مجاري الثورة إلى الشرق
كيف اتصلت الثورة الفرنسية بالشرق العربي؟ وأيَّةٌ هي المجاري التي سلكتها؟
يعرض لنا هذا السؤال، وفيه ما فيه من أسباب الصعوبة؛ لأنه لا يزال موضوعًا غيرَ
مطروق، ولأن تعيين الانتقالات الفكرية في التاريخ أمرٌ بطبيعته يتعذَّر البت فيه. وقد
تتيسر للانتقالات الفكرية مسالكُ خفيَّة لا يدركها المؤرخون على رغم أهميتها، أو هم
يدركونها ولكن إدراكًا عامًّا غامضًا يُعوِزه التدقيق وينقُصه التفصيل.
مع ذلك فليس البحث في مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي خِلْوًا من كلِّ أساس،
ولا شك أن ما سنكتبه في هذا الفصل محاولةٌ جِد بدائيةٍ تقبل التحسين والتوسيع.
إن أَوَّل مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي — ولعله أعظمها — كان الفتح
النابليوني لمصر سنة ١٧٩٨ أيام حكومة الإدارة. وكانت الرجعة النابليونية إذ ذاك في
أوائلها، على أنها كانت بارزةَ الأثَر. وقد أذاع نابليون منشوره الأول على المصريِّين
فتكلَّم باسم التجار الفرنسيِّين، غير أنه صدر أيضًا في كلامه عن بعضِ مبادئ الثورة
فتحدَّث إلى المصريِّين عن تسلُّط المماليك واستئثارِهم بأجود الأراضي.
وهذا بعضُ نص المنشور:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله ولا ولدًا له ولا شريك
بملكه
من طَرَف الجمهور الفرنساوي المبني على أساس الحرية، والساري عسكر الكبير
بونابرت أمير الجيوش الفرنساوية، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمن مديد السناجق
الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة
الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع البلص
والتعدي، فحضرت الآن ساعة عقوبتهم، وحسرة من مدت عصور طويلة هذه الزمرة
المماليك المجلوبين من جبال الأبازا والكرجستان يفسدوا في الأقاليم الأحسن ما
يُوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء قد حتَّم في
انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون! قد يقولوا لكم أنني ما نزلت في هذا الطرف إلا
بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح، فلا تصدِّقوه. وقولوا للمفتريين إنني ما
قدمتُ إليكم إلا لكيما أُخلِّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك
أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه محمد والقرآن العظيم. وقولوا لهم أيضًا
«إن جميع الناس متساويين عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم بعض فهو
العقل والفضايل والعلوم فقط. وبين المماليك ما العقل والفضل والمعرفة التي
تميِّزهم عن الآخرين وتستوجب أنهم أن يتملكون وحدهم كلما يحلو به حياة الدنيا؟
حيثما يوجد أرض مخصبة فهي مختصة للمماليك، والجواري الجمال والحلل الحسان
والمساكن الأشهى فهذه كلها لهم خاصة. فإن كان الأرض المصرية التزام للماليك
فليوردون الحجة التي كتبها لهم الله. ولكن رب العالمين هو رأوفًا وعادل على
البشر. بعونه تعالى من اليوم وصاعدًا لا يُستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في
المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية». فالعقلاء والفضلاء والعلماء
بينهم سيدبروا الأمور، وبذلك يصلح حال الأُمَّة كلها. سابقًا في الديار المصرية
كانت المدن العظيمة، والخلجان الواسعة، والمتجر المتكاثر، وما زال ذلك إلا لطمع
وظلم المماليك
١ …
وواضحٌ ما في هذا الكلام من صلةٍ متينة بمبادئ الثورة وبيان حقوق الإنسان.
٢ ويقول الأمير حيدر الشهابي إن أعيان مصر استغربوا هذا «الخطاب المهُول
والأمر المجهُول»؛ فقد كان جديدًا على الأسماع والأفهام.
ولم تَستقرَّ قدم نابليون في وادي النيل حتى هيأ ديوانًا استشاريًّا من كبار العلماء
والتجار، فكان في عمله بَذرة، وإن تكن طفيفة، من تمرين الأمة على الإدارة الذاتية.
هزَّ الفتح النابليوني جو الجمود الذي كان مخيِّمًا على مصر، فنَهضَت أيام محمد علي
الكبير نهضةً سياسية، عسكرية، صناعية، ثقافية. وأَخذَت من عهد نابليون تتجه الميول
الثقافية المصرية إلى الارتشافِ من ينابيعَ فرنسية، حتى كان زمن محمد علي، فقوي الترابط
الثقافي بين البلدَين، وعزَّزه التفاهُم السياسي. وأَنفذَ محمد علي باشا البعوث
العلمية، فكانت من أسباب الاطِّلاع على فرنسا الثائرة والمبادئ التحريرية التي حرَّكَت
شعبها إلى انتفاضاتٍ جبارة، ثم كانت في مصر تلك القافلة من الأدباء والمُفكرِين من
رفاعة رافع الطهطاوي إلى طه حسين اليوم.
ومن حسن الحظ أن أحد أعضاء هذه البعوث، وهو الطهطاوي، قد ترك لنا كتابًا نفيسًا عن
رحلته إلى باريس وما تلقَّاه فيها من ثقافة، وما شاهده وتأثَّر به في فرنسا، ولا سيما
عاصمتها العظيمة. واسم الكتاب هو: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس
بإيوان باريس. ولا نُغالي إذا قلنا إن الطهطاوي مؤلِّف الكتاب عقلٌ من أعمق العقول
الشرقية العربية التي ماسَّت الغرب كما يتجلى في فرنسا، وفهِمَته فهمًا واعيًا لفضائله
وحسناته من وجوهٍ عديدة. وصادف عهد الطهطاوي في باريس عهد الملك شارل العاشر ووزيره
بولينياك. وكانت مَلَكية شارل العاشر — نظريًّا — ملكيةً دستورية مقيَّدة بالصك
«الشارت» La Charte التي تولَّى العرش على أساسها
لويس الثامن عشر. لكن شارل العاشر كان نزَّاعًا إلى الملكية المطلَقة، ومن أقواله: «إنه
يؤْثِر أن يَنشُر الخشب على أن يكون ملكًا من الطراز الإنكليزي (أي دستوريًّا).» وكان
وزيره بولينياك يستهدف إلغاءَ كلِّ أثرٍ من آثار الثورة الفرنسية الكبرى، ويقول:
«غرضُنا أن نُعيد تنظيم المجتمع؛ أن نُرجِع إلى الكليروس نفوذه في الدولة، ونخلُق
أرستقراطيةً قوية نُسيِّجها بالامتيازات.» ولم يتورَّع شارل العاشر عن فضِّ المجلس
النيابي، فأعاد الشعب انتخاب أكثر أعضائه، ولا سيما الأعضاء الذين عُرِفوا بمقاومة
الملك، فأصدر شارل قوانينه المشهورة Les Ordonnances
بإلغاءِ حُرية الصحافة، وفضَّ المجلس مرةً ثانية. فاندَلعَت الثورة في باريس سنة ١٨٣٠
وطالت ثلاثةَ أيامٍ من شهر تموز (٢٦ إلى ٢٩ منه) وهي الأيام المعروفة ﺑ «الثلاثة
المجيدة»، فسقط شارل العاشر، وأُقيم مكانه الملك لويس فيليب على أساس صكٍّ
جديدٍ.
وقد شهد الطهطاوي ثورة الأيام الثلاثة المجيدة، وهي تُعتبر صفحةً تالية للثورة
الكبرى، ووصفها وصفًا طريفًا دقيقًا أثبتناه في النصوص في هذا الكتاب. وعُني عنايةً
خاصة بالدستور الفرنسي وسمَّاه تسميته الفرنسية فدعاه الشرطة
La Charte، ونقله إلى العربية قبل التعديل زمنَ شارل العاشر وبعد
التعديل زمنَ لويس فيليب.
٣ وتحدَّث عن مجلس النواب الفرنسي، أو المجلِسَين على الأصح: ديوان «رسل
العمالات» الذين «هم وكلاء الرعية المنتخَبون
Les Députés»، وديوان البير؛ أي أهل المشورة الأولى.
ولم ينسَ أن يُلمَّ بشئونٍ أخرى تتصل بنظام فرنسا السياسي. وفيما يلي نص الخُلاصة
التي وضعها الطهطاوي للشرطة، مع تعليقه عليها، في أَوَّل مُلك لويس فيليب:
الفرنساوية مستوون في الأحكام على اختلافهم في العِظَم والمنصب والشرف
والغنا، فإن هذه المزايا لا نَفعَ لها إلا في الاجتماع الإنساني والتحضُّر فقط،
لا في الشريعة؛
٤ فلذلك كان جميعهم يُقبَل في المناصب العسكرية والبلدية، كما أنه
يُعين الدولة من ماله على قَدْر حاله. وقد ضمِنَت الشريعة لكلِّ إنسانٍ
التمتُّع بحريته الشخصية حتى لا يمكن القبض على إنسانٍ إلا في الصور المذكورة
في كُتُب الأحكام، ومن قبض على إنسانٍ في صورةٍ غيرِ منصوصة في الأحكام يُعاقَب
عقوبةً شديدة. ومن الأشياء التي ترتَّبَت على الحرية عند الفرنساوية أن كل
إنسانٍ يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة، ويُعاقَب من تعرَّض
لعابدٍ في عبادته، ولا يجوز وقفُ شيءٍ على الكنائس وإهداءُ شيء لها إلا بإذنٍ
صريح من الدولة. وكل فرنساويٍّ له أن يبدي رأيه في مادة السياسات أو في مادة
الأديان بشرط ألا يُخل بالانتظام المذكور في كُتُب الأحكام. كُل الأملاك على
الإطلاق حرَمٌ لا تُهتك؛ فلا يُكره إنسانٌ أبدًا على إعطاءِ ملكه إلا لمصلحةٍ
عامة، بشرطِ أخذه، قبل التخلية، قيمته، والمحكمة هي التي تحكُم بذلك. كلُّ
إنسانٍ عليه أن يُعين في حفظ المملكة العسكرية بشخصه، بمعنى أنه كلَّ سنةٍ
يُجمع أولاد إحدى وعشرين سنة لتُضرب القرعة لأخذ العساكر السنوية منهم، ومدةُ
خدمة العسكرية ثمانِ سنوات. وكلُّ فرنساويٍّ عمره ثمانية عشر سنة — وله حقوقه
البلدية — يمكنه أن يتطوع ويدخل العسكرية. ويعافى من العسكرية عدة أناس؛ الأول:
مَن طوله دون متر وخمسة وسبعين سنتمترًا، يعني أربعة أقدام وعشرة برامق،
الثاني: أصحاب العلل، الثالث: الابن أكبر الإخوان الأيتام من أبيهم وأمهم،
الرابع: الابن البكري أو المنفرد، وابن الابن الأكبر أو المنفرد عند فقده، إذا
كانت الأم أو الجدة لا زوج لها، أو كان أبوه أعمى، أو سنه سبعون سنة، الخامس:
البكري أحد الأخوين الذين وقعا في قرعة لمَّة واحدة، السادس: الأخ الذي أخوه
فاضل تحت البيرق أو مات في الخدمة أو جُرح في الحرب. ولو أراد إنسان أن ينوب
عنه غيرُه فإن المنوب عنه يضمن النائب سنةً من خوف الهرب، إلا إذا كان الهارب
قُبض عليه في السنة أو مات تحت بيرق الفرنساوية. وفي واحد وعشرين في شهر ديسمبر
من كل سنة، كل العساكر التي تمَّت خدمتهم يُؤذن لهم بالعودة إلى محالِّهم.
ولمَّا كان لا يمكن لكلِّ إنسانٍ أن يدخل بنفسه في عمل الدولة وكَّلت الرعية
بتمامها عنها في ذلك أربعماية وثلاثين وكيلًا تبعثها إلى باريس في المشورة،
وهؤلاء الوكلاء تختارهم الرعيَّة وتُوكِّلُهم بأن يمانعوا عن حقِّها ويصنعوا ما
فيه مصلحةٌ لها؛ وذلك أن كلَّ فرنساويٍّ مستكمل للشروط، التي منها أن يكون عمره
خمسًا وعشرين سنة، له أن يكون ممن له مدخلٌ في انتخابِ رسلِ عمالاته. وكل
فرنساويٍّ له أن يكون رسولًا إذا كان عمره ثلاثين سنة، ويكون موصوفًا بالشروط
المذكورة في كتاب الأحكام. وفي كلِّ مأموريةٍ مجمعُ اختيارٍ وانتخاب، ومجامعُ
انتخابٍ للأقاليم الصغيرة، ومجامع المأموريات الكبيرة مؤلَّفة من المنتخبين
الكبار، وتُعيِّن ١٧٢ رسولًا. ومجامع انتخاب الأقاليم الصغيرة تُعيِّن ٢٥٨
رسولًا. ودفاترُ أرباب الانتخاب تُطبع وتُكتب في الطرق شهرًا قبل فتحِ مجامع
الانتخاب، حتى إنه يمكن لكلِّ إنسان أن يكتب إعلامًا به. وكلُّ منتخِب (بكسر
الخاء) يكتب رأيه سرًّا في ورقةٍ يعطيها للرئيس مطوية، والرئيس يضعها في إناء
القرعة. وديوانُ رسل العمالات يتجدَّد أهله بالكليَّة كلَّ خمسِ سنوات. ولا
يمكن أخذ الفِرَد
٥ إلا بخلاصةٍ من مشورة الديوانَين مقررةٍ من طَرَف الملك. يمكن لأهل
البلدان أن يُرسلوا أهل الديوانَين بطرق العرضحال ليشتكوا من شيء أو يعرضوا
شيئًا نافعًا. القضاة لا ينعزلون؛ فلا يُحكم على إنسان إلا بقضاةِ محل
استيطانه. والدعاوى تُقام جهرًا، وذنوب الجنايات لا يُحكم فيها إلا بحضرةِ
جماعةٍ يُسمَّون الجوريِّين
Les Jurés.
والعقوبة بالقبض على الأموال بَطلَت. للملك أن يعفو عن المعاقَب بالموت وأن
يخفِّف العقاب الشديد. على الملك وورثتِه أن يحلفوا عند ارتقاءِ الكرسي بأن
يعملوا بما في كتابِ قوانين المملكة. ثُم إنه يطول علينا ذكرُ الأحكام الشرعية
والقانونية المنصوبة عند الفرنساوية، فلنقُل إن أحكامهم القانونية ليست
مستنبطةً من الكُتب السماوية، إنما هي مأخوذةٌ من قوانينَ أخرى غالبها سياسية،
وهي مختلفة بالكليَّة عن الشرائع، وليست قارَّة الفروع. ويقال لها «الحقوق
الفرنساوية»؛ أي حقوق الفرنساوية بعضهم على بعض؛ وذلك لأن الحقوق عند الإفرنج
مختلفة. ثم إن بباريس عدَّة محاكم، وفي كلِّ محكمةٍ قاضٍ كبير كأنه قاضي
القضاة، وحوله رؤساءُ وأربابُ مشورة ووكلاء الخصوم ومحامون للخصوم ونوَّاب عن
المحامِين ومُوقِّع الوقائع.
وطبيعي أن يتنبَّه الطهطاوي إلى هذا كلِّه وهو الشرقي العربي الذي يلتمس لوطنه
أسلوبًا في الحكم يسير عليه ويُسايِر الأمم الناهضة في نظامٍ يشترك فيه المواطنون
جميعهم في حقوقٍ وواجباتٍ مُفصَّلة مصونة متساوية، مبدئيًّا على الأقل.
وقد أشرنا إلى أن الطهطاوي عرَّب «الشرطة» الأصلية التي ملك لويس الثامن عشر وفاقًا
لها، غبَّ سقوط نابليون النهائي وانعقاد مؤتمر فييِنا. وكتب الطهطاوي في مقدمةِ تعريبه
لتلك الشرطة:
فيها أمور لا يُنكِر ذوو العقول أنها من باب العدل. ومعنى الشرطة في اللغة
اللاتينية: ورقة، ثم تُسومح فيها فأُطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام
المقيِّدة، فلنَذكُرْه لك، وإن كان غالبُ ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في
سُنَّة رسوله (
ﷺ)، لتعرف كيف قد حَكمَت عقولهم بأن العدل والإنصاف من
أسبابِ تعميرِ الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى
عَمرَت بلادهم وكثُرت معارفهم وتراكَم بِناهُم وارتاحت قلوبهم؛ فلا تسمع فيها
من يشكو ظلمًا أبدًا، والعدل أساس العمران. ولنذكر هنا نبذةً مما قاله فيه
العلماء والحكماء أو في ضده. من كلام بعضهم: ظلم اليتامى والأيامى مفتاح الفقر،
والحِلم حجاب الآفات، وقلوب الرعية خزائن مَلِكها فما أودعه إياها وجده فيها.
وقال آخر: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا
عمارة إلا بعدل. وقيل فيما يَقرُب من هذا المعنى: سلطان الملوك على أجسام
الرعايا لا على قلوبهم. وقال بعضهم: أبلغُ الأشياء في تدبير المملكة تسديدُها
بالعدل وحفظُها من الخلل. وقيل: إذا أردتَ أن تُطاع فاطلبْ ما يُستطاع. إن
المولى إذا كلَّف عبده ما لا يُطيقه فقد أقام عُذره في مخالفته.
وفي هذا ما يجب أن يستوقفنا؛ لأننا نرى الطهطاوي، وهو من أعلامِ مُفكِّرينا الأوائل،
ينظر إلى مبادئ الشرطة؛ أي المبادئ التي استُوحيت من الثورة الفرنسية الكبرى، نظرةَ
إعجاب وتقدير، ولكنه يرى أن أكثرها مما ليس في كتاب الله ولا في سُنَّة رسوله.
٦
ومع ذلك فهو يضرب في تأييدها الحِكم العربية، وما قصْده إلا أن يُبيِّن أن هذه
المبادئ ليست غريبةً عنا؛ فيكون الطهطاوي قد حاول شيئًا من التوفيق بين تقاليدنا
والمبادئ التي انبَثقَت من الثورة الكبرى. وسنجد أن المُفكِّرِين قد خطَوا خطواتٍ أبعدَ
من التوفيق، فبيَّنوا أن روح هذه المبادئ تُساوي روح كتاب الله وسُنَّة رسوله.
وبعد أن يفرغ الطهطاوي من تعريب الشرطة يكتب معلِّقًا عليها:
فإذا تأمَّلتَ رأيتَ أغلبَ ما في هذه الشرطة نفيسًا، وعلى كلِّ حالٍ فأمره
نافذ عند الفرنساوية. ولنذكر هنا بعض ملاحظات فنقول:
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدَّام الشريعة؛ معناه سائر مَن
يُوجد في بلاد فرانسا من رفيعٍ ووضيعٍ لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في
القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تُقام على المَلِك ويُنفَّذ عليه الحكم كغيره.
فانظر إلى هذه المادَّة الأُولى فإن لها تسلُّطًا عظيمًا على إقامة العدل
وإسعاف المظلوم وإرضاءِ خاطرِ الفقيرِ بأنه العظيم نظرًا إلى إجراء الأحكام.
ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلِم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة
الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجةٍ عالية وتَقدُّمهم في الآداب الحضرية.
وما يُسمُّونه الحرية ويرغبون فيه هو عينُ ما يُطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛
وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا
يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المُحكَّمة والمعتبَرة؛ فهذه البلاد
حَرِية بقول الشاعر:
وقد ملأ العدلُ أقطارَها
وفيها توالَى الصفا والوفا
وبالجملة إذا وُجِد العدل في قُطرٍ من الأقطار فهو نسبيٌّ إضافي، لا عدل
كلِّي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدةٍ من البلدان؛ فإنه كالإيمان الكامل
والحلال الصِّرف.
وأمَّا المادة الثانية
٧ فإنها محضُ سياسية. ويمكن أن يقال إن الفِرَد ونحوها لو كانت
مرتَّبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس، خصوصًا إذا كانت
الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال أو كانت ممنوعةً بالكليَّة،
وربما كان لها أصلٌ في الشريعة على بعضِ أقوالِ مذهب الإمام الأعظم.
٨ ومن الحِكم المقررة عند قُدماء الحكماء: الخراج عمود الملك. ومدةَ
إقامتي بباريس لم أَسمعْ أحدًا يشكو من المُكوس والفِرَد والجبايات أبدًا ولا
يتأثَّرون بحيث إنها تؤخذ بكيفية لا تضر المعطي وتنفع بيت مالهم خصوصًا، وأصحاب
الأموال في أمان من الظلم والرشوة. وأما المادة الثالثة
٩ فلا ضرر فيها أبدًا، بل من مزاياها أنها تحمل كلَّ إنسانٍ على
تعهُّدِ تعلُّمه حتى يقرب من منصبٍ أعلى من منصبه، وبهذا كثُرت معارفهم ولم يقف
تمدُّنهم على حالةٍ واحدة مثل أهل الصين والهند ممن يعتبر توارُث الصنائع
والحِرَف ويُبقي للشخص دائمًا حرفةَ أبيه. وقد ذكر بعض المؤرخِين أن مصر في
سالف الزمان كانت على هذا المنوال؛ فإن شريعة قدماء القبطة كانت تُعيِّن لكلِّ
إنسان صنعته ثم يجعلونها متوارثةً عنه لأولاده. قيل: سبب ذلك أن جميع الصنائع
والحِرَف كانت عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مقتضياتِ الأحوال لأنها تُعين
كثيرًا على بلوغِ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يُحسن عادةً ما رأى أباه
يفعله عدة مراتٍ بحضرته ولا يكون له طمعٌ في غيره؛ فهذه العادة كانت تقطع عِرْق
الطمع وتجعل كلَّ إنسانٍ راضيًا بصنعته لا يتمنَّى أعلى منها، بل لا يبحث إلا
عن اختراعِ أمورٍ جديدةٍ نافعة لحرفته تُوصل إلى كمالها (انتهى). ويرِدُ عليه
أنه ليس في كلِّ إنسان قابليةٌ لتعلُّم صنعةِ أبيه، فقصره عليها ربما جعل
الصغير خائبًا في هذه الصنعة، والحال أنه لو اشتغل بغيرها لنجح حاله وبلغ
آماله. وأمَّا المادة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة
١٠ فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثُر أهل هذه البلاد
وعمرت بكثيرٍ من الغرباء.
وأمَّا المادة الثامنة
١١ فإنها تُقوِّي كلَّ إنسان على أن يُظهر رأيه وعِلمه وسائرَ ما يخطر
بباله مما لا يضُر غيره، فيعلم الإنسانُ سائرَ ما في نفس صاحبه، خصوصًا الورقات
اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات: الأولى جمع جرنال، والثانية جمع
كازيطة
Gazette؛ فإن الإنسان يعرف منها
سائر الأخبار المُتجدِّدة سواء كانت داخليةً وخارجية؛ أي داخل المملكة أو
خارجها، وإن كان قد يوجد فيها من الكذب ما لا يُحصى، إلا أنها قد تتضمن أخبارًا
تتشوق نفسُ الإنسان إلى العِلم بها. على أنها ربما تضمَّنَت مسائلَ عمليةً
جديدة التحقيق أو تنبيهاتٍ مفيدة أو نصائحَ نافعة، سواء كانت صادرةً من الجليل
أو الحقير؛ لأنه قد يخطر ببالِ الحقيرِ ما لا يخطُر ببال العظيم، كما قال
بعضهم: لا تحتقر الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرَّة لا تُستهان
لهوانِ غوَّاصها …
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلًا عظيمًا أو رديئًا، وكان من الأمور
المهمَّة، كتبه أهل الجرنال ليكون معلومًا للخاص والعام؛ لترغيب صاحب العمل
الطيِّب، ويرتدع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسانٍ
كتب مَظلمتَه في هذه الورقات فيطَّلع عليها الخاصُّ والعام فيعرف قصة المظلوم
والظالم، من غير عدولٍ عمَّا وقع فيها ولا تبديل، وتصِل إلى محل الحكم، ويُحكم
فيها بحسب القوانين المُقرَّرة، فيكون مثل هذا الأمر عبرةً لمن يعتبر. وأمَّا
المادة التاسعة
١٢ فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبةٌ لِضبطِ جَور الأقوياء على
الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة
١٣ من باب اللياقة الظاهرة … إلخ.
وليس في هذا كلِّه إلا ما يدُل على أن الطهطاوي تأثَّر أعمق التأثُّر بما رآه في
نظامِ فرنسا من نتائجِ ثورتها الكبرى. وله في كتابه «تخليص الإبريز» مُلاحظاتٌ موزَّعة
على تقديره التفكيرَ الفرنسي المبني على أحكام العقل، وهو التفكير الذي أَزهَر زَهرَه
وأَثمرَ ثَمره في القرنِ الثامن عشر في أعلام المُفكرِين قبل الثورة. وإلى القارئ شيئًا
من ملاحظاته:
إن الباريزيِّين يُختصُّون من بين كثيرٍ من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم
وغَوصِ ذهنهم في العَويصات. وليسوا أُسراءَ التقليد أصلًا، بل يحبون دائمًا
معرفةَ أصل الشيء، والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم يعرفون أيضًا القراءة
والكتابة ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كلُّ إنسانٍ على قَدْر حاله؛
فليستِ العوامُّ في هذه البلاد من قبيلِ الأنعام كعوامِّ أكثرِ البلاد
المتبربرة. والفرنساوية من الفِرَق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليَّين.
وأقول هنا: إنهم يذكرون خوارق العادات ويعتقدون أنه لا يمكن تخلُّف الأمور
الطبيعية أصلًا. إن الأديان إنما جاءت لتدُل الإنسان على فعل الخير واجتناب
ضده، وإن عمارة البلاد وتطرُّق الناس وتقدُّمهم في الآداب والظرافة تسُد مَسَد
الأديان، وإن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية.
١٤
غير أن الطهطاوي إذ يبلغ به الحديث إلى مسألة القضاء والقدر، يخالف التفكير الفرنسي
المبني على أحكام العقل؛ فهو يترك للقضاء والقدر مجاله «وإن كان لا ينبغي للإنسان أن
يُحيل الأشياء على المقادير إذ يحتجُّ بها قبل الوقوع.»
وللطهطاوي فصلٌ خاصٌّ في الكُتب التي طالعها في باريس، وأكثرها يرقى إلى القرن الثامن
عشر، وتأخذ بأسباب التفكير المبني على أحكام العقل. وفيما يلي نص كلام الطهطاوي عن
مطالعاته:
قرأتُ كثيرًا من كُتُب الأدب؛ فمنها … عدةَ مواضيعَ من ديوان ولتير … وديوان
روسو، خصوصًا مراسلاته الفارسية التي يُعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم،
وهي أشبه بميزانٍ بين الآداب المغربية والمشرقية
١٥ … وقرأتُ في الحقوق الطبيعية، مع مُعلِّمها، كتاب برلماكي وترجمتُه
وفهِمتُه فهمًا جيدًا. وهذا الفن عبارةٌ عن التحسين والتقبيح العقليَّين يجعله
الإفرنج أساسًا لأحكامهم السياسية المُسمَّاة عندهم شرعية. وقرأتُ أيضًا مع
مسيو شواليه جزأَين من كتابٍ يُسمَّى روح الشرائع، مؤلِّفُه شهير بين
الفرنساوية يُقال له مونتسكيو، وهو أشبه بميزانٍ بين المذاهب الشرعية والسياسية
ومبنيٌّ على التحسين والتقبيح العقليَّين. ويُلقَّب عندهم مونتسكيو ﺑ «ابن
خلدون الإفرنجي». كما أن ابن خلدون يُقال له عندهم أيضًا مونتسكيو الشرق؛ أي
مونتسكيو الإسلام. وقرأتُ أيضًا في هذا المعنى كتابًا يسمى عقد التأنُّس
والاجتماع الإنساني، مُؤلِّفه يُقال له روسو، وهو عظيم في معناه … وقرأت عدةَ
محالَّ نفيسةٍ في مُعجَم الفلسفة للخواجة ولتير وعدةَ محالَّ في كُتُب فلسفة
قندلياق
Condillac.
ومن الأمور التي يبدي الطهطاوي إعجابه بها ثقافةُ المرأة الفرنسية؛ فيقول: «إن للنساء
تآليفَ عظيمة، ومنهن مُترجماتٌ للكُتب من لغةٍ إلى أخرى، مع حسن العبارات وجودتها.
ومنهن من يُتمثَّل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة. ومن هنا يظهر لك أن قولَ بعضِ أرباب
الأمثال: جمال المرء عقله وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد.»
وهكذا نستطيع أن نقول إن رافع الطهطاوي مع رجال البعوث الذين أنفذهم محمد علي باشا
الكبير إلى فرنسا، كانوا من أعظم المجاري التي تسرَّبَت خلالها إلى الشرق العربي آثارٌ
من مبادئ الثورة الفرنسية وكبارِ مُفكِّريها.
ولكن هناك مجرًى آخر، إذا شئنا أن نرجع إلى أصله في التاريخ وجب علينا أيضًا الرجوع
إلى الحملة النابليونية؛ فإن هذه الدفعة العسكرية القوية تجاوزَت مصر وبلغَت أسوار عكا
حيث حاصرت أحمد باشا الجزَّار في قاعدته، وطارت أخبارها إلى لبنان زمنَ الأمير بشير
الشهابي.
بين أيدينا هذا الكتاب الغني الذي تركه المطران يوسف الدبس عن تاريخ سوريا، فلنكتفِ
منه بالنسخة الموجزة، ولنُراعِ وقائع التاريخ اللبناني خلال الأيام التي كانت تهبُّ
فيها رياح الثورة الفرنسية على الدنيا.
١٦
سنرى أن هذا الوطن البديع النشيط، القائم على ساحل الأبيض المتوسط، كان هو أيضًا في
غليانٍ دائم. والقصة واحدة: أميرٌ حاكم على لبنان، يحتاج إلى المال، أو يطلب منه أسياده
الذين ولَّوه الإمارة مبلغًا من المبالغ، أو هو يتبرعُ بتقديمِ المبلغ ليُزاحم أميرًا
آخر رشَّح نفسه لحكم لبنان، ويأتي موعد الدفع، فيضرب الضريبة على السكان وعلى مواسمهم،
ويبُثُّ جُباته، فيمتنع الناس، وتندلع نيران الثورة، إلى أن يسقط الأمير، أو يُغلب
الأهالي على أمرهم فيُؤدُّوا المال، إلا أن روحهم تبقى على حدَّتها وتوفُّزها غيرَ
مثلومة ولا منكسرة.
وإذن، فقد كان في اللبنانيِّين استعدادٌ عقلي وقابليةٌ روحية لمَّا لفحهم أَوَّل
أنباء الثورة في البلاد المقابلة لبلادهم عَبْر البحر الذي يُطلِّون على أمواجه. أمَّا
كيف وصلَتهم هذه الأنباء، فقد سبق أن الحملة النابليونية على مصر هي التي حَملَت إليهم
تباشيرها.
كانت تنمو في لبنان إذ ذاك بواكيرُ الزهرات الأدبية التي بشَّرت بمطلَع النهضة
الحديثة وموسمها المقبل. ونخُصُّ بالذكر من تلك البواكير الكاتب الشاعر نقولا
الترك.
ونستطيع أن نتصور الناس في لبنان وقد بَلغَتهم أنباء الحملة الفرنسية على مصر
وامتدادها إلى أسوار عكا؛ فإن أميرهم، الأمير بشير، كان مواليًا للجزَّار، فما يكون
موقفه الآن والجزَّار محصور في قاعدته؟ وهذا القائد الفرنسي بونابرت يشد عليه الخناق،
ومحتملٌ كل الاحتمال أن يفتح عكَّا ويتقدم بجيوشه إلى لبنان. ولكن مَنْ بونابرت
هذا؟
ولا شك أن حديث الناسِ عن الفاتح الجديد، الذي حطَّ رحاله في وادي النيل ومشى يريد
إكمال الفتح، صَرفَ الناسَ إلى الحديث عن فرنسا وما طرأ عليها قبل أن يبرز
بونابرت.
وهكذا وَقعَت الأنظار على الثورة الفرنسية الكُبرى والانقلاب العميق الذي أَحدثَته
في
فرنسا. ولسنا نعرف بالضبط كيف اطَّلع اللبنانيون على حوادث الثورة؛ فربما حملها إليهم
التجار الذي كانت لهم صلاتٌ قديمة بين هذا الشاطئ من المتوسط والشاطئ المقابل، وربما
جاءتهم أخبارها على ألسنةِ مُسافرِين كانوا في مصر وعرفوا جنود نابليون
وخاطبوهم.
على أننا نعلم علم اليقين، استنتاجًا من تاريخ الأمير حيدر الشهابي، أن اللبنانيِّين
سمِعوا ببعض حوادث الثورة في عهد باكر، كهجوم الشعب سنة ١٧٩٢
١٧ على القصر الملكي في باريس (التويلري)، وعرفوا أن الشعب طلب مجلسًا
نيابيًّا «ديوانًا عظيمًا ومحفلًا جسيمًا يكون فيه للملك الصوت الأول»، وعرفوا كذلك أن
الملك حاول أن يهرب فقُبض عليه وسُجن في حبس «الطامبل»
Temple ثم أُعدم وانفَردَت «المشيخة» بالتدبير. لكن اللبنانيِّين
— إذا استنَدنا إلى تاريخ الأمير حيدر — لم تخلُ معلوماتهم عن الثورة من اضطرابٍ ظاهر،
وقد يكون هذا طبيعيًّا ومنتظَرًا في مثل تلك الأحوال والأيام.
أمَّا رأيهم في الثورة وحوادثها، فكلام الأمير حيدر يدل حينًا على عطف وحينًا على
تشجيب. ونُقدِّر أن موقفَ كثيرٍ من الأوساط الدينية تجاه الثورة والحكم على الملك
بالإعدام ساعَد الدعايات المعارضة للثورة وغشَّى حقيقتها بغشاءٍ كثيف. ولا تزال
الدعايات تستغل هذه الأمور وأمثالها للتشنيعِ على الثورة إلى اليوم. وطريفٌ حقًّا أن
نقرأ الوصية التي أَثبتَها الأمير حيدر على لسان لويس السادس عشر قبل إعدامه؛ فإن في
أسلوبها ما يُذكِّر ببعض الأُدباء المعاصرين الذين يكتبون عن الثورة فيكتفون بالحديث
عن
«الغوغاء» و«الحزن الملكي» وما أشبه. ومفهومٌ أن للثوراتِ بوادرَ من بطشٍ وعنف. ويمكن
القول إن كثيرِين من اللبنانيِّين، لمَّا التَفتوا إلى الثورة الفرنسية على بُعْد
المسافة، غَلبَت على أبصارِهم مَشاهدُ العنف والبطش. وجاءت الدعايات المعارضة تُضخِّم
تلك المَشاهد في أبصارهم، وتُجرِّد الثورة من فضائلها؛ فهي «الفتنة» أو «الفتنة
العمياء» وكفى. وستكون لنا إلمامةٌ أخرى بهذا الموضوع.
لكن اللبنانيِّين، منذ الساعات الأولى، ساوَرَهم شعور أدى بهم إلى المقايسة بين
شيئَين: فظاعة الثورة والتخريب الذي أَحدثَته من جهة، ونهضة فرنسا وظهور رجلٍ كنابليون
على مسرح الحوادث العالمية من جهةٍ أخرى. وبين الثورة ونابليون صلةُ وصلٍ متينة؛ فكيف
تكون الثورة فظاعةً وخرابًا وتنتهي بهذه القوة الباهرة؟
ومن يقرأ مقدمة الكتاب الذي ألَّفه الشاعر الكاتب نقولا الترك في الثورة الفرنسية
والحروب النابليونية يشعُر بالشعور الغامض الحائر الذي خالَج النفوس بإزاءِ الثورة
والحكم لها أو عليها. يقول نقولا الترك:
جرت عادة الأوايل، بتأليف الكتب والرسايل، وذكر ما يمُر عليهم من الحادثات
الكونية والحركات الكلية، من قيامِ دولةٍ على دولة، وانتشار الحروب المهولة،
وما يتعلق بها من المواقع المريبة والأمور الفظيعة، فحُق لنا أن نُؤرِّخ في هذا
الكتاب؛ لانتفاع الطلاب، ما حدث من التغيير والانقلاب، ممَّا أَجرَته يدُ
الأقدار في هذه الأمصار، ومما آذنَت العزة الإلهية بظهور المشيخة الفرنساوية،
وما تَكوَّن بسببها من الفتن في البلاد الإفرنجية وديارِ الرومية، وقَتلِ
سُلطانهم وخرابِ بلدانهم وانتشارِ شأنهم وربحهم من بعد (خسرانهم)، وذلك بظهور
فردِ أفرادهم وقايدِ أجنادهم، الليثِ الشديد والبطلِ الصنديد، أميرِ الجيوش؛
الأمير بونابرت، وذكر الحروب التي ثارت بتلك الممالك، وحدوث الشرور والمهالك،
وقهر البلاد التي اتصلوا إليها، والانتصارات العظيمة التي حصلوا عليها،
بانتقالهم الغريب من الغرب إلى الشرق، ومرورهم العجيب أَسرعَ من البرق، ونزولهم
على جزيرة مالطة، كالصواعق الهابطة، وفتوحهم ثغرَ الإسكندرية، واستيلائهم على
الأقطار المصرية، وذكر ما تمَّ لهم من التمليك، في حروبهم مع الغُزِّ
والمماليك، وسيرهم على الأقطار الشامية، ومحاصرتهم لمدينة عكا القوية، مسكنِ
ذلك الوزير الجبار، المعروف أحمد باشا الجزَّار، ورجوعهم إلى أرض مصر، وما تم
لهم في ذلك العصر، وكفاحهم مع الدولتَين العظيمتَين: الدولة العثمانية والدولة
الإنكليزية، ومصادمتهم للعساكر البرية والبحرية … إلخ.
فإذا تأمَّلنا هذا الكلام وجدنا ذِكْر الثورة الفرنسية مقرونًا بالفتن وقتل السلطان
(أي الملك لويس) وخراب البلدان، ولكن سرعان ما وجدنا المطاف يفضي بنا إلى: انتشار شأن
الفرنسيِّين، وربحهم بعد خسرانهم، وانتصاراتهم العظيمة، وانتقالهم الغريب من الغرب إلى
الشرق، وهلمَّ. وكَمْ كان نقولا الترك مُوفَّقًا حين أتى على ذكر الثورة وقيام المشيخة
الفرنساوية في جملة «الحادثات الكونية والحركات الكلية»؛ فالثورة الفرنسية حقًّا حادثٌ
كوني وحركةٌ كلية، وهذا من أَوجزِ ما يقال فيها وأَبدعِه.
وكأن اللبنانيِّين ما لبثوا أن تقدَّموا تقدُّمًا سريعًا في فهم الثورة وحقيقةِ
معناها. وإننا لَنُصادِف في التاريخ اللبناني حوالي هذا العهد بعضَ حركاتٍ وانتفاضات
يعمل فيها وعي الشعب عمله الملموس، كعاميَّتَي إنطلياس ولحفد سنة ١٨٢٠-١٨٢١، وكالثورة
على إبراهيم باشا والاحتلال المصري سنة ١٨٤٠، وكغضبة طانيوس شاهين على التحكُّم
الإقطاعي سنة ١٨٥٩.
ويهمُّنا أن نلاحظ في هذا الصدد أن كلمة «العامية» إنما هي تعريب حرفي لكلمة
Commune الفرنسية. وكان اللبنانيون يؤلِّفون
العاميَّات، في مناسباتٍ خاصة، للامتناع عن دفع الضرائب، كما وقع في عاميتي إنطلياس
ولحفد إذ طلب عبد الله باشا الوالي العثماني في عكَّا مبلغًا ماليًّا من الأمير بشير
ففرضه الأمير على اللبنانيِّين وبَثَّ الجُباة لجمعه، فكانت عاميَّتا إنطلياس ولحفد.
ولسنا نعلم هل كان اللبنانيون مُتأثرِين في عاميَّاتهم بشيءٍ من الثورة
الفرنسية.
ولكنا نعلم علمًا لا يشوبه الظن أن اللبنانيِّين، في المنشور الذي أذاعوه سنة ١٨٤٠
يدعون فيه إلى الثورة على إبراهيم باشا، ضربوا للشعب مثلًا من البأس والثبات الفرنسي
في
القتال. يقول المنشور:
فليرقد بسلامٍ رُفاتُ إخواننا (يقصد الحورانيِّين، وكانوا قد ثاروا على
الحكومة المصرية) الذين ماتوا في سبيل الحرية؛ فإنهم ضاهَوا بشجاعتهم
الفرنسيِّين الذين عندما هُدِّدوا بالاستئصال إذا لم يستسلموا فضَّلوا الموت
فخاضوا غَمرات الوغى وقتلوا ١٥٠ ألف رجل؛ فهذا أيها الإخوان حادثٌ تاريخي يجب
ألا يُذهِلكم؛ فإن مُواطنِينا الذين قاتلوا في حوران كانوا قليلي العدد، ومع
ضعف وسائلهم — كما تعلمون — قد فاقوا الفرنسيِّين.
١٨
ولسنا نعرف بالضبط الحادثةَ التي يُشير إليها المنشور في التاريخ الفرنسي، على أننا
نُرجِّح أنها تلك الوثبةُ الجبَّارة التي وثبَها الباريسيون أيام الثورة الكبرى حين بعث
الدوق دي برونشفيك البروسي يتهدَّدهم بِسحقهِم ومحقِ عاصمتِهم إذا مسُّوا الملك وقصره،
فردُّوا عليه بمحاصرة قصرِ التويلري وافتتاحه في ١٠ آب ١٧٩٢ واعتقلوا الملك وصادموا
جيشَ التدخُّل الأجنبي وظفِروا به في معركة فالمي الشهيرة.
أمَّا حركة طانيوس شاهين فليس في أخبارها إشارةٌ صريحة إلى تقاليدِ فرنسا الثورية.
على أن في مخطوطةِ أنطوان ضاهر العقيقي،
١٩ التي تحدَّث فيها عن هذه الحركة، ذِكرًا لشكل السلطة التي كان يستند إليها
طانيوس شاهين؛ إذ كان يقول: «بقوة الحكومة الجمهورية»، ويدعو صاحب المخطوطة طانيوس
شاهين وجماعته «الجمهور». ويغلب على الظن أن كلمة «الجمهورية» و«الجمهور»، بالمعنى
السياسي، عرفها اللبنانيون بتأثيرٍ من الثورة الفرنسية الكبرى. وقد رأينا أن أوَّل
منشورٍ أذاعه نابليون على المصريِّين يحمل في فاتحته هذه العبارة: «من طَرَف الجمهور
الفرنساوي المبني على الحرية».
بهذا ينتهي بنا الحديث عن مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي من طريق مصر
وفلسطين ولبنان؛ فينبغي لنا أن نُحوِّل النظر منذُ الآن شطر الشمال، شطر البلقان
وتركيا، وكانت هي والشرق العربي داخلةً جميعها في نطاق الإمبراطورية العثمانية
الضخمة.
ومعلوم أن ريحًا من الثورة الفرنسية ما لَبِثت أن هبَّت من غرب أوروبا على البلقان
في
شرقها، فساعدَت على إيقادِ لهيبٍ من الثورات الوطنية الاستقلالية على الحكم العثماني.
وكانت أَبعدَ هذه الثورات صدًى في الشرق العربي ثورةُ اليونان التي حرَّرتهم بعد نضالٍ
طويلٍ دام من سنة ١٨٢٧ إلى سنة ١٨٢٩. ونَفذَت لفحاتٌ من ريح الثورة الفرنسية إلى صميم
الإمبراطورية العثمانية وقاعدة السلطنة.
وغنيٌّ عن البيان أن الإمبراطورية العثمانية كانت إذ ذاك تُحرِّك رِجْلًا للهبوط
في
سُلَّم التاريخ. وقد بَدأَت طلائعُ فيها من أهل العقول النيِّرة تشعر بوجوب الإصلاح.
والسلطان سليم الثالث الذي وُلِّي الحكم سنة ١٧٨٩ — وهي أَوَّل سني عهد الثورة — ما لبث
أن أحسَّ بضرورةِ شيءٍ من التعديل والتبديل، ولكنه قَصرَ جهده على الجيش، وكان كثيرٌ
من
إصلاحاته مظهريًّا. ومع ذلك فقد شقَّ عليه جيش الإنكشارية عصا الطاعة، وخلعوه، ثم
قتلوه، وأَلغَوا ما سماه «النظام الجديد». وبالطبع إن الثورة الفرنسية وحوادثها قد
حَملَت الأوساطَ الرسمية العثمانية فورًا على اشمئزازٍ وامتعاضٍ شديدَين. وعاطف باشا
الذي صادف أن كان رئيس الكُتَّاب (وزير الخارجية) أيام السلطان سليم الثالث علَّق على
الثورة الفرنسية بما يلي:
إن جان جاك روسو وغيره من مشاهير الزنادقة والدهريِّين قد قاموا بتأليف
الكُتب الإلحادية المُفسدة في سبِّ الأنبياء وإبطال الأديان وذم الملوك
والأشراف، ونراهم في هذه الكتب يميلون إلى التهكُّم، ويستخدمون ألفاظَ العوامِّ
وأساليبهم حتى يفهم منهم الناس ويَتذوَّقوا طعم المساواة والجمهورية … وهم
الذين دعَوا إلى إلغاءِ أصول الالتزام (أي نظام الإقطاع) الذي يُعتبر أساسَ
كلِّ دولة (!) ومدارَ ارتباطها ونظامها. ثم حرَّضوا على الإلحاد ونبذِ الدين
والشرع والمذاهب، وبذلك مهَّدوا لانقلابِ سكان فرنسا إلى هيئة البهائم. وليت
الأمر وقف بهم عند هذا الحد، بل إنهم تجاوزوه؛ فقد وجدوا في كلِّ مكانٍ أشياعًا
مماثلِين لهم ترجموا بيانهم المُفعَم بالطغيان والمُسمَّى ﺑ «حقوق الإنسان» إلى
جميع اللغاتِ ونشروه بين عامَّة الأمم والمِلل التي كانوا يُحرِّضونها فيه على حكامها.
٢٠
غير أن الطلائع الذين ألمعنا إلى ذكرهم من أهل العقول النيِّرة في الإمبراطورية
العثمانية، لم يكونوا لِيُوافقوا عاطف باشا ونظراءه على مثل هذه الأحكام والآراء التي
تجري مجرى التُّهَم الباطلة. ولم يتحاشَوا أن يُسدِّدوا سهام نقدهم إلى الحكم السلطاني
المُطلَق ويطالبوا بالدستور. وما زال عددهم يتزايد وتأثيرهم ينمو حتى كانت حركة مدحت
باشا ودستوره، ثم الرجعة الحميدية (نسبةً إلى عبد الحميد)، ثم حركة تركيا الفتاة،
والانقلاب العثماني سنة ١٩٠٨.
ولا يحتاج إلى قولٍ أنَّ الحركة الدستورية العثمانية، من مدحت باشا
٢١ إلى شباب تركيا الفتاة،
٢٢ بل إلى الانقلاب الكمالي، تأثَّرت بالثورة الفرنسية ومبادئِ مُفكِّريها
تأثُّرًا واضحًا. ولقد عرف الشرق العثماني والعربي أيام عبد الحميد قافلةً كبيرة من
أحرار الفكر استلهموا فرنسا الثائرة وأعلامَ أُدبائها الثائرِين، وهاجروا إلى الأرض
الفرنسية، ونقلوا آثارًا فرنسيةً
٢٣ من نتاجِ العقول الحرة، وكانت هجرتهم وما نقلوه من المجاري البارزة التي
سَلكَتها الثورة إلى الشرق.
ولكنَّ هذا كله يدخُل بنا في فصلٍ جديد، كثير الشِّعاب، طويل الشُّقَّة.