فرنسيس فتح الله المرَّاش (١٨٣٦–١٨٧٣)
(١) بحثٌ في الحرية
بينما كان الفيلسوف مواصلًا خطابه، كان الملك والملكة شاخصَين فيه بأعينٍ يُخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبَين معانيه بكلِّ اتِّضاعٍ ودعة. وغِبَّ نهايةِ مقالته جَعلَت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكانِ وجودِ حريةٍ للإنسان بل ولا لسائر الأنواع، وأن جميع الأشياء لكونها مرتبطةً بخدمة بعضها البعض فهي مقيَّدة أيضًا بعبوديةِ بعضها البعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبةً عن الفائدة أو مضرةً لصالح الأمور فالاجتهاد بإبطالها ضربٌ من اللزوم وقانونٌ صوابي؛ وبناءً على ذلك عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طُرقٍ مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخُل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالًا ضدَّها وسطَونا عليها سطوةَ إسكندر على داريوس وسجنَّاهم كما علِمْت.
أمَّا حصول الشخص على لذة الحياة معتوقةً من كلِّ حاكم وصافيةً من كلِّ مُكدِّر، فهو أمرٌ لا يمكنه البتة ولو تطبَّع على تتبُّع تلك النواميس التي ذكرتُها والتي تصعُب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصوُّر حسَب كلِّ الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبُّع لا ينقلب طبعًا، وما كان هكذا فهو غيرُ لذيذٍ عند الطبيعة وبعيدٌ عن السهولة. وإذا أمكن الإنسان السلوكُ كما أشرتُ فلا يكون ذلك إلا لمن وسَمَته العناية بسمة الانفراد، وهذا شاذٌّ وليس حُكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كلِّ حال إن الإنسان إذا كان متعبِّدًا لأحكام دولة التمدُّن والصلاح، يكون داخلًا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية. على أنه إذا كان ذلك التعبُّد لازمًا، فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يُدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقًا من رقِّ تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلًا في عبوديةٍ ضدَّها تبعًا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يُفسِد أحوال البشر وينثُر عظام جمعيتهم نازعًا عنهم كلَّ الصفات الحميدة والسلوك السليم، وذلك هو الأمر الذي لا يُوجد أضرُّ منه لمملكة التمدُّن والصلاح، وجب علينا دفعًا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمحُ آثارها لم تقُم حرية الإنسان المطلوبة أصلًا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما ردَّدتَ الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلًا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية. ولا شك أنَّا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصَّرنا بشرائع الحكمة نُعاين أقوامًا أحرارًا وآخرِين عبيدًا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كلِّ حال إن الاجتهاد في عِتق العبيد وهَدم مباني العبودية هو أمرٌ ضروريٌّ وواجب.
فطرح الملك أنظاره على الفيلسوف وقال: إذن مشروعنا في محاربة مملكة العبودية واستنقاذِ شعوبنا من قيودِها لا يستحق الملام.
– كلا، بل هو حسن وواجب يا أيها الملك المعظَّم؛ لأن الاستعباد مكروهٌ عقلًا وطبعًا، وقد نهض العالم بأَسْره ضد هذه العادة المستهجَنة وما سواها فحاربوا مَن ظَلم واعتدى وأعدُّوا له سلاسلَ وأغلالًا.
(٢) حالة الصلح العام
إن أَهمَّ دواعي السياسة وأَعظمَ بواعثها هو النظر الدائم إلى الصالح العام وتَواصُل السهر عليه؛ بحيث مهما أتقَنتِ السياسة نظامها وأَحكمَته ولم تلتفِت إلى هذا الصلح أو تغافلَت عنه فلا تُعتبر إلا كمساعدٍ على نثر عِقد الهيئة الاجتماعية الذي لا يمكن دوامُه منظومًا ما لم تكن الملاحظة السياسية عاصمةً له؛ إذ إن إهمال ما يُسبِّب العمار هو تسبيبٌ لوقوع الخراب، وهذه الملاحظة تنحصر جميعها في توقيعِ ما يئول نفعه إلى العامة إجمالًا وأفرادًا ودفعِ ما يفضي إلى الضرر.
وذلك يستريح على خمسة أركان، وهي: تمهيد سبل العلوم، وتسهيل طرائق التجارة، وتقوية وسائط الصنائع والأشغال، ومساعدة الزراعة والفلاحة، وقطع أسباب التعدِّي.
- أمَّا الركن الأول: الذي يُناط بتمهيد سبل العلوم فهو يتضمن المساعدة على تشييد المدارس وتسهيل الدخول فيها لأجل كلِّ من يرغب، وترقية الناجحِين بالدراسة على قَدْر الاستحقاق.
- وأمَّا الركن الثاني: الذي يلاحظ تسهيل طرائق التجارة فهو يتوقف أولًا: على تقريبِ أبعاد الأسفار بواسطة إصلاح الطرقات. ثانيًا: على إزالة مخاوف ومعاثر الطريق وإيقاع الأمان والسهولة. ثالثًا: على وضع حدودٍ ونظاماتٍ تجري على كلِّ أرباب هذه الحرفة بحيث لا يمكن أحدًا تجاوزها. رابعًا، وهو الأخير: على منع كلِّ الصعوبات التي يمكنها صَدمُ تقدُّم التجارة وإبطال كلِّ عائقٍ لِسَيْرها.
- والركن الثالث: الذي يخص تقوية وسائط الصنائع والأشغال فهو يتأسس أولًا: على إثارةِ هِممِ ذوي الاختراعات بتعظيمِ جوائزهم ورفعِ شأنهم وتثبيتِ ما به يمكنهم اقتطافُ ثمراتِ أتعابهم. ثانيًا: على توسيعِ دوائر الأدوات الصناعية وتضييقِ مساحة التلَف والمصاريف. ثالثًا: على رفعِ كلِّ ما يُوقف الخطواتِ عن الهجوم إلى معاناة الأشغال. أخيرًا: على المساعدة في تكثير المعامل وتسهيل مجراها.
- وأمَّا الركن الرابع: الذي يتعلق بمساعدة الزراعة والفلاحة فهو يقوم برفع الجَورِ عن الفلاحة وفتحِ الطريق للزارع، وتعجيلِ خطواتِ الحصاد ومنع حشر العشار واحتشاد الخزان، وبملاشاة كلِّ موانع البذار وتسديد جميع مطاليب الأرض.
- وأمَّا الركن الخامس: الذي يشمل رفع أسباب التعدي، فهو يستوي على ثلاث قضايا فقط وهي: حماية المتاع، وصيانة الإعمار، ووقاية الأرواح.
(٣) حالة الاستواء
إن أعظم المقوِّمات لصحة السياسة وإقامة الحق هو مجرى شرائعها متساويةً على كل أبنائها بدون أدنى امتيازٍ بين الأشخاص أو تفريقٍ بين الأحوال؛ فلا يجب الأخذ بيد الكبير ودفع الصغير، ولا الالتفات إلى الغني والإعراض عن الفقير، ولا مؤازرة القوي ومواراة الضعيف، بل يجب معاملة الجميع على حدٍّ سواء كيلا يقع خللٌ في نظام الحق؛ لأن كلَّ فئة من الناس لها منزلةٌ في طريق السياسة تستدعي النظر إليها؛ فكما أن العظماء والأغنياء هم القوة الواصلة، كذلك الصغار والفقراء هم الآلة الموصلة؛ فلولا يد الصغير لم يطُل ساعد الكبير، ولولا تعبُ ذوي الفاقة لم تسهل متاجر أرباب الغنى ولم تُحرس أموالهم ولم تُقمْ قصورهم العالية وسرادقهم المشيدة. لعل ذلك الغني عندما يأتي من محلِّ ملاهيه ومراسحه إلى مسكنه الوسيع، ويضَّجع على فراشه المصنوع من ريش النعام، وينظر إلى رقوش حجرته ونقوشها، لا يُفكِّر في ذاك المسكين، الذي بعد أن يكِدَّ ويكدَح طول النهار مُقاسيًا حرَّ صيفه ومُتكبدًا بردَ شتائه لأجل تشييد ذاك المسكن وتنميق تلك الحجرة، يذهب إلى كوخه الحقير ويأكل خُبزته اليابسة مع أولاده العُراة الجائعِين ثم يضَّجع على طراحته المتخرِّقة تحت لحاف الإعياء والوصَب؛ فهل كلُّ هذا التبايُن لا يكفيه حتى يرغب إيقاعه أيضًا في موقف الحق الذي يستوي عنده الجميع؟ وهل يسوغُ لأرباب السياسة أن يقبلوا وقوع هذا التبايُن ويُجحفوا بذلك المسكين الذي بدونه لا تصل قوَّتهم إلى مواقعها فلا يخافوا من وثوب التسعة والتسعين وفرطِ عِقد الجمعية؟ ولماذا يُوجد حقٌّ لأصوات الأغنياء فترنُّ في قاعات السياسة، ولا يُوجد هذا الحق لأصوات بقية الشعب الذين هم الجانب الأكبر والأهم والذين بواسطتهم تقوم سطوة الممالك وقوات الملوك وعليهم يتوقف مدار السياسات؟ فلا شك أنَّ لسان السياسة نفسه ينادي بوجوبِ حالة الاستواء ويصرُخ ضد الضد.
(٤) تثقيف العقل
إنه إذا فُحص الجوهر الإنساني من حيث فطرته الأُولى وأصله الطبيعي إنما يُشاهَد لامعًا بكلِّ الصفات الساذجة والخصال البسيطة حسبما يتبين ذلك من كلِّ إنسانٍ يتربى منفردًا عن ازدحامات عالم المخالطة. ولمَّا كان عِظَم لطافة هذا الجوهر وشدة احتياجه إلى وقاية نفسه سببًا فعَّالًا لقبوله التأثُّر بكلِّ صورة تلوح له، والتخلُّق بكلِّ سمةٍ يُحافِظ بها على ذاته، كان انضمامُه في سلك الجمعية إذ ذاك موجبًا لانطباع صور الحوادث الاجتماعية والوقائع الأدبية على ستائرِ قلبه وتطبُّعه بأخلاقٍ وطباعٍ بها يمكنه أن يُعارك ويُزاحم أمواج العالم البشري ويعيش تحت لواء حوادثه.
غير أن كثرة تقلُّبات الأحوال والأجيال تأدَّت به إلى أن يفقد كلَّ أطوار تلك الفطرة الأُولى ويصير من أَشرِّ المخلوقات وأَوحشِها؛ ومن ثَمَّ لم يعُد الإنسان قادرًا على الدخول في دائرة التمدُّن الذي يطلب سذاجةَ الصفات وسلامةَ الطباع إلا إذا كان متزينًا بتثقيف العقل الذي يُعتبر كآلةٍ عظيمة بها يمكن لكلٍّ من البشر أن يسترجع إلى طبيعته ما أفقدَها التوحُّش.
ولا يتم هذا التثقيف إلا بالتروُّض في العلوم والفنون ودراسة المعارف الطبيعية والأدبية. ومن المعلوم أن العلم يخلق في الإنسان قلبًا نقيًّا وروحًا مستقيمةً ويجعله ظافرًا بكلِّ الصفات الصافية ونافرًا عن كلِّ ما يَشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلًا إلى التفكُّر في الأمور الدنيَّة والأميال المنحرفة، وهو الأمر الذي تُشتق منه كلُّ أفعال الشر وعليه تُبنى كلُّ دعائم التوحُّش؛ فكيف يُفكِّر الإنسان مثلًا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرًا به إلى أعالي الأجرام السماوية حيثما يرى ألوفَ ألوفٍ وربواتِ ربواتٍ من النجوم التي هي شموسٌ هائلة الحجم وكلٌّ منها جالس على عرش الفضاء ثابتٌ في مركزه وتدور حوله كواكبُ سيَّارةٌ مختلفة الأبعاد والأشكال، وجميع ذلك له من السمو والعظمة ما يخبر بعظم أعمال الله؟ وكيف يأخذ بذهنه الهتكُ بالقريب بينما تكون الطبيعة هاتكةً له أسرارَها ومبديةً لديه غوامضها، فإذا نظر إلى الأرض يراها تدعوه إلى تمييزِ تراكيبِ طبقاتها وتعديدِ مفرداتِ عناصرها ومعرفةِ نسبة كلٍّ من موادِّها إلى غيره، وإذا تأمَّل في الحيوان يراه باسطًا أنواعه لدى حكمه وطالبًا منه فصل كلٍّ عن الآخر، وإذا لحظ النباتات يراها كأنها تدعوه إلى معاينةِ عجائبِ نموها وماهيةِ جوهرها وكيفيةِ تغذيتها وعمليةِ إنتاجها وتأثيرِ خاصياتها وكأنها تُكلِّفه إحصاءَ كلٍّ من أنواعها وتحديدَه تكليفًا فوق وسعه؟
وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مُقدِّمةً له مشكلاتها وطارحةً عليه مسائل غوامضها؛ فما ينتهي من معرفة صفات عنصرٍ منها وإدراك نسبة اتحاده بغيره وكيفية قوامه إلا ويبرز لديه عنصرٌ آخر ويدعوه إلى تفنيده، فيذهب خابطًا في عُباب المشكلات حيثما يقابله مولِّد الحوامض بإيقاده وإنارته، ويطارحه مولِّد الماء برشاقته ولهيبه، ويُناقشه حامل الأنوار بلمعانه وإضاءته، ويُدهِشه الذهب بثباته وثقله، وتُذهِله الفضة بوضاءتها ونقاوتها، ويلطمه الحديد بكثافته وصدئه، ويُحيِّره الزئبق بفراره ونفاره؟
وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حينما تكون الجغرافية سارحةً به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة وغرائب الحوادث؛ فتارةً تطير به إلى قمم الجبال العالية فيرى ما بها من الأودية العميقة والسلاسل المستطيلة والينابيع الجارية فيفكِّر فيما سبَّب المرتفعات وما أحدث المنخفضات وما جمع المياه، وأحيانًا تمر به على السهول الواسعة والبُحر الشاسعة والأنهار المُتدفِّقة فيقف متفكرًا فيما جمَّد اليابسة وجمع السوائل إلى مكانٍ واحدٍ، وأوقاتًا تسبح به في الأقاليم والأقطار فيستوقفه اختلاف العرض والطول في ميدان التأمُّل لتبايُن المناخات والأهوية، وطورًا تترحَّل به إلى بلادٍ لا عدد لها وأماكنَ لا تُحصى وجميعها تختلف باختلاف المواقع والوقائع، فيقف متحيرًا بما تحويه الأرض من الأمم والقبائل المختلفة بالمذاهب والمشارب والهيئات، ومندهشًا لِما يراه من أحوال البلدان والسياسات والشرائع، وممعنًا فيما يعانيه من الصنائع المتنوعة والأشكال والتجارات المتشكلة الأحوال؟ وهكذا يطوف به هذا العلم إلى أقاصي العالم بدون أن يترك له سبيلًا للجولان في عالم المآثم وهو جالس على وسادته غير مبارحٍ صديقًا ولا مفارقٍ حبيبًا.
وكيف لا يبدِّل الأعمال الرديئة بالصالحة عندما يكشف له التاريخ حُجب الأجيال الغابرة ويُطلعه على كثيرِين من البشر الذين كانت أعمالهم سببًا لأحوالهم إنْ رديئةً فرديئة أو صالحةً فصالحة؟ ويَظهَر له كثيرٌ من الناس الذين بواسطة سموِّ أفعالهم قد بلغوا أسمى المراتب وأعلى المنازل، وكَمْ وكَمْ مِن الناس الذين بواسطة دناءة أفعالهم قد هبطوا إلى الحضيض، لا بل يظهر له أن كثيرًا من الممالك العظيمة القوة والراسخة الأركان قد أفضت بها قبائحُ السلوك إلى الاضمحلال والملاشاة، وكثيرًا من الولايات الصغيرة قد آلت بها قوة الأطوار الحميدة إلى الاتساع والامتداد ورَفعَتها إلى سماء المجد والكرامة. وخاصةً يظهر له أن أفعال الخشونة والتوحُّش ليس كانت تُبدِّد الممالك وتستأصل الملوك فقط، بل كانت أيضًا تُشتِّت العباد وتهدم البلاد مهما كانت حصينة وغنية. أفلا يشعر بحركةٍ غامضة في أعماق قلبه تدعوه إلى احتقار العظمات الإنسانية والفخفخات الكاذبة الخالية وتَجذِبه إلى الاتصاف بالصفات السليمة والتخلُّق بالأخلاق الحميدة وذلك حينما تمتطي تأمُّلاته السرية خيولَ التاريخ وتجري في برِّية سوريا مثلًا حيثما يشاهد أن عظمة ذلك الإقليم القديم العهد والكريم التربة والأصل قد استحالت بفعل الأجيال الخشنة إلى دمارٍ مهولٍ حيث لا يرى سوى خراباتٍ تُلقي الكآبة على الأبصار وعدد قليل من الشعوب المفتقرة، بدل تلك العظمات السابقة والمجد الزاهر والغنى الوافر. أفلا يطرق تأسُّفًا إذ يرى صور مدينة الفينيقيِّين التي كانت مركز تجارة العالم ومحط رحال الآمال وقد صارت نسيًا منسيًّا ولم يبقَ فيها سوى شباك الصيادِين؟ أفلا يرتعد لدى سطوة الحدثان حينما يرى أورشليم، مدينة داود ومحل عظمة سليمان، قد أصبحت قريةً لا يُذكر منها سوى المحلات التي لم تحفظها سوى يد القداسة؟ أفلا يضطرب مخافةً من بوائق الزمان عندما يرى أنطاكية مدينة الله العظمى ذات الأسوار العالية والحصون المنيعة قد أضحت رمةً مُضَّجِعة في قبر الوبال؟ أفلا يرتجف لدى هيبة الأيام إذ يرى مدينة تَدْمُر التي هي مبنية بالصُّفَّاح والعمد قد صارت أطلالًا دارسةً ورسومًا باليةً حتى لا يشاهد فيها سوى عواميدَ هابطة وعضايد ساقطة وهياكل مهدومة؟ أفلا يهجس كربًا إذ يعاين أن منبج ذات الصيت الرنَّان قد غدت كالسمك الذي لا صوت له؟ أفلا يقف مُتحيرًا عندما يصعد على رأس سمعان ويرى أن جميع ما كان يحويه من المدن العظيمة والقرى الخصبة والمزارع الناضرة والأديرة العامرة والكنائس الرحبة قد صارت خرابًا تامًّا ودمارًا لا مزيد عليه بحيث لم يبقَ سوى بعضِ رسومٍ وأشكال؟ وبعد هذا أفلا تسحقه صواعق الاشمئزاز عندما يتأكد أن جميع هذا الخراب هو نتيجة الجهل والتوحُّش؟ فبالإجمال نقول: إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروِّض الأكبر لجماح الطبائع، والسبب الأهمُّ لتشييد التمدُّن والعَمار؛ إذ هو يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرةً على مستحقرات الأشياء، ويرسم في مرآة ذهنه صُور الكائنات الدقيقة فلا يعود هاذيًا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه توقُّداتُ الحسد بنظره إلى زوال المحسودات، ويطرُد من صدره ضواغطَ الطمع بإدراكه حقيقةَ المطموعات، وتتلاشى من روحه بقية الأطوار المُنتِنة الرجسة الخراب كالقساوة التي غرَّقت مراكب مصر، والالتطاخ الذي هدم قصور آثور، والتغفُّل الذي كسف شمس فارس، والطمع الذي كسر صولجان مكدونية، والضغينة التي مزَّقت أحشاء فلسطين، والكبرياء التي ثلَّت عرش الروم، والخيانة التي قلبت ممالك الرومانيِّين، والبُغض الذي شتَّت شمل لبنان وزعزع أركان دمشق، ثم تنمو به الصفات الداعية إلى جلالة العَمار كالشجاعة والنباهة والمحبة والاتضاع والدعة والإحسان والوفاء والأمنية؛ إذ يعود خبيرًا بغوائل تلك الأطوار الصالحة، وعليمًا بنتائج هذه الصفات الصالحة.
فبدون تثقيف العقل إذن لا يُعَدُّ الإنسانُ إلا مع البهائمِ التي لا عقلَ لها، ولا يمكن أن يُدعى متمدِّنًا قط.
(٥) أطلقوا الأموال من عقالها
لا يُوجد ما يستحق نهوض العالم ضد نظيره البخل؛ لأنه يجتهد على الدوام أن يحتشد أرزاق البشر ويحشر قوت العباد احتشادًا وحشرًا يُوجبان خلل النظام العام واستعباد الأنام.
وهاك قائد البخل منتصبًا لدينا تجاه الكرم وهو قابضٌ بيدَيه على ساعدِ دولاب المعاملات ومساعد قيام الحياة، فلنوجِّه خطابنا إليه قائلين:
ها قد نهضت المسكونة عليك يا أيها الروح الخبيث قائد البخل والشح، وها جميع الناس يقذفونك باللعنات والمسبَّات؛ فأنت مستوجبٌ أن يُحكم عليك بالخذل والرذل بدون تردُّد لأنك تود أن ينغلق كلُّ باب لتقدُّم الخلائق وتنفتح كلُّ سبل التقهقُر، فتخزن الأموال ولا تدع لها منفذًا. أمَا تعلم أن العطاء ينهج طرق الخير ويسند أخاك الجائع؟ وتكنز الدنانير والدراهم في أعماق الصناديق حذرًا من أن يلامسها الهواء ويمسها الضياء، أمَا تدري أن الدراهم قد صارت الآن محورًا لمدار عالم المعاطاة، وأن حجزها يُضيِّق دائرة العلاقات البشرية ويعيق تبادل المعاملات؟ وتطرد كلَّ سائلٍ ومحتاج ولو على فِلْس، وتميل عن كل عملٍ كريمٍ أو سمةٍ تقتضي بذل الورِق، أمَا تعرِف أن العضد الأعظم لترتيب حياتك يُؤخذ من مثل السائلِين والمحتاجِين؟ فهم يبنون دارك وحانوتك، وهم ينسجون ثوبك ورداءك، وهم يُجهِّزون كل أدوات طعامك وشرابك، وهم يتسارعون إليك من كلِّ الجهات ليحرسوك من وثبات المختلس وهجمات العدو، وهم يمدون أيديهم ليرفعوك لئلا تعثر رِجلك بحجر، وإذا انتشبَت حريقةٌ في منزلك ألقَوا أرواحهم لينقذوك وأولادك ويحموا أمتعتك، فلماذا تدوس في أعناقهم إذا انطرحوا تحت قدمَيك يطلُبون إسعافًا؟ ولماذا تُعرض عنهم وتشتمهم إذا مدُّوا أيديهم إليك ليطلبوا سداد رمقهم، حتى إذا أمكن للإلحاح أن يقتلع من فولاذِ يدك بارةً واحدة استشعرتَ بألم اقتلاع الضرس، ولماذا تعصي الأمر بإشباع الجائع وستر العريان؟ أمَا تخشى وقوعك في ثورتَي الدنيا والآخرة؟ وكم تهجس على مضجعك في أمر التوفير وتتصل به إلى حسابات وكمياتٍ تفوق طور الإدراك مرتقيًا في سلسلة التضعيف والضرب حيث تقول في ضميرك: إنني من الغد سأشرع في تنقيص كمية اللحم والبقول والزيوت وفي إجهاد الأولاد في تتميم الأعمال الخدمية استغناءً بهم عن الخدم، ولم أزل أُنقص مقدار الطعام وأُعوِّد الأولاد على الخدمة حتى نصير أخيرًا قابلِين أن نعيش على النَّزْر من الخبز والقليل من الجبن والزعتر وقادرِين على قضاء كل الأعمال الشاقة، وبهذا العمل يمكنني أن أجمع كلَّ مالِ العالم لأن درهمًا ودرهمًا درهمان، ودرهمان ودرهمان أربعة دراهم، وأربعة دراهم في أربعة دراهم ستة عشر درهمًا، و١٦ × ١٦ = ٢٥٦، و٢٥٦ × ٢٥٦ = ٦٥٥٣٦. وهكذا ترتقي من المضروب إلى المضروب فيه إلى أن تبلغ الحاصل الأعلى حيثما لا يُوجد رقم ولا يجري قلم؛ وحينئذٍ تأخذ نفسًا وتقول: ها أنا مزمع أن أملك العالم بأَسْره وأُوقِف كلَّ دواليب الأشغال وأجعل الناس عبيدًا لي. ثم ستفعل هكذا يا هذا البخيل ولكن بعد ألوفٍ من السنين إذا لم تمُت بداء التكميل، فليعش رأسك الكريم ولينجح مقصدك العظيم. ولا عتب عليكَ إذا فكرتَ في نفسك هكذا لأنك تُرافق القمر في مشروعه؛ فكما أن هذا الجِرم يخال أنه سيُوقف دوران الأرض بعد عددٍ من ألوفٍ من السنين لا يُحصى، وذلك بتأخير جاذبيته لحركتها ستِّ ثوانٍ في كلِّ جيل، هكذا تخال أنت أيضًا أنكَ ستُوقف حركة الأشغال بجذبك كلَّ الأموال من أيدي الناس وتعود منفردًا بالسطوة والغنى بعد العمر الطويل.
فلا عتَب على العالم إذ أثار عليك الفتن يا قائد البخل، وارتفعت أصواته ضدك، وتبادرَت قواته إلى الفتك بك؛ لأنك أنت العدو المبين له ولكلِّ صوالحه، وأنت المُصِرُّ على هتك ستار هيئته واستعباد قلوب أبنائه بحشرك أهمَّ أدوات مداره. ومع كلِّ هذا فلا بأس من ترْك ظُفرٍ لك في جسد التمدُّن لتكون مانعًا لهجوم التبذير الكثير النصر، ولكن يجب أن تكون ملحوقًا بأوامر الكرم لكي تُحصل الرتبة المطلوبة ما بين التبذير والبخل.