أمين البُستاني (١٨٥٤–١٩٣٧)
الديمقراطية لفظة يونانية تركَّبت من كلمتَين: «داموس» ومعناها الأُمَّة أو الشعب، و«كراتوس» ومعناها السلطة؛ أي «سلطة الشعب». ويقابلها الأوتوقراطية، واللفظة يونانية أيضًا ومعناها سلطة الفرد أو الملك المُطلَق لا الدستوري المقيَّد. هذه إنكلترا «ديمقراطية» على رأسها ملك، إلا أنه دستوري مقيَّد يسوس الأمة ولكن على يد الأمة؛ فهو ملك جمهوري.
قلت: ولم تزل الحرب مستعرة بين الديمقراطية والأوتوقراطية منذ تبلَّج فجر المدنية، دلَّنا على هذا تاريخ أثينا ورومية في القِدَم وتاريخ فرنسا وإنكلترا وغيرهما في الطارئ الحديث؛ فمن أوتوقراطية إلى ديمقراطية ومن ديمقراطية إلى أوتوقراطية حتى ظفِرَت الديمقراطية، إلا الولايات المتحدة الأميركانية فإنها استمرت من الأصل على الديمقراطية لا تنصرف عنها أبد الأيام؛ وذلك لتمكُّن المذهب الديمقراطي منها وإشرابه نفوسَ قومها. ولا غرو أن تسود الديمقراطية آخر الأمر؛ لأنها حكومة الأمة، والحكومة للأمة لا للمَلِك الذي هو رجلٌ منها اختارته أن يكون رأس دولتها أو اغتصب هو هذا المُلك اغتصابًا وغلابًا في حربٍ وقعت أو فتنةٍ فرَّقتِ بين الأمة أدرك بها طالب العرش مُناه.
لمَّا قبَض الملوك على صوالجة عروشهم انتحلوا حقَّ السماء وقالوا إن مُلكهم من الله لا من عباد الله. ومن هذا قِيل لإمبراطور الصين «ابن السماء» ولسلطان العثمانيين «ظل الله على الأرض». ثم ظلت الأمم تُلقي على ملوكها مثل هذه النعوت الضخمة حتى هَوَوا من تلك العروش، إلا الملوك الذين دانوا لِسنَّة الديمقراطية فاستقَروا على عروشهم وهم أشباهُ رؤساء الجمهوريات لا أبناء السماء ولا ظلال الله على الأرض. على أن تبدُّل طريقة الحكم من سَنَن أوتوقراطي؛ أي من سَنَن التحكم والاستبداد، إلى سَنَن الحرية والدستورية فجأةً وبمرةٍ واحدةٍ أفضى إلى فتنٍ سالت فيها الدماء وتناوَلَت رءوس الملوك أنفسهم فلم تسلم من سيوف الفتنة أن تجزَّها وتجزمها. والشواهد كثيرة في التاريخ القديم والجديد؛ إذ لا بد للملوك من أحزابٍ تنصرهم وتنفِر معهم للذود عن عروشهم فتقتتل الرعية ولم تزل بالاقتتال حتى يظفر فريقٌ بآخر. وغلب أن يظفر فريق الحرية إن لم يكن عاجلًا فبعد حين؛ لأنه متى عصفت فتنة الحرية بأمةٍ وأذاقتها شيئًا من حلاوة الديمقراطية فلا تنكص عنها حتى تبلغ أمانيها. إلا أن حكماء الأمم أجمعوا على أن التدرُّج والتدرُّب على طريقة الديمقراطية هما أسلم عاقبةً وأثبت أثرًا من الطُّفُور؛ فقد جاز أن تلتوي أماني الأحرار بمثل هذا التسرُّع وتقوم الفتنة ويفسد القصد على طالبِيه.
لقد غلَبتِ الديمقراطية وعمَّت بسيط هذه الأرض؛ فمن غالبها من ذوي التيجان فقد غُلب على أمره وهوى من علٍ. وإن تسأل: من له اليد البيضاء في إعزاز هذه الديمقراطية المباركة؟ أجبتك: جمهورية قدماء اليونان وقنصلية الرومان اللتان وإن باتتا في ذمة التاريخ إلا أنهما لم تبرحا مثالَين صادقَين وأستاذَين كريمَين لأمم أوروبا؛ فهبَّت ثورة الإنكليز أولًا في طلب الديمقراطية، وعقبتها ثورة الفرنسيس عام ١٧٨٩ وكانت أُم الثورات ومطلع فجر الحرية للعالم كله. ثم إن سُنَّة الإنصاف لَتدعونا أيضًا أن نذكر للولايات المتحدة الأميركانية يدًا جميلةً على الديمقراطية في هذا العصر، وحُقَّ لفرنسا نصيبٌ من هذا الشكر لأنها نَصرتِ الأميركان في حرب الاستقلال وبَعثَت إليهم قُوَّادها الذين قادوها مع واشنطن للنصر والاستقلال.