الأدباء والمفكرون العرب أمام الثورة
(١) عرض عام
… والحقيقة هذه هي: إن الإنسان لا يُفلِح ولا يسعد ولا يرتقي إلا بممارسةِ حقوقه الطبيعية، وإن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وإن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنُّها المجالس النيابية، لا بأوامرَ تُصدِرها الملوك والسلاطين. وأَوَّل حقوق الإنسان: الحرية؛ حرية الفكر وحرية القول وحرية العمل. وأول أسباب الرقي في الأمم: الحرية الاجتماعية والحرية السياسية والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأُمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية، فيسعون دائمًا في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تُقيَّد أو تُمتهن. ومن أكبرِ دعائمِ الحكومات الحرة المستقلة قانونٌ يكفل لشعبها هذه الحقوق الأوَّلية، ويُوجب عليهم الدفاع عنها يوم ينهض عليها الظالمون ويحاولون قتلها.
ها نحن في زمن السلطان عبد الحميد الثاني!
ولعلنا نحسن صنعًا إذا وقفنا قليلًا لِنجسَّ نبض الفكر السياسي الذي كان يُبيحه عبد الحميد؛ فإن هذا لَيزيدُنا فهمًا لتيار الفكر السياسي الذي انطلَق بدافعٍ من الثورة الفرنسية، ويُعيننا على فهم الاصطدام القويِّ الذي لم يلبث أن وقع بين التيارَين.
مع أن الدكتور في خاتمة كتابه «مجمع المسرَّات» يعلن أن مؤلَّفه «حَبلَ به في الظلم وولد في الحرية»؛ لأن صدوره مطبوعًا سنة ١٩٠٨ وافق سقوطَ عبد الحميد وإعلانَ الدستور العثماني، وبهذه الكلمة نفَّس عن صدرٍ متضايق كان ينفِّس عنه قَبلًا بلذعِ التوريات والنكات.
وفي الكتابِ فصلٌ عن «ضرورة السياسة للهيئة الاجتماعية» كُتِب في العهد الحميدي، وهو الفصل الذي يُساير فيه الدكتور شاكر تيار الفكر السياسي الحميدي «مفلسفًا» مجلببًا بجلبابٍ من «المنطق» و«القياس»؛ فيُثبت الدكتور أولًا ضرورة «القوانين التي تعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه»، ثم يثبت ضرورة «أناسٍ مخصوصِين يُديرون حركة القوانين ويَسيرون بموجبها، وهؤلاء هم الساسة.» أمَّا القوانين فقسمان: قسم يتعلق «بحقوق الأفراد بين بعضهم»، وقسم يتعلق «بحقوق الهيئة عمومًا مع هيئةٍ أخرى.» ولا بد للفئة المخصوصة التي تتولى إدارة القوانين من أن «يرأَسها شخصٌ تُعطى له السلطة»، ويكون له مساعدون وقوةُ تنفيذٍ هي الجيش؛ ولئلا تخرب الجمعية «حصَر الباري السلطة بيدِ واحد».
ومن ثَمَّ يقابل الدكتور بين الحكومة والجسم مقابلةً طريفة لا نلبث إذا دقَّقنا فيها النظر أنْ نجد أنَّ الحكومة هي الدولة العثمانية الحميدية، شبَّهها الكاتب بالجسم الإنساني ليُثبِت مُوافقتَها للخلق الطبيعي.
ﻓ «الرأس هو الملك»، والرأس عليه «مدار الحياة»، وهو «مركز العقل يُميِّز النافع من الضار»؛ ولذلك «نرى هذا التحفُّظ الكلي للرأس» إذ «تُحيطه الحصون من كلِّ ناحية.» ثُمَّ «الرئة» التي هي «الصدر الأعظم»، ووجه الشبه أن الرئة تُدخل الهواء الجديد وتُنقِّي الدم، والصدر الأعظم وظيفته أن يُدخل كلَّ شيءٍ نافعٍ لبلاده. ثم «القلب» وهو «وزير المالية»، القلب يوزِّع الدم في الجسم ووزير المالية يَسهَر على الإمداد بالنفقة؛ فالدم هو المال.
أمَّا «المعدة» فهي «الخزينة».
وأمَّا «الأعصاب» فهم «الولاة»، صلة الوصل بين الملك الذي هو الرأس وبين البلاد. ثُمَّ تأتي «الأطراف»، وهؤلاء هم «العسكرية»، و«الأطراف العليا تُشبه الخيالة، والسفلى المشاة»، و«كلها تتحرك بأمر الملك.» و«كما أن الأطراف تقنع بالغذاء القليل، كذلك العسكرية التي عليها مَدارُ شَرفِ المملكة وحمايتها فتكتفي بغذائها فقط؛ لأن ليس لها سلطة الإدارة؛ فالقساوة على الأطراف كالقساوة على العساكر؛ لأن الأطراف لتعوُّدها مس الأرض فيقسو جلدها ويصير قليل الإحساس، كالعسكر الذين يعتادون الشغل والتعب والحر والبرد ولا يجوز لهم الترفُّه لأنه يضرهم!»
ثم تأتي «الحواس» التي هي «السفراء».
أمَّا الإفرازات التي يلفظها الجسم فكالأشخاص المُفسدِين والمُقلقِين في المملكة، وإخراج هذه الإفرازات وظيفةٌ من وظائف «العسكرية». ويخلص الدكتور إلى النتائج الآتية:
«الوظائف مختلفة في الأهمية، ولكلِّ عضوٍ وظيفته، ويكون مؤلَّفًا بهيئةٍ تجعله قادرًا على إتمام هذه الوظيفة. وكلَّما كثُرت أهمية العضو كان أكثر كمالًا وتركيبًا. وهذا التفضيل سُنَّة من الخالق، وليس من العضو ذاته. وليس من الحكمة أن يتساوى الرأس والقدم؛ لأنهما لو تساويا لاختلَّ النظام وخربت الحياة؛ إذ لا يمكن للقدم أن تقوم بواجبات الرأس، ولا لهذا أن يخلُف ذاك. ولكلٍّ منهما وظيفةٌ خصوصية يتكافأ أو يتجازى حسب ضرورتها وحاجة الحياة إليها. وهذا التمييز هو عين العدل؛ مثلًا: يجب للرأس بتغذيته خمسين غرامًا من الدم، وللقدم يلزم عشرةُ غرامات؛ فيلزم أن يُعطى الخمسون غرامًا من الدم أولًا للرأس إذ بدونه لا تقوم قائمةٌ للقدم؛ ولذا ترى أن الدمَ أوَّلَ ما يتوزع للرأس!»
وبعد ذلك يرُشُّ الدكتور على هذا «المعجون الحميدي» شيئًا من الكلام العسلي: «أساس السياسة الحق، وأساس الاجتماع المحافظة على الحقوق.»
ولسنا بحاجة إلى أن نشرح للقارئ كيف أن الدكتور يبث الفكر السياسي الحميدي «مفلسفًا» ومجلببًا بجلبابٍ من المنطق والقياس؛ فهو يُقرِّر ضرورة حصر السلطة في فرد، ويدعو كلَّ عضو إلى الاهتمام بوظيفته، وإلى الرضا بقِسطه من الدم (أي من المكافأة على عمله)؛ فيكون محصَّل كلامه توطيد الأوضاع الحميدية. ومما يسترعي انتباهنا بوجهٍ خاص رأيه في وظيفة الجنود. وإذا ذكرنا أن الأوتوقراطية الحميدية تلقَّت ضربتها من الجيش، ظهر لنا معنى دروس الدكتور شاكر الخاصة بالعسكرية.
وغنيٌّ عن البيان أن مقابلة الدكتور بين الحكومة والجسم لا تصمُد للنظر. والمثل الألماني يقول: كلُّ تشبيهٍ أعرج. وتشبيهه هذا كسيح، لا أعرج وحسب! ولمحةٌ تُعرِّفنا أن الملك، للهيئة أو الجمعية، ليس كالرأس للجسم؛ فالرأس إذا قُطع هلك الجسم، وقد قُطعت رءوس ملوكٍ فلم تهلِك الهيئة، بل زكَت عافيتها وربَت صحتها.
وكان طبيعيًّا أن يتصدَّى لهذه «الفلسفة» السياسية الحميدية من يُخالفها، بل إن هذه «الفلسفة»، وهي مجلًى من مجالي التعبير عن شرعية الحكم المُطلَق، أَخذَت بها الأوتوقراطية العثمانية قديمًا. ووُجِدت طليعةٌ من المُعارضِين أيام السلطان عبد المجيد، بل قبله أيضًا. وكان عبد المجيد نفسه على جانبٍ من الاستنارة، فعَمَد إلى شيءٍ من الإصلاح في نظام الحكم، فأدخل وزيره رشيد باشا «القانون المسمى بالتنظيمات الخيرية، للمساواة بين رعايا الدولة المنسوبِين إلى غير العنصر الحاكم.» ولم يلبث عبد المجيد أن أيَّد التنظيماتِ الخيرية بخطٍّ يُعرف بخط الكولخانة. وسارت الدولة العثمانية خطًى نحو الملكية المُقيَّدة.
وفي هذا العهد أشرق نجم مدحت باشا، وهو أحد الأعلام الساطعِين في الكفاحِ من أجلِ حكمِ الشورى في الشرق؛ وكان يتجه إلى الغرب بنظره الإصلاحي؛ وكانت الثقافة الفرنسية صلة الوصل بينه وبين الغرب؛ وكان عميقَ التأثُّر بمبادئ الثورة الفرنسية، إلا أنه، في الأغلب، كان يرمي إلى ملكيةٍ مقيدة بدستورٍ ديمقراطي عصري لا إلى جمهورية، وإن يكن ظهر من خصومه من «يتهمه» بالجمهورية وتفكيك الدولة العثمانية وحب الاستقلال ببعض أجزائها.
ووُفِّق مدحت باشا وأعوانه إلى خلعِ السلطان عبد العزيز وتوليةِ السلطان مراد ليحكم بحسب دستورٍ تُقره الأمة. لكن عبد العزيز انتحر بمقراضٍ لشدة غيظه. ولم يطُل حكم مراد، فعَهِد بالسلطنة إلى عبد الحميد، والنية لا تزال معقودةً على إعلان الدستور. وأُعلن الدستور، إلا أن عبد الحميد ما لبِث أن اتَّهم مدحت وأعوانه بقتل السلطان عبد العزيز، ودَبَّر لهم محاكمةً انتهت بإعدامِ مدحت. وهكذا استطاع السلطان عبد الحميد أن يتابع سيرة الأوتوقراطية العثمانية، واستَبد بالأمور وبالَغ في استبداده.
وقد سبق لنا أن رأينا تيار الفكر السياسي الحميدي كما مثَّله الدكتور شاكر الخوري «مُفلسفًا» ومجلببًا بجلبابٍ من «المنطق» و«القياس»، فما هو التيار الفكري المعارض الذي كان يمثِّله مدحت باشا وأعوانه ومفكرونا وأدباؤنا الذين نَزعوا نزعَته مُتأثِّرِين بالثورة الفرنسية ومبادئها؟
الحرية تُحدِّد للإنسان حدوده، وتُعرِّفه موقفه في الهيئة الاجتماعية، وهي التي تفرِّق بين الإنسان وبين الحيوان؛ وهي التي أَوصلَت الحكومات المتمدنة إلى درجة الرقي …
خلق الله الإنسان وخلق أعضاءه، فهو مختارٌ في استعمالها، حرٌّ في تصرُّفاته وحركاته وسكناته، له حق العمل كما يريد والتوجُّه إلى أيِّ مكانٍ يرى فيه مصلحةَ نفسه؛ وهذه هي الحرية الشخصية. ومع هذا فالإنسان يميِّز بواسطة العقل النافعَ والضارَّ والحسنَ والقبيح. والعقل يختلف بين الناس، ولا يقدر الإنسان على الوقوف عند حدِّه وعدم التجاوُز على حقوق الغير؛ ولذلك فقد وُجِدَت القوانين لوضع حدودٍ للبشر وتعيينِ حقوقِ أفراد الشعب … إلخ.
ولقد أثبتنا في باب النصوص من كتابنا هذا مقطوعةً طويلة نقلناها عن كتاب «محاكمة مدحت باشا»، فإذا راجعها القارئ — ولا بد له من مراجعتها — وجدها أشبه بمنهجٍ كامل كان أساسًا فكريًّا بنى عليه أعلام مُفكِّرينا وأدبائنا العرب؛ فكما كثُر الالتفات في هذه المقطوعة (التركية) إلى «العدل، والمساواة، والحرية، والشعب، والحقوق، ومونتسكيو» — وفي ذلك ما فيه من أثرٍ بيِّنٍ للثورة الفرنسية ومبادئها — كثُر كذلك التفاتُ أعلامِ مُفكِّرينا وأُدبائنا إلى هذه القيم والمذاهب في الحكم وإلى مونتسكيو وروسو والثورة الفرنسية ومبادئها.
ولسنا نظن أنفسنا بحاجة إلى المعارضة بين التيار الفكري السياسي الذي تُمثِّله تلك المقطوعة والتيار الفكري السياسي الحميدي كما عرفناه في مقال الدكتور شاكر الخوري؛ فإن نقاط الخلاف والتناقُض بين التيارَين ظاهرة للقارئ.
ويُلاحظ من المقطوعة أيضًا أن الأعلام من مُفكرينا وأُدبائنا لم يكتفوا بالنظر إلى الثورة الفرنسية، بل نظروا معها إلى الإسلام ومبادئه، فوجدوه يؤيد مطامحهم في الإصلاح والشورى والدستور (وهذه شعبة من الموضوع سنعالجها معالجةً خاصة).
واندَفعَت هجمةٌ فكرية عنيفة على الاستبداد الحميدي في سبيل الحرية والدستور والإصلاح، فكان الانقلاب العثماني سنة ١٩٠٨، ولكن بقوة الجيش. واستمرت اليقظة العربية الفكرية، وقد كانت — وما برِحَت — للثورة الفرنسية يدٌ قوية فيها.
وسبيلنا في هذا الفصل أن نعرض لقافلةٍ من كُتَّابنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية ومبادئِ أعلامها. وسنرى أن القافلة عظيمةٌ حقًّا تكاد لا تخلو من اسمِ كاتبٍ أو مُفكرٍ عربي شهير، وغنيٌّ عن البيان أننا سنقتصر على أسماء الذين كان تأثُّرهم واضح السمة، عميق الطابع.
وليكن ابتداؤنا بالسيد جمال الدين الأفغاني (١٢٥٤–١٣١٤ﻫ/١٨٣٩–١٨٩٧م). وهو وإن لم يكن عربيًّا، فقد اتصلت حياته اتصالًا وثيقًا بالشرق العربي، وأتقن اللغة العربية وله فيها آثارٌ أدبية (كلمات وخُطَب مقطَّعة ورسائل) تُنزله منزلة الأديب العربي.
إذا لم تدخل الماسونية في سياسة الكون، وفيها كلُّ بنَّاء حر، وإذا آلات البناء التي بيدها لم تُستعمل لهدم القديم ولتشييدِ معالمِ حريةٍ صحيحة وإخاءٍ ومساواة، وتدُكَّ صروح الظلم والعُتو والجَوْر، فلا حملَت يد الأحرار مِطرقة حجارة، ولا قامت لبنايتهم زاويةٌ قائمة …
أول ما شوَّقني للعمل في بناية الأحرار عنوانٌ كبير خطير: حرية، مساواة، إخاء — غرض منفعة الإنسان، سعي وراء دكِّ صروح الظلم، تشييد معالم العدل المُطلَق — فحَصَل لي من كلِّ هذا وصف للماسونية، وهو همة للعمل وعزة نفس وشمَم واحتقار الحياة في سبيلِ مقاومة الظلم.
وظاهرٌ ما في هذا الكلام من تأثُّر بشعارات الثورة الفرنسية. ولمَّا لم يرَ السيد الأفغاني أن اشتراكه في المحفل الاسكتلندي يُهيِّئ له ما يريد من النشاط والتوجيه السياسي، أنشأ محفلًا وطنيًّا تابعًا للشرق الفرنسي، وركَّز جهوده على المطالبة بدستور ومجلس شورى، مستندًا إلى ما تأثَّر به من شعارات الثورة الفرنسية ومبادئها، مستمدًّا من روح الشورى في الإسلام، مقتنعًا بأن الإصلاح الداخلي في طريقة الحكم يُقوِّي الشرق في ثباته للغرب الزاحف عليه. وترتبط سيرة جمال الدين الأفغاني بثلاثِ حركاتٍ شورية في الشرق، هي: الحركة التركية الدستورية، والحركة المصرية النيابية في عهد الخديوي توفيق وبعده، والحركة الإيرانية النيابية أيام ناصر الدين شاه.
ويجد القارئ في باب النصوص من هذا الكتاب طائفةً مختارة من أقوال الأفغاني تشفُّ جميعها عن تأثُّرٍ واضحٍ بثورة فرنسا ومبادئ مفكريها الأحرار.
على أنه، في كتابه مشهد الأحوال الذي أنشأه، أو أنشأ معظمه، في غربته في باريس، ميَّالٌ إلى التشاؤُم، وإن يكن أكثر تشاؤمه معلَّقًا بسوء حظه الشخصي. والأرجح أنه لم يفقد يومًا إيمانه بفوز العدل والحرية والعقل، إلا أنه ما لبث أن أدرك أن موجة الإصلاح التي لمسها أيامَ عبد العزيز ضعيفةٌ سطحية؛ فلا بد من أمدٍ طويلٍ قبل اندفاع موجةٍ إصلاحية قوية عميقة النبع كما يريدها.
ولئن يكن فرنسيس فتح الله مرَّاش لم يذكُرِ الثورة الفرنسية ومبادئها ذِكرًا صريحًا، فإن وشائج الارتباط بينه وبينها وبين أعلامها المُفكرِين صريحةٌ ملموسةٌ، ولا سيما في كتابه غابة الحق.
وإنه لكتابٌ فريدٌ في نوعه، قصَّ فيه المؤلف قصة حُلمٍ تراءى له، وأودعه آماله وأمانيه في مصير بلاده والدنيا. يدور هذا الحُلم الرمزي العجيب على حربٍ نَشبَت بين «مملكة الحرية» و«العبودية»، فظفِرت فيها مملكة الحرية، ووقع ملك العبودية في الأَسْر، وأُقيمت محكمةٌ اجتمع فيها ملك الحرية وامرأته «ملكة الحكمة» ورئيس جنده «قائد جيش التمدُّن» ووزيره وزير «محبة السلام»، وسِيقَ إليها ملك العبودية وأعوانه ليُحاكَموا، وكان «الفيلسوف» يُمثِّل دوره الأساسي في توجيه المحاكمة وتوضيح طرُق التسوية والإصلاح.
ولمَّا كان اجتزاء الأقوال القصيرة من كتاب غابة الحق لا يفي بغرضنا، فقد آثرنا أن يرجع القارئ إلى باب النصوص من مؤلَّفنا هذا؛ ففيه فصولٌ اخترناها لإظهار أثَر الثورة الفرنسية ومبادئها في كاتبٍ يُعدُّ باكورةً زكية من موسمِ نهضتنا الفكرية والأدبية.
ومن فرنسيس مرَّاش ينتقل بنا الحديث إلى أديب إسحاق، تلميذ الأفغاني وصديقه ورفيقه. وقلَّ بين كُتَّاب العرب، في مطلَع النهضة الحديثة، مَن تصرَّف بقلمٍ وبيان كقلم أديب إسحاق وبيانه. وإن القارئ ليُحِس بحرارة الشباب تتنفَّس في كلماته. ولعل الشيخ إسكندر العازار وُفِّق إلى تصوير الرجل وإنصافه خيرَ توفيقٍ حين قال يؤبِّنه: «عاش حُرَّ الضمير فكرًا وقولًا وفعلًا، ومات حُرَّ الضمير فكرًا وقولًا وفعلًا. يُبكيه ضمير الأحرار، وتَندُبه الحرية. نشأ وطنيًّا خالصًا صحيحًا، وعاش جنديًّا لأشرف الأصول وأسمى الغايات … إي، والإنسانية! كان للإنسانية نصيرًا، ولأعدائها نذيرًا، وبالإنسانية بشيرًا، فلتَبكِه الإنسانية!»
وأديب إسحاق من أعمق كُتَّابنا صلةً بالثورة الفرنسية وبمبادئ مفكريها، وله لفتاتٌ إلى الثورة تملأ كلَّ ما سطَّره قلمه، وله لفتاتٌ رائعة في وصفِ هذه الثورة واستنباطِ العبرة منها وضربِ المثل بها. وفي كتاب «الدُّرر» (منتخبات من آثاره، طُبع في بيروت سنة ١٩٠٩) رسائلُ بليغة بعنوان: «نفثة مصدور»، خطَّها كما يقول في فرنسا «تحت سماء الإنصاف، على أرض الراحة، بين أهل الحرية، يسمع ألحانًا في مجالس العدل، فيذكر أنين قومه في مجالس الظلَمة وتحت سياطِ الجلادِين، فينوح نَوحَ الثاكلات، ويرى علائم النعمة في معاهد المساواة فيذكر شَقاء سِربه في ربوع الظلمة فيذرف الدمع ممتزجًا بسواد القلب ويكتب به إليهم …»
ونُغادر أديب إسحاق إلى كاتبٍ آخر من طلائعِ كُتَّاب العرب ومُفكِّريهم الذين ناضلوا الظلم في سبيل «قيم» ومبادئَ يظهر عليها طابعٌ من الثورة الفرنسية وآراء مُفكِّريها؛ ذلك الكاتب هو عبد الله النديم الذي اضطُر إلى الاختفاء من مُلاحقةِ السلطات عَقدًا كاملًا من حياته على أَثَر الثورة العرابية في مصر. وقد دوَّن تيمور باشا في كتابه «أعيان القرن الثالث عشر» قصة عبد الله النديم واختفائه، فإذا هي حقائقُ عجيبة كاختلاقاتِ الخيال. ولم يتركِ الشيخُ نديم كثيرًا من الآثار، ولا ريب أن يد الاضطهاد مسئولةٌ عن ضَياعِ بعضِ روائعِ قلمه، إلا أننا وقَعنا على إحدى مقالاته التي تُبيِّن ما نحن بصدده، فأثبتناها مع النصوص. وسيرى القارئ أن عبد الله النديم يدعو ملوكَ الشرق إلى الشورى، ويُؤيِّد دعوته بشاهدٍ من الغرب، ويَعِد بأنه سيُؤيِّدها بشواهدَ من القرآن الكريم في مقالةٍ ثانية.
وإلى جانب عبد الله النديم يرتفع أمامنا شخصٌ بقامةٍ معنوية فكرية شاهقة؛ أعني عبد الرحمن الكواكبي مؤلف كتابَي «طبائع الاستبداد» و«أُم القرى». وغنيٌّ عن البيان أن الكواكبي، كغيره من الأعلام الذين نسوقُ الحديث عنهم، لم يكن نتيجةً لتيارٍ واحدٍ، وإنما اشتركت في تكوينه تياراتٌ منها الثورة الفرنسية ومبادئها. وقد عرض الكواكبي في «طبائع الاستبداد» لِذكرِ السبيلَين الرئيسَين من سُبل الإصلاح في نظره، فكان أولهما: «سبيل النبيِّين»، وثانيهما: «سبيل الفئة التي اتَّبعَت أَثرَهم»، يعني «فئة الحكماء الذين لم يأتوا بدينٍ جديدٍ ولا تمسَّكوا بمعاداةِ كلِّ دين، بل رتقَوا فتوقَ الدهر في دينهم بما نقَّحوا وهذَّبوا وسهَّلوا وقرَّبوا.» وضرب مثلًا لهذه الفئة فذكر «مؤسسي جمهورية الفرنسيس.» وكان الكواكبي معجبًا بيقظة الشعب الفرنسي وتوثُّبه الثوري، ويرى «أن الحكومة، من أيِّ نوعٍ كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامُح فيها، كما جرى في صَدرِ الإسلام فيما نُقم على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يوم خصَّ بحكمه ذوي قُرباه دون المسلمين، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس».
ويستطيع القارئ أن يرجع إلى النصوص التي اخترناها للكواكبي من طبائع الاستبداد وأثبتناها في هذا الكتاب؛ فإنها أوضحُ دليلٍ على عُمق تأثُّره بثورةِ فرنسا وأحرارِ مُفكِّريها.
وينتقل بنا الكلام من الكواكبي إلى الدكتور شبلي الشميِّل، وهو فلتة زمانه في قبول النظريات الجديدة في العلم والسياسة واعتناقها اعتناقًا مدركًا واعيًا. ترك الرجل مجلدَين غنيَّين يحويان جُل آثاره الأدبية، نَشرَتهما مجلة «المقتطف» باسم «مجموعة الشميِّل»، وليس يهمُّنا منهما في هذا الكتاب إلا الجزء الثاني. وطبيعيٌّ أن يكون الدكتور شبلي شميِّل قد تأثر بالثورة الفرنسية ومبادئها، على أنه لم يقف عند حدها، بل اعتبرها حادثةً عالمية هي مرحلةٌ من مراحلِ التطوُّر البشري الذي كان يعتقد أنه سائرٌ نحو الاشتراكية. ويكفينا هنا أن نُثبت له هذه الكلمة في الثورة الفرنسية: «لولا تلك الثورة لَمَا ارتقى الإنسان واصطلَح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة.»
ومع الدكتور الشميِّل يَعرِض ذكر فرح أنطون صاحب مجلة «الجامعة». وفرح هو معرِّب رواية «ديماس الكبير» عن الثورة الفرنسية، طُبعت ثلاثة أجزاء في مجلدَين: «نهضة الأسد» و«وثبة الأسد». وكان فرح، أول الأمر، شديد الإيمان بمبادئ الثورة يعتقد أنها الدواء لكلِّ داء، ثم ضعُف إيمانه. إلا أنه — كما قال عن نفسه — تغذَّى بهذه المبادئ حتى أصبح يُحرِّم على نفسه رشقها ولو بِوَردة، حتى في المبادئ التي بطَل اعتقاده بها. والواقع أن ارتياب فرح أنطون في قيمة الثورة ناتجٌ عن أنه لم يَرَها — كما رآها الشميِّل — مرحلةً من مراحل التطوُّر البشري، واعتبرها — وهي التي حَدثَت في أواخر القرن الثامن عشر — دواءً لكلِّ داءٍ في نظام الهيئة الإنسانية، ولو بعد مُضي قرنٍ خطا فيه التقدُّم خطًى جبارةً وجدَّت مشاكل تستدعي إصلاحاتٍ جديدة. ولنا رجعة إلى هذا الموضوع.
وقد كتب فرح أنطون كلمةَ تمهيدٍ للطبعة الثانية من تعريب رواية «ديماس»، أثبتنا قسمًا منها في باب النصوص؛ لأنها تدُل على مدى تأثُّره بالثورة الفرنسية، وصلة الانقلاب العثماني بها، وضغط العصر الحميدي على الفكر وحريته.
وما كان لنا أن ننسى في هذا العرض مصطفى كامل الزعيم المصري الوطني، وهو الذي نشر كثيرًا من مبادئِ ثورة فرنسا وآراءِ أحرارها. ولقد أمضى مصطفى كامل ردحًا من حياته في باريس، ويكاد لا يخلو كتابٌ في سيرته من الصورة التي عرضها في شوارعِ باريس تُمثِّل مصر فتاةً مكبَّلةً مسلوبة الإرادة تستنجد بفرنسا لِردِّ حريتها. ويُفهم من نص العريضة التي وجَّهها مصطفى كامل إلى فرنسا في سبيلِ إسعافِ مصر أنه إنما علَّق أمله على روح الثورة الكبرى وما رافقها من مبادئ. وفي العريضة يُشيد الزعيم الوطني المصري بفرنسا «التي أعلنت حقوقَ الإنسان.» ومفهوم أن استنجاد مصطفى كامل كان عملًا سياسيًّا فيه كثيرٌ من السذاجة، إلا أنه يدُل على عُمقِ أَثَر الثورة الفرنسية في الشرق العربي وجمال الهالة التي أحاطَت بها الثورة وجه فرنسا.
ولمصطفى كامل خُطبٌ كثيرةٌ تشفُّ عن صلةٍ قوية بمبادئ فرنسا الثائرة وتسرُّب عَدْواها إليه. وكان أَوَّل هدفٍ يتوخَّاه «الحزب الوطني» الذي يقوده مصطفى كامل: «إعلان مبادئ الحرية الدينية والسياسية، وتشكيل مجلسِ نوابٍ مصري، وتحديد كلِّ سلطة.» وقد أوردنا في باب النصوص مقتطفات من خُطبه يستطيع القارئ مراجعتها.
وبين طلائع كُتَّابنا ومفكرينا أديبٌ ناضل الظلم، وقاسى النفي والاضطهاد، واتصل اتصالًا روحيًّا عميقًا بالثورة الفرنسية وأعلام المفكرين الذين أوقدوا شعلتها في الضمائر قبل أن يندلع لهبُ نارها في مدن فرنسا وقراها ويرسل ضوءًا كبيرًا قشع ظلمةً عن العالم. أردنا وليُّ الدين يكن، صاحب «القلم الذي أصبح غازيًا في حرب الاستبداد» كما قال عنه في كتابه «المعلوم والمجهول». وما أشدَّ ما يُذكِّرنا ولي الدين بفولتير حين قال لعبد الحميد: «لأهُزنَّ بقلمي أركان قصرك هزًّا!» وكان متأثرًا بما قاله ساخرُ فرنسا الساحر لملك بروسيا فردريك الكبير: «ليس لي صولجان، ولكن لي يراع!» ولقد سالت من ولي الدين على سنِّ قلمه كلماتٌ قصيرةٌ تذهبُ مذهب المثل، وكلها تشفُّ عن تأثُّر بالثورة الفرنسية، كقوله: «الحرية عدوة الملوك وحبيبة الشعوب!» وكأن مشهد ثورةٍ كالثورة الفرنسية تشُبُّ في وجه عبد الحميد لم يفارق باصرة ولي الدين؛ فهو ينظر إلى الأُمَّة أيام عبد الحميد ويراها «أجملَت الصبر حتى تنفسَت عن البارود.» ويرى قصر عبد الحميد وكراسي ملْكه، ثم «ما هي إلا صيحةٌ أخذتهُما فتساقَطَت تلك اللبناتُ الذهبية، وقَعقعَت هاتِيكَ العروش، وقُضي الأمر!»
ولولي الدين رقةٌ على باريس وحنين إليها، وما مقالته فيها، يوم طغَى عليها نهر السين سنة ١٩٠٠ فنَكبَها نكبةً مؤلمةً، إلا قصيدةٌ ناعمة والهة. ومن أبرز ما يشاهده أديبنا بعين الخيال من المدينة العظيمة «برج إيفل كأنه خطيب الحرية!» ويجد القارئ بين النصوص المختارة في هذا الكتاب قطعةً لولي الدين عن «البلبل»، اجتزأناها من روايته «دكران ورائف»، وهي الرواية التي أراد بها تصويرَ جواسيس عبد الحميد وسعيَ الشباب الأحرار في سبيل الانعتاق من نِيرِ السلطة المُطلَقة المستبِدة. وولي الدين مُتأثِّر في قطعته هذه التي اخترناها بفكرةِ استلهامِ الحرية من الطبيعة، ومعلومٌ أنها فكرةٌ روسوية. ويلاحَظ أن بلبل ولي الدين «يترفَّع عن تمليق الملوك»، وهو «على ضعفه وصِغَره بطل الحرية، ما أُودع قفصًا إلا ومات فيه غمًّا أو انتحر يأسًا».
ولن ننسى من كبار أدبائنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية: أمين الريحاني. وقد توَّجنا هذا الفصل بكلمةٍ له تنادي مناداةً على صلته الواضحة الوثيقة بالثورة الفرنسية ومبادئها، وتكاد لا تخلو صفحةٌ من «ريحانياته» في أجزائها الأربعة من أثرٍ من آثار ثورة فرنسا وأعلام مُفكِّريها. ولأمين الريحاني فصلٌ ناقش فيه كتاب كارليل عن الثورة الفرنسية، ودار في نقاشه على مسألة تاريخ الثورة وقضية العنف، فأثبتناه في باب النصوص من هذا الكتاب لقيمته. والذي يقرأ القصيدة المنثورة التي كتبها الريحاني في الثورة، إطلاقًا، ترتسم في ذهنه صورةٌ راسخة من حياة هذا المُفكِّر الجريء، وهو لا يفتأ يُذكِّر الظالمين ويُردِّد قوله: «ألم نقصَّ عليهم قصص باريس؟»
قد أحببتُ الحرية فكانت محبتي تنمو بنمو معرفتي عبوديةَ الناس لِلجَور والهوان، وتتسع باتِّساع إدراكي خُضوعَهم للأصنام المخيفة التي نحتَتها الأجيال المظلمة، ونَصبَتها الجهالة المستمرة، ونعَّمت جوانبها ملامسُ شفاه العبيد. لكني كنتُ أحب هؤلاء العبيد بمحبتي الحرية!
لو ثار قومي على حكامهم الطغاة وماتوا جميعًا مُتمردِين لقلتُ إن الموت في سبيل الحرية لأَشرفُ من الموت في ظل الاستسلام.
ولما كان الأدباء اللبنانيون والسوريون في طليعة مَن تصدَّى لِتصرُّفات الحكم العثماني وفي مقدمة من بث المبادئ المنبثقة من الثورة الفرنسية في الشرق العربي، ولا سيما مصر، فقد أثبتنا مقالًا للكاتب الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي يُؤدِّي فيه واجب القَدْر والإعجاب لأولئك الأعلام الأحرار.
والآن ننتقل إلى ناحيةٍ أخرى من هذا الفصل، فنذكُر الدروس الفكرية التي تلقَّاها أُدباؤنا ومُفكرونا من فرنسا الثائرة وأعلامِ ثورتها.
(٢) دروس في الفكر والإصلاح
إن بين الاستبداد والعلم حربًا وطرادًا مستمرًّا، يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في إطفاء نوره. والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا. وهم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا …
ولكن ما هي الدروس الأساسية التي قبسها أُدباؤنا ومُفكرونا من فرنسا الثائرة وأَعلام مفكريها الثوريِّين؟ يبدو أن هذا هو المحور الذي يدُور عليه كتابنا. وليس من ريبٍ أن أُدباءنا ومُفكرِينا لمَّا اتجهوا بقلوبهم وعقولهم شطر فرنسا الثورية كانوا يرمون إلى دروسٍ ومبادئ يتعلمونها، لا إلى تأييد دولة في غرضٍ من أغراضها الخاصة.
أمَّا أَوَّل هذه الدروس التي تعلَّموها فهو فكرة الثورة نفسها. لقد رأَوا أن حياة الأمم ربما اعترتها المفاسد والظلامات في شئون الحكومة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، ورأَوا أن الإصلاحَ ربما أصبحَ غيرَ ممكنٍ عن طريق الإقناع والتسوية السلمية، فآمنوا بوجوب الثورة في بعضِ الأحوال، ورأَوا بناءً على الانقلاب الفرنسي العظيم أن الثورة إذا أُجيدت وكانت في موضعِها أتت بخيرٍ كثيرٍ، بل خَلقَت الأمة والبلاد خلقًا جديدًا.
وإننا لنجد هذا الخط من التفكير الشديد الوضوح والجلاء عند أمين الريحاني، ولكنه ملموسٌ عند مُفكرينا وأُدبائنا الأحرار جميعهم. يقول الريحاني في رسالةٍ وجَّهها إلى نفسه على لسانِ صديق: «من الحقائق الرائعة أن الثورة للأمة كالحمَّام للإنسان، تنبِّه فيه الدم وتوقظ النشاط، ناهيك بالنظافة؛ فالخمود الملازم لحكومات الشرق كلها، والفساد الذي اعتراها، والأقذار التي تراكمَت عليها، لا يُزيلها غير الحمَّام، حمَّام الثورة الغالي.» ويقول ملتفتًا إلى الثورة الفرنسية: «في الأمة الفرنسية من نتائجِ الثورة العظيمة ما تبقى آثاره باديةً حية نامية في ترقِّي الأمم والناس.»
وما لبث أن عرض لأُدبائنا ومُفكرينا السؤال التالي: إن الثورة لا بُد لها من عنف وتدمير وسفك دم، أفيجوز ذلك؟ أتوازي الفوائد المرجوَّة من الثورة ما يُرافقها من أعمال القوة والتقتيل والتخريب؟
غنيٌّ عن البيان أن الثورة لم تكن في نظَر مفكرينا لهوًا ولعبًا يصح أن تُقْدم عليه الأمة أو هيئةٌ من الشعب إقدامًا أعمى أو أرعن، بل من المقرر أن مفكرينا، جميعهم، كانوا يتمنَّون تلافي الثورة بإصلاح عن طريق الإقناع والتسوية السلمية؛ ولذلك رأيناهم، في برهة النشوة والاغتباط بالانقلاب العثماني سنة ١٩٠٨، يجعلون من مميزاته سرعته وحقنه للدماء وإمساكه للأرواح. ويُلاحظ أن كلمةَ ثورة بمعناها الحديث مستجدة في اللغة العربية، أمَّا التسمية القديمة فهي الفتنة، وقد تركها مفكرونا الحديثون لتسمية النزاعات الداخلية المسلحة التي يصطدم فيها فريقٌ بفريقٍ سفهًا وتعصُّبًا وهوسًا عن غير مبدأ ولا فكرة ولا طلبِ إصلاحٍ أو حق. ومفهوم أن أصحاب الأغراض يخلطون بين الثورة والفتنة، وقلَّ أنْ قامت ثورةٌ لم يقم من شنَّع عليها بأنها فتنة وفوضى. ودائرة المعارف البستانية في الفصل الذي عقدَته على روسو تدعو الثورة الفرنسية «الفتنة العظمى المشهورة»، كما أن نوفل الطرابلسي في كتابه «سياحة المعارف» يدعوها «الفتنة» أيضًا. ونعتقد أن للمناخ العقلي الحميدي يدًا في ذلك، مباشرةً أو غيرَ مباشرة.
فما السبب؟ ما السر؟ هكذا تساءَل أدباؤنا ومفكرونا.
وكان جواب الدكتور شبلي الشميِّل نافذًا مقنعًا؛ فقد ردَّ السبب والسر في تقصير الثورة العثمانية إلى «عدم اشتراك الأمة فيها اشتراكًا محسوسًا بسوى الإكثار من التغني في أول الأمر، وهي اليوم تُكثر من العويل ولا تتعدَّاه إلى عملٍ حازمٍ، وتُخرسها أقلُّ كِمامة؛ فثورتنا حتى الآن عسكريةٌ اقتصر فيها التغيير على صورة الهيئة الحاكمة؛ فلم تغيِّر شيئًا من أخلاقنا ولم تتصل إلى علومنا وصناعتنا وتجارتنا.»
وضرب شاهدًا للثورة التي تشترك فيها الأمة اشتراكًا محسوسًا، وتأتي بنتائجَ عميقةٍ باقية، فكان شاهده الثورة الفرنسية.
ويحسُن بنا هنا أن نسوق كلام الدكتور الشميِّل بنصه، قال: «إن الاجتماع لا بُد له في بعض الأحوال من ثورة تخلِّصه من خطر الهلاك. ويلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعدادٍ باطن كأنها اتفاقٌ خفي بين أعضائه، موافقة لأمياله؛ أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكونَ قانونية، وإلا انقَلبَت شرًّا عليه. والثورة التي تكونُ كذلك هي ثورةٌ لا تُغلَب ولا تُقاوَم؛ لأنها ليست من أفعال الآحاد، بل هي عبارةٌ عن تخلُّص الجسم كلِّه مما ثقُلَت وطأتُه عليه تخلُّصًا طبيعيًّا قانونيًّا.» ويلتفت الدكتور ليلتمس قياسًا يقيس عليه، فيقول فورًا: «كالثورة الفرنسية، فإنه لم يصُدَّها شيء، ولم يقوَ عليها شيء، مع أنه اعترضَتها موانعُ داخلية وخارجية قوية جدًّا؛ وما ذلك إلا لأنها كانت موافقةً لميل الشعب وناشئةً عن استعداده.»
وكان طبيعيًّا أن يعمَد أدباؤنا ومفكرونا، إثر تجربة الانقلاب العثماني على الخصوص، إلى النظر في قضية الانقلابات الناجعة وخصائصها ومميزاتها، وفي مقدمة هذه الانقلابات الناجعة الثورةُ الفرنسية الكبرى. تساءل أدباؤنا ومفكرونا: مَن يُهيِّئ للثورة ويقوم بها؟ ما هي مقاصد الثورة وأهدافها؟
ولنقل: إن هذا الانقسام النظري لا يزال ظاهرًا في تفكيرنا الحديث بين فريقَين: فريق يؤمن «بعبقري» أو «نخبة مختارة» يفرضون أنفسهم وبرامجهم الإصلاحية على الأمة، وفريقٌ يؤمن بأمة تناضل بجماهيرها نضالًا يشاركها فيه أفذاذ الرجال، وتنجب في أثنائه الرجال الأفذاذ، وتُعلِّمهم ويُعلِّمونها، وتقودهم ويقودونها.
ولنقل أيضًا: إن فريقًا من أدبائنا ومفكرينا السابقين في مطلع النهضة أدركوا أنهم مهما سمَت آراؤهم وطابت مقالاتهم لا يستطيعون وحدهم، كما لا يستطيع زعيم ولا تستطيع هيئة كالجيش مثلًا، أن يُحقِّقوا انقلابًا عميقًا وإصلاحًا راسخًا في أُمَّةٍ لم تتيقظ صفوفها، وفي بلادٍ لم تقُم فيها دعائمُ ماديةٌ لبناء الإصلاح.
هذا أديب إسحاق في فصله عن الثورة يتصور جماهيرَ غربية (الأرجح أنها فرنسية) تثور وتنطلق في تيار الثورة، وينتهي الصخب والعنف باستقرار الحرية، وتثبيت الجامعة الوطنية، واستتباب وحدة الحقوق، وانتشار العمران والرخاء. ثم يتصور جماهيرَ شرقية تأتي ما يأتيه الغربيون في ثوراتهم من صخب وعنف، ولكنها (أي الجماهير الشرقية) لا تنال بعضَ ما نال أولئك؛ والسبب هو أن الشرقيِّين — كما عرفهم — «لا يقاتلون عن أنفسهم، ولا نحسبهم على بيِّنة مما يقصدون … فهم في الثورة دعاةُ زعيم وعصاةُ زعيم …» وظاهرٌ من كلمات أديب إسحاق أن الثورة لا تنجع إلا إذا انبَعثَت من جماهير، جماهير «يقاتلون عن أنفسهم»، أي يطالبون بحقوقهم ويدافعون عن مصالحهم، وهم «على بيِّنة مما يقصدون»، أي إنهم مُدرِكون واعون، وليست حركتهم «دعوةً لزعيم أو عصيانًا لزعيم»؛ أي إنها غير قضيةٍ شخصية.
وهذا أمين الريحاني يبحث في «الثورة الحقيقية» فيقول: «الثورة الحقيقية، ونحن من أنصارها، من رسلها، إنما هي التي يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم … هي الثورة التي يتقدَّمها ري العراق مثلًا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم … الثورة الحقيقية، أو بالحري الانقلاب العظيم، هو الذي يساعد في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون.» وواضح أن أمين الريحاني لا يُصدِّق الثورة المرتجلة التي لم «يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي عقولهم.» فإذا قام مفكر أو مفكرون مثلًا تضُم أفكارهم بذور ثورة، فإن ذلك لا يكفي، إذ لا بد من «الزمان» الذي يزرع البذور، ولا بد من «التربة» التي هي القلوب والعقول، قلوب الناس وعقولهم. والناس هم الكثرة، لا عشرون ولا مائة. ثُم لا بد أيضًا من أن تكون البذور صالحة والتربة قابلة؛ أي لا بُد من أن تكون الأفكار الثورية تُجاوِب مطالبَ قلوبِ الناس وعقولهم في العهد الذي تُلقى فيه إليهم. ناهيك عن أن الثورة ليست أفكارًا في أفكار، ولكنها أيضًا تقوم على دعائمَ مادية عمرانية، كسكة الحجاز مثلًا وري العراق، وتظهر في مظاهرَ قانونيةٍ نظامية تُفسِح في المجال للنشاط الحر في ميادينَ ثقافيةٍ واقتصادية، كالطباعة والتعليم والتجارة، و«تُساعِد» بالنتيجة «في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون!»
وفي قول الريحاني: «يتقدَّمها ريُّ العراق، مثلًا، وسكة الحجاز، وحرية الطباعة والتجارة والتعليم …» أمرٌ يجب أن يستوقفنا. فما الذي أراده كاتبنا بكلمة «يتقدم»؟ فالمعروف أن الثورات تقوم لكسب حرية، كحرية الطباعة والتجارة والتعليم، والمشهور أن الثورات تهبُّ لخلقِ أحوالٍ يتيسر فيها إنشاء المشاريع العمرانية؛ فهل قصد الريحاني وهو يتحدث عن الثورة الحقيقية أن يصفها باعتبار ما يكون من نتائجها، فذكر في مقدمتها بعض نتائجها زيادةً في التأكيد، لكيلا يُخال أن حادث الثورة غايةٌ في ذاته لا وسيلة إلى غاية؟ أم إنها فلتة من فلتات القلم؟
نُرجِّح أن الريحاني أراد ضمنًا أن يفرِّق بين نوعَين أو مرحلتَين من الثورة؛ فهو في خطبة عنوانها «روح الثورة» ألقاها في «جمعية تهذيب الشبيبة» سنة ١٩١٣، يبحث في الإصلاح، ثم يقول: «ولكن هذا الإصلاح لا يتمُّ بلا انقلاب في الأحكام، ولا يتمُّ انقلابٌ بلا ثورةٍ سياسية.» والذي يقصده بالثورة السياسية استيلاء العناصر الجديدة على السلطة توفيرًا لأحوال يصبح فيها الإصلاح ممكنًا، بل واجبًا؛ إذ إن الثورة إذا اكتفت بالاستيلاء على السلطة لم تكن في الحقيقة ثورة، بل كانت كما قال الدكتور الشميل عن الانقلاب العثماني: «تغييرًا يقتصر على ثورة الهيئة الحاكمة.»
وهذا يخرج بنا إلى معالجة السؤال الذي طرحناه سابقًا: ما هي مقاصد الثورة وأهدافها؟ (مع العلم طبعًا أننا نسوق الحديث عن أُدبائنا ومُفكِّرينا، والدروس التي تلقَّوها من الثورة الفرنسية.)
يُؤخذ من مغزى كلمات الريحاني السابقة ومن أقوالٍ لغيره، أن الثورة تتدرَّج من مقصد إلى مقصد، ومن هدفٍ إلى آخر. ويكون أحد المقاصد والأهداف في وقتٍ ما هو الغاية، ولكنه إذا تحقَّق بات وسيلةً إلى مقصد وهدفٍ آخر يصبح هو الغاية عندئذٍ، وهكذا حتى تتحقق الغاية النهائية.
فإذا تم الخلع، ونُصِّب السلطان الجديد، أُعلن الدستور، وأُطلقت الحريات الديمقراطية المعروفة، دُعيت الرعية إلى انتخابِ مجلسٍ نيابي يُمثِّلها ويُشارِك السلطان في الحكم.
ولكنَّ هذا كلَّه ليس إلا مرحلةً من المراحل، بل هو بدء الطريق؛ هكذا قالت طليعةٌ من أُدبائنا ومُفكرينا رأت أن الانقلاب العثماني وقف عند هذه الغاية؛ فلقد نسخ الانقلاب العثماني الصفحة الأولى من الثورة الفرنسية واكتفى، ولم تكن له جماهيرُ تُؤيِّده في الشوارع كما كانت الحال في الثورة الفرنسية.
وكان الدكتور شبلي الشميِّل وأمين الريحاني وغيرهما في مقدمة الطليعة من أُدبائنا ومُفكرينا الذين لمسوا التقصير في الانقلاب العثماني وأحسُّوا طبيعته السطحية، وأدركوا أن الانقلاب يجب أن تكون له أهدافٌ ومقاصدُ تعليميةٌ ثقافية وصناعية زراعية تجارية.
إن إعلان الدستور وإحداث المجلس النيابي إنما هو إصلاح — إذا وقع كما وقع الانقلاب العثماني بقوة الجيش واشتراكِ فئةٍ قليلة فيه — لا تتم فائدته إلا إذا سيق إلى أذهان الشعب بالتثقيف المُتواصِل المُخلِص، وإلا إذا طُهِّر جهاز الدولة القديم، فإن موظفًا قبل الدستور يعمل بروح ما قبل الدستور لا ينقلبُ بسرعةِ ما تصلُه القوانين الجديدة والتعليمات الجديدة.
كان هذا رأيًا في نقد الانقلابِ العثماني أَخذَت به الطليعة من أُدبائنا ومُفكرينا فدلَّت على أنها فهِمَت طبيعة ذلك الانقلاب السطحية، وأكَّدَت — كما أكَّد مفكرو القرن الثامن عشر في فرنسا — ضرورةَ تعليم الأمة، وتنقيةِ جهاز الدولة، وتربيةِ القائمين بأعمالِ الحكومة تربيةً جديدة.
على أننا قد نكون، هنا، جاوزنا بعض الشيء ما قاله أدباؤنا ومفكرونا في نقد الانقلاب العثماني. والواقع أن ثقافة أدبائنا ومُفكرينا من الوجه الاقتصادي كانت ولا تزال ضعيفة في الغالب. ولكن يجب القول: إن أدباءنا ومُفكرينا إذا كانوا قد مالوا إلى مذهب الاقتصاد الطليق، وآثروا أن ترفع الدولة — ولو كانت منبثقة من الأمة — يدها عن البناء الاقتصادي، فقد أدركوا كلَّ الإدراك هذه الحقيقة الأساسية، وهي: أن وجود حكومةٍ شورية (أو دستورية أو ديمقراطية) تُطلق الحريات وتحميها، حاجةٌ أوليةٌ لا بد منها لتقدُّم الشعب ونهضة البلاد.
ويتصور أديب إسحاق فريقًا يقول له: «دع السياسة لأهل الرئاسة فهم فيها أحق، وبها أعلم، وعليها أقدر.» وقد أراد أديب إسحاق أن يُعرِّض بنوعٍ من ذهنيةٍ تعتقد أن السياسة وقفٌ خاصٌّ أو احتكار، وراح ينقض هذا الرأي فقال: «ألَّف الكاتب الفرنسوي روسو كتاب الميثاق الاجتماعي في السياسة، وشعر من أهل زمانه بمثل ذلك الاعتراض، فأجاب: «يقولون: أأنت أمير أم أنت حاكم لتكتب في السياسة؟ وأقول: لا، ولكنني من أجل هذا كتبت؛ فإني لو كنت أميرًا أو حاكمًا لَما أضعتُ الزمان في كتابةِ ما ينبغي أن أفعل، بل كنت أفعلُه أو ألتزم السكوت».» ويستأنف أديب إسحاق كلامه فيقول: «من حقوق الإنسان الطبيعية، بل من واجباته، أن ينظر فيما يمَسُّه وما يُحيط به من الأمور الدنيوية والأحوال الاجتماعية. ولقد جاز للمرء أن يبحث عن أسرار الوجود ويستكشف نواميس الطبيعة في حالة كونه لا يستطيع تغييرَ شيءٍ من نظامها ولا يقوى على مخالفة حرفٍ من أحكامها، فكيف يُحظر عليه النظر في النظام الذي هو جزء منه والأحكام التي هي من وَضعِ الإنسان؟»
وينظر كاتبنا إلى الفلسفة فلا يعترف بأنها «مخصوصةٌ بطائفةٍ من الناس دون الآخرِين.» ثم يقول: «إن الأمم خَرجَت من خطَّة الغنيمة … وانتقلت من دور الطفولية، وسئِمَت أنفسُها الغذاء من لبن الخُرافات والرموز، فلا بُد لها من دَور العلم بالحقائق السامية كما تُعلم المعارف الدانية؛ فقد أزِف الوقت الذي يخرج فيه عن صفة الإنسانية مَنْ لم يكن عارفًا بكلِّ ما اكتشَفه عقل الإنسان.» ويذهب كاتبنا إلى التصريح بأن الفلسفة أداة، أو يجب أن تكون أداة، من أدوات الكفاح الثوري في شئون الاجتماع وقضايا السلطة، ﻓ «تأثيرُ (علمها) غير منحصرٍ في المعلومات الإنسانية، ولكنه يتجاوَزُها إلى هيئة الاجتماع فتظهر فيه آثار تغيُّره (أي الاجتماع) بمظاهرَ من ثورات الخواطر وتجليات الألباب. ولا بد من ذلك؛ فهو (أي علم الفلسفة) علم الإنسان؛ فلو قُدِّر أن يكون من نتائجه الحكم بكون الناس نوعَين اثنَين: أحدهما للأمر والسلطة والآخر للطاعة والانقياد، لَلزَم من ذلك أن يكون في الأرض ظُلَّامٌ لا يرحمون وعبيدٌ لا يأبقون. ولو فُرِض أن تلك النتيجة قد هذَّبت فيه ولطَّفت فلم تقضِ إلا بأن يكون في كلِّ جمعيةٍ مدنية فريقٌ يتدبرون الأمور عن الكافة، وأن تكون الكافَّة وقفًا على خدمة ذلك الفريق، لحصل من ذلك مبدأ الامتياز الأرستقراطي القبيح لزومًا.»
ويلتفت أديب إسحاق إلى الكُتَّاب فيجرُّهم إلى المعمعة، ويُريدهم مُكافحِين مُناضلِين، ويجعل من واجباتهم «السعي إلى جنة الحرية مع ثقل سلاسل العادات وقيود القوانين …»
ووجد أدباؤنا ومُفكِّرونا أنفسهم أمام قيمٍ ومُثُل ومعقولاتٍ جديدة شاعت على الألسنة والأقلام إبَّان الثورة الفرنسية وتناقلَتها الأفواه والقراطيس في الشرق العربي؛ فقد طفِق الناس يتحدثون عن «الوطن» و«الوطنية» و«الأمة» و«القومية» و«الحرية» و«المساواة» و«الحقوق الطبيعية» وشئونٍ أخرى، فكان النظر فيها واجبًا على أُدبائنا ومُفكرينا.
وبديهيٌّ أن أُدباءنا ومُفكرينا انصرفوا إلى تعزيز الشعور الوطني وتقويته، واعتبروا الوطنية خيرَ جامعةٍ يجمعون بها صفوف الأمة لحمايتها وإنهاضها. وما كاد الشيخ عبد الله النديم يطرح هذا السؤال الذي جعلَه عنوان إحدى مقالاته: «هذه يدي في يد من أضعها؟» حتى أجاب في أول سطر من المقالة: «ضعها في يد وطنيِّك!»
وكما سعت الثورة الفرنسية وسعى أعلامها الفكريون إلى حرية الرأي والعقيدة الدينية والطباعة والخطابة والانتخاب، وحرية التصرُّف بالأملاك وتنظيم الجمعيات، وحرية الشخص الإنساني بحيث لا يُقبض عليه ولا يُسجن ولا يُحاكَم ظلمًا، كذلك سعى أدباؤنا ومُفكِّرونا إلى هذه الحريات أجمعَ في مدى قانونٍ يحميها ويضع لها حدًّا تقف عنده هو: الإضرار بالآخرين وبالمصلحة العامة.
وكما رجع أعلام الفكر الفرنسي الثائر إلى الطبيعة يُؤيِّدون بها مذهبهم، كذلك رجع أدباؤنا إلى الطبيعة أيضًا.
وجميلٌ أن نُعير التفاتةً خاصة مفكرًا عربيًّا خرج عن نطاق الحرية المدنية والسياسية (وكل ما ذكرناه سابقًا يدخل في هذا النطاق) فمسَّ موضوع الحرية فلسفيًّا؛ ذلك المفكر هو فرنسيس فتح الله مرَّاش الحلبي؛ فقد رأى أن بناء الحرية على الطبيعة مذهبٌ سطحي؛ فالطبيعة كلها قواعدُ ونواميسُ تضبطها في حركاتها وتطوُّراتها ضبطًا حديديًّا، فأين هي الحرية في الطبيعة إذن؟ ولكن المرَّاش لم يخلص من هذا إلى إلغاء الحرية، بل كان مُؤدَّى فكرته أن كلَّ شيءٍ في الوجود الطبيعي لا يمكنه أن يكون حرًّا إلا إذا خضع لقواعدَ ونواميسَ هي ضرورةٌ كافلة لوجوده. ومعنى هذا أنْ لا حرية إلا مع القيام بالضرورات، لا حرية إلا مع إتمام الحاجات التي لا بد منها؛ فالحرية ليست فقط حقوقًا نرغب فيها وتُضمن لنا بمجردِ قانونٍ نضعه، ولكنها أيضًا واجباتٌ لا بُد من الوفاء بها حتى تحقَّ الحقوق؛ ولذلك لم ينظر المرَّاش في الوجود الاجتماعي والمدني إلى مجرد الرغبة في الحرية، وإلى مجرد قانون يُزال أو قانون يُوضع، بل نظر أيضًا إلى الضرورة، وقرَّر أن إطلاق الحرية بإلغاء كلِّ قيدٍ لا حاجة إليه هو قانونٌ صوابي. ولَرُبَّ معترضٍ يقول: ولكن من يُثبت أن هذا القيد أو ذاك بات قديمًا ولا حاجة إليه فيجب إلغاؤه؟ وليس من شكٍّ أن المرَّاش فطِن إلى مثل هذا الاعتراض، وعَرَف أن القيد إذا أصبح عائقًا للتقدُّم لا ضابطًا يخدم نظامًا صالحًا فللثورة عند ذلك محلها اللائق، فأيَّد المرَّاش الحرب الأهلية الأميركية التي وَقعَت في زمانه لتحرير العبيد مع أنه عَلِم أن كثيرِين كانوا في أميركا لا يزالون يجادلون في وجوب استعباد الرقيق ويُدافِعون بالسلاح عن هذا الحق. ومن أقوال المرَّاش: إن الكون لا يزال مملوءًا برائحة البارود في سبيل الحرية.
وتفرَّعَت من قضية المساواة لدى أُدبائنا ومُفكرينا مسألةُ الرجل والمرأة وهل يتساويان؟ وقد ألقى الدكتور شبلي الشميِّل محاضرةً جنح فيها إلى ترجيح جانب الرجل، فكانت موجةً قوية من الأخذ والرد. وسبق لأديب إسحاق أن نظر في الموضوع، فشخَص إلى هيكلِ وحيه، إلى الثورة الفرنسية، فرأى — على تعبيره — أن روبسبيير، رسول المساواة الكبير … نسي نصف النوع الإنساني. وبالفعل، إن الثورة الفرنسية لم تعترف للمرأة بحق مساواة الرجل، وكان أعلام مُفكِّري الثورة ولا سيما روسو مُتحاملِين على المرأة. إلا أن أديب إسحاق قرَّر أن «المرأة غير الرجل»، وبذلك ترك الباب مفتوحًا؛ فلم ينفِ مساواتَهما كما أنه لم يُثبتها. وإذا خرجنا عن موضوع المساواة وجدنا أُدباءنا ومُفكرينا جميعًا يعترفون بسمُو مكانة المرأة وبوجوبِ احترامها وتعليمها وإنهاضها. ومن هنا شاع على ألسنتهم القول: الأمة نسيج الأمهات!
أمَّا النظر إلى الطبيعة والتعلُّم منها، شأنَ أعلامِ فرنسا في القرن الثامن عشر، فهو سمةٌ بارزة من سماتِ أُدبائنا ومُفكرينا. وقد مَرَّ معنا كيف أن فرنسيس المرَّاش رأى أن بناء الحُجَّة في وجوب الحرية على شاهد الطبيعة، مذهبٌ لا يخلو من السطحية، وكان فرنسيس المرَّاش في ذلك أعمق من غيره. إلا أن أُدباءنا ومُفكِّرينا — على وجهٍ عام — اتجهوا إلى الطبيعة أُسوةً بالمُفكِّرين الفرنسيِّين في القرن الثامن عشر، واستخلصوا كما استخلص أولئك أن الحرية والمساواة وسائرَ المطامحِ الإنسانية إنما هي حقوقٌ أثبتتها الطبيعة للإنسان. وإذن، فقد كان مبدأ الرجوع إلى الطبيعة له مغزًى سياسيٌّ اجتماعي. وتلك هي أهميةُ هذا المبدأ بقطع النظر عن خطئه أو صوابه؛ فأديب إسحاق، مثلًا، حين يُقرِّر الحرية الطبيعية لا يقف عند حد التقرير، ولكنه يرسل الصيحة إلى النضال، فيقول: «كلُّ ما يذهب بالحرية الطبيعية تقييدًا أو إضعافًا أو محوًا كليًّا فهو اختلاسٌ أو جهلٌ بماهية الوجود؛ لأن العبودية إما أن تكون إجبارية، فهي من جانب المستعبِد سرقة وإتلاف لأقدس حقوق الوجود، وإمَّا أن تكون اختيارية، فهي من جانب العبد جهلٌ وعمَى قلبٍ يخرج بهما عن أن يكون إنسانًا.»
أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزِّق عن نفسك هذا السجن الذي يُحيط بك، وطر بجناحَيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقَّل ما شئتَ في جنباته وأكنافه، واهتِف بأغاريدك الجميلة فوق قممِ جباله ورءوس أشجاره وضفاف أنهاره؛ فأنت لم تُخلق للسجن والقيد، بل للهُتاف والتغريد!
أمامَ عرشِ الحرية تفوح الأشجار بمداعبة النسيم، وأمام هيبتها تبتهج بشُعاعِ الشمس والقمر. على مسامعِ الحرية تتناجى العصافير، وحول أذيالها تُرفرِف بقرب السواقي. في فضاء الحرية تسكب الزهور عطر أنفاسها، وأمام عينَيها تبتسم لمجيء الصباح. أمَّا البشر فمحرومون هذه النعمة؛ لأنهم وضعوا لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة، وسنَّوا لأجسادهم ونفوسهم قانونًا واحدًا قاسيًا، وأقاموا لأميالهم وعواطفهم سجنًا ضيِّقًا مخيفًا، وحفَروا لقلوبهم وعقولهم قبرًا عميقًا مظلمًا، فإذا ما قام واحدٌ من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالوا: هذا متمردٌ شريرٌ خليقٌ بالنفي، وساقطٌ دنسٌ يستحق الموت. لكن هل يظل الإنسان عبدًا لشرائعه الفاسدة إلى انقضاء الدهر، أم تُحرِّره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الإنسان مُحدِّقًا بالتراب، أم يُحوِّل عينَيه نحو الشمس ليحيا بنورها ويحترق بنارها؟
ولم نُنبِّه إلى هذا المعنى من معاني «الطبيعة» و«الطبيعي» لنُبيِّن محضَ طريقةٍ من طرق استعمال الكلمة، ولكن لنُظهر ما وراء ذلك من صحة وعُمقِ فكر؛ فإن معرفة أُدبائنا أن الأمور والتطوُّرات السياسية والاجتماعية — كالأنظمة وأشكال الحكم والانقلابات — لها طبائعُ مخصوصة، إنما هي معرفةٌ ثمينة تمكِّننا من انتظارِ ما يجوز انتظاره، أو يجب انتظاره، في شأن هذا الضرب من ضروب السياسة أو هذا النوع من الاجتماع، فإذا كنا أمام «حاكمٍ بأمره» توقَّعنا الاستبداد والجور؛ لأن ذلك طبيعي، ولم يحِقَّ لنا أن نتوقع زوال الاستبداد والجور إلا بتغيير النظام الذي يحكم فيه حاكمٌ بأمره؛ لأن طبيعة الشيء لا تتغير إلا بتبدُّل الشيء نفسه؛ فالفحم لا يخرج عن الفحمية إذا دُهن بالطبشور، ولكنه ينقلب إذا صار ماسًا.
وبهذا نُنهي جانبًا آخر من بحثِ أُدبائنا أمام الثورة الفرنسية ومفكريها. وواضحٌ أننا كنا إلى هذا الحدِّ نَعِرض الذين رَأوا في الثورة دروسًا ونتائجَ إيجابية، فلنلتفِت الآن إلى الذين حاولوا أن ينقُدوا الثورة نقدًا يصحُّ اعتباره.
(٣) نقدٌ وردٌّ
هل جاءت الديمقراطية بكل ما يُنتظر منها؟
هذه التربية الجشِعة المحْضة التي يحاولون تسخير العلم لتأييدها، فيقوم نياتش ونوردو، فيلسوفا الألمان، مدفوعَين برغائب حكومتهما العسكرية، يشُدَّان أَزْر القوي في القضاء على الضعيف، وتحطيمِ أسنان الغير، واحتكارِ الحياة والقوت والارتزاق؛ هي تربيةٌ فاسدة تمامًا تَجرُّ الإنسانية إلى الوحشية، وتجعل العالم غارَ وحشٍ ضارٍ كله بقايا عظامٍ رجسة؛ ولذا وجَب دكُّ معالمها، وتقويضُ أساسها الراسخ، واقتلاعُ جذورها وإحراقُها وتذريتُها في الآفاق.
قد تغيَّرت القيود وتنوعَت السلاسل واستُبدل النخَّاسون بغيرهم.
مرَّ بنا أن الأُدباء والمُفكرِين العرب على وجه الجملة وقفوا موقف المُعجَب المُتعلِّم من الثورة الفرنسية وأفذاذ مُفكِّريها. ولكن تقصير الانقلاب العثماني عن تحقيق الإصلاح المرتجى أضعف الحماسة — بعض الشيء — للمبادئ التي رفع الانقلاب لواءها، وهي مبادئ الثورة الفرنسية. كما أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة» لم تَصُدَّ دولًا تدين بها أو بما يُماثلها عن الزحف نحو الشرق بُغيةَ التسلُّط عليه. ناهيك عن أن «حقوق الإنسان» وشعارات «الحرية والإخاء والمساواة»، رغم قيامها في المجتمعات الأوروبية، لم تُلغِ كفاحًا داخليًّا مستمرًّا في تلك المجتمعات، ومنها فرنسا نفسها؛ فقد ظل أُدباؤنا ومفكرونا يسمعون مثلًا بعمَّال يُضرِبون، وبمُفكرِين يطالبون بالحرية والمساواة والإصلاح، فخالَط بعضَهم شكٌّ في أن الثورة الفرنسية غيَّرت شيئًا، بل بات بعضهم يعتقد بأن مبادئ الثورة الفرنسية تُخالِف طبيعة الأمور ولا يتهيأ تحقيقها. وبَلغَت أذهانَ أدباء العرب أصداءٌ من فردريك نيتشه الذي حمل حملةً شعواء على الثورة ومبادئها، وكذلك لم تلبث أن بلغتهم أصداءٌ من غوستاف لوبون وموقفِه العدائي من الثورة، وقامت الحركات النازية والفاشستية فكانت مبادئ الثورة الفرنسية من أهم الأهداف التي صبَّت عليها نيرانَها.
تلك عواملُ أضعفَت الإعجابَ لدى بعضِ مُفكرينا وأُدبائنا بالثورة الفرنسية وضاءلَت الثقة بقيمةِ مبادئها.
… الغريب أن هؤلاء الذين كان أمثالهم يجورون في الحكم على فرنسا في الثورة الأُولى، يعترفون جهارةً اليوم بأنه لولا تلك الثورةُ لَما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلِّها، بل في العالم قاطبة. وهؤلاء الذين يعترفون بذلك اليوم يُؤاخِذون شعبَ فرنسا على عدمِ رضاه من نظامِ أحكامٍ كانت تصلُح له من مائةِ عامٍ ولم تبقَ تصلُح له اليوم؛ لأن الهيئة الاجتماعية المتمدنة ارتقت كثيرًا عما كانت عليه من مائةِ سنةٍ مع بقاء نظام الأحكام على حاله … فاضطراب فرنسا وعدم رضاها من نظام جمهوريتها لا يفيدان — كما يتوهَّمه قصار النظر — أنها تميل للرجوع إلى الملكية، أو أنه إذا قام فيها ملكٌ حازم يستطيع أن يقبض عليها بيد من حديد ويسير بها كيف شاء؛ فهذا حُلمٌ يجوز على عقول الأطفال، ولكن لا يجوز على الذين يُدرِكون بعض الشيء من أسرار العُمران؛ ففرنسا لن تعود إلى الملكية، ولكن الجمهورية التي تطلبها فرنسا عن حاجةٍ في النفس مندفعةٍ إليها بالطبع، لا عن إجهادٍ في قوى العقل، والتي تتوقعها أوروبا، هي الجمهورية الحقيقية الديمقراطية التي تصبح فيها الأمةُ الكلَّ والحكومة لا شيء، بخلافِ حكوماتِ أوروبا وجمهورية فرنسا اليوم، فإنها كلها متقاربةٌ في نظاماتها، متساويةٌ في نقصها، ولو اختَلفَت في أسمائها، وكلُّها مقصِّرة عما تتطلَّبه الهيئة الاجتماعية اليوم وفي المستقبل القريب …
… ولا سيما أن الأسباب الداعية اليومَ إلى النفور من نظامات الهيئة الاجتماعية وأحكامها هي أثقلُ جدًّا على عاتق الأمم مما في عصر الثورة الأُولى؛ فالثورة الأولى أسبابها الاستئثار بالأعناق والأرزاق لشرف المولد، وقد كان الناس قليلُهم يُدرِك حقَّ المساواة، وأمَّا اليوم فالثورة هي … بين قوى العقل المُستنبط واليد العاملة، وبين فساد نظام الأحكام، حتى أصبحت مُستنبطاتُ العقول وأعمالُ الأيدي خادمةً ﻟ «نفرٍ» يستفيدون منها.
وقد كان على التاريخ أن يقطع شوطًا كبيرًا، فتقع الحرب العظمى الأُولى، وتقع الثورة الروسية السنة ١٩١٧، ثم تقع هذه الحرب بين قُوى التقدُّم من جهة وقوى الرجعية التي تتزعَّمها ألمانيا النازية؛ كان على ذلك كله أن يقع، وأن تعثُر فرنسا، ثم تأخذ في النهوض من جديد، ويهتف الجنرال ديغول: «من يقل فرنسا يقل ثورة»، ويتحدث عن «فرنسا الغد التي لن تكون كفرنسا الأمس»، وعن الجمهورية الرابعة، وتُثار في بريطانيا وكلِّ مكانٍ مشكلةُ الضمان الاجتماعي، وتمتلئ الدنيا حديثًا عن الديمقراطية الصحيحة والعهد العالمي الجديد — كان على ذلك كله أن يقع حتى يظهر كلام الدكتور الشميِّل في مدى عُمقِه وصحته.
ليس في الوجود الطبيعي ولا المدني من واجبٍ إلا بحقٍّ يماثله، وليس فيه من حقٍّ إلا بواجبٍ يقابله؛ فإذا وجب على الوالد للهيئة المدنية تعليم ولده، فقد حقَّ له إمكان ذلك التعليم على قدْر الكفاءة. وإذا حقَّ للهيئة الحاكمة إجباره عليه، فلقد لزِمها توفيرُ أسبابه وتمهيدُ سبيلِه على قدْر الإمكان؛ فإن كان الوالد من الذين أصابهم النظام المدني باختلاله … فهو فقيرٌ مُعدِم … لا يقوى على تعليمِ ولدِه … فالهيئة الحاكمة مأمورة بأن تُيسِّر له ما لا يستطيع.
وهي كلماتٌ أيَّدها الكاتب بقول الاقتصادي الفرنسي الشهير ساي: «إن مركز المُحترِف العامل يُدْني مقدارَ دخلِه إلى حدِّ أنه لا يكاد يفي بحاجته إلا بشقِّ النفس، فإذا استطاع تربية الولد وتعليمه حرفةً فهو لا شك عاجز عن أن يُنيله من العلم القدْر الذي يقتضيه حسن الحال في الهيئة المدنية، فإن رامت هذه الهيئة التمتُّع بنفائعِ هذا القدْر من العلم في الفئة المُحترِفة العاملة وجب عليها أن تبُثَّه فيهم على نفقتها بإنشاء المدارس المجانيَّة» («الاقتصاد»، الكتاب ٣، الفصل ٦).
فأديب إسحاق يُثير بما قاله وما قبَسَه من ساي مشكلةً عظمى هي مشكلة الذين يصيبهم النظام المدني باختلاله — على حد تعبيره — وهو يعني أولئك الذين يقعون ضحيةَ العجز الاقتصادي فلا يستطيعون أن يُعلِّموا أولادهم. وإلى جانبِ ذلكَ يُثير أديب إسحاق مبدأً عامًّا يتناول بمداه شئونًا كثيرةً غير التعليم الإلزامي، فما هو هذا المبدأ العام؟
يقول كاتبنا: «إذا وجب على الوالد للهيئة المدنية تعليمُ ولده، فقد حقَّ له إمكانُ ذلك التعليم على قدْر الكفاءة، وإذا حقَّ للهيئة الحاكمة إجباره عليه، فقد لزمها توفير أسبابه وتمهيد سبيله على قدْر الإمكان.»
وإذن، فليس يكفي فرض الواجبات على الناس والمجتمع، بل يتحتم على الهيئة الحاكمة أن تُيسِّر لهم وسائل القيام بالواجبات المفروضة. وبطريق القياس، ليس يكفي أيضًا منح الحقوق للناس في المجتمع، بل يتحتم على الهيئة الحاكمة أن تُيسِّر لهم الوسائل الضرورية لممارسة الحقوق الممنوحة.
وبكلمةٍ مختصرة، إن القوانينَ والقرارات، مهما تكن عادلةً، نزيهة، إنسانية، تنحو منحى المثَل الأعلى، فهي لا تفي بالغرض المقصود منها، بل قد تظَل حبرًا على ورق، بل قد تنقلبُ ظالمة جائرة، إن لم تكن قائمة على أساسٍ يُمكِّن مِن مراعاتها وتنفيذها، ويُغلِق باب العُذر والحُجة على من يُخالفها.
وضع فيكتور هيغو كتابه المشهور بعنوان «البؤساء» في ستةِ مجلداتٍ كبيرة بناها على حكايةِ رجلٍ حسن الأخلاق طيِّبِ القلب لم يُخلق للشر والعدوان، قضت عليه الضرورة القُصوى، وهي ضرورة الجوع أو ضرورة البقاء التي فُطِر عليها الإنسان، أن يسرق رغيفًا من الخبز لأهل منزله وفيهم صغارٌ أطفالٌ يتضورون من الجوع، فقَبضَت عليه الحكومة بهذا الذنب الكبير، وحكم عليه القضاة، بموجب قانونهم، بالأشغال الشاقة إلى أمدٍ بعيدٍ. وقد أفرغ هوغو في هذا الكتاب كلَّ ما حواه عقله الكبير من فلسفة الشقاء، وكلَّ ما شعَر به فؤاده الكريم من واجب الرحمة والحنان، وكلَّ ما سمح به برهانه القاطع وحُجته الدامغة من الطعن على القضاء في مثل هذا الظلم الشديد على فقيرٍ يائس يسرق رغيفًا لسد الرمق وقوام الحياة، دَفعَته إليه ضرورة العيش وحب البقاء، فأقدم عليه مضطرًّا غير باغٍ ولا عادٍ، وليس من طبعه السرقة وحب الأذى، فحكم القانون القاسي بمثلِ ما يحكُم به على سارق المال الكثيرِ تدفعه إليه يدُ الطمع وفساد الطبع وحب الأذى والميل إلى السرقة والاختلاس.
لا يخفى أن حياة الإنسان وحفظ وجوده هو الدافعُ الأكبر له في كلِّ أمر، بل هو الطبع الغريزي الذي ينقاد إليه بالفطرة الحيوانية حتى يُفضِّله بحكم الطبيعة على كلِّ شيءٍ سواه … فإذا ضاقت يد العامل (يقصد عامل الحكومة؛ أي موظفها) وكثُر عياله وقلَّ مورد رزقه من ضيقِ راتبه ووجد نفسه مدفوعًا إلى حفظِ وجوده بعامل الخلقة والفطرة، هانت عليه الذنوب وسهُلت لديه أسباب المخالفة والخروج عن الواجب الخفي في سبيل صيانة الحياة الظاهرية، وعن الغرض الوهمي في الحصول على الوجود الحسي الذي هو حقيقة الإنسان وإنسان الحقيقة. ولمَّا كانت أعمالُ الحكومة التي تمَسُّ جانب الشعور مباشرةً من طريق الحسِّ قائمةً على أيدي صغار العمال كالجندي والجابي والكاتب والناظر ونحوهم، وكان هؤلاء الصغار في ضيقٍ من العيش وقلةٍ في الرزق وحاجةٍ إلى الإنفاق، لم يكن يؤمَن على الرعية من اهتضام حقوقها تلك اليدُ التي تُسلِّمها الحكومة رعاية الشعب من جانب، وتدفعها الفاقة والحاجة إلى ظلمه والتضييق عليه من جانبٍ آخر، لا عن رغبةٍ في الظلم أو حبٍّ في السلب والاهتضام، ولكن عن حاجةٍ في النفس وضيقٍ في اليد، وكم قاد شرٌّ إلى شرٍّ!
وبكلمةٍ أخرى، يُريد أديب إسحاق ونجيب الحدَّاد أن يوجِّها النظر إلى ما للضمان الاقتصادي من شأنٍ عظيمٍ في ضمانِ القوانين وحسنِ سَيرِ الحكومة، بل حسن سير المجتمع على وجهٍ عام، وكونِ الحقوق والواجبات فيه ذواتَ معنًى للجميع.
ولكن، ما علاقة هذا كله بالثورة الفرنسية وبانتقادها؟
وكأنه كان على أديب إسحاق ونجيب الحدَّاد، كما كان على فرح أنطون، أن يدعا مثل هذا المجال للدكتور شميِّل يخوض فيه. وقد رأينا كيف تصدَّى له الدكتور الشميِّل من غير أن يمس بمنزلة أوروبا وقيمة الثورة الفرنسية وما حقَّقَته من نهوضٍ ورقيٍّ.
على أننا يجب ألا ننسى أن فرح أنطون وأديب إسحاق ونجيب الحدَّاد في هذا الموقف الذي وقفوه من الثورة الفرنسية، كانوا يطمحون إلى مزيدٍ من الإصلاح، لا إلى نقصان، وكانوا يريدون مضيًّا في التقدُّم لا رجعة، فإذا نقَدوا الثورة فلأنها قصَّرت عما ينشدون.
أمَّا غوستاف لوبون فقد نقد الثورة لأنها كانت في رأيه حادثًا عبثًا، ولو أنها لم تحدث قط لَما ضاع شيءٌ على فرنسا من نتائجها. وغوستاف لوبون كاتبٌ مدح الحضارة العربية، فكان ذلك مُمهدًا لاشتهاره في البلاد العربية، فنُقِل أكثر كُتبه إلى لغة الضاد، ومنها كتاب اسمه «روح الثورات والثورة الفرنساوية» عرَّبه محمد عادل زعيتر. ولعله الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يتناوله القارئ باللغة العربية ويطَّلع فيه على محاولةٍ طويلة في قَدْر الثورة الفرنسية؛ ذلك أن الكتب الخاصة بالثورة معدومةٌ تقريبًا في لغة الضاد. وقد تناولنا نحن سِفْرًا يجمع بين الثورة الفرنسية ونابليون ألَّفه محمد صبري وجعله من باب تقرير الوقائع.
وأقلُّ ما يُقال في هذا الكلام أنه فاقد البرهان. وكيف نستطيع أن نجزم أن فرنسا كانت تنالُ نتائج الثورة بدون الثورة؟ وقول غوستاف لوبون: «إن أممًا كثيرةً بلغَت قبل الثورة ما بلغَته فرنسا من المساواة والحرية.» فيه موضع للنظر؛ فإن هذه الأمم الكثيرة ليست في الحقيقة إلا اثنتَين: الأمة الإنكليزية والأمة الأميركية، وكلتاهما نالت الحرية والمساواة بثورةٍ كبيرة شبيهة بثورة فرنسا!
وقد ردَّ إميل أوليفيه على غوستاف لوبون، فقال: «هل يأسف لوقوع الثورة الفرنساوية مَن لا يريد أن يكون مسخَّرًا لصيدِ الضفادع في الغدران كي لا تُقلق الأمير الإقطاعي في نومه، وهل ينوح لحدوثها مَن يريد ألا يرى كلابَ شابٍّ عاتٍ تُخرِّب حقله، وهل يحزن لنشوبها مَن يريد ألا يُسجن في الباستيل لولوع رجلٍ من بِطانة الملكة بزوجته أو لتفوُّهه بكلمة ضد رجلٍ نافذٍ أو لغير ذلك، وهل يغتمُّ لاشتعالها مَن يريد ألا يبغي عليه وزير أو موظف أو وكيل، وألا يكون تحت رحمة أحدٍ من الناس، وألا يُؤخذ منه أكثر مما يُفرَض عليه، وألا يهينه ويشتمه من يدَّعي أنه فاتح؟ ولذلك فإني بصفتي من الطبقة المتوسطة أشكُر أولئك الذين أنقذوني، بعد عنادٍ شديدٍ، من الأنيار التي لولاهم لبقيتُ رازحًا تحت أثقالها، وأباركُ لهم رغم زلَّاتهم.»
فكان أن ردَّ عليه غوستاف في مقدمة «روح الثورات …» بما يلي: «مصدر هذا الوهم الشائع — حتى بين كثيرٍ من أقطاب السياسة — هو المبدأ القائل بأن طرق الحياة عند الأمة تكون بحسب نظاماتها. والواقع أن الطرق المذكورة تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلافُ تأثير المقصلة.»
وصحيحٌ، إلى حدٍّ كبيرٍ، أن طرق الحياة عند الأمة لا تكون بحسب نظامها، كما يقول لوبون. ولكن لماذا حدثت الثورة الفرنسية؟ إنها حدثت لأن الحياة الفرنسية جرت شوطًا في التغيُّر عقليًّا وماديًّا، بينما بقيتِ النظاماتُ على ما هي، فوقع التناقُض بين الحياة الفرنسية الجديدة الآخذة في الظهور والنمو وبين النظامات القديمة. ولمَّا كان من المستحيل أن يقتنع جميع ممثلي النظامات القديمة بأن دورهم قد انتهى، وقع الاصطدام بينهم وبين ممثلي الحياة الجديدة. وإذن، فالثورة الفرنسية نشِبَت لتُقيم نظاماتٍ جديدة تُرضي بها مطالب الحياة الجديدة! على أن طرق الحياة عند الأمة تتأثر أيضًا بنظاماتها. وقول لوبون: «إن الطرق المذكورة (طرق الحياة) تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية.» يشِفُّ عن اختطافٍ لتعابيرَ ماركسية لم يُنزلها حقَّ منزلتها. وكأنه شعر بالخطأ فقال: «إن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلافُ تأثير المقصلة.» مع أن سياق فكرته كان يجب أن يدعوه إلى إثبات كل التأثير للقاطرة ونفي التأثير عن المقصلة! أمَّا أن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة، فهذا مما لا يجادل فيه أحد، إلا أن القاطرة، بمجرد وجودها، لا تكفل التسوية بين الناس، بل لا بد لها من نظامٍ يضمن هذه التسوية مع القاطرة، ولا بد لهذا النظام، في ولادته وحمايته، من تأييدٍ حتى بالمقصلة أحيانًا!
واهتمَّ أديبٌ آخر، هو فيلكس فارس، بنيتشه فعرَّب كتابه: «هكذا تكلَّم زرادشت». وفيلكس من أُدبائنا الذين ابتهجوا بالدستور العثماني وأكثروا عنه الخُطب فعُرفوا ﺑ «خطباء الدستور». ولا شك أن فيلكس، إذ ذاك، كان يُحب الثورة الفرنسية ويستلهمها، بل هو ثابَر على هذا الحب؛ فنحن نقرأ له في إحدى خُطبه «رسالة المنبر» ما يلي: «هدم الرجل الباستيل لأنه أصبح معقلًا لمن اختلَسوا حق الحرية والحياة، وجاءت المرأة بدورها تهدم جدران بيته (أي بيت الرجل) لأنه كأسياد الباستيل أساء استعمال سلطته.» وهذا كلامٌ يشفُّ عن تأييدٍ للثورة الفرنسية.
خَرجَت أوروبا إلى عهدها الجديد، ولكن عيسى لم يكن مَهدِيَّها، ولا محمد ماشيًا في طليعتها. كان إنجيلها «حقوق الإنسان» التي كتبها الثائرون بالدم المتمرِّد، وكان قرآنها القوانين التي سنَّها نابليون لإقامة الموازنة بين الحقوق، ولكن هذا الإنجيل الحديث الذي استمد من إنجيل عيسى المساواة والإنصاف، لم يتناول سواهما من مبادئ الإحسان والعطف والمغفرة والرحمة. وهذا القرآن الجديد، قوانين نابليون المستمدَّة من مذاهبِ الأيِمَّة في الشرع الإسلامي، وقف عند حدِّ التنظيم المادي المحض لحقوق الناس، فقصر عن الأخذ بما في قرآن النبي الهادي من الدعوة إلى المعروف والبر بالأدنَينَ والأبعدِينَ من بني الإنسان.
لأجلها (أي لأجل المساواة) شبَّت الثورة الفرنساوية وانبرَت تعلن للإنسان حقُوقَه المدنية المرتكزة على الحقوق الطبيعية، فأَثبتَت في مطلعِ بيانها بندًا أوَّل يشاركها فيه العالم المتمدن، وهو أن الناس «يُولدون ويظلون متساوِين أحرارًا إزاء القانون.» فحَذفَت بهذا البند نظام الإقطاع القائم على تفاوُت الحقوق والواجبات.
إنها (أي المساواة) مع الحرية والإخاء لَتهزُّ نفسي، وقد لمستها منذ أن كان لي نفسٌ تتحرك. غير أني وصلت إلى نقطةٍ أَودُّ عندها تحليلَ كلِّ شعور وكلِّ تأثير. ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية …
وليس في هذا الكلام كلِّه ما يدُل على صلةٍ بين مي ونيتشه. والحقُّ أن مي لم تُسلِّم يومًا بكلِّ ما ذهب إليه الكاتب الألماني، على أنها وقفَت مثله موقفًا منكرًا من المساواة، مؤمنًا بعدم إمكانها، بل بضررها. وهذا ما تُوضِّحه فصول كتابها.
والخطأ الأساسي عند مي هو أنها لا تتمهل لتُقيِّد كلمة المساواة بمعانيها التي لابَسَتها في التاريخ والحركات التاريخية، كما أنها لا تتمهل أيضًا لتقيِّد كلماتٍ كثيرة بمعانيها في مختلف العصور والأجيال. وهذا جديرٌ بأن يؤدي إلى شَططٍ في التقديرات والأحكام.
إن الآنسة مي لم تُجِب عن السؤال الذي سمعناه تطرحه على نفسها: «ما هي المساواة؟» بل راحت تتساءل مثلًا: «أي قوةٍ أقامت دولة المماليك في مصر إن لم يكن التطلُّع إلى المساواة؟» وهنا لا يتمالك القارئ من أن يسائلها: أيَّ مساواةٍ تعنين؟ ولكنها تستمر فتقول: «لأجلها (أي لأجل المساواة) شبَّت الثورة الفرنساوية …» وبديهي أن جَعْل المساواة هدف المماليك في حركتهم في مصر، وهدف الفرنسيِّين في ثورتهم السنة ١٧٨٩، إنما هو حكم يعبث به تخليطٌ تاريخي عجيب؛ فالمماليك آنسوا قوةً وفرصةً فاستَولَوا على الإمارة في بلاد حكموها حكمًا استبداديًّا مطلقًا، بينما ثار الفرنسيون فأقاموا نظامَ حكمٍ مَصدرُه سلطة الأمة والناسُ فيه أمام القانون سواء. ولعل مي قَصدَت أن المماليك أرادوا أن تكون لهم إمارةٌ يحكمون فيها ويستبدُّون كغيرهم، فكانوا بذلك مُتطلعِين إلى «المساواة». غير أن هذا عنتٌ وإخلالٌ باستعمال الكلمات، وإلا لجاز أن نقول مثلًا: إن خروج «فلان» ليصبح لصًّا ﮐ «فلان»، فيه أيضًا «تطلُّعٌ إلى المساواة!»
يقرأ القارئ كتابَ مي فيجدها تبدأ بمسألة «الطبقات الاجتماعية»، وتذكر شيئًا تسميه «التنوع بين الطبقات»، تريد بذلك أن تُهرِّب «تمايز الطبقات» في تعبيرٍ لا يُنفِّر. وتذكُر أيضًا «التنوُّع بين الأفراد»، وتعرض لروسو الذي «طال تأمُّله في حالة البداوة الأُولى، وقام هو وأتباعه يُنادون بالعودة إليها لتحصل الإنسانية على الهناء المفقود وترتع في بحبوحة السلام والحرية. وقد نسُوا أن الهمجي مستعبَد بجهلِه الفادح، وأن له من الخُرافات سجنًا لعقله، ومن الأوهام حجابًا لروحه؛ فهو أسيرُ أحطِّ أنواعِ العبودية وأخطرِها، وإن يكُن حرًّا حريةً نسبية من حيث علاقته بأمثاله، وبقناعته التي لا يمكن أن تدوم أكثر من زمانٍ ما. وهيهات الرجوع إلى الماضي!»
على أن الثورة الفرنسية لم تقصد بشعار المساواة إلغاء التنوُّع أو التمايُز بين الطبقات إلا فيما يتعلق بسريان القانون على الجميع، كما أن أحدًا من أعلام الثورة لم يُفكِّر بإلغاء التنوُّع بين الأفراد. وقد قَفزَت مي في تعرُّضها لروسو من موضوع إلى موضوع؛ فالحرية غير المساواة وإن تكن بينهما قرابة. وروسو لم يطالب بإلغاء الطبقات أو التمايُز بين الأفراد، بل إن الثورة الفرنسية لم تنشَب، وروسو لم يكتب، إلا في سبيلِ تغييرِ نظامٍ يحصُر الامتيازات حصرًا صريحًا في طبقةٍ معينة. أمَّا حالة البداوة الأُولى — أو الحالة الطبيعية على الأصحِّ كما يسميها روسو نفسه — فقد أصابت مي زيادة في نقدها. على أننا لا نظن أن روسو أراد الرجوع إليها فعلًا، بل هو تصوَّرها تصورًا واتخذها مهبط وحيٍ يستلهمه.
ثم تتقدَّم مي إلى مسألة الأرستقراطية، فإذا مرَّ القارئ بفصلها هذا وتسامح بكثيرٍ مما فيه، وجدها تُقرِّر ما يلي: «ستظل الأرستقراطية، أرستقراطية الجماعة وأرستقراطية الفرد، ما دامت الطبيعة، ولو تحوَّلت منها الأنواع وتغيَّرتِ المظاهر وتعدَّدتِ الأسماء!» ولكن السر — كل السر — هو في تحوُّل هذه الأنواع، وأنواع الأرستقراطية، إذا شئنا الإصرار على الاسم؛ فإن الثورة الفرنسية مثلًا أزالت سيطرة أرستقراطية الإقطاع وشرف المولد، وفَسحَت في السبيل لأرستقراطية الصناعة والتجارة والمال. هذا صحيح، على أن الأرستقراطية الجديدة وَثبَت بفرنسا وثبةً عظيمة إلى أمام؛ فلا يصح إطلاق الحكم الواحد على الأرستقراطيِّين. وتستأنف مي كلامها فتقول: «سيظل التفوُّق موجودًا ما بقي بين البشر جماعاتٌ وأفراد يسيرون بخطوات الجبابرة نحو قمم الوجود فيتجلَّون على طَورِ القدرة والمجد فوق صياح الصائحِين وتجديف المُجدِّفين.» وفي هذا رائحة نيتشه، بل ألفاظه ظاهرة، ولكن مي هنا تنتقل، بكلِّ يسرٍ وسهولة، من الأرستقراطية إلى التفوُّق، والمعنيان، بحسب المتعارف، متباعدان جدًّا؛ فالمفهوم بالأرستقراطية أنها تشمل طبقةً من المجتمع تنسب إلى نفسها شرف الدم والمولد، وتتغطى بألقابٍ خاصة، وتكون ثروتها عقاريةً في الأغلب، كأمراء الإقطاع في القرون الوسطى مثلًا، فإذا كانت ثروتها نقدية أُجيز تسميتها بأرستقراطية المال، إلا أن هذه في الغالب لا تُنسب إلى شرف المولد ولا تُسبغ عليها الألقاب الخاصة. ولسنا ندري ما علاقة هذا بالتفوُّق، والسير بخطوات الجبابرة نحو قِمَم الوجود، والتجلي على طُور القدرة والمجد فوق صياح الصائحِين وتجديف المُجدِّفِين؟ لعل مي تقصد الفاتحِين العسكريِّين، لعلها تقصد العباقرة المفكرِين والمخترعِين وأصحاب المواهب والكفاءات، لسنا ندري بالضبط. إلا أن مي تُتابع طريقها فتقول لنا: «سيُوجد أبدًا هؤلاء، ومنهم من ينعكس خيال أرستقراطيتهم في الأجيال الآتية ويمتد حتى أطراف الدهور القصية مهما تتقلب الثورات والنظم والعمرانات. هذا إذا كانت الأرستقراطية من الطراز «الأصلح»، وهو الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولًا وآخرًا.»
فما هي هذه الأرستقراطية التي هي من الطراز «الأصلح»؟ وما هو هذا الطراز الذي قررت له الطبيعة الفوز أولًا وآخرًا؟ إن مي لا تُجيب بكلمة. وبمثل هذه الغوامض كان يتحدث نيتشه، ولا يزال الباحثون إلى اليوم مختلفِين في معنى الأرستقراطية التي قصدها ومعنى «السوبرمان».
غير أن هذا كله لا يمسُّ حقيقة موضوع المساواة؛ فالمساواة التي سارت تحت لوائها الثورة الفرنسية حاربت الأرستقراطية التي تتربَّع على ظهر المجتمع وتُسيِّج نفسها بالامتيازات تجاه القانون، وفي احتلال الوظائف وأداءِ الضرائب وغير ذلك. ولا شك أن الثورة الفرنسية لما أزاحت تلك الأرستقراطية وأعلنت المساواة، وسَّعت المجال لكفاءاتٍ ومواهبَ كثيرةٍ جديدة، فلم تَعنِ المساواة التي أعلنتها كبحًا لطفرة العبقريات والحيويات الدفينة في أعماق الأمة، بل هي التي شجَّعَتها وأطلَقَتها من مكامنها وعقالاتها.
وما مقصدنا هنا أن نُرافِق مي في كتابها كله؛ فهي أحيانًا ترجع، في نقد الثورة الفرنسية والمساواة التي أعلنتها، إلى ما ذكرناه سابقًا من أن هذه الثورة لم تُعزِّز الحقوق السياسية والاجتماعية بكفالة الحقوق والوسائل الاقتصادية. وقد كان هدفنا أن ندُل على شيءٍ من النيتشية علِق بتفكير أديبتنا أو كاد.
وليست هذه الأقوال كلماتٍ عابرة؛ ففي كثيرٍ من الكتب النازية الهامة يَرِد ذكر الثورة الفرنسية مشفوعًا بالهجوم عليها؛ فكتاب «مباحث عن بعث ألمانيا» يزعم — طبعًا — أن الجرماني خالق المدنية الحديثة، ثم يُندِّد بكارثةٍ مشئومة «هي الثورة الفرنسية الكبرى التي قضت على زعماء الشعب الفرنسي الجرمانيِّين»؛ لأن «طبقة الأشراف — كلها أو معظمها، بما فيها سُلالة البوربون — كانت جرمانية الأصل. وهذا ما حدا بالجماهير غَداةَ الثورة الفرنسية أن تصُب جام حقدِها على طبقة الأشراف خاصة …» والحق أن هذا مضحك؛ لأن الشعب الثائر إن لم يُوجِّه سخطه إلى طبقة الأشراف في جملة أصحاب الامتيازات، فإلى من يُوجِّهه؟ وإذا كان الشعب يرى أن طبقة الأشراف هي أشد أصحاب الامتيازات تشبثًا وتمسكًا؛ إذا كان الشعب يرى قليلِين من هذه الطبقة ينحازون إلى جانبه بينما ينحاز أكثره إلى الإكليروس؛ إذا كان الشعب يرى أكابر هذه الطبقة يهجرون البلاد ليعودوا غازِين مقاتلِين تحت لواء أجنبي، فعلى من يصُب جامَ حقده إن لم يصُبَّه عليهم بصورةٍ خاصة؛ لا لأنهم جرمان، بل لأنهم أعداؤه؟
وكتاب «أسطورة القرن العشرين» لألفرد روزنبرغ «يتنازل» إلى حد الاعتراف بالفكر والعقل لأعلام فرنسا من أُدباءَ وفلاسفةٍ في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، ولكنه يجعلهم جميعًا «محرومين كلَّ سُموٍّ حقيقي في الشعور!» ويستنتج من ذلك أن «يوم ١٤ تموز أصبح رمز ضعفٍ في الأخلاق!» ويذهب إلى أن الثورة الفرنسية مثَّلث فيها مسألة اللون دورًا خطيرًا؛ «فالجماهير اليعقوبية ذات اللون القاتم (!) كانت تَجُرُّ إلى المقصلة كل من كان ممشوق القامة أشقر الشعر!» (أي آريًّا!) وأخيرًا يُقرِّر روزنبرغ «أن الإنسان الجديد، وليدَ اختلاطِ إنسان جبال الألب بإنسان البحر الأبيض المتوسط، احتل المكان الأوَّل منذ هذا اليوم» (يوم انتصار الثورة الفرنسية)!
وهكذا يرى النازيون في ثورة فرنسا سنة ١٧٨٩ ضربةً مُسدَّدة إلى «طبقة الأشراف الجرمانية الأصل»، وإلى كل «ممشوق القامة أشقر الشعر». وعلى تعبير «إيوالد ماغولد» في كتابه «فرنسا وفكرة الجنس»، يرى النازيون في الثورة الفرنسية «شق عصا الطاعة من الجماهير القاطنة ما بين البحر الأبيض المتوسط وجبال الألب على سيطرة طبقة الفوهرر!» ويكاد لا يحتاج إلى ذِكرِ أنهم يَرونَ فيها أيضًا أثرًا من آثار «الإجرام اليهودي»؛ إذ لا بد من الإصبع اليهودي في كلِّ شيء لا يُعجب النازيِّين؛ فيقرر جيرهارد أوتيتيكال في كتابه «الجريمة اليهودية التقليدية» أن اليهود هم الذين قاموا بالثورة ولكن عن طريق الماسون!
في كلمات نيتشه التي نقَلناها عن فرح أنطون، يقول الكاتب الألماني: «إن الأديان ومبادئ الثورة الفرنسية المتولِّدة منها والناشئة عنها هي أشدُّ وباءٍ أصاب الإنسانية وهدَم الكفاءات فيها، ويكاد يُفني قواها كما يُفني داء التدرُّن قوى المسلولِين. وإن نتيجة هذا الداء ستكون انحطاطَ الإنسانية إلى ما هو أدنى من انحطاطها الحالي إذا لم يحتطِ البشرُ له ويحدثْ لديهم ردُّ فعلٍ في شأنه.»
والنازيون الذين يتخذون من نيتشه أبًا روحيًّا يزعمون أنهم، وحركتهم، هم رد الفعل الذي ينتشل الإنسانية من وهدةِ انحطاطها التي قذفَتها فيها مبادئ الأديان والثورة الفرنسية وشقيقاتها. وفي بعض الآراء التي نقلناها عن كُتَّاب النازيِّين يبدو من تهوُّسهم بالجرمانية وعمق عقولهم وتنوُّرهم في البحث، أنهم، حقًّا، أكفاءٌ للقيام بهذا الواجب الإنساني العظيم!
ولكن لِندعِ المزاح. إن التاريخ يُصدِر حكمه الآن في ميادين النضال والقتال. إنه يلفِظ قرارًا رهيبًا في أي الجانبَين يجب أن يعيش ويكمل سَيْر تطوُّره وتقدُّمه: جانب القيم الدينية ومبادئ الثورة الفرنسية وشقيقاتها، أو جانب مبادئ رد الفعل النازي.
أمَّا المُدْية وكتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» فقد كانا على الأرض إلى جانب الديوان (المقعد) مغموسَين بالدم، كأنهما يشهدان شهادةَ حقٍّ على ما ينبغي أن يموت في الشرق والغرب قبل أن تُولد روح العالم الجديدة!
غير أننا نتحدث عن هذه الروح الجديدة وكأنها لم تُولد بعدُ، وهي في الواقع مولودة، سائرة في طريق الشباب.
الحقُّ أن الحرية منذ عصورٍ لم تبقَ شبحًا هزيلًا، ولها أبناءٌ كثيرون لم يموتوا مَصلوبِين أو مجانِين.
والحق أنها لبِثَت عصرًا فعصرًا تُغالِب الضباب الذي ينعقد ليواري شمسها، وإذا بأشعتها تتكاثر وتزداد قوةً، وتُبدِّد الظلام، وتُنير بقاعًا أعظم فأعظم من الكون.
… الخنجر وزراتوسترا نيتشه شاهدا شهادة الحق على ما يجب أن يموت في الشرق والغرب، كما قال الريحاني.
ويُعجِبنا أن نعلم أن الثورة الفرنسية بلغ من احترامها واحترام مُفكِّريها في الأدب العربي الحديث أن أدلى رجلٌ كالأمير شكيب أرسلان بمثل هذا الاعتراف: «لو فرضنا أن القائدَ العامَّ اليوم أو الإمبراطور أو القيصر لا يقود إلى الهيجاء ثلاثة أو أربعة ملايين، بل لو اعتبرناه قائدًا لجميع سكان مملكته، لبقي قاصرًا عن جان جاك روسو، مثلًا، وهو الذي كان خادمًا في أحد المنازل، ثم كان أعظم الأسباب في الثورة الفرنسية التي حمل سيلها أيضًا بقية الممالك فانقادت لأفكاره الجماهير ولا يزال ينقاد منها إلى ما شاء الله …»