مقبرة آمنة
وصلنا إلى منتصف الرحلة الآن، كنا نتجه نحو المحيط الهندي، كانت النوتيلوس تتحرك ببطء وبسلاسة، تساءلت إلى أين سيأخذنا القبطان العظيم في محطتنا التالية، علمت أنه كان يدرس درجات حرارة المياه الآن، فقد أتاحت له هذه الغواصة الرائعة التجريب بما لم يُتح لعالم قبله، فقد تمكن من الحصول على عينات من المياه في أعماق لم يصل إليها رجل قبله.
وفي صباح أحد الأيام، كان الجو عاصفًا مما تسبب في اضطراب واهتياج البحر. كانت هناك رياح شرقية قوية، ذهبت إلى أعلى السطح لرؤية الأفق، وعندما فعلت ذلك، قابلت القبطان نيمو.
ظل بضع دقائق لم يتحرك، كان ينظر خلال عدسة تليسكوب إلى شيء بعيد، وضع التليسكوب وسار إلى الجهة الأخرى من السطح وهو لا يلحظ وجودي. استمر في الوقوف لمشاهدة البحر، لم أستطع تخمين ما يدور بخلده. كانت النوتيلوس على بعد مئات الأميال من أقرب جزيرة.
قررت أن أنظر بنفسي، ذهبت إلى الصالون وأحضرت تليسكوبًا استخدمته بانتظام، لم ألبث أن وضعت عيناي للتحديق في التليسكوب حتى انتزعه أحد من بين يدي.
نظرت حولي، كان القبطان نيمو يقف أمامي، لكنني تعرفت عليه بالكاد، كان يبدو مختلفًا للغاية، فكانت عيناه تنفجران غضبًا، وأسنانه مطبقة وجسده متيبس كان يقبض يديه وهو منتفخ الصدر، لم يتحرك، وتدحرج التليسكوب الذي سقط من بين يديه بين قدميه.
ماذا فعلت لأجعله يستشيط غضبًا هكذا؟ كلا، لم أكن أنا سبب انزعاجه، كانت عيناه لا تزالان تحدقان بالأفق، تحدث إليّ، لم تكن كلماته مفهومة تمامًا.
قال: «لا بد أن تفعل ما اتفقنا عليه.»
نظرت إليه باستغراب، مما جعله يعرف أنني لا أفهم أيًّا مما يقوله.
«لا بد أن تمكث أنت ورفيقيك في حجراتكم حتى أخبركم بغير ذلك.» كانت كلماته قوية، لم يكن في مزاج يسمح بالنقاش.
أجبت: «أنت الربان، لكن هل لي بسؤال؟»
قال: «لا.»
مشيت بعيدًا وأنا متيقن من أنه لا طائل من الجدال، شعر صديقيّ بالحيرة مثلي، انتظرنا في صمت بإحدى الحجرات، وبدلًا من البحث عن إجابات تناولنا الفطور، بعد انتهائنا من الفطور بالضبط انطفأ المصباح الذي كان ينير الغرفة وعم الظلام من حولنا، سرعان ما نام نيد وكونسيل. ورغم محاولاتي المضنية للبقاء مستيقظًا، أغلقت عينيَّ وغلبني النعاس. لا بد من أنه وُضع شيء ما في الطعام ليجعلنا ننام.
استيقظت في اليوم التالي بذهن صافٍ، أبحرت السفينة وكأن شيئًا لم يكن، ربما لم يحدث شيء بالفعل.
التقيت بالقبطان في حوالي الساعة الثانية، كنت في الصالون، أرتب ملاحظاتي عندما فتح الباب.
سألني على حين غرة: «هل أنت طبيب؟»
قلت: «أجل، عملت طبيبًا وجراحًا عدة سنوات.»
«سيد آروناكس، هل يمكن أن تأتي لفحص أحد رجالي؟» بدا القبطان منزعجًا.
سألته: «هل هو مريض؟»
«أجل، اتبعني.»
لحقت بالقبطان إلى سطح السفينة ثم إلى حجرة داخل قسم البحارة من السفينة، وفوق سرير رقد رجل يبلغ من العمر أربعين عامًا تقريبًا. لم يكن مريضًا فحسب، بل كان مصابًا أيضًا. كان رأسه مغطى بضمادات غير مثبتة. قمت بحل الضمادات، كان جرحًا عميقًا للغاية، لم أكن أشك في أن الرجل سيموت.
سألت: «ما سبب الجرح؟» كنت أحاول تخيل القوى التي تسببت في هذا النوع من الضرر لبحار.
تجاهل القبطان نيمو سؤالي: «كيف حاله؟»
أطلقت تنهيدة، ثم أخذت القبطان جانبًا لأحدثه على انفراد: «سيموت في غضون ساعتين.»
سأل القبطان: «لكن ما الذي يمكننا فعله لإنقاذه؟» كانت عيناه تتوسلان للمساعدة.
أجبته على مضض: «ليس هناك شيء يا سيدي، لا شيء.»
راقبتُ عيني القبطان نيمو وهما تمتلئان بالدمع، لم أكن أعتقد أن بمقدوره الشعور بالأسف.
لامس القبطان نيمو الرجل برفق وظهرت الدموع في عينه. وللحظات وقفت أراقب الرجل المحتضر. رقد الرجل المريض دون حراك، لكن القبطان كان أكثر شخص أثار اهتمامي، كان يتذبذب بين الاقتراب من البكاء إلى الصلابة التي ذكرتني بأن الرجال لا يبكون عادة. لاحظت ازدياد انزعاجه كثيرًا لوجودي في المحيط، في النهاية أعتقد أنه أدرك أنه ليس لديّ ما أقدمه.
قال القبطان: «بإمكانك المغادرة الآن يا سيد آروناكس.»
تركت الرجلين وحدهما وأنا أشعر بالأسف على كل منهما، لازم البحار المحتضر أفكاري طوال الليل.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى منصة ربان السفينة، كان القبطان نيمو هناك قبلي، وحالما رآني، جاء مسرعًا نحوي.
«بروفيسور، هل تحب التنزه اليوم؟»
سألته: «أنا وصديقيّ؟»
«لا بأس إذا أرادا ذلك.»
كنا مستعدين في غضون نصف ساعة، غادر القبطان نيمو بصحبة ستة أفراد من طاقم السفينة معنا. وقفت الغواصة في قاع البحر، سرنا على الأقدام على امتداد قاع البحر مدة ساعتين على الأقل، نشاهد خلالها الشعب المرجانية وجمال النباتات، كنا نسير فوق بساط من الزهور مرصع بأبهى آيات الجمال التي تحيط بنا من كل جانب.
توقف القبطان نيمو، وتوقفت أنا وصديقاي بدورنا ونظرنا حولنا، رأيت أفراد طاقم الغواصة يشكلون نصف دائرة حول القبطان، ثم شاهدت أربعة رجال يخرجون أداة طويلة لها شكل مستطيل.
ومع إشارة من القبطان، تقدم أحد الرجال وبدأ في شق حفرة باستخدام بلطة أخرجها من حزامه. فهمت الأمر كله بعد ذلك، كان يحفر مقبرة للرجل الذي توفي ليلًا! جاء القبطان ورجاله لدفن صاحبهم في هذا المقبرة العامة في قاع المحيط.
راقبت الرجال أثناء دفن الرجل وإقامة الصلوات عند قبره، عندما عدنا إلى الغواصة، تحدثت مع القبطان نيمو حول المراسم.
«إنه يرقد في سلام الآن بجانب أصدقائه، في مقبرة الشعب المرجانية؟»
أجاب القبطان: «أجل، لقد نسيه الجميع، لكننا لن ننساه.»
«الرجل يرقد في هدوء يا قبطان، على الأقل هو في مأمن من أسماك القرش.»
أجاب القبطان في جدية: «أجل يا سيدي، في مأمن من أسماك القرش والبشر.»