القطب الجنوبي
في حوالي الساعة الثامنة صباحًا يوم السادس عشر من مارس/آذار، دخلت النوتيلوس دائرة القطب الجنوبي، أحاط بنا الجليد من كل جانب. يعجز لساني عن وصف جمال الطبيعة الذي شاهدته، تكون الجليد في أشكال مثيرة للدهشة، وبين الحين والآخر كنت أشعر بالذعر ظنًّا مني أننا احتجزنا بين قلاع الجليد. لكن القبطان نيمو دائمًا يكتشف سبيلًا للخروج. مع ذلك، في هذا اليوم سد الجليد طريقنا بالفعل، لم يكن الجبل الجليدي نفسه، بل كانت منطقة باردة لم تسمح بعبورنا، مع ذلك لم يتوقف القبطان نيمو، بل استمر في دفع الغواصة أمام الجبل الجليدي، كانت كرات الثلج تتطاير في الهواء، شعرت وكأن وابلًا من الجليد يمطر حولنا، لكن كتلة الجليد لم تتحرك.
كنت بسطح الغواصة تلك الليلة، كان القبطان نيمو يفكر في موقفنا بعض الوقت عندما قال لي: «أجل، سيد آروناكس ما رأيك في هذا؟»
«أعتقد أننا عالقون يا قبطان.»
سألني القبطان متطلعًا لإجابة صادقة: «إذن، أتعتقد حقًّا يا سيد آروناكس أن النوتيلوس لن تستطيع التحرك؟»
قلت: «ربما تتمكن من التحرك، لكن بصعوبة كبيرة.»
أجاب القبطان: «بصورة شخصية، أعتقد أن الغواصة بإمكانها الخروج من هنا، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك.»
سألت وأنا أتطلع إلى القبطان: «أبعد نحو الجنوب؟»
«أجل يا سيدي، فسوف نذهب إلى القطب الجنوبي.»
سألت وأنا أبدو كطفل متحمس: «إلى القطب الجنوبي؟»
أجاب القبطان بعدم اكتراث: «أجل، سنذهب إلى القطب الجنوبي.»
أخذتني حماسة الحديث، صحت: «هيا لننطلق! لا شيء سيقف في طريقنا! هيا بنا لنحطم الجبل الجليدي! دعنا ننسفه، وإن لم ينجح ذلك، فسنضع للغواصة أجنحة لتحلق فوقه!»
قال القبطان نيمو في هدوء: «ليس فوقه يا سيدي! ليس فوقه، بل أسفله!»
صحت: «أسفله»، وفهمت ماذا يقصد.
قال القبطان نيمو مبتسمًا: «أرى أننا بدأنا نفكر بالطريقة نفسها، لقد بدأت ترى الاحتمالات، فالأشياء التي تعد مستحيلة للسفن العادية يسهل على النوتيلوس القيام بها.»
ناقشنا خلال الدقائق التالية المشكلات التي يمكن أن تواجهنا في الساعات القادمة.
قال القبطان نيمو: «إن المشكلة الكبيرة الوحيدة التي أراها هي وجودنا أسفل الجبل الجليدي لأيام دون الصعود لأعلى للحصول على الهواء.» بالطبع هذه مشكلة حياة أو موت، تحتاج إلى تخطيط دقيق. لكن مع دقات الساعة الرابعة هذه الظهيرة، دعا القبطان نيمو إلى إغلاق السطح. ألقيت نظرة أخيرة على الجبل الجليدي الضخم الذي سنجتازه.
جلسنا ننظر خلف النافذة فترة من الليل، كان البحر مُضاءً بالمصابيح الكهربية، لكن ليس هناك حياة بحرية، تحركت الغواصة بسرعة. وبحلول الساعة الثانية صباحًا، ذهبت إلى النوم.
في صباح اليوم التالي، التاسع عشر من مارس/آذار، ذهبت إلى الصالون لتفقد العمل خلال الساعات الماضية. أظهرت الأجهزة انخفاض سرعتنا كثيرًا، كنا نتحرك في اتجاه السطح. بدأ قلبي يخفق بسرعة، شعرت بهزة بالغواصة تبينت منها أن النوتيلوس قد اصطدمت بقاع الجبل الجليدي. لا يزال هناك ثلاثة آلاف قدم من الجليد أعلانا.
حاولت النوتيلوس التقدم مرارًا وتكرارًا عدة مرات خلال اليوم لكن لم تقترب حتى من اختراق تلك الكتلة الجليدية.
حان وقت الشعور بالقلق حيال الأكسجين الموجود بالغواصة، إذ كان يجب إعادة ملء مخزوننا من الهواء منذ أربع ساعات ماضية، لم أشعر بمعاناة كبيرة، لكن القبطان نيمو ليس لديه أي خطة عن الوقت المحدد لاستخدام الأكسجين الاحتياطي الذي خزنه بالغواصة.
لم أنعم بنوم هانئ تلك الليلة، كان جسدي يتمايل ويتحرك بعنف، استيقظت عدة مرات. وفي منتصف الليل، لاحظت أن الغواصة كانت أسفل الجبل الجليدي بخمسين قدمًا فقط. تفقدت الأجهزة التي أظهرت أننا نصعد نحو سطح المحيط. تمكنا من رؤية وميض الشمس الذي تخلل الجليد قبل أن نصعد بالفعل إلى سطح المحيط. يا له من مشهد يسر الأنظار! وفي الساعة السادسة في الصباح ظهر القبطان نيمو عند الباب.
لم يقل سوى: «البحر مفتوح!»
اندفعت نحو السطح، يا إلهي! البحر اللامتناهي، مرصع بقطع متناثرة من الثلج وجبال جليدية متحركة، رقعة مديدة من البحر، أعداد غفيرة من الطيور تحلق في السماء والأسماك من كل لون تحت المياه. انطلقنا سريعًا خلف الجبل الجليدي الذي كنا محتجزين وراءه.
سألت القبطان وقلبي يخفق: «هل وصلنا إلى القطب؟»
أجاب القبطان: «لا أدري، عند الظهيرة سأحصل على القياسات من الشمس.»
قلت: «لكن هل تعتقد أن الشمس ستظهر بين هذا الضباب؟»
أجاب القبطان: «سيكون كل شيء على ما يرام.»
بحلول الساعة العاشرة صباحًا، كنا مستعدين لزيارة الجزيرة. أخذنا قارب تجديف إلى الشاطئ، كان كونسيل سيقفز إلى اليابسة حين منعته.
قلت للقبطان نيمو: «سيدي، أنت الأجدر بأن تكون أول من يضع قدمه فوق الجزيرة.»
قال القبطان: «أجل،» رأينا أنه يحب الاهتمام، حدق إلى الجزيرة وكأنه لم يراها من قبل. «حتى هذا الوقت، لم تطأ قدم إنسان فوق القطب الجنوبي.»
قفز بخفة فوق الرمال. تسلق صخرة، وأخذ يحملق إلى الجزيرة. بدا كأنه ملك عاد إلى مملكته الآن. وبعد مرور خمس دقائق، استدار أخيرًا إلينا ودعانا إلى الجزيرة.
ترجلنا من السفينة لننضم إليه، كنت متلهفًا لاستكشاف الجزيرة! لم أعلم من أين أبدأ. أخذتني قدمي إلى حيث شاءت، كانت التربة التي كنت أسير فوقها تربة رملية حمراء، خلفها البركان، لم تكن هناك نباتات كثيرة في هذه المنطقة، كان أغلبها أجزاء بالغة الصغر قذفتها أمواج البحر. ومن ناحية الحيوانات، كان هناك بعض أنواع من بلح البحر الصغير وفراش البحر والرخويات. بل الشيء الأكثر إثارة الذي لاحظته، النموذج الرائع للحياة في السماء، آلاف الطيور التي ترفرف وتحلق، كانت أصواتها عالية للغاية لم نتمكن من سماع سواها، تجمعت طيور أخرى فوق الصخور، تنظر إلينا أثناء مرورنا بها. كانت تقفز أمام أقدامنا دونما خوف، وهناك بطاريق تسبح برشاقة في المياه مع حركتها الغريبة على اليابسة. كانت تطلق صيحات عالية، شاهدنا تحليق الطيور وسباحتها وسيرها حولنا. وقفت في ذهول وأنا أحاول تذكر هذه الطيور من كتب أنواع الطيور العديدة التي قرأتها. تذكرت طيور الكيونيز وطائر القطرس وطائر النوء. كان من الصعب تصديق أنني أرى هذه المخلوقات في الواقع، مما أتاح لي دراستها عن قرب.
لم أصدق إمكانية حدوث شيء مخيب للآمال ذلك اليوم، لكنه حدث بالفعل. لم ينقشع الضباب ولم تظهر الشمس، وبالتالي لم نتمكن من التأكد من أننا بالقطب الجنوبي بالفعل، بل والأسوأ من ذلك، تحول الضباب الأبيض إلى ثلوج.
قال القبطان نيمو في هدوء: «لنعد غدًا.»
عدنا إلى الغواصة بمشاعر مختلطة. شعرنا بالفرحة لرؤيتنا هذه الأشياء المذهلة، لكن في نفس الوقت شعرنا بحزن أننا لم نتوصل إلى الحقيقة.
استمر سقوط الجليد إلى اليوم التالي، كان من المستحيل الصعود إلى سطح الغواصة، تمكنت من سماع صياح الطيور وسط العاصفة من خلف النافذة التي جلست عندها لأكتب ملاحظاتي. لم تظل النوتيلوس ثابتة، لكنها سارت بمحاذاة الساحل مسافة عشرة أميال تقريبًا.
وبحلول اليوم التالي، الموافق ٢٠ مارس/آذار، توقف هطول الثلج. كان الجو إلى حد ما أكثر برودة، أظهر الترمومتر أن درجة الحرارة تبلغ اثنين، كان الضباب ينقشع، إذن هناك أمل في شروق الشمس، لم يكن القبطان نيمو موجودًا، لذا استقللت أنا وكونسيل قاربًا إلى الجزيرة. لم يختلف ملمس الرمال منذ رحلتنا الأخيرة، لكن انضم إلى الطيور الآن جماعات ضخمة من الثديات البحرية، نظرت إلينا بعيونها الجميلة، كان هناك أنواع عديدة من حيوان الفقمة، بعضها تمدد على الأرض وبعضها فوق الجليد، والعديد منها يدخل ويخرج من المياه. لم تبتعد الفقمة عن المياه رغم اقترابنا، شعرت بالدهشة، إذ إنها لم تر بشرًا من قبل.
أمضيت أنا وكونسيل الساعات الثلاثة التالية في دراسة ومراقبة تلك الحيوانات. يا لها من متعة! أخذت أستمع إليها وأراقبها وألعب معها وأتحسسها … كان بإمكاني قضاء أيام مع هذه الحيوانات الفضولية.
قررت العودة إلى الغواصة في تمام الساعة العاشرة لأرى هل تمكن القبطان نيمو من معرفة موقعنا في هذه الظروف. سلكنا طريقًا آخر عائدين إلى نقطة البداية، عاد القارب إلى الغواصة، رأيته يقف فوق الغواصة ويتطلع إلى السماء، سنحتاج إلى أعلى نقطة ممكنة لنحصل على قراءات بالأجهزة.
ذهبت أنا والقبطان بمفردنا لتفقد الأجهزة، تسلقنا المنحدر الوعر على مدى ساعتين لنصل إلى أعلى نقطة. نصب القبطان أدواته وركز بصره نحو الشمس.
صحت: «إنها الساعة الثانية عشرة.» حبسنا أنفاسنا أثناء عمل الأجهزة.
أجاب القبطان في جدية: «إنه القطب الجنوبي!»
نظرت إلى الرجل الذي حاول باجتهاد العثور على هذه الأرض. في تلك اللحظة، قال القبطان نيمو واضعًا يده فوق كتفي: «أنا القبطان نيمو في يوم الواحد والعشرين من مارس/آذار عام ١٨٦٨، وصلت إلى القطب الجنوبي. أعلن سيطرتي على هذا الجزء من الكرة الأرضية، الذي يعادل سدس القارات المعروفة.»
«باسم من يا قبطان؟»
«باسمي، يا سيدي!»
نشر القبطان نيمو علمًا أسود حُفر به من الذهب حرف «ن».
وأثناء وضعنا للعلم في الأرض المكسوة بالجليد، رأينا الشمس تبدأ في الغروب خلف البحر المفتوح. فقد بدأت ستة أشهر من الظلام تلقي بظلالها على أرض القبطان نيمو الجديدة.