حيلة الشدياق سركيس
وبينا كان الراهب يتبحَّر في تلك الرؤى، عاصرًا يافوخه ليفسر حلم الأمير، إذا بالحاجب يدخل ليقول لسعادة المير: الشاعر الذي أمرت أن يتشرف بالمثول بين يديك ينتظر في الخارج.
فقال المير: والحيط الذي أبصرت في المنام أنه عاب …
فأطرق الراهب وقال: أبعد الله عن سعادتك كل عيب. الأحلام تُفسَّر، غالبًا، بالمقلوب. سترفع سراي بتدين فوق كل سراي. ثم افتكر هنيهة، وهزَّ رأسه وقال: إن شاء الله. مؤكد.
فقال الأمير: إن شاء الله، عسى أن يُستجاب دعاك.
وأومأ بعدئذٍ إلى الحاجب، فدخل الشاعر وانصرف الراهب.
وبينا كان واقفًا حد العمود صامتًا كأنه عمود آخَر، كان المير يتفرَّس به.
تذكَّر أن هذا الوجه غير غريب عن ذاكرته، وراح يقول في قلبه: أين رأيته يا ربي!
وأخيرًا طرد تلك الفكرة وقال في نفسه: الناس تتشابه.
وبدون تفكير سأل الشاعر: أنت من قبرص؟
– نعم يا صاحب السعادة.
– شاعر عربي من قبرص؟
– نعم يا سيدي، أنا لبناني الأصل، هاجرنا هاربين من وجه الجزار. طلب الجزار والدي ثم أهدر دمه، فخاف وفرَّ إلى قبرص.
– وعجز الجزار عن القبض عليه في قبرص!
– نعم يا سيدنا؛ لأن ليس له دهاء المير بشير؛ ولأن والدي ما قتل بطركًا كأولاد أبي كشك.
فسرَّ الأمير بهذا الإطراء وقال: يظهر أنك تعرف في تاريخ لبنان. قُلْ لي متى جئت من قبرص؟
– يسألني الأمير متى جئت من قبرص وهو الذي لا تخفى عليه خافية في بلاده. لا شك أن رجالك عرفوا بي حين وضعت رجلي على الشط.
– ولماذا أتيت لبنان؟
– لأن الشعر ينفق عند أميره، فهو يجدد عهد خلفاء العرب وأمرائهم، ومحيي الشعر والشعراء.
فراق ثناؤه للأمير، فأطرق وقال في قلبه: هذا رجل يتغدانا قبل أن نتعشاه. ثم ألقى عليه نظرة من نظراته المفترسة وقال: منذ كم أنت في لبنان؟
– منذ أكثر من نصف سنة.
– طيب أسمعنا الآن، على أن نتم حديثنا فيما بعد.
فضرب الشاعر صدره وقال: عبدك، إن أمرت.
فقال الأمير للحاجب: أَدْخِل الطلياني.
وبعد انصراف الطلياني من الحضرة سأل المير الشاعر أين تعلَّم الطليانية، فأجاب: في عين ورقة يا سيدي، أنا ماروني.
فقال الأمير مظهرًا اطلاعه وروايته للشعر:
ودخل في تلك اللحظة المعلم بطرس، فقال الأمير: كيف رأيت الشاعر القبرصي؟ يظهر أن قبرص تنجب شعراء أيضًا …
فابتسم الشاعر، وأجاب المعلم بطرس: لو لم يكن يستأهل الوقوف في قاعة أمير الشرق ما استأذنت له.
وفي أثناء هذا الحديث ارتفع صوت زامر يرافقه غناء جوقة:
ويطل الحاجب من القاعة فيقول: جوقة نوَر، معهم دب وسعدان.
فقال المير: جاءوا بوقتهم.
ثم خرج وقعد في شرفة تطلُّ على الساحة آذنًا لجوقة النوَر بتمثيل دورهم.
ورأى نائب شيخ جوقة النوَر أن ألعابهم المعادة لم ترق لسعادته في القصر كما راقت له تحت سنديانة كفرنبرخ، فوقف وقال: دستور من صاحب الإذن والدستور.
وأومأ إلى أحد رجال عصابته فصعد إلى رأس القصر، ونزل على زاوية قاعة العمود نزول الأفعى، فكان المتفرجون يقشعرون ويصرخون حينما يختل توازنه بعض الشيء، وما صار على الأرض حتى قفز وانتصب أمام الأمير ساجدًا له، فاستحسن لباقته ولياقته.
ثم أُعِدَّ كرسيان بينهما مسافة ذراعين تقريبًا، فتقدَّم أحد الجوقة وأسند رأسه إلى واحد، ورجليه إلى الآخَر، ووقف على بطنه وصدره وفخذيه خمسة رجال ولم يلتوِ، فصفق المشاهدون له طويلًا.
استطاب الأمير ذلك منهم، ولكنه عدَّه تحديًا لرجاله، وعلى كلٍّ فالنوَر لم يدَّعوا الفروسية كما ادَّعى «الدالاتي»، ولم يتحدَّوا أحدًا تحدِّي «المصارعجي»، فأمر بإعطائهم، وإكرامهم، وإضافتهم إلى ما طاب لهم البقاء.
فدعوا للأمير دعاءً حارًّا جدًّا طرب له حتى اهتز، ونسي تحدِّيهم في ضرب الجريدة والقفز، والتسلُّق من علُ إلى أسفل.
أمر الشاعر بالدنوِّ منه، وأقفل الباب، فأطرق الشاعر وتكتَّف.
قال له المير: قلت لي أنك تلميذ عين ورقة.
– نعم يا مولاي، أنا تلميذ عين ورقة.
– على رئاسة مَن؟
– على رئاسة … رئاسة … اسمه على رأس لساني. صار مطرانًا بعد مدة. يا ربي تذكِّرني. تذكَّرتُ. الخوري يوسف اسطفان؟
فعبس الأمير لحظة لهذه الذكرى ثم قال: هل عرفت شخصًا اسمه الشدياق سركيس شاهين؟
– وكيف … سركيس شاهين … هذا جبيلي. كان رفيقي في الصف، وكنا مثل الإخوة.
– اجتمعتَ به بعد المدرسة؟
– منذ سنة تقريبًا كان في قبرص، وقالوا لي إنه رجع إلى لبنان.
– إذن تعرفه إذا فتشت عليه؟
– معلوم.
– إلى أي صف وصلتم في المدرسة؟
– اسمع إذن ما أقول لك: أنت شاعر جئتنا مادحًا فأكرمناك، وفوق ذلك الإكرام أنا أكلفك بمهمة، إذا قمت بها لك مني مئة ربع ذهب فندقلي. نعم فندقلي. ووظيفة في القصر. تكون من كتَّابي.
– اؤمر يا مولانا.
– وماذا يصير إذا دللتهم عليه؟
– تقبض المبلغ وتقعد على كرسي وظيفتك.
– اسمح لي أن أسأل.
فأومأ الأمير برأسه أن اسأل.
فقال الشاعر: وماذا تعمل به الخيَّالة؟
– يأتوني برأسه؛ لأنه أزعجني جدًّا.
شد سعادته على كلمة جدًّا، فتبسم الشاعر وقال: أوف … النهار يُعرَف من أوله … هذا اللعين كان في المدرسة مزعجًا، ولكن ذكي جدًّا يا مولاي، يصلح خادمًا لأفكار سعادتك.
– لا، لا، لا.
– بلى إن أمرت. فأنا أعرف الشدياق سركيس، داهية يا سيدنا، حاضر القلب، لا يهاب الموت. إن عاهد وفَّى. عرفناه، ومع ذلك مَن يدري. اسمع كلامي ولا تصدقني. الإنسان قد يتغيَّر.
حسب الشاعر تلك اللحية مقصبة هبت عليها عاصفة حين تمايلت … وانتظر جواب الأمير والأمير ساكت. ودام ذلك دقيقة خالها الشاعر شهرًا، فقال الأمير: إذن تعرفه حق المعرفة، وهذا رأيك فيه.
– أمِّنِّي يا مولاي، لأصرح برأيي بكل وضوح.
– أمَّنتُك.
فقال الشاعر: طبعًا سعادتك تعرف البطرك الحالي، الحبيشي، اسأله عن الشدياق سركيس فهو يعرفه، فإن لم يستحسن ما عرضت لسعادتك من رأي فأنا في قبضة يدك، أبقى رهينة عندك حتى يجيئك الجواب … وإن استثقلت وجودي، أغب وأرجع.
– بل تبقى عندي في كل حال، فأنا محتاج إليك، لك عندي شغل يا شدياق، أنت شدياق لأنك تعلمت في عين ورقة.
فاضطرب الشاعر، وحنا رأسه مفكرًا. ورأى الأمير ذلك فقال: وإن لم يعجبك قصرنا ففَتِّشْ عن أحسن.
وأراد الشاعر أن يُطْرِي، فقال الأمير: لا مجال لكثرة الحكي. تقدر أن تجي براس الشدياق سركيس أو الإرشاد إلى عصابته، ولك المال والوظيفة!
– قلت لك أمَّنتُك … كم مرة نؤمِّنك … احكِ ما عندك.
– أعطني عهدك وزمتك وجوارك.
– أعطيتك. أنت في زمة المير بشير، وعهده ووجهه.
فضحك الشاعر وقال: أتجرَّأ أن أحكي؟
– قُلْ، قلت لك.
فأجاب الشاعر بخضوع يمازجه الخوف: أريد يا مولانا عهد بو سعدى لا عهد الأمير بشير.
فقطب المالطي حاجبيه، فأحس الشاعر بشيء كأنه الماء الفاتر يجري تحته … ثم انبسط وجه الأسد اللبناني فعادت روح جليسه إليه.
فأومأ الشاعر بعينيه: أن لا.
فضبط الأمير من نفسه ما لم يتعود ضبطه … كان يهمه رأس الشدياق سركيس، فطايب الشاعر وقال: لماذا؟
فقال الشاعر: في لبنان يا سيدي أكثر من بشير، أما بو سعدى فليس له في الدنيا سمي ولا نظير.
– هذي ليست حجة.
فقال الشاعر في نفسه: الموتة واحدة. ثم تشدد وقال للمير: أمِّني يا سيدي لأوضح أكثر.
فقال الشاعر بلهجة مَن لا يهمه الموت: أبو سعدى حليم لأنه أب، أما المير بشير فربيب الجزار. فإن أمرت أعطيتني عهد بو سعدى الذي يحل قضية الشدياق فتراه بين يديك.
فقطب الأمير وقال: لك عهد بو سعدى.
فقال الشاعر: اتفقنا، إذن، على أن يجيء الشدياق سركيس مسلمًا، ولا خوف على حياته.
– نعم …
– أمرك يا سيدي.
وكانت في تلك الآونة تطفو على شفتي الشاعر كلمات، ثم لا يجرؤ على إطلاقها من وكرها، فأدرك المير ذلك فقال له: صارحنا، قُلْ ولا تخف شيئًا.
فقال الشاعر: أما عليه خطر من القهوجي؟ … وإذا حمي غضبك فمَن يردُّك؟
– عهدي.
– والمطران يوسف اسطفان كيف مات؟
فقطب الأمير وجهه وقال: ما عاهدته. مطران غدار. جعلته قاضيًا للنصارى، فخانني وماشى الثورة.
– ألا يصيب الشدياق ما أصاب أبناء باز؟ ألا يحلُّ به ما حلَّ بأبناء المير يوسف؟
– أنت عاهدتني، ورخَّصت لي فأرجو ألَّا يسوءك كلامي.
– إذن خذ الجواب. أنا ما قتلت واحدًا عاهدته، وأولاد باز وأبناء عمي المير يوسف بقايا دولة ذهبت، كانوا خطرًا عليَّ، ومَن لا يتَّقي الخطر؟ لو لم أفعل بهم ما فعلت لفعلوا هم ذلك بي. أعميت أبناء عمي طبقًا للتقاليد والعرف؛ وقتلت سواهم قتلًا لأنهم ليسوا من العائلة المالكة. إن ما تسمونه أنتم فظاعة بربرية هو تقليد وعرف. أفهمت؟
فأجاب الشاعر: فهمت، نعم فهمت.
فقال المير: إذن قصِّر حديثك، واسعَ بإحضار الشدياق سركيس.
فأجاب الشاعر باسمًا: أقول له إن المير أعطاك عهد بو سعدى.
فأومأ برأسه أن نعم.
فقال الشاعر: وإذا لم يصدقني.
– هذا شغلك. يظهر أنك قدير.
فقال الشاعر: وإذا لم يحضر مطيعًا جئناك برأسه وقبضنا المبلغ وتوظفنا. وإذا صدَّق وجاء فلا خوف عليه، أليس كذلك؟
وبسرعة خاطفة التفَّ الشاعر بذيل عباءة المير وصاح: أنا الشدياق سركيس وجوقة النوَر عصابتي.