مصطفى لطفي المنفلوطي (١٨٧٦–١٩٢٤)
فارق مِصرَ على أَثَر إعلان الدستور العثماني كثيرٌ من فضلاء السوريِّين بعدما عمَّروا هذه البلاد بفضائلهم وآثارهم وصيَّروها جنةً زاخرةً بالعلوم والآداب ولقَّنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعدما كانوا فينا سفراء خيرٍ بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية يأخذون من كمال الأُولى ليتمِّموا ما نقَص من الأخرى، وبعدما علَّموا المصري كيف ينشَط للعمل، وكيف يجدُّ ويجتهد في سبيل العيش، وكيف يَثبت ويتجلَّد في معركة الحياة.
قضوا بيننا تلك البُرهة من الزمان يُحسنون إلينا فنسيء إليهم، ويَعطِفون علينا فنُسمِّيهم تارةً دُخلاءَ وأُخرى ثُقلاء، كأنما كنا نحسب أنهم قومٌ من شُذَّاذ الآفاق أو نُفايات الأمم جاءوا إلينا يُصادروننا في أرزاقنا ويتطفَّلون على موائدنا. ولو أنصفناهم لعرفناهم، وعرفنا أن أكثرهم من بيوتات المجد والشرف، وإنما ضاقت بهم حكومة الاستبدادِ ذرعًا، وكذلك شأن كلِّ حكومةٍ مستبدة مع أحرار النفوس وأُباة الضيم، فأَحرجَت صدرهم، وضيَّقَت عليهم مذاهبهم، ففرُّوا من الظلم تاركِين وراءهم شرفًا ينعاهم ومجدًا يبكي عليهم، ونزلوا بيننا ضيوفًا كرامًا وأساتذةً كبارًا، فما أحسنَّا ضيافتهم وشكرنا لهم نعمتهم.
وبعدُ، فقد مضى ذلك الزمن بخيره وشره، وأصبحنا اليوم كلما ذكرناهم خَفقَت أفئدتنا مخافة أن يلحق باقيهم بماضيهم، فلا نعلم أنشكر للدستور أن فرَّج عنهم كربتهم وأمَّنهم على نفسهم وردَّهم إلى أوطانهم، أم نَنقِم منه أنه كان سببًا في حرماننا منهم بعد أُنسنا بهم واغتباطنا بحسن عشرتهم وجميل مودتهم، ولا ندري هل نحن بين يدَي هذا النظام العثماني الجديد في هناءٍ أم في عزاءٍ؟
فيا أيها القوم المُودِّعون، والكرام الكاتبون: