(٢) حقوق الناس التي يضمنها الديوان (البرلمان)
قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدَّام الشريعة، معناه سائرُ من
يُوجد في بلاد فرنسا من رفيعٍ ووضيعٍ لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في
القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تُقام على المَلِك ويُنفَّذ عليه الحكمُ كغيره.
فانظر إلى هذه المادَّة الأولى فإنها لها تسلُّطٌ عظيمٌ على إقامة العدل وإسعاف
المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم؛ نظرًا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه
القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول
العدل عندهم إلى درجةٍ عالية وتقدُّمهم في الآداب الحضَرية، وما يسمونه الحرية
ويرغبون فيه هو عين ما يُطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم
بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل
القوانين هي المحكَّمة والمعتبَرة؛ فهذه البلاد حَرية بقول الشاعر:
وقد ملَأ العدلُ أقطارَها
وفيها توالَى الصفا والوفا
وبالجملة إذا وُجِد العدل في قطر من الأقطار فهو نسبيٌّ إضافي، لا عدل كلِّي
حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدةٍ من البلدان؛ فإنه كالإيمان الكامل والحلال
الصرف وأمثال ذلك ونظائره؛ فلا معنى لحصر المستحيل في الغول والعنقاء والخِلِّ
الوفي كما هو مذكور في قوله:
لمَّا رأيتُ بني الزمان وما بهم
خِلٌّ وفيٌّ للشدائد أَصطفي
أَيقنتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ
الغولُ والعنقاءُ والخِل الوفي
مع أن ذلك ممنوع في العنقاء فإنها نوع من الطيور موجود الأفراد، يذكره أرباب علم
الحشايش، وذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قضية
العنقاء مع سيدنا سليمان في تكذيبها بالقدَر. نعم، لا وجود للعنقاء بالمعنى المشهور
عند العامة من العرب والإفرنج من أنها من أعلاها عُقاب ومن أسفلها أسد، وعلى كلِّ
حالٍ فلها في الجملة وجود. وأمَّا المادة الثانية فإنها محضُ سياسية، ويمكن أن
يُقال إن الفِرَد
٣ ونحوها لو كانت مُرتَّبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت
النفس، خصوصًا إذا كانت الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال أو كانت
ممنوعة بالكليَّة، وربما كان لها أصل في الشريعة على بعض أقوال مذهب الإمام الأعظم.
٤ ومن الحِكم المُقرَّرة عند قُدامى الحكماء: الخَراج عمود الملك. ومُدةَ
إقامتي بباريس لم أسمع أحدًا يشكو من المكوس والفِرَد والجبايات أبدًا ولا يتأثرون
بحيث إنها تُؤخذ بكيفيةٍ لا تضُر المعطي وتنفع بيت مالهم، خصوصًا وأصحاب الأموال في
أمان من الظلم والرشوة. وأمَّا المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدًا، بل من مزاياها
أنها تحمل كلَّ إنسان على تعهُّد تعلُّمه حتى يقرب من منصبٍ أعلى من منصبه، وبهذا
كثُرت معارفهم ولم يقف تمدُّنهم على حالةٍ واحدة مثل أهل الصين والهند ممن يعتبر
توارُثَ الصنائع والحِرَف ويبقى للشخص دائمًا حرفة أبيه. وقد ذكر بعض المؤرخِين أن
مصر في سالف الزمان كانت على هذا المنوال؛ فإن شريعة قُدماء القبطة كانت تُعيِّن
لكلِّ إنسان صنعته ثم يجعلونها متوارثة عنه لأولاده. قيل: سبب ذلك أن جميع الصنائع
والحِرَف كانت عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مقتضيات الأحوال لأنها تعين كثيرًا
على بلوغ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يُحسن عادةً ما رأى أباه يفعله عدة
مرات بحضرته ولا يكون له طمعٌ في غيره؛ فهذه العادة كانت تقطع عرق الطمع وتجعل كلَّ
إنسان راضيًا صنعته لا يتمنى أعلى منها، بل لا يبحث إلا عن اختراع أمورٍ جديدةٍ
نافعة لحرفته تُوصل إلى كمالها (انتهى). ويُردُّ عليه أنه ليس في كلِّ إنسانٍ
قابليةٌ لتعلُّم صنعة أبيه، فقصره عليها ربما جعل الصغير خائبًا في هذه الصنعة،
والحال أنه لو اشتغل بغيرها لنجح حاله وبلغ آماله. وأمَّا المادة الرابعة والخامسة
والسادسة والسابعة فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثُر أهل هذه البلاد
وعَمرَت بكثيرٍ من الغرباء. وأمَّا المادة
الثامنة فإنها تُقوِّي كلَّ إنسانٍ على أن يُظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله
مما لا يضُر غيره، فيعلم الإنسان سائرَ ما في نفسِ صاحبه، خصوصًا الورقات اليومية
المسماة بالجُرنالات والكازيطات، الأولى جمع جرنال والثانية جمع كازيطة؛ فإن
الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المُتجدِّدة سواءٌ كانت داخلية وخارجية؛ أي داخل
المملكة أو خارجها، وإن كان قد يُوجد فيها من الكذب ما لا يُحصى إلا أنها قد تتضمن
أخبارًا تتشوَّف نفسُ الإنسان إلى العلم بها. على أنها ربما تضمَّنَت مسائلَ علميةً
جديدة التحقيق أو تنبيهاتٍ مفيدة أو نصايحَ نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو
الحقير؛ لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحتقر
الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرَّة لا تُستهان لهَوان
غوَّاصها.
وقال الشاعر:
لمَّا سمعتُ به سمعتُ بواحدٍ
ورأيتُه فإذا هو الثقلانِ
فوجدتُ كلَّ الصيد في جوف الفِرا
ولقيتُ كلَّ الناس في إنسانِ
ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلًا عظيمًا أو رديئًا، وكان من الأمور المهمة،
كتبه أهل الجرنال ليكون معلومًا للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيِّب، ويرتدع
صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسان كتب مظلمته في هذه
الورقات فيطَّلع عليها الخاص والعام فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدولٍ عما
وقع فيها ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويُحكم فيها بحسب القوانين المُقرَّرة،
فيكون مثل هذا الأمر عبرةً لمن يعتبر. وأمَّا المادة التاسعة فإنها عين العدل
والإنصاف، وهي واجبة لضبط جَورِ الأقوياء على الضعفاء، وتعقيبها بما في العاشرة من
باب اللياقة الظاهرة. وفي المادة الخامسة عشرة نكتةٌ لطيفة وهي أن تدبير أمر
المُعامَلات لثلاثة مراتب: المرتبة الأُولى الملك مع وزرائه، والثانية مرتبة
البيريه المحابية للملك، والثالثة مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية
والمحابون عنهم حتى لا تُظلم من أحد، وحيثما كانت رسلُ العمالات قائمةً مقام الرعية
ومتكلمةً على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمةٌ نفسها، وعلى كلِّ حال فهي مانعةٌ
للظلم عن نفسها وهي آمنة منه بالكلِّية. ولا يخفى عليك حكمةُ باقي المواد.
(٣) ثورة السنة ١٨٣٠ في ذكر التغييرات التي حصلت ما
ترتَّب عليها من الفتنة
وقد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة
الثامنة، أنه لا يُمنع إنسان في فرنسا من أن يُظهر رأيه ويطبعه، بشرطِ ألا يضُر ما
في القوانين، فإن أضرَّ به أُزيل؛ فما كانت سنة ١٨٣٠ وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر
منها النهي عن أن يُظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه أو يطبعه بشروطٍ معيَّنة خصوصًا
الكازيطات اليومية؛ فإنه لا بد في طبعها من أن يطَّلع عليها أحدٌ من طرف الدولة فلا
يظهر منها إلا ما يُريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده فكان لا يمكنه عمله
إلا بقانون، والقانون لا يُصنَع إلا باجتماع آراءٍ ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل
ديوانَي المشورة، يعني: ديوان البيريه وديوان رسل العمالات؛ فصنع وحده ما لا
يُنفَّذ إلا إذا كان صنعه مع غيره. وغيَّر أيضًا في هذه الأوامر شيئًا في مجمع
اختيار رسل العمالات يعني في الذين يختارون رسل العمالات ليبعثوها في باريس، وفتَح
ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا بعد اجتماعهم كما فعله
في المرة السابقة، وهذا كلُّه على خلافِ القوانين. ثم إن الملك لما أظهر هذه
الأوامر كأنه أحسَّ في نفسه بحصول مخالفةٍ فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساءَ
مشهورِين بأنهم أعداءٌ للحرية التي هي مقصدُ رعية الفرنساوية. وقد ظهرت هذه الأوامر
بغتةً حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مُستعدِّين لها. وبمجرد حصول هذه الأوامر
قال غالب العارفِين بالسياسات إنه يحصل في المدينة محنةٌ عظيمة يترتب عليها ما
يترتب كما قال الشاعر:
أرى بين الرمادِ وميضَ جَمرٍ
ويُوشِك أن يكون له اضطرامُ
فإن النارَ بالعيدانِ تذكو
وإن الحربَ أوَّلها الكلامُ
ففي مساء اليوم الذي ظَهرَت فيه هذه الأوامر في الكازيطات، أخذ الناس في الحركة
بقرب المحل المسمى باليروايال، يعني السراية السلطانية التي سكنها عيلة أقارب الملك
المسماة عيلة أرليان التي الملِك الآن منها، وهذا الوقت ظهر الغم على وجوه الناس.
وكان هذا اليوم السادس والعشرين في شهر يوليو، وفي اليوم السابع والعشرين لم يظهر
غالبُ كازيطات الحرية لعدم رضائها بالشروط؛ فلذلك بَلغَت
الأوامر جميع الناس وحَصلَت حركةٌ عظيمة بعدم
ظهور الكازيطات التي من عادتها أنها لا تفتُر عن الظهور إلا لمهمٍّ عظيمٍ. فأُغلقت
الورشات والمعامل والفبريقات والمدارس، فظهر بعض كازيطات الحرية آمرةً بعصيان الملك
والخروج من طاعته ومُعدِّدةً لمساويه، وفُرِّقت على الناس من غير مقابل. وبهذه
الديار، بل وفي غيرها قد يبلغ الكلام حيث تقصُر السهام، خصوصًا مادة الخطابات فإنها
قوية، وخصوصًا بلاغة الإنشاء فلها مدخلةٌ عظيمة كما قيل: إن ينزل الوحي على قوم بعد
الأنبياء نزل على بلغاء الكُتَّاب، خصوصًا إذا كان ما يُذكَر في تلك اليوميات
مقبولًا عند العامة ومقصودًا عند الخاصة، فإن هذا هو عين البلاغة الصحيحة؛ فإنها
(أي البلاغة) ما فهِمَته العامة ورضِيَت به الخاصة، فلما سمع بذلك ولاة الحسبة
٥ حضروا في المحالِّ العامة ومنعوا الناس من قراءة هذه الكازيطات وحاصروا
مطابعها، وهمُّوا بكسر آلات الطباعة، وكسروا بعضها، وحبَسوا من اتهموه من
الطبَّاعين، وبهدلوا كثيرًا، مما أظهر شيئًا مخالفًا لترتيب الملك من الرعية. وهذا
أيضًا مما قوَّى غضب الفرنساوية فكتب أرباب هذه الكازيطات — يعني رؤساء الفرنساوية
الذين هم يكتبون فيها آراءهم — ورقةَ إنكارٍ وأشهروها وعدَّدوا نسخها ولصَقُوها
بجدران المدينة وأمروا فيها الرعية بالحرب وعيَّنوا محله. وكان الميعاد في درب
سراية باليروايال، فازدحم فيه كثيرٌ من الأمم وفيما حوله من الحارات، فكانت العساكر
السلطانية تحاول تفريق هذه الزحمات، فعظُم دويُّ الرعية وكثُرت أصواتهم وظهر غضبهم
في سائر الدروب والحارات، فهجم العسكر على الرعية والتحم القتال بين الفريقَين؛
فكانت الرعية تقاتل أولًا بالأحجار والعساكر بالسيوف وآلات الحرب، فكثُر القتال
وعظُمت المطاردة من الجانبَين. ثم بحث الرعية عن آلات الحرب، وظهر صوت البارود من
الجانبَين في مدينة باريس، فكأنما لسان حال الفرنساوية الذي هو أصدق من لسان مقالهم
جعل يقول: إن بني عمِّكَ فيهم رِماح. فعظُم القتال وكان أكثر المقتول من الرعية،
فاشتد غَضبُهم وعَرضُوا القتلى في المحالِّ العامة لتحريضِ الناسِ على القتال
وإظهار عيوب العساكر. وقامت أنفُس الناس على مَلكِهم لاعتقادهم أنه أمر بالقتال؛
فما مررتَ بهذا الوقت بِحارةٍ إلا وسمعتَ فيها: السلاح! السلاح! أدام الله الشرطة،
وأهلك شدة الملك! فمن هذا الوقت كثُر سفك الدماء، وأخذت الرعية الأسلحة من السيوفية
بشراءٍ أو غصب، وأغلبُ العَمَلة والصنائعية خصوصًا الطبَّاعين هجموا على القرقولات
وخانات العساكر وأخذوا منها السلاح والبارود وقتلوا مَن فيها مِن العساكر. وخلع
الناس صورةَ علامةِ الملك من الحوانيت والمحال العامة — وعلامة ملك الفرنسيس هي
صورة زهر الزنبق، كما أن علامة ملك الإسلام صورةُ هلال، وملك الموسقوبية صورة عُقاب
— وكسروا قناديل الحارات، وقلعوا بلاط المدينة وجمعوه في السكك المطروقة حتى يتعذر
مشي الفرسان عليه، ونهبوا جبخانات البارود السلطانية، فلما اشتد الأمر وعلم الملك
بذلك، وهو خارج، أمر بجعل المدينة محاصرةً حكمًا وجعل قائد العسكر أميرًا من أعداء
الفرنساوية مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهبِ الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة
والرياسة؛ فقد دلَّهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر
أمارات العفو والسماح فإن عفو الملك أبقى للمُلك، ولَما ولَّى على عساكره إلا جماعة
عقلاء أحبابًا له وللرعية غيرَ مبغوضِين ولا أعداء، ولكن أراد هلاك رعاياه حيث
أنزلهم بمنزلة أعدائه، مع أن استصلاح العدُوِّ أحزم من استهلاكه، ويحسُن قولُ
بعضهم:
عليك بالحِلم وبالحباءِ
والرفق بالمُذنِب والإغضاءِ
إن لم تُقل عثرةُ من يُقالُ
يُوشِكُ أن تُصيبَكَ الجهَّالُ
فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده، وبنظير ما نواه لأضداده؛ فلو أنعم في إعطاء
الحرية لفرقةٍ بهذه الصفة حَرية، لَما وقع في مثل هذه الحَيرة ونزل عن كرسيه في هذه
المحنة الأخيرة، سيما وقد عَهِد الفرنساوية بصفة الحرية وألِفوها واعتادوا عليها
وصارت عندهم من الصفات النفسية، وما أحسنَ قولَ الشاعر:
وللناسِ عاداتٌ وقد ألِفوا بها
لها سننٌ يرعَونها وفروضُ
فمن لم يُعاشِرْهم على العُرف بينهم
فذاك ثقيلٌ عندهم وبغيضُ
وفي اليوم الثامن والعشرين أخذت الرعية من يد العساكر محلًّا يُسمَّى دار المدينة
الذي هو محل شيخِ مدينةِ باريس؛ فعند ذلك ظهر الخفر الجنسي،
٦ يعني ورديان الرعية وهم عساكرُ كانت سابقًا تخفر الأهالي، كما كان
للملك عساكر ورديان تخفره وقد كان عزلهم الملك شارل العاشر، فلما وقعت الفتنة ظهروا
ليُمانعوا عن الرعية فأَشهَروا أسلحتهم للقتال وطَردوا سائر العساكرِ من محلِّهِم
وحرقوا كثيرًا منها. وفي هذه الأوقات ارتَفعَت المحاكم وصار الحاكم هو الرعية ولم
يكن للدولة عمل شيء؛ فقد بَذلَت ما عندها من القوة لإخماد ذلك وتسكينه فلم تقدر
عليه فكانت جميع القوَّاصة متحركة والطبجية معيَّنة لاثنَي عشر ألفًا من الورديان
السلطاني وستة آلاف من عساكر الصف؛ فكانت جُملة العساكر السلطانية ثمانية عشر ألفَ
نفسٍ غير الطبجية والقوَّاصة. وكان من يحمل السلاح من الرعية أقلَّ من هذا العدد،
ولكن من لا يحمل السلاح يُحارب بالأحجار ويُعين المُتسلِّح. وبعد أخذِ دار المدينة
وسلبِ مدفعٍ من العساكر الحربية ظهر انهزام سائر العساكر السلطانية بالبلدة، ثم
ذهبوا إلى محل يقال له لوفر، وإلى قصر التولري وهو سراية الملك، ووقع الحرب فيما
بين العساكر وأهل البلد. وبينما هم في الحرابة بهذا المحل إذ انتشر البيرق المثلث
الألوان الذي هو علامة الحرية على الكنائس والهياكل العامة، ودقَّت النواقيس
الكبيرة لإعلام سائر الناس داخل وخارج باريس من أهل المدينة أو غيرها بطلبِ حمل
السلاح منهم للاستعانة على العساكر، فلما رأت العساكر أن النصرة للرعية وأن ضرب
السلاح على أهل بلادهم وأقاربهم عليهم امتنع أغلبهم وعزل كثير من رؤسائهم نفسه من
منصبه. وفي اليوم التاسع والعشرين في الصباح مَلكَت أهل البلدة ثلاثة أرباع
المدينة، ووقع أيضًا في أيديهم قصر التولري واللوفر فملكوهما ونشروا عليهما بيرق
الحرية، فلمَّا سمع بذلك صاري عسكر المأمور بإدخال أهل باريس في طاعة السلطان رجع،
فكان هذا تمام نصرة أهل البلد، حتى إن العساكر دخلت تحت بيرق الرعية. ومن هذا الوقت
نُصِّب حكمٌ وقتي وديوانٌ موقت لنَظمِ البلاد حتى ينحط الرأي على توليةِ حاكمٍ
دائم. وكان رئيس هذا الحكم الموقت صاري العسكر المسمى لفييته وهو الذي قاتل في
الفتنة الأُولى للحرية أيضًا. وهذا الرجل شهير بأنه يحب الحرية ويحابي عنها،
ويُعظَّم مثل الملوك بسبب اتصافه بهذا الوصف وكونه على حالةٍ واحدة ومذهبٍ واحد في
البوليتيكية، وليس صاحب قريحة مستخرجًا للعلوم من حيز العدم كغالب رجال الفرنساوية
ومشاهيرهم خصوصًا في العلوم العسكرية، ولكن أعظم الناس مقامًا لا قريحةً وفهمًا،
وليس المراد القدح في معرفته، بل في انتهاء الرياسة إليه. ومما يُشاهَد في سائر
بلاد الدنيا أن التصدُّر ليس دائمًا على قدْر المعرفة وإن كانت المعرفة موجبة له
بالشرع والطبع، ومن الغريب أن مثل هذا الأمر يقع
أيضًا في البلاد الحسنة التمدُّن. وأظن أن هذا كلَّه مصداق الحديث الشريف الذي هو:
ذكاء المرء محسوبٌ عليه من رزقه. وكما قال الشاعر:
إذا أبصرتَ ذا فضلٍ فقيرًا
فلا تعجب لِفقرٍ في يدَيه
فقد قال النبيُّ مقالَ صدقٍ
ذكاءُ المرء محسوبٌ عليه
وأما أحسنَ قولَ الشاعر:
ولو أن السحاب هَمَى بعقلٍ
لَما أَروَى مع النخل القَتادَا
ولو أَعطى على قدْر المعالي
سَقَى الهضباتِ واجتنبَ الوِهادَا
(من كتاب «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»)