وليُّ الدين يَكن (١٨٧٣–١٩٣١)
وفيما دكران يُفكِّر، إذا صوتٌ تسامى إليه في سكون الليل متنقِّلًا على أثناء الظُلَم، أحسن إيقاع بأشجى ترجيع، فكان البلبل.
البلبل والربيع كالمغنِّي والمهرجان، وإنما يشتد تلازمهما في مآلفَ لا يتعدَّيانها إلى غيرها، وأحب تلك المآلف إليهما هي فروق.
إذا تراءت الرُّبى في مجاسد الخِصب وبدت أنماطها وحواشيها مطرَّزةً ومعلَّمة، منمَّقةً بمحاسن الزهر في اختلاف أشكاله وألوانه، وارتفعت التلاع في منخفض الوهاد كالمضارب، وصُفَّت قُبالتها طوائف السرح والسرو كالحواشي والجنود أقبلت لتحتشد عند ملكٍ عظيم، وانسلَّت الأنهار في الأودية كالزئبق، وسرت النسائم بين الصدور والأرجاء بزفير أو أريج، انطلق البلبل من عُشِّه، وملأ الفضاء تطريبًا.
بالعشيَّات أو بالبكور، في الروضة الغنَّاء أو الوادي الممرع، على الأثلاث أو تحت الشبائك، عند اعتلاق الأنداء بالفضاء بين السماء والثرى.
جناحاه في خفوقٍ وسكونٍ، وريشه في تجعُّدٍ واستواءٍ. يتنقَّل بين الأوراق الخضر والأغصان الهيف راقصًا معربدًا. كلما طرب لنغمةٍ جاوبها مجاراةً، وكلما استنكر صوتًا صمت عنه مداراةً. وهو مع كلِّ حالاته شاعر الطبيعة، بديهاته طوعُه وخواطره معه، لا يتصنَّع ولا يتكلَّف، يقيم الأوزان ويُسدِّد القوافي بغير كدٍّ وبغير تعنُّتٍ. يترفَّع عن تمليق الملوك والزُّلفة عند الكرام. ينسب ويتشبَّب، ويبكي ويستبكي، غناؤه أنين، وشعره روح.
ربيب الجمال وتبيعه، يروى بماء المزن ويثمل بشذا ما تنشر الخمائل، شجيٌّ معنًى، تهيِّجه الذكريات، وتميته الحسرات، حليفُ الوجد وهو أبعد المخلوقات عن حمله. يريك لسانًا كريشة الكاتب، يقطر لوعةً، ويتحرك حزنًا، وعينَين مروَّعتَين بحوادث الليالي تلمعان على أحسن رأسٍ رُكِّب على أحسن عنقٍ إلى جثمانٍ كالقلب بل هو أصغر وأوهن.
ليت شعري ما تضمَّنت تلك الضلوع الضعاف، وما يهيج تلك الروح المروعة.
أكَلِفٌ بالحرية؟ أجل، كَلِفٌ بالحرية. هو مجنونها ومعذَّبها ومدلَّلها، بل هو على ضعفه وصغره بطلُها. ما أُودِع قفصًا إلا ومات فيه غمًّا أو انتحر يأسًا. يرنو إلى مُلك الله في سعته ويتملَّى من محاسنه، بعيدًا عنها، محجوزًا دون الجولان بينها، فيُفنيه ذلك أسًى ولا يستشفي عنه بصبرٍ ولا جَلَدٍ. آه من البلبل وآه على البلبل!