الشيخ رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥)
إن التطورات الاجتماعية كانت تقضي بوقوعِ ما وقع من التصرُّف في شكل الحكومة الإسلامية، ولم يمكن في تلك الأزمنة أن يُوضع لها نظامٌ يكفل أن تجري على سُنَّة الراشدين، ولا طريقة أوائل الأُمويِّين والعباسيِّين، في الجميع بين عظمة الدنيا ومصالح الدين. ولمَّا صار هذا ممكنًا كان أمر الدين قد ضعُف، وتلاه في جميع الشعوب الإسلامية ضعف حكوماتها، وضعف حضارتها؛ فلم تهتدِ إلى مثلِ ما اهتدى إليه الإفرنج من القضاء على استبداد ملوكهم شعبًا بعد شعب؛ فمنهم من قضى على الحكومة المَلَكية قضاءً مبرمًا، ومنهم من قيَّد سلطة الملوك فلم يدعْ لهم من المُلك إلا بعضَ المظاهر الفخمة التي يُستفاد منها في بعض الأحوال دون أن يكون لهم من الأمر والنهي في الحكومة أدنى استبداد.
ذلك أن كلَّ من يُعطى تصرُّفًا في أمرٍ يجب أن يكون مسئولًا عن سيرته فيه، والتقاليد المتَّبعة في المُلك أن المَلِك فوق الرعية فلا يتطاولون إلى مقامه الأعلى ليسألوه عما فعل، وهذا شيءٌ أبطله الإسلام بجعله إمام المُسلمِين كواحدٍ منهم في جميع أحكام الشريعة، ونصَّ على أنه مسئولٌ عما يفعل بقوله ( ﷺ): «كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته؛ فالإمام راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها وهي مسئولةٌ عن رعيتها» إلخ … (متَّفقٌ عليه من حديث ابن عمر). وكان المسلمون يراجعون الخلفاء الراشدين ويردُّون عليهم أقوالهم وآراءهم فيرجعون إلى الصواب إذا ظهر لهم أنهم كانوا مخطئين، حتى إن عمر بن الخطَّاب (رضى الله عنه) خطَّأته امرأة في مسألةٍ فقال على المنبر: «امرأةٌ أصابت وأخطأ عمر»، أو: ورجلٌ أخطأ.
غفَل المسلمون عن هذا فتركوا الخلافة لأهل العصبية يتصرفون فيها تصرُّف الملوك الوارثِين الذين كانوا يزعمون أن الله فضَّلهم على سائر البشر لِذواتهم ولبيوتهم وأوجب طاعتهم والخضوع لهم في كلِّ شيء؛ فلم يُوجد في أهل الحَل والعَقد من الرؤساء من اهتدى إلى وضع نظامٍ شرعيٍّ للخلافة بالمعنى الذي يُسمَّى في هذا العصر بالقانون الأساسي يقيِّدون به سلطة الخليفة بنصوص الشرع، ومشاورتهم في الأمر، كما وضعوا الكُتب الطوال للأحكام التي يجب العمل بها في السياسة والإدارة والجباية والقضاء والحرب. ولو وضعوا كتابًا في ذلك مُعزَّزًا بأدلة الكتاب والسُّنَّة وسيرة الراشدِين، ومنَعوا فيه ولاية العهد للوارثِين، وقيَّدوا اختيار الخليفة بالشورى، وبيَّنوا أن السلطة للأمة يقومُ بها أهل الحَل والعَقد منها، وجعلوا ذلك أصولًا متَّبعة، لَما وقعنا فيما وقعنا فيه.
فأمَّا الراشدون رضي الله عنهم فقد كانوا واثقِين بتحرِّيهم للحق والعدل ويُصرِّحون بسلطة الأمة عليهم وهم واقفون في موقف الرسول ( ﷺ) من منبره كما قال أبو بكر: «وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمتُ فأعينوني، وإذا زغتُ فقوِّموني.» وكما قال عمر: «من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه.» وكما قال عثمان: «أمري لأمركم تبعٌ.» وأقوال علي وأعماله بالشورى معروفةٌ على اضطرابِ الأمر وظهور الفتن في زمنه، وموتِ كثيرٍ من كُبراء أهل العلم وتفرُّق بعضهم، ثم إنهم لم يكونوا قد دخلوا في عهد التصنيف ووضع النُظم والقوانين، ولا شَعَروا بشدة الحاجة إلى ذلك؛ لكثرة الصلاح وخضوع الأمة لوازع الدين.
وما جاء عصر التأليف والتدوين إلا وكانت الخلافة قد انقَلبَت إلى طبيعة المُلك بالبدعتَين الكُبريَين اللتَين ابتدعهما معاوية، وهما: جعْل الأمر تابعًا لقوة العصبية، وجعْل الخلافة تُراثًا ينتقلُ من المالك إلى ولده أو غيره من عَصَبته. وشغل الناس عن سوء هاتَين البدعتَين سكونُ الفتنة التي أثارها السبئيون والمجوس وافترصها الأمويون، وما تلاه من اجتماع الكلمة وحقن الدماء في الداخل، والعودة إلى الفتوح ونشر هداية الإسلام وسيادته في الخارج؛ وذلك أن تأثير الفساد الذي يطرأ على الصلاح العظيم لا يظهر إلا بتدرُّجٍ بطيء.
هذا، وإنَّ ما فات المُسلمِين في القرون الوسطى لا ينبغي أن يفوتهم في هذا العصر الذي عرف البشر فيه من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ومن فوائد النظام وأحكامه ما لم يكونوا يعرفون.
وكان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا رجال الدولة العثمانية، ولا سيما الذين يقيمون في الآستانة والروملي من بلادِ أوروبا، يُشاهِدون تطوُّر شعوبها وترقِّيهم في العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن دولةَ علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم لغةٌ علمية مدوَّنة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن الماضي. ولم يكن يتعلَّم علومَ الإسلام منهم إلا قليلٌ من المقلِّدين؛ ولهذا جعلوا سلطةَ سلاطينهم شخصيةً مطلقة حتى بعد تحليتهم بلقب الخلافة، فلمَّا صاروا يدرُسون تاريخ أوروبا وقوانينها، وثوراتها على حكوماتها لإزالة استبدادها، ظنوا أنْ لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظُلمهم إلا بتقليدِ أوروبا في شكل حكوماتها: المَلَكية المقيَّدة، ثُم رجَّحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأَوا أن جعل السلطان مقدَّسًا غير مسئول كما قرَّروه في قانونهم الأساسي لم يفِ بالغرض. ولو درسوا الشريعة دراسةً استقلالية كما يدرُسون القوانين لوجدوا فيها مخرجًا أوسعَ وأفضلَ من القانون الأساسي السابق ومن الخلافة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة …