جوقَة النَّوَر
أما قصر ابنه الثالث، المير خليل، فمنتصب فوق القصر الأكبر كأنه حارس له.
وقف الأمير قاسم في بوابة قصره القائم على طرف الهلال الآخَر، يحدق إلى قصر والده العظيم، وفي صدره من نار الحنق والغيظ ما يحرق بلادًا.
نظر إلى القصر الأميري فخاله جدارًا واحدًا لا نافذة فيه، على كثرة شرفاته ونوافذه، وأبوابه وأروقته.
ولا عجب في ذلك؛ فغضب الأمير بشير إذا حمي يعمي ويصمُّ.
وأخيرًا صمَّم المير قاسم على أن يقتحم القصر؛ وليكن بعد ذلك ما شاء والده، ثم مشى على غير هدى وبلا وعي حتى دخل دار الكتبة.
دخلها كأنه كان في غيبوبة ولم يستَفِقْ منها إلا حين قال: يا معلم بطرس، الوالد لا يذكر إلا الساعة التي هو فيها … نسي «عامية لحفد» … فأول ثورة شعبية علينا كانت في بلاد جبيل. هذه البلاد نبع كل شر. وضعني والدي في أصعب مقاطعة ومع ذلك يلومني.
ولما نشفت الورقة نشرها المعلم بطرس على عيني المير قاسم وهو يقول: اقرأ يا سيدنا المير. الله يساعد والدك ويعينه. والدك لا يستريح دقيقة. للباشا كل يوم مطلب جديد. اليوم يطلب جزية فوق المال الأميري، وغدًا يطلب مالين وجزيتين. لا ندري كيف نوفِّق بين مطالب الباشا وطمعه، وبين رحمة الشعب ومصارفات الإمارة. أبوك ملك يا سيدنا المير. مصروف «الدار» كبير، فعلينا أن نساعده بدربتنا وحنكتنا.
فصاح المير قاسم: دائمًا تذكرون لي الدربة والحنكة كأني ولد طائش … رضا المتغضب صعب، وبلاد جبيل لا تحبنا لترضى وتنقاد وتعاون، بلاد تبغضنا، والبرهان هو أن أول ثورة علينا اشتعلت فيها، وعصابة الشدياق سركيس هي بنت تلك العامِّيَّة.
فقال المعلم: أَلَا تغضب؟
– لا، لا، قُلْ وهل أقدر أن أغضب؟ فأنتم من غير شيء تقولون إني أهوج، غير مرن.
– سمعتك تذكر عامِّيَّة لحفد مرتين. ومَن كان هناك حين ثار الأهالي؟
فأطرق الأمير قاسم، وأدرك أن المعلم بطرس يغمزه؛ لأنه هو الذي كان في لحفد يحصِّل المال الأميري حين أعلن الأهالي العصيان، غير أنه ما تلكأ بل أجاب. طيب، أنا الذي كنت في بلاد جبيل حين ثارت عامية لحفد، ولكن مَن كان في أنطلياس؟ عامية أنطلياس قبل عامية لحفد، رجال العاميتين هم هم … المرض في الكرسي لا في شراسة المير قاسم! ثم تمتم: الآباء يأكلون الحصرم …
فأتم المعلم بطرس: والأبناء يضرسون. ما لنا ونبش القبور، الآن خضعت البلاد طولًا وعرضًا، فكيف ترى بلاد جبيل؟ هل تغيَّرتْ؟
– أؤكد لك أنها تغيَّرتْ.
– والسبب؟
– السبب! الأحوال غيَّرتها. كانوا يظنون أن والدي يستعين على إخضاعهم بالدروز، وأنه مسيحي في الظاهر، أما بعد أن أخلص البطرك الحبيشي للوالد، فشعب بلاد جبيل المتعصب لمارونيته اعتقد أن المير من ملته …
– وما رأيك في عصابة الشدياق، أليست مارونية؟ أين هي اليوم؟ لا يطيب عيش الأمير إلا بعد أن يقتلعها من جذورها.
فهز المير قاسم كتفيه ومط شفتيه وقال: لا أعرف الحقيقة … ولكني أعرف أنها ليست في مقاطعتي، وهذا ثابت عندي.
فضحك المعلم بطرس ضحكة أغاظت المير قاسم، ولكنه ازدردها وانطوى عليها.
كان فصل الخطاب سعلة سعلها المير بشير، فهرول المعلم بطرس حاملًا إليه ما كتب ليوقِّعه سعادته.
فهرع المير قاسم ليسلِّم على والده، فالتقى به في باحة دار الحريم فقبَّل يده وانصرف.
لا سلام ولا كلام.
•••
كان من عادة المير، قبل «قطف الشرانق»، أن يزور قبر زوجته الأولى الست شمس، متذكرًا ما لها عليه من أفضال، فبمالها اشترى بتدين كلها، وبمالها توطدت له إمارة لبنان؛ ولهذا دفنها في طرف حديقة القصر، أقام لها قبرًا فخمًا، وعلى الطريقة الإسلامية، ولكن ليس على أسطوانيته شيء مما تعود المسلمون أن يحفروه من آيات كريمة.
ما وقف المير حيال القبر حتى تذكَّر ما دار بينه وبينها من حديث منذ عشرات السنين، حين ذهب من قبلُ عمه المير يوسف «ليصفي» مالها.
كان بعد الطعام يصب لها حتى تغسل يديها، وكان الماء سخنًا، فصاحت به مداعبة: حرقتني.
فأجاب المير بشير: وأنت حرقت قلبي …
وفي جلسة حبية عقبت ذلك العشاء السري، قالت له الكلمة التاريخية التي ينقلها لنا التقليد: فليكن أولها بشير وآخِرها بشير — مشيرة بذلك إلى اسم زوجها الأول.
تذكر المير تلك الكلمة حين وقف حيال قبرها، فصاح بمرارة وامتعاض: آه يا شمس! أولها بشير، وآخِرها ابنك قاسم … نسيت كم قلت لك إن ابنك هذا لا ينفع، وما كنت تصدقيني … قاسم يخلق المشكلة من غامض عين الله.
وطاب لسعادته أن يدخِّن أركيلة ويشرب قهوة، ولكن صدره انقبض إذ رأى الوادي حليقًا قد أرعيت فيه مناجل القز ففقد خضرته.
ذهبت تلك الخضرة طعامًا سائغًا لدودة القز.
ضحك الأمير واستبشر بسهولة الجباية وردِّ غضب الباشا. ترجى أن لا يزعج الفلاح بالمطالبة هذا العام، والأمير بشير في اعتنائه بعقاراته، كان مثلًا صالحًا للفلاح اللبناني.
وسمع من هؤلاء بائعًا ينادي: معنا حلاوة، راسين براس يا حلاوة. أيْ رطل حلاوة بإقَّة شرانق.
فقال الأمير في قلبه: مسكين الفلاح، جميع الناس تحتال على شرانقه … ما كان يذوق الحلاوة لولا الشرانق. يظل من الحول إلى الحول على التين، وهذا يوم الحلاوة … ولكن من أين، نحن وهو كما يقول المثل: نأكل حلاوته وأمه تقبره.
ولما وصل كفرنبرخ رأى تحت سنديانتها جوقة نوَر معهم دب وسعدان يرقصونهما، فما أبصروا الأمير وخيَّالته حتى جمدوا وسكتوا احترامًا وإجلالًا.
تهيَّبوا الموكب الأميري فبُهِتوا … ولم يقطِّب الأمير وجهه ولم يعقد حاجبيه، فأدرك المعلم بطرس أن حركات رقصهم، وطبلهم وزمرهم، وألعاب قردهم ودبهم تروق لصاحب السعادة، فغمز النوري الأكبر، فهبَّ ذاك مثل النسيم وصاح: على شان سعادته.
فانتفخت القربة في فم أحد رجال الجوقة، وانتفخ معها خدَّاه وبطنه، فضحكت الحاشية، وانبسط وجه الأمير.
أما السعدان فكان يأتي في الخفة ضروبًا، ويجيب عمَّا يطرح عليه من الأسئلة بنباهة وذكاء.
قال له صاحبه: أين قيمة سيدنا المير؟ فوضع يديه الثنتين على رأسه بكل تجلَّة واحترام، ولولا القليل أنشده قصيدة. وقالوا له: أين قيمة المعلم بطرس؟ فوضع يدًا واحدة على رأسه.
تعجَّب المعلم بطرس كيف يعرف شيخهم اسمه، ولكن الشك فارقه؛ لأنه يعلم أن أبناء الخالة — النوَر — يعرفون الأسماء …
وقدَّموا لقردهم طربوشًا صغيرًا ليلبسه على شان المير ففعل، وسألوه أن يلبسه على ذكر الجزار، فقذف به في الهواء نافرًا مشمئزًّا …
فارتاح المير إلى هذا الذكاء.
ثم ذكروا له اسم أحد مناصب الدولة بالبلاد الذي لم يحسن استقبال «جوقتهم» ولم يُعطِهم شيئًا، فأعلن السعدان نفوره وغضبه، فضربه مرقِّصه وقال له: حط يدك على راسك. فأبى السعدان وامتنع …
فتركه وسأله: أين قيمة فلان؟ — وهو من «مناصب البلاد» وقد توارى من وجههم وما أعطتهم داره شيئًا — فوضع السعدان يده على قفاه … فابتسم المير وقهقهت الخيَّالة والمعلم.
وذكروا للسعدان اسم رجل غير حائز على رضا المير، فرمى السعدان بالطربوش.
كان المير يضحك لكل هذا. ولما أبدى سعادته هذا السرور استأذنه زعيم الجوقة بالرقص، فرخص له، فأحدث منه أشكالًا وألوانًا.
كان يطلق رجليه في الهواء ويمشي على يديه، ثم ينام على الأرض ويرفع ساقيه طاويًا ركبتيه على خنجرين يكحل بهما عينيه.
وأخيرًا صعد أحدهم على سطح بيت وأدار وجهه نحو الأرض، ثم انحدر من فوق إلى تحت متمسكًا بالجدار بيديه وفخذيه، والأمير يزداد إعجابًا بهذه الرشاقة.
سمع الأمير، ولكنه لم يصدِّق كل ما قيل، غير أنه نوى في تلك الساعة أن يصرف نهاره تسلية، ولا بأس أن يكون مع النوَر.
وتقدَّم نفر من خيَّالة المير وسألهم عن «الكواشين» — جمع كوشان، وهو الوصل بالمال الذي يترتب على النوري أن يدفعه في البلاد التي يمر بها — فرأى معهم الوصولات المطلوبة موقَّعة من مأمور جبيل، أيْ مقاطعة المير قاسم. فقال لهم الخيَّال: إذن زرتم المير قاسم؟
فأجاب شيخ النوَر: ورقصنا له وأكرمنا … ثم التفت إلى السعدان وهز له الخناق صائحًا به: أين قيمة المير قاسم؟ فرفع السعدان يده إلى رأسه.
•••
وعاد الأمير إلى القصر عصر ذلك النهار طيب النفس، وقعد يتحدث في المساء مع المعلم بطرس والكتَّاب، فكان التعجب شاملًا مجلس الأمير.
تعجبوا جميعًا كيف يتعلم الحيوان ويعمل أحيانًا ما لا يستطيع أن يقوم به الإنسان العاقل أحيانًا. ثم جرى حديث السِّحْر وغيره من ضروب الشعوذة، فأخذ هذا يؤكد وذاك ينفي.
سُردت أخبار فيها الغرائب والعجائب حتى استطردوا إلى قصة الراهبة هندية التي كانوا يزعمون أنها كانت تركب تيسًا، وتذهب إلى الهند ليلًا وتعود في الصباح.
فضحك المير وقال: سموها هندية لأجل هذه الخرافة …
كنا في حمص شبابًا، وأردنا أن نكتشف قاتلًا، فلجأنا إلى صاحب المندل فأجاب طلبنا، وكانت الجلسة.
ألقى البخور في النار وغطى رأسه بكوفية بيضاء رقيقة جدًّا، ثم جاء بخاتم وكتب على ورقة ناصعة البياض بقلم غزار وحبر أسود أربع كلمات: «هاروت ماروت، يأجوج مأجوج». ثم كتب أيضًا هذا الدعاء الذي وضعه ضمن الخاتم: «أقسمت عليكم يا أولاد بيرواح الموكلين ببني آدم، بحق الاسم الأعظم الذي قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا. قالتا: أتينا طائعين. أجيبوا طلبي مسرعين. بحق النقش الذي على خاتم سليمان.» ثم أخذ يعزمم بما يأتي: «سقموش سقموش، الياخ الياخ، جاوب يا أحمر، وأنت يا أبيض. انزلوا في هذا المندل — وكان وضع طستًا أمامه فيه ماء — واكشفوا الحجاب بينكم وبين الناظرين. بحق سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وبالحق نزل إنه من سليمان. ائتوني مسلمين طائعين لأسماء رب العالمين. الوحا الوحا، العجل العجل.»
واستمر يتلو هذه التعزيمة نحو نصف ساعة أو أكثر، فاختفى اللون الأسود وحلَّ محله اللون الأبيض … ثم رأينا الرجل الذي طلبناه وعرفنا أين يقيم.
فقال بطرس كرامه: هل وصلتم إليه، وقبضتم عليه؟
فقال أمين الجندي: ما جرَّبنا ولا سعينا.
وكان الأمير قد عزم أن يطلب من شيخ النوَر الذي يدَّعي معرفة السحر أن يرشده إلى مقر الشدياق سركيس، فسمع كل هذه الأحاديث ببال طويل، ولما رأى أنهم لم يفيدوه شيئًا، كبَّ رماد غليونه، فانصرفوا.
ولما تمدَّد سعادته على فراشه، رأى — وهو بين الغافي والواعي — أنه في سهل طويل، أرضه حمراء كثيرة الحجال، وكان معه في الصيد ولده قاسم، فرمى أول مرة، ثم ثنَّى وثلَّث فلم يُصِبْ شيئًا. فقال له المير: هات جفتك، مَن يقول إنك ابن الأمير بشير؟
وتناول الجفت ورمى فأصاب الحجل، ولكن الحجل لم يَمُتْ بل سقط إلى الأرض وكرج نحو المير واختبأ تحت ذيل عباءته.
تعجب المير من ذلك، فصاح بالحاشية: القطوه، امسكوه! ففر الحجل فرة، فإذا به في حضن الأمير.
وانتفض الأمير، فإذا بهذا الحجل يستحيل أفعى، فخاف منها ولكنه أسرع فقبض عليها، فكانت القبضة على عنقها.
وما بلغ الأمير في حلمه هذه الغاية حتى رأى في نومه أيضًا أنه يفسر هذا الحلم فيقول: الحية امرأة، وبما أننا قبضنا عليها فقد أمنَّا شرها، ولكن هذه الحية عادت حجلًا كما رأى أولًا، فدفعه الأمير إلى حاجبه باسم، وأمره بالاعتناء به والحذر منه في وقت معًا.