الشَيخ مصطفى الغلاييني١
(١) الحرية الصحيحة هي التي ينالها الشعب بقوَّته
نالتِ الأمة العثمانية حريتها وأكثر البلاد غير مستعدٍّ لذلك، فإن لم نبذل الجهد لترقية الأقوام الذين لم يفهموا — إلى الآن — معنى الحرية والاستقلال الشخصي فلا تلبثُ الحكومةُ أن تتسفَّل وتتدنَّى إلى أخلاق هذه الأقوام، ثم لا يمضي زمنٌ حتى ترجع الحالة إلى أشرَّ مما كانت عليه؛ ذلك لأن الحرية الصحيحة هي التي ينالها الشعب بقوَّته دون مساعدةٍ خارجة عنه، كالجيش مثلًا أو كأن تمنح الحكومة الحرية للشعب من قِبَل نفسها دون مُجبرٍ.
أمَّا الحرية التي تُنال بواسطة الجيش فإنها تُنتزع بواسطته، كما كاد يحصل في ثورة آستانة الأخيرة الشهيرة بفتنة ٣١ من مارس و١٣ من نيسان، أو تُنتزع متى سَكنَت ثائرة ذلك الجيش وذهب رجاله إلى أهليهم.
وكذا الحرية التي تمنحها الحكومة دون ثورةٍ من الشعب، فإنها تُنتزع متى مات أو سقط السلطان المانح الحرية، كما حصل في الحرية التي منحها سلطان العجم لشعبه فإن خلَفه انتزعها قسرًا وأهرق دماءً كثيرةً في سبيل ذلك؛ فلو كانت الأمة هي التي طالبَت بحقوقها وأصرَّت على نيلِ حريتها فلا يمكن أن تُنتزع منها حريتها ما دام فيها رمقٌ من الحياة.
فالثورة الحقيقية ليست ثورةَ الجيش لطلب الحرية، ولا ثورةً خارجة لطلب حرية أمة، وإنما هي ثورة الأمة. وأفضل معاني الثورة هي الثورة الأدبية أو الأخلاقية؛ لأنها هي كل شيء، وكل معنًى من معاني الثورة هو تابعٌ لها على الدوام …
(٢) القوانين يجب أن توافق البيئة والحالة الاجتماعية،٢ حق اللغة
وإن من الخطأ البيِّن أن تُقاس الأمة العثمانية الحديثة العهد بالحرية والدستور بأمة الفرنسيس أو السكسون فتُحكم بقانون إحداهما؛ لأن الفرق الشاسع بيننا وبينهم يُوجب علينا أن نسُنَّ لأنفسنا قوانينَ تُوافق بيئتنا وحالتنا الاجتماعية.
يجب أن يكون القانون الذي تُحكم به آستانة وسلانيك وبيروت ودمشق وغيرها، غير القانون الذي تُحكم به اليمن والأناضول وقِسمٌ عظيمٌ من بلاد الأرناءوط؛ فإن البلاد الأُولى وما هي على شاكلتها تحتاج إلى حكمٍ أرقى من الحكم الذي تحتاج إليه البلاد الأخرى، وهذا مُشاهَدٌ حتى يكاد يُلمس باليد، وقد وضح وضوحَ الشمس بعد إعلان القانون الأساسي؛ فقد كان بونٌ شاسعٌ بين هاتَين البلادَين من حيث تأثير روح الحرية والدستور في نفوس أهليهما وعدم تأثيرها …
… وأمَّا ما يختص بالمعارف فالنظر فيه لا يقلُّ عن النظر فيما سبق؛ فإن المعارف روح البلاد، وهي السبب الوحيد لإيقاظها وإنهاضها، فيجب الاهتمام بنظامها اهتمامًا عظيمًا بحيث يكون عامًّا شاملًا لحاجات كل قطرٍ من الأقطار العثمانية على اختلاف لغاتها ومذاهبها، فإن كانت الأنظمة المتعلِّقة بالحقوق والجزاء والمعاملات تصلح مثلًا لبعض البلاد العربية والتركية معًا، فإن النظام المتعلق بالمعارف لا يصلح منه ما يصح العمل به في آستانة وسلانيك لِبيروت وحلب وبغداد وغيرها من الولايات العربية لاختلاف اللغة. وهذا من جملة شكاوى أبناء العرب التي ملأت الخافقَين؛ فإن اللغة التركية كادت تمحو أثَر اللغة العربية؛ فإنها — فضلًا عن كونها لسان الدولة الرسمي — لسان العلم في مدارس الحكومة عامةً في البلاد التركية والعربية على السواء، وكان الأَولى بالحكومة أن تجعل لسان التدريس في كل بلادٍ بلغة أهلها … فإنها إن فعلت ذلك تكون قد سعت لترقية البلاد ترقيةً محسوسةً؛ لأن التلاميذ لا يُدركون معنى العلم إن درسوه بغير لغتهم إلا بعد إتقان اللغة التي يدرُسونه بها، ولا يتأتى لهم إتقانها إلا بعد مدةٍ ليست بالقصيرة، وفي أثناء تلقِّي العلم يكون التلميذ مشغولًا بتفهُّم العلم وتفهُّم الألفاظ التي تحوي ذلك العلم، فيكون علمه بسبب ذلك ناقصًا مُقتضبًا؛ فلو درس التلميذ العلم بلغة أبيه وأُمه فلا يُشغَل إلا بشيءٍ واحدٍ وهو تفهُّم معنى العلم الذي يتلقاه، وهذا سرٌّ عظيمٌ يجب أن تتنبَّه إليه نظارة المعارف، وإن كان يسيء أكثر الشبان الأتراك المَغرورِين الذين يَسعَون جهدهم لتتريك عناصر الدولة …
(٣) الثورة وخواطر في الانقلابات
وإنه بقدر استعداد الأمة للحكم الدستوري والإصلاح تنتفع من ذلك؛ فإن نالت الدستور وأُبيح لها الإصلاح غير أنها لم تستنتج شيئًا فاعلم أنها أُمة غير صالحة لهذه النعمة؛ لأنها لم تقدِّرها قدرها ولم تُهيئ لها الأسباب اللازمة الكافلة ببقائها والمُستخرِجة لفوائدها. وليس الذنب على القوانِين ولا على القائمِين بتنفيذها، وإنما الذنب على الأمة التي تُحكم بتلك القوانين؛ لأنها تدع منفِّذيها يُفسِّرون موادَّها حسب مشتهياتهم دون معارضة ولا مصادمة.
… إن الأمة التي هي على هذه الشاكلة إن ثار في مُتنوِّرِيها وعظماء رجالها ثائرة الإصلاح السياسي قبل أن يتقدمه الإصلاح الأخلاقي وثورة الفلاسفة وأهل التربية، يكون ويلًا عليها كما أسلفنا، فإن تم نوال الإصلاح السياسي قبل الأخلاقي وانتشرت في الأمة القوانين الراقية وحُمِل الحكام على القضاء بها، فترى تلك الأمة آسفةً كل الأسف على ماضيها وعلى الحالة التي كانت فيها وتتمنى لو ترجع في حافرتها، مع أنه لا يشكُّ عاقلٌ في أن حالتها الحاضرة هي خيرٌ من حالتها الماضية، وأيُّ ذي لُبٍّ يشكُّ في أن العدل والمساواة خيرٌ من الجَور والحكم بمقتضى الهوى ورغبات النفوس الظالمة الفاسدة؟ …
… لا جدال في أن شكوى هؤلاء إنما هي من الحُكام لا من القوانين والانقلاب الدستوري.
مَنْ هؤلاء الحكام؟ أليسوا من الأمة؟ فلو كانوا راقيةٌ أفكارهم صحيحةٌ أخلاقهم فهل كانوا كما هم اليوم؟ لا ريب أنهم لو تربَّوا تربيةً صحيحةً وعُوِّدوا الحكم بالحق دون مراعاةٍ ولا ميلٍ لمنفعةٍ، لَرأَينا منهم في هذا الدور السعيد رجالًا ينهضون بالأمة ويُقوِّمون من اعوجاجِ أعمالها، فلنسخط إذن على الحُكام لا على الدستور والحرية!
فإن قيل: إن الدور الماضي والدور الحاضر سواءٌ لأن أكثر الحكام اليوم هم الحكام بالأمس. نقول: ذلك حق، ولكنهم بعد أن كانوا مُطلَقِين صاروا مقيَّدِين بإرادة الأمة، غير أنه لمَّا لم يكن للأمة إرادة بل سلَّمت إرادتها إليهم أخذوا يرجعون إلى ما اعتادوه من ذي قبل شيئًا فشيئًا، فهل للأمة أن تقف في وجوههم وتُجبرهم على عدم الخروج عن موادِّ القوانين الدستورية؟ فإن فعلَت ذلك نجحَت وجنَت فوائد الأنظمة الجديدة، وإن بقِيَت كما هي اليوم خاملةً مستكينةً فالعاقبة غير حميدة!