلمان قد تعهَّدا لعبد الله باشا بدفع ألفَين ومايتَي كيس.
ولمَّا وصل الأمير بشير إلى شفا عمرو استأذن الوزير أن يحضُر لديه، فأجابه أن حضوره إلى عكَّا وقتئذٍ يُؤخِّر دفع ما تعهَّد به الأميران وخيَّره بمكان إقامته، فاختار جزِّين وحضر إليها، فالتقاه الناس بالتجلَّة. وأرسل الأميران يجبيان المال الذي تعهَّدا به فطُرد الجُباة من المتن وكسروان وبلاد جبيل، وتقاطر مشايخ البلاد وأعيانها إلى الأمير بشير، فطلب الأميران من مشايخ العقل أن يتوسطوا للصلح بينهم وبين الأمير بشير، فتَم الاتفاق أن الأميرَين يتنازلان عن الولاية وأن الأمير بشير يأخذها، فعهِد الوزير إليه بها مُدةَ حياته فتُليَتِ الأوامر بها بكلِّ احتفاء.
(٥) عامية لحفد السنة ١٨٢١
إن الأميرَين حسن وسلمان رفعا عريضةً إلى عبد الله باشا يُبديان خوفهما من الأمير، فأمر بشنق رسولهما، ثم سار الأمير بشير إلى بلاد جبيل وطلب الأمير سلمان أن يكون بخدمته، فأبى.
فكتب الأمير حسن إلى الأمير سلمان واستغواه أن يمالئ الجبيليِّين الثائرِين على الأمير بشير، فانقاد لرأيه، وقام الأمير إلى غرفين إحدى قرى جبيل، وكان أهل تلك الجهة مُجتمعِين بشامات، فبقي الأمير سائرًا إلى لحفد.
فاجتمع في حاقل أهل بلاد جبيل والبترون وبعضٌ من كسروان، وأتى رجال جبة بشري إلى إهمج وجمهور المتاولة في رام مشمش، وأرسلوا يقولون للأمير إنهم لا يدفعون إلا مالًا واحدًا وجزيةً واحدةً. وكان الأميران حسن وسلمان يُجسرانهم، فأرسل يقول لهم: أرتضي بمالٍ واحدٍ. وهم يجمعون المال ويوردونه له. وقبل عودة الرسول ظهر نحو ألفَي رجل من جهة ميفوق وظهر أمامهم من الجنوب جماعةٌ من المتاولة وأخذوا يُطلِقون الرصاص، والأمير لا يسمح بالقتال إلى أن أُصيب أحد رجاله، فثار بعض العسكر واقتحموا أولئك الرجال وتبِعهم الفرسانُ وأطبقوا عليهم وأعملوا فيهم السلاح وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلًا فانهزموا … وألقى بعضهم أنفسهم من شاهقٍ إلى أسفل، وأُسر منهم كثيرون، فعفا الأمير عنهم، وقُتل من عسكر الأمير تسعة رجال.
وقام هو في اليوم التالي إلى عمشيت فتعرَّضوا له في غرفين فأرسل إليهم عشرين فارسًا يناوشونهم القتال وانكسروا أمامهم لِيلحقوهم، فلم يجسُروا أن يلحقوهم، فسار الأمير إلى عمشيت ثم جبيل …