تياران يتفاعلان
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
يُولد الناس ويلبثون أحرارًا متساوِين في الحقوق.
«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!»
شدَّ ما تُذكِّر هذه الكلمة التاريخية التي فاه بها عمر بن الخطاب بفاتحة إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وشدَّ ما تُذكِّر أيضًا بكلمة روسو: «يُولد الإنسان حرًّا، ولكنه في كل مكان مقيَّدٌ بالحديد!» وهي الكلمة التي افتتح بها كتابه «الميثاق الاجتماعي».
فهنا قرابةٌ فكرية نفسية بادية للعيان. وقد سبق لنا أن ذكَرنا كيف أن الأعلام من مُفكرينا وأدبائنا، لمَّا انفتح لهم سبيل الاطِّلاع على الثورة الفرنسية ومبادئها ومفكريها، رأوا محيطهم وظروفه، فلم يلبث ذلك أن ردَّهم أيضًا إلى عصرِ النبوة والراشدِين ومبادئ الإسلام في طَلعَته البِكر، فسمَّوا الحكم الديمقراطي الذي كانوا يستهدفونه بالحُكمِ الشوريِّ، ونقَشوا على الراية الديمقراطية التي رفعوها الآية الكريمة: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. وإذا طالبوا بحرية الفكر مثلًا نادوا بالآية: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
وقد عزَّز الكواكبي حق المُفكِّرين في الحماية من الاضطهاد والاستبداد بالآية: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
وبالطبع إن الفرق بعيدٌ بين العصر الذي تلقَّى فيه الناس آيات القرآن للمرة الأُولى، والعصرِ الذي وَقعَت فيه الثورةُ الفرنسية أو العصرِ الذي طلع فيه الأفذاذ المفكرون من أعلام نهضتنا الحديثة. ولكنَّ فَهْم المُفكِّرين للكتب الدينية يكون، عادةً، من خلال مطالب عصرهم، ولا سيما المُفكِّرون المُصلِحون والثوريون. ومن أسرار البقاء في الكتب الدينية أنها تتسع في كلِّ عصرٍ لمضمونٍ فكريٍّ يطاوع مطالب العصر الإصلاحية. والإسلام بدأ وثبةً تقدُّمية جبارة، والوثبات التقدُّمية الجبارة في جميع العصور لا يخلو بعضها من مضمونِ بعض، وكثيرًا ما تتقارب تعابيرها اللغوية عن أهدافها العامة، تبعًا لتقارُب الأشواق الإنسانية واتجاهها في الحياة الاجتماعية نحو الخير والتجديد والعدل والرفق والحرية وسائر المُثُل والقيم العليا.
ولا شك أن مثل هذا التراث العظيم، الذي وجد مُفكرونا المصلحون أنفسهم متكئِين عليه، خلَق فيهم استعدادًا نفسيًّا كبيرًا للإعجاب بالثورة الفرنسية وتقبُّل مبادئها.
كانوا يرجعون إلى القرآن، فيصادفون الآيات النارية التي تتوقَّد غضبًا على العتاة والجبارين وترِنُّ بالنداء إلى الثورة:
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ.
… وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وكانوا يرجعون إلى سيرة النبي وأقواله، فيجدونه في ساعةٍ عصيبة من العهد الذي ذاق فيه ألوان الاضطهاد يُقسم أَنْ لو وَضَع خصومه كلًّا من القمر والشمس بيدَيه لَما رجع عن رسالته، وهو مثالٌ يُتَّبع في الثبات على العقيدة، وفي الإيمان بحق الإعلان عن الرأي. وكانوا أيضًا يُردِّدون من مأثور حديثه: إذا رأيتَ أمتي تهابُ الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدِّعَ منها.
وفي زمن الراشدِين، كانوا يَرونَ كُره الخلفاء للمَلَكية الوراثية المُطلَقة وما يصحبها من أُبهة وبذَخ في طريقة الحياة وما تستدعيه من حُرَّاس وحُجَّاب وابتعاد عن الشعب. كانوا يسمعون قول القرآن في الملوك: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، ويسمعون رأي أبي بكر في الجالسِين على العروش، وتصريح عمر بن الخطاب: «ما أنا بملكٍ فأَستعبدَكم.» وكانوا يقرءون ما تُسجِّله التواريخ عن ابن الخطاب من مباشرته أمور الناس بنفسه، ومراقبته العمال (الولاة)، وحرصه على بيت المال، وألا تُثري الأُسر ذوات النفوذ على حساب الرعية. كانوا يسمعون قولَه للناس: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول.» ويُردِّدون جوابه الشهير للبدوي: «الحمد لله الذي جعل فيكم من يُقوِّم اعوجاج عمر.» فيستنتجون أن للأمة حقًّا في محاسبة حُكَّامها. وكانوا يَتمثَّلونه نائمًا كأحد الناس، يُوقِظه الفارسي متعجبًا من رئيسِ دولةٍ يرقد ولا حارسَ له، فيجيبه الفاروق: عدَلتُ، فأمِنتُ، فنمتُ!
وكانوا، إذا راحوا يقرءون أخبار الفتوحات الأُولى، يرون كيف التقت جيوش العرب تحت لواء المبادئ الشورية الجديدة في أصول الحكم، بجيوش الفُرس وهي تحت لواء الأوتوقراطية الكِسروية.
كانوا يقرءون كيف وقف رستم قائد الفُرس على قنطرة القادسية قبل المعركة الشهيرة، فواجه مفاوضًا عربيًّا هو فيما سماه التاريخ زُهرة، فحدَّثه المفاوض العربي عن الدين الجديد الذي تألَّق نوره في سماء الجزيرة العربية ودعاه ودعا الفرس إليه، فقال رستم: أرأيتَ إن أجبتُ إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم، أترجعون؟ قال المفاوض العربي: إي والله! ففكَّر رستم، لقد كان سمع من المفاوض العربي أن هذا الدين الجديد «يُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله»، وفي ذلك — معنويًّا وعمليًّا — ما فيه من المس بأوتوقراطية التاج الفارسي، ومصالح الأشراف والدهاقِين، والنظام الاجتماعي الفارسي جملةً، فقال للمفاوض العربي: «إن أهل فارس منذ وُلِّي أردشير لم يَدَعوا أحدًا يخرج من عمله من السِّفْلة، وكانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدَّوا طورهم وعادَوا أشرافهم.» ومعنى هذا في لغة علم الاجتماع الحديث أن النظام الاجتماعي الفارسي كان نظامًا يُقسِّم السِّفلة (أي جماهير الشعب) إلى طوائفَ يلتزم كلُّ فرد طائفته التي وُلِد فيها ووضعه الاجتماعي لا حق له أن يتزحزح عنه، فهو فلَّاحٌ قِنٌّ مثلًا يكون ابنه فلَّاحًا قنًّا أيضًا، وهو محترفٌ عمل الأحذية مثلًا يكون ابنه محترفًا عمل الأحذية أيضًا، وهكذا …
فأجاب المُفاوِض العربي بقوله لرستم: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، بل نطيع الله في السِّفلة ولا يضرُّنا من عصى الله فينا.
ولم يكن رستم غبيًّا، فأحسَّ أن هذا الدين الجديد لن يقبل بنظامٍ اجتماعي إقطاعي مُتحجِّر كالنظام الفارسي، ولن يُقرَّ الأوتوقراطية الفارسية ويُلقي الحبل على الغارب للأشراف والدهاقِين.
وكانوا يقرءون محضرًا آخر من محاضر المُفاوَضة بين العرب والفرس قبل القادسية، إذ طلب رستم مفاوضًا من العرب يأتيه في الخيمة، فأرسل إليه سعد بن أبي وقَّاص المغيرة بن شعبة، فأقبل المغيرة فوجد القوم عليهم التيجانُ والثيابُ المنسوجة بالذهب، قد فُرشت بُسُطهم على مسافةِ غلوة فلا يُوصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها. وكان رستم قد تأخر عن الحضور مبالغةً في الأبهة والعظمة، فما زال المغيرة منطلقًا على البُسُط حتى انتهى إلى مقعدٍ فخم، فارغ، كان مقعد رستم، فجلس عليه. فوَثبَت رجال الحاشية وأنزلوه ومعكوه، فصاح بهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قومًا أسفهَ منكم! إنَّا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضًا، فظننتُ أنكم تُواسون قومكم كما نتواسى. كان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أربابُ بعض. اليومَ علمتُ أنكم مغلوبون. إن مُلكًا لا يقوم على هذه السيرة ولا هذه العقول!
ثم كانوا يقرءون خبر النقمة على عثمان لما خصَّ أقرباءه، وكيف قيل له: اعتدل أو اعتزل. ثم يقرءون خبر الثورة عليه، فيستنتجون أن وليَّ الأمر يمكن دعوته إلى التنحِّي عن منصبه وخَلعِه.
وفي عصر بني أمية كانوا يجدون الخلافة تتحول على يد معاوية إلى مَلَكية. بدأ هذا التحول باستحداثِ تغييراتٍ في نمط حياة الخليفة؛ إذ ابتنى قصرًا وجعل له حُجَّابًا وحُرَّاسًا، وفصل بين شخصه وسائر المصلِّين في المسجد، وأخذ البيعة لابنه يزيد، فأقرَّ بذلك قاعدة المَلكية الوراثية، وأصبحتِ البيعةُ من بعده مظهرًا شكليًّا لا نوعًا من الانتخابِ كما كانت قبلًا.
كانوا يجدون هذا التحوُّل ويسمعون أصوات الاحتجاج وفي مقدِّمتها صوت عبد الرحمن بن أبي بكر: لا تُحدثوا علينا سُنَّة الروم كلما مات هرقلُ قام مكانه هرقل. وكانوا كذلك يقرءون ما يذكُر المؤرخون وعلماء السياسة بهذا الصدد إذ يُقرِّرون أن الخلافة انقلَبت إلى «مُلك عضوض».
أجل، بات الأعلام من أُدبائنا ومُفكِّرينا في النهضة الحديثة يرجعون إلى التراث القديم، ويرافقون عصور التاريخ العربي فيستلهمون من عِبَره ما يوجِّههم شَطرَ الحرية ومقاومة الاستبداد، ويفتح نوافذ قلوبهم وأذهانهم على الثورة الفرنسية ومبادئها وقواعد الحكم الديمقراطي الحديث.
ونستطيع نحن أن نستأنف السير طَوالَ عصور التاريخ العربي أيامَ الأُمويِّين وبعدهم، فنرى كم هي كثيرةٌ الوقائع والأفكار الخليقة بأن تُذكِّر بالثورة الفرنسية ومبادئها؛ نستطيع، مثلًا، أن نتلو هذه الرواية عن جارية بن قدامة ومعاوية، قالوا:
«دخل جارية بن قدامة على معاوية، فقال له الخليفة الأموي الأول: ما كان أَهونَكَ على قومك إذ سمَّوك جارية! فأجابه: ما كان أهونَكَ على قومك إذ سمَّوك معاوية (وهي الأنثى من الكلاب)! قال الخليفة: اسكت لا أُم لك! فأجابه: بلى، أُمٌّ لي ولدتني. أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لَبينَ جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنك لم تُهلكنا قسوةً ولم تملكنا عنوةً، ولكنك أعطيتَنا عهدًا وميثاقًا، وأعطيناك سمعًا وطاعةً، فإن وفيتَ لنا وفينا لك، وإن نَزعتَ إلى غير ذلك فإنَّا تركنا وراءنا رجالًا شدادًا وأسنَّةً حدادًا. فقال معاوية: لا أكثر الله في الناس مِثلكَ يا جارية! فأجابه: قُلْ معروفًا فإن شر الدعاء محيط بأهله.»
ولنراجعْ هنا خبر حادثةٍ وقعَت بين الخليفة عبد الملك بن مروان وأحد الخوارج؛ فإنها لتتعلق بالموضوع الذي نحن بِصدَده.
روى الشيباني عن الهيثم عن ابن عبَّاس، قال: كنا عند عبد الملك بن مروان، إذ أتاه كتاب الحجَّاج يُعظِّم فيه أمر الخلافة، ويزعم أنْ ما قامت السموات والأرض إلا بها، وأن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقرَّبين والأنبياء المرسلين؛ وذلك أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلًا إليه. فأُعجب عبد الملك بذلك وقال: لَوددتُ أن عندي بعض الخوارج فأُخاصمه بهذا الكتاب. فانصرف رجالٌ من جُلساء عبد الملك إلى منزله، فجلس مع ضيفانه وحدَّثهم الحديث، فقال له حوار بن زيد الضبِّي وكان هاربًا من الحجَّاج: توثَّق لي منه ثم أعلمني به. فذكَر الرجل ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال الخليفة: هو آمن على كلِّ ما يخاف. فانصرف الرجل إلى حوارٍ فأخبره بذلك، فقال: بالغداة إن شاء الله. فلما أصبح حوار اغتسل ولبس ثَوبَين ثم تحنَّط وحضر باب عبد الملك، فقال الخليفة: أَدخِله يا غلام. فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ بِيض يُوجد عليه ريح الحنوط، ثم قال: السلام عليكم! ثم جلس، فقال عبد الملك: ائتِ بكتاب أبي محمد يا غلام. فأتاه به، فقال: اقرأ. فقرأ حتى أتى على آخره. فقال حوار: أراه قد جعلَكَ في موضعٍ مَلَكًا (ملاكًا)، وفي موضعٍ نبيًّا، وفي موضعٍ خليفةً، فإن كنت مَلَكًا فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيًّا فمن أرسلك؟ وإن كنت خليفةً فمن استَخلفَك؟ عن مشورةٍ من المسلمِين أمِ ابتززتَ الناسَ أمورَهم بالسيف؟ فقال عبد الملك: قد أمَّناك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلدٍ أبدًا، فارحل حيث شئت. قال: فإني قد اخترت مصر. فلم يزل بها حتى مات عبد الملك (العقد الفريد، جزء ٣).
وأهم ما يعنينا من هذا الحديث الطويل سؤال حوار الضبي لعبد الملك: إن كنت خليفة فمن استخلفك؟ عن مشورةٍ من المسلمين أم ابتززتَ الناسَ أمورَهم بالسيف؟ فكأن حوارًا قال لعبد الملك: الخليفة الشرعي (أو الدستوري) ليس الذي يبتز الناس أمورهم بالسيف، بل هو الذي يتولى منصبه عن مشورةٍ منهم؛ الخليفة الشرعي هو الذي تَصدُر خلافتُه عن الشورى.
وإننا لنستطيع كذلك أن نَعرِض لذكرِ مشهد المنافرة الذي ألمَّ به الكواكبي بين الوليد بن عبد الملك وقيس، إذ خرج قيس مغضبًا يقول للخليفة: «أتريد أن تكون جبارًا؟ والله إن نعالَ الصعاليك لأَطولُ من سيفك!»
ثم نستطيع أن نُردِّد هذا البيت لأبي العلاء المعرِّي في الحكام:
وفيه يُقرِّر أبو العلاء أن الحكام ليسوا فوق الرعية ولكنهم مأجورون لها، فوَجبَت عليهم خدمةُ مصالحها لا ظلمُها وكيدُها.
… كان أعلام مُفكرينا وأُدبائنا يتجهون إلى هذا كله في ثنايا التراث القديم، كما يتجهون إلى الثورة الفرنسية ومُفكِّريها والقواعد التي انبَثقَت منها في أصول الحكم.
فإذا قال الكواكبي: «إن الحكومة من أي نوعٍ كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تَسامُح فيها.» نظر أولًا إلى التاريخ العربي فقال: «كما جرى في صدر الإسلام فيما نُقم على عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس.»
بينما الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهورَ البغي والفسادِ في الأرض وما يَحُول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور إلى ناحيةٍ من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أميرَ المؤمنِين، إن أمَّنتني أنبأتُكَ بالأمور على جليتها وأُصولها، فأمَّنه، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين! فقال المنصور: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟ فقال الرجل: لأن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُر وأبوابًا من الحديد وحُجَّابًا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلانٌ وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحدٌ إلا وله في هذا الأمر حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتَهم لنفسِك وآثرتَهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها وتجمعها ولا تقسِّمها، قالوا: هذا قد خان الله تعالى فما لنا لا نخونه وقد سخَّر لنا نفسه، فاتفقوا على ألا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عاملٌ فيخالفَ أمرهم إلا أقصَوه ونفَوه حتى تسقُط منزلته ويصغُر قدره، فلمَّا انتشر ذلك عنك وعنهم عظَّمهم الناس وهابوهم، فكان أوَّل من صانعَهم عمَّالك بالهدايا ليتقوَّوا بهم على ظُلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظُلم مَن دونهم، فامتلأَت بلاد الله بالطمع ظلمًا وفسادًا، وصار هؤلاء القومُ شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلِّم حِيلَ بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفْعَ قصةٍ إليك وجدك قد مَنعتَ من ذلك وجعلتَ رجلًا ينظر في المظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يُدافعه خوفًا من بطانتك، فإذا صرَّح بين يدَيه ضُرِب ضربًا شديدًا ليكون نَكالًا لغيره، وأنت تنظُر ولا تُنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟
هذا، ولمَّا كان الحاكم يَفسَد بتحرُّره من المحاسبة، وكان فسادُه فسادَ الرعية أيضًا، كان نوع الحكم في المجتمع مفتاح التقدُّم أو التأخر، السعادة أو الشقاء، وكان الاهتمام بالسياسة أمرًا لا بد منه لكلِّ إنسان، ولا سيما رجال الأدب والفكر والفلسفة. وفي أدوار التاريخ وأعمار الأمم عهودٌ خاصةٌ هي عهود الرجَّات والانقلابات تُطرَح فيها مسائل الحكم على بساط البحث طرحًا لا مناص منه لأحد.
وكان أعلام أدبائنا ومُفكِّرينا يستندون أيضًا إلى التراث القديم في تقرير أهمية الدور الذي تمثِّله السياسة في حياة الإنسان. كانوا يقرءون قول الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك»: «إن الإنسان أعزُّ جواهرِ الدنيا وأغلاها قدْرًا وأشرفها منزلةً، وبالسلطان صلاح الإنسان.» ويقرءون أيضًا: «ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة، كذلك ليس دون رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة.» وكانوا يقرءون أيضًا: «أربعة أشياء ينبغي أن تُفسَّر للفهيم كما تُفسَّر للبليد ولا يُتَّكلُ فيها على ذكاءِ أحد: تأويل الدين، وإخلاط الأدوية، وصفة الطريق المخوف، والرأي في السلطان.» فيُعزِّز ذلك مذهبهم في ضرورة الاهتمام بالسياسة وبحث قضايا الحكم.
وإننا لَنستطيعُ أن نمضي في هذا الكتاب إلى غايةٍ يمتد معها أجلُ الكلامِ في إثبات التوفيق الذي ذهب إليه أعلامنا ومُفكِّرونا بين الثورة الفرنسية ومبادئها والتراث القديم وصفوة مُثُله وقيمه، على أننا نكتفي بهذا الشاهد الشعري الأخير من أحدِ كبار الشعراء في الحِقبة الأخيرة. دُعي حافظ إبراهيم إلى إنشاءِ قصيدةٍ في حفلةٍ أُقيمت بمصر السنة ١٨٩٩ ابتهاجًا بعيد الدستور العثماني، فقال:
فهذه التفاتةٌ من الشاعر إلى التراث القديم، إلى بشار، وكان ينزع منزع الشورى في الحكم. وقد صحبها على الأثر التفاتةٌ إلى الثورة الفرنسية وعيد ١٤ تموز:
ومفهوم أن العيد الذي في الغرب — كما يقول شارح «ديوان حافظ» — هو عيد الحرية في فرنسا، وهو في شهر تموز.
لمَّا كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أَطلقَت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، مستثنيةً القذف فقط. ورأت أن تحمُّل مضرة الفوضى في ذلك خيرٌ من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلةً من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية؛ أي الحرية. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بوضعه قاعدة: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
وهذه الأمم الموفَّقة خصَّصَت منها جماعاتٍ باسم مجالسِ نوابٍ وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية، وذلك منطبقٌ تمامًا على ما أمر به القرآن الكريم في آية: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وفي كمالة هذه الآية، وهي: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، من التبجيل ما يحمل نفوس الأبرار على تحمُّل مضَض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها، الممقوتة طبعًا عند المستبد وأعوانه.
فيقول المادي: الداء القوة، والدواء المقاومة. ويقول السياسي: الداء استعباد البرية، والدواء استردادُ الحرية. ويقول الحكيم: الداء القدرة على الاعتساف، والدواء الاقتدار على الاستنصاف. ويقول الحقوقي: الداء تغلُّب السلطة على الشريعة، والدواء تغلُّب الشريعة على السلطة. ويقول الربَّاني: الداء مشاركة الله في الجبروت، والدواء توحيد الله حقًّا.
هذه أقوال أهل النظر. وأما أهل العزائم، فيقول الأبي: الداء مدُّ الرقاب للسلاسل، والدواء الشموخ عن الذل. ويقول الشهم: الداء التعالي على الناس باطلًا، والدواء تذليل المتكبِّرِين. ويقول المتين: الداء وجود الرؤساء بلا زمام، والدواء ربطهم بالقيود الثقال. ويقول المُفادِي: الداء حب الحياة، والدواء حب الموت.
إذا حذف (زيد) أمير المؤمنين بعض مسائلَ شرعيةٍ مهمة من كُتُب الشرع المقدَّسة ومنع ومزَّق وأحرق الكتب المذكورة، وبذَّر وأسرف في بيت المال بدون مسوِّغ شرعي، وقتل وسجن ونفى رعاياه بدون سببٍ شرعي، وتعوَّد ارتكاب غيرِ ذلك من المظالم الأخرى، ثم بعد أن أقسم بأن يرجع إلى الصلاح حنث بيمينه وأصرَّ على إحداث فتنٍ عظيمة تُخل تمام الإخلال بانتظامِ أمور المسلمين وأحوالهم وحرَّض على المذابح، وإذا كانت الأخبار تتوالى من جميع أنحاء البلاد الإسلامية طالبةً خلعه تخلُّصًا من ذلك الجَوْر، وكان في بقائه ضررٌ محققٌ وفي زواله صلاحٌ ملحوظٌ، فهل يجب إجراء ما يُرجِّحه أرباب الحل والعقد وأولياء الأمور من إلزامه بالتنازُل عن السلطة والخلافة أو خلعه؟ الجواب: نعم!