عبد الرحمن عزَّام١
شَرعَ في الحال في بناء المسجد، وما هذا المسجد؟ وفيه كانت الآساس التي وضعها لصلاح الدين والدنيا، وأصبح معبدًا و«برلمانًا» ومقرًّا «للسلطة التنفيذية» ومركزًا للقيادة العليا، منه تُصدَّر الدعوة إلى الله، والشرائع لخلقه، وجميع الخطط والتدابير الإدارية والسياسية والعسكرية، وفيه تُستقبَل الوفود، ويُلقَّن العلم.
كان المسجد، على سذاجة بنائه وأساسه، وعلى قلَّة الأوضاع فيه، يتناسب كل التناسُب مع تياسر محمد وأصحابه وانصرافهم الجوهري من الأمر. ويُذكِّر الناس في كل حين بهذه الحقيقة، وهي أن الانقلابات العظيمة، وأن النجاح فيها، أثرٌ لهذه السهولة التي تعنى بالروح والخلق، لا بالافتنان في الأوضاع والإسراف في المظاهر.
ومن هذا المسجد نمت تدريجيًّا الإدارة الإسلامية إلى أن شمِلَت الجزيرة كلها، ودانت الروم والفُرس لها. وفي هذا المسجد اتُّخذت تدابير قد تكون مما استلزمته أسبابٌ مؤقتةٌ، وأحوالٌ طارئةٌ، ولكنها بما انطوت عليه من الحكمة السامية، وما صدرت عنه من الإدراك، كانت بذورًا لأوسع الإدارات الإمبراطورية، وقواعد لأكبر إصلاحٍ بشريٍّ. من هذه التدابير ظهرت يثرب وطنًا لأهلها لا مسكنًا لأقوام المتنازِعِين فيها، وطنًا آمنًا للمسلمين والمشركِين واليهود، وللنازحِين إليها من أية قبيلةٍ كانوا، ولأي عنصرٍ انتسبوا، عربًا أو عجمًا.
فظهر لأول مرة معنى الوطن، يتساوى الناس فيه تحت نظامٍ يعطي حقوقًا ويُلزم تكاليف، من غير نظرٍ إلى الأحساب والأنساب والعصبيات والعقائد.
انظروا إليه ﷺ يضع «دستور الوطن الجديد» في صحيفةٍ بين أهل الأديان والأجناس تجعلهم جميعًا وطنيِّين مكلَّفين الدفاع عن الوطن أمام أي اعتداءٍ عليه، متكافلِين في الحرب والسلم، لا ينصرون غيرهم ولا يمالئونه على أهل الوطن، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، «وتكفُل حرية العقيدة لأهل الوطن، وحرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم».
تبتدئ الصحيفة ببسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي ﷺ بين المؤمنِين والمسلمِين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولَحِق بهم وجاهد معهم، أنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس.
ثم نقرِّر أن من تبِعنا من يهود فإن له النصر والأُسوة، غير مظلومِين ولا مُتناصَر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنِين، لليهود دينهم، لِلمسلمِين دينهم ومواليهم وأنفسهم، ثم نُقرِّر لبقية اليهود المعاهَدِين ما ليهود بني عوف. ثُم تذكر الصحيفة أن على اليهود نفقتَهم، وعلى المسلمين نفقتَهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، إلى أن تقول: وإن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غيرُ مُضارٍّ ولا آثمٍ، وإنه لا تُجَارُ حرمةٌ إلا بإذن أهلها، وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجارٍ يُخاف فساده فإن مردَّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ﷺ.
بهذه الصحيفة انقادت إلى النبي سلطةُ يثربَ الزمنية دون قصد، فقد اقتضَتِ العهود أن تنُص على حَكَمٍ في حالة الخلاف، ولم يكن إلا هو ليحكم، ومنذ تلك الساعة وضع الحجر الأساسي لدولة الإسلام.
فقَضى رسول الله على الفوضى، والإباحة للقُوة، وجعل لأول مرة في البلاد العربية حقَّ الأمة فوق حقِّ القبيلة، وجعل مرجع إقامة الحدود إلى الله أي إلى شريعته، وإلى رسوله منفِّذ هذه الشريعة، وكانت إلى ذلك الحين تتولاها القوة الغاشمة وحدها، قوة العصبية لا تُفرِّق بين المذنب والبريء. وبذلك غرس لاجئٌ إلى يثرب بذرة الحضارة في أشد الأقوام نزوعًا إلى الاختلال والهمجية، ووضع نَواة الإمبراطورية التي أزهرت قرونًا طويلةً، ولا تزال فخرَ المشرق، وحديثَ المغرب …