يوسُف جرجس زخم
الإصلاح جاء ويجيء وسيجيء من طريقَين: إمَّا من طريق الحكومة، وإمَّا من طريق الشعب. ومثال الأول حكومة اليابان، ومثال الثاني الجمهورية الإفرنسية والجمهورية الأميركية. والانقلاب العثماني لم يأتِ من طريق الحكومة ولا من طريق الشعب من حيث مجموعه، بل من طريق الجيش. أمَّا والحكومة العثمانية منصرفة قواها جملةً إلى حلِّ مسائلها ومشاكلها وقد بدا حتى الآن أنها لا تكترث أو لا تريد أن تكترث بالعربية حيِيَت أم ماتت، فقد تحتَّم على أبنائها أن يُعلوا مَنارها ويحموا ذِمارها ويحملوا لواءها، وهذا لا يكون فقط بالاحتفاظ ببقايا تلك الكتب العتيقة الباحثة في مذاهبِ سيبويه ونفطويه وأضرابهما مثلًا، بل يكون في نشر الصحافة الحرة بكثرة في المدائن وفي القصبات وفي المديريات وفي الضواحي والنواحي؛ فالصحافة الحرة الصادقة بلا مُدافَع أكبرُ كليَّة للدولة وأكبر مدرسة للأمة وأكبر جامعة للثورات الأدبية المحطِّمة قيود الجهل والظلم وللنهضات الجالبة رفعة القَدْر ووفرة الفَخْر. ويُقاس رُقي الأُمم برُقي صحافتها؛ فكل أمةٍ لها صحافةٌ راقية لها منزلةٌ راقية في السياسة والاجتماع والآداب والعمران والعرفان.
لم تكن الصحافة موجودة بعرفي في دور نيرون القرن العشرين؛ فتلك التي كان العبيد المستعبَدون يدعونها صحافة لم يكن أكثرها إلا وريقاتٍ أو نشراتٍ لنشر آيات التقديس والتدليس والتدنيس، بل لإذاعة المَين كل المَين والتمويه كل التمويه والتجهيل كل التجهيل والتضليل كل التضليل، وكان الاستذلال والاستعباد يقضيان بدفن الحقائق واستحياء المخارق. أما وقد عادت إلى الشعب بعضُ حقوقه المعطاة له من الله فمن الغضاضة على الصحافة أن تستُر العيوب والعورات، وكل صحافة لا تدُل الدولة والأمة على حسناتها وسيئاتها بكلِّ ما في كلمة الحرية من معنى الحرية لا تُدعى صحافة ولا يُرجى لأمتها وحكومتها صلاحٌ وإصلاحٌ.
نعم إن مضمار الانتقاد أوسعُ في أميركا منه في الدولة العليا بداعي تقييد الصحافة العثمانية وإطلاق حرية أميركا، غير أن الذنب على الشعب؛ فشعب أميركا مُطالِبٌ وناهضٌ وقائمٌ، والشعب العثماني قاعدٌ وجامدٌ ونائمٌ. النوَّاب هم الذين قيَّدوا حرية الصحافة وهم ضيَّقوا الخناق عليها، والشعب هو الذي انتخب أولئك النواب وأرسلهم إلى عاصمته وهو الذي يدفع مرتباتهم ونفقاتهم؛ فالشعب هو سيد النواب والنواب خُدَّامه، ولم أسمع ولم يسمع غيري أن ٢٥٠ خادمًا يستطيعون أن يستبدُّوا بثلاثين مليون «سيد»، فيا أيها الشعب، مُر نُوابك بتعديل قانون صحافتك واحمِلهم على تلبية أمرك، فإن لبَّوه كان ما تريد، وإلا فاقلب لهم ظهر المِجن في الانتخابِ المُقبِل وانتخبِ الأصلح فالأصلح حتى تبلُغ ضالَّتك وتعملَ عملَ البلاد الشعبية، فهل من سامعٍ أو مجيبٍ لهذا الصوت الضعيف؟