الهروب
بحلول نهاية فبراير/شباط، كانت الغواصة نوتيلوس تتحرك في مياه المحيط الأطلنطي في سلاسة، قطعنا ما يقرب من عشرة آلاف فرسخ في ثلاثة شهور ونصف. وهذه المسافة أكبر من الدائرة الكبيرة لكوكب الأرض! لكن إلى أين نتجه الآن؟ لقد أنهينا توًا جولتنا في البحر المتوسط. كان بحرًا رائعًا لدراساتي، والآن عدنا إلى سطح الأمواج، مما وفر لي مجددًا بهجة السير اليومي على سطح الغواصة.
شعر نيد بالانزعاج لأننا لن نملك فرصة الهرب من الغواصة، كانت فكرة الحرية هي ما يشغل باله دائمًا.
«أعرف أنك غاضب يا صديقي أنك لن تتمكن من تنفيذ خطتك، لكن محاولة مغادرة الغواصة نوتيلوس في هذه الحرارة كان سيودي بحياتنا.»
لم يجيبني نيد، كان متجهمًا.
قلت: «لننتظر ونرى، أنا لم أفقد الأمل بعد، سنكون على مقربة من فرنسا وإنجلترا خلال الأسابيع القادمة، وسنتمكن من العثور على المساعدة هناك بسهولة.»
حدق نيد إليّ: «سنغادر الليلة.»
شهقت من الصدمة، لم أكن مستعدًا لما قاله، حاولت أن أجيبه لكنني تلعثمت وتشوشت الأفكار في ذهني.
استطرد نيد: «نحن اتفقنا على الانتظار حتى الوقت المناسب، والوقت المناسب قد حان، سنكون الليلة على بعد بضعة أميال فقط من ساحل إسبانيا، والجو ملبد بالغيوم، ستهب الرياح بقوة، لقد وعدتني وأنا اعتمد عليك.»
التزمت الصمت وأنا لا أعرف ماذا أقول.
قال: «الليلة الساعة التاسعة، لقد أخبرت كونسيل بالفعل، سيكون القبطان نيمو في حجرته في ذلك الوقت، ولن يتمكن طاقم السفينة من رؤيتنا، سنسلك أنا وكونسيل طريق السلم الرئيسي، عليك المكوث في المكتبة في انتظار إشارتنا، والمركب جاهز، كل شيء مجهز لمغادرتنا الليلة.»
«لكن البحر مضطرب.»
قال نيد: «ربما، لكن علينا المخاطرة، نحن نريد أن ننال حريتنا! إلى جانب أن المركب متين، والسير بضعة أميال في وجود رياح عاتية تحملنا ليس مشكلة كبيرة. إذن الوداع حتى الليل.»
وبهذه الكلمات غادر نيد، جلست هناك أتساءل كيف سنتمكن من هذا الأمر، بإمكاني الذهاب إلى القبطان نيمو وإطلاعه على الخطة، لكن حينئذ سأغير المستقبل لصديقيّ، فهما يتحرقان شوقًا إلى نيل حريتهما، كنت مرتبكًا، شعرت بنزول الغواصة أسفل أمواج المحيط الأطلنطي أثناء ترتيب أفكاري. لم أستطع التقرير بين نيل الحرية ومغادرة الغواصة نوتيلوس.
مرت ساعات مروعة! أتصور أحيانًا وصولنا إلى الشاطئ في أمان وقد نلنا حريتنا، وأحيانًا أخرى أتصور حدوث شيء يمنعنا من المغادرة، وبدلًا من الشعور بالإحباط كما سيشعر أصدقائي، أشعر بالبهجة.
ذهبت إلى الصالون مرتين، أردت فحص البوصلة، أردت معرفة هل تتجه الغواصة نوتيلوس إلى الساحل أم تتجه بعيدًا. كانت الغواصة تسلك مسارًا من شأنه إنجاح خطة نيد، لم أكن مضطرًا حقًّا للتحضير للمغادرة، فكانت ملاحظاتي كل ما أملك.
بدأت في التفكير في القبطان نيمو، كيف سيشعر حيال هروبنا؟ لم أملك سببًا للأسف عليه، فمع كل هذا، قد أرغمنا على المكوث هنا ضد رغبتنا، ومع ذلك تساءلت هل سيشعر بالانزعاج من ذلك.
لم أر القبطان منذ عدة أيام، هل ستتسنى لي الفرصة لرؤيته قبل مغادرتنا؟ تمنيت ذلك وفي نفس الوقت لم أرد ذلك. انتظرت، كان أطول يوم في حياتي، بدأ صبري ينفد.
قُدم لي العشاء في حجرتي كالعادة، تناولت القليل من الطعام فلم أكن أشعر بالجوع، تركت الطاولة حوالي الساعة السابعة، يفصلني الآن مائة وعشرين دقيقة بيني وبين لحظة انضمامي لصديقيّ للرحيل. تسارعت نبضات قلبي بقوة، كان شعور الذعر يزداد داخلي كل دقيقة.
أردت رؤية الصالون للمرة الأخيرة، ذهبت إلى الطابق السفلي إلى المتحف حيث أمضيت وقتًا كبيرًا رائعًا، نظرت إلى كل ما يضمه من ثروات وكنوز، كان من الصعب على رجل مثلي ترك كل هذا وراءه.
أثناء مروري بالصالون، اقتربت من باب غرفة القبطان نيمو، ومن دواعي دهشتي كان الباب مفتوحًا، تراجعت للخلف سريعًا، إذا كان القبطان في غرفته يمكن أن يراني، لكنني لم أسمع أي شيء، فاقتربت، كانت الحجرة فارغة، فتحت الباب وخطوت بضع خطوات للأمام.
فجأة دقت الساعة الثامنة، وقعت عيناي على البوصلة، كنا لا نزال نتجه نحو الشمال، كانت السرعة عادية وكنا على عمق ستين قدمًا تقريبًا.
عدت إلى غرفتي وارتديت ملابس تبعث على الدفء، ارتديت حذاء البحر، وغطاء رأس مصنوع من جلد ثعلب الماء، ومعطفًا مبطنًا بجلد الفقمة، أصبحت جاهزًا وانتظرت.
وفي تمام الساعة التاسعة وبضع دقائق، وضعت أذني عند باب حجرة القبطان، لم أسمع أي ضجيج، عدت إلى الصالون الذي كان فارغًا.
فتحت الباب المتصل بحجرة المكتبة، كل شيء هادئ هناك أيضًا. وقفت عند الباب المؤدي إلى السلم الرئيسي وانتظرت إشارة نيد.
وفي تلك اللحظة، توقفت حركة الغواصة. هذا يعني أننا نقف فوق قاع المحيط، ازداد شعوري بالقلق، تمنيت أن أعثر على نيد وأخبره أن يؤجل الهروب.
انفتح باب الصالون ودخل القبطان نيمو، رأني وقال: «ها أنت ذا يا سيدي! كنت أبحث عنك، هل تعرف تاريخ إسبانيا؟»
لم أستطع الإجابة من فرط الشعور بالتوتر.
سأل القبطان نيمو مجددًا: «هل سمعت سؤالي، هل تعلم تاريخ إسبانيا؟»
قلت: «إلى حد ما.»
بدء القبطان نيمو حديثه: «إذن اجلس وسأخبرك بقصة غريبة.»
استمعت إلى القبطان وهو يبدأ سرد قصته، بدأت القصة في عام ١٧٠٢، كنت أعلم معظم التاريخ الذي كان يقصه علي، لكنني ما زلت لا أفهم المغزى من القصة هذه.
«لذا في ٢٢ أكتوبر/تشرين الأول، وصلت السفن الإنجليزية خليج فيجو، قاتل الأميرال شاتو-رينو بشجاعة، لكنه علم أن الثروات التي يملكها قد تقع في يد العدو، لذا أحرق كل السفن التي تحمل الكنوز، فغرقت في أعماق المحيط.»
وعند هذه النقطة وقف القبطان وأمرني باتباعه، كان الصالون مظلمًا لكن الأمواج تتلألأ خارج النافذة الزجاجية، تفحصتها بعيني.
بدت المياه على بعد نصف ميل من الغواصة نوتيلوس تتلألأ، كان القاع الرملي نظيفًا ولامعًا، بعض أفراد الطاقم كانوا يزيلون الحقائب المهشمة للوصول إلى الكنوز. والكنوز التي عثروا عليها كانت أجمل مما يمكن أن يصفه الكلام، كانت هناك حقائب ضخمة تحوي ذهبًا وفضة، وكومات من المجوهرات، امتلأت الرمال بهذه الكنوز، التقط الرجال قدر استطاعتهم، وحملوها إلى الغواصة، ووضعوها بالداخل، ثم خرجوا لجلب المزيد.
فهمت الآن، كان هذا مشهد معركة ٢٢ أكتوبر/تشرين الأول ١٧٠٢. في هذه البقعة تمامًا غرقت السفن المليئة بالكنوز التابعة للحكومة الإسبانية، وهي الآن مكان اختباء القبطان نيمو. فالبنك الخاص به هو أكثر بقعة أمانًا يستطيع الإنسان حفظ كنوزه بها على وجه الأرض.
سأل القبطان مبتسمًا: «هل كنت تعلم أن البحر يحوي مثل هذه الجواهر الثمينة؟»
أجبت: «أجل، لكنني لم أعرف قدرها، وبالتأكيد لم أعرف مكانها.»
«إذا حاولت أي دولة المجيء للاستيلاء على هذه الثروات من قاع المحيط، فسيكون أمرًا سخيفًا، فسوف تنفق من المال لجلبها قدرًا أكبر مما ستحصل عليه في النهاية. لكن باستطاعتي الاستحواذ على هذه الكنوز بسهولة، لقد عثرت عليها ليس في خليج فيجو فحسب، لكن في آلاف البقاع الأخرى حيث غرقت السفن.» بدا القبطان نيمو سعيدًا للغاية بنفسه. «لكن ماذا عن الرجال الذين يحاولون خوض المغامرة وحدهم ولا يحصلون على شيء؟ فكر في المال الذي سينفقونه، وهم لا يدرون أنك أخذت هذه الكنوز بالفعل! هل هذا عدل حقًّا لهم؟»
لم ألبث أن أنهيت كلامي حتى أدركت أنني جرحت مشاعر القبطان.
«هل تعتقد أنه من الظلم حصولي على هذه الثروات؟ كيف لك أن تعرف أنني لن أستغلها على أحسن وجه؟ هل تعتقد أنني لا أعرف حقًّا أن هناك أشخاصًا في العالم يشعرون بالبرد والجوع؟»
توقف القبطان نيمو عن الحديث بعد هذه الجملة الأخيرة، لعله شعر بالاستياء للغاية تجاه ما قلته. لكنني خمنت أنه أيًّا كان السبب الذي يجعله يرغب في مشاركة ثروته يجعل منه رجلًا لا يزال قلبه ينبض لمعاناة الناس. فهمت الآن الأشخاص المقصودين بهذه الكنوز عندما كانت تبحر الغواصة في مياه جزيرة كريت. وأثناء إبحارنا حول العالم، أعطى القبطان العظيم الكنوز إلى الفقراء والجوعى. ساعد المحتاجين حول العالم، فالرجل الذي اعتقدت أنه يكره البشر كان أحد أكثر الناس عطفًا في العالم، وقلب القبطان الطيب هو كنز أيضًا.
رفضت عرض القبطان بالخروج مع أفراد الطاقم. بدلًا من ذلك، راقبت من النافذة الرجال وهم يتعاملون مع كنوز كثيرة أكثر مما توقعت وجوده يومًا. انتابني شعور بالراحة وأنا أتخيل الأشخاص الذين ساعدتهم كنوز البحر هذه على البقاء.