حبيس١ مار عبدا الحرش
تهلل الذين على «غرض» المير بشير، وهم أقليَّة، أو بضعة أشخاص في كل ضيعة من بلاد
جبيل،
فكان الفرح عندهم أيامًا.
أحيوا ليالي القول
٢ و«العتابا»
٣ والزغردة
٤ ابتهاجًا، ورقصوا ودبكوا، وهزجوا
٥ وحدوا.
٦
كانوا يتحدون خصومهم، حينًا بإحراق البلان
٧ والقندول
٨ على سطوح البيوت، وتارة بقرع الجرس وأغاني «الجفا».
٩ وأخيرًا طفح الكيل فأدت هذه التظاهرات إلى مناوشات واشتباكات بين الحزبين أسفرت
عن جرحى كثيرين وبضعة قتلى.
وكانت حكومة المير تعضد مَن لها فتقبض على خصومهم، محقين كانوا أو محقوقين، فاستفزَّت
هذه
النكاية الشدياق سركيس وجماعته، فنفروا من بيوتهم، وشرعوا يكبسون كل ليلة، بيوت الموالين
انتقامًا من حكومة المير التي كانت تضرب بيدٍ من حديد على مناوئيها
١٠ ثم تفاقم
١١ شر هذه العصابة في قرى بلاد جبيل، فتمادت في طغيانها حتى سوَّلت لها النفس أن
تهاجم الأمير قاسم ابن الأمير بشير في عقر عاصمته جبيل، فرعبته وأحنقت والده.
كان الشعب في هذه الحقبة يقاسي من الأمير الأمرَّيْن: مرارة العصبية
١٢ المتغلغلة في عظام اللبناني، فلاحًا وعاملًا، ومُلَّاكًا، وشيخًا، ومرارة
الجباية والأموال الأميرية.
ثقَّل المير على خصومه في كل أنحاء ولايته، وخصوصًا في بلاد جبيل، بؤرة المعارضة،
حيث
اضطرمت نار «عاميَّة» لحفد التي تحدَّت الأمير بقتلها بعض رجاله.
كانت هذه العامية — نسبةً إلى العوام — جامعة لرجال البلاد على اختلاف طبقاتهم ومللهم،
وأقاليمهم. فيها الجبيليون، والبترونيون، والكسروانيون، وأهل جبَّة بشراي، ومتاولة بلاد
جبيل، فأقضُّوا مضجع الأمير زمنًا، ومن هنا جاء المثل اللبناني القائل: العاميَّة
عمى.
فتقلبات آراء ولاية صيدا كانت تشجع الأهالي وتقوِّيهم وتدفعهم إلى الثورة، فباشا
صيدا أخذ
عن الجزار درس خلعة
١٣ الولاية، فكان يكسوها مَن يغلي ثمنها.
سمع شكوى «عامية أنطلياس» وكتب لهم ألا يؤدوا للمير بشير إلا مالًا واحدًا
١٤ كعادتهم. بينا هو كان قد طلب من المير بشير «ألف ربع ذهب فندقلي
١٥ خرج جيب»، فاضطر الأمير إلى مغادرة البلاد، ثم رضي عليه حين دفع المبلغ
المرقوم، فعاد المير بشير إلى ولايته وأمعن في الضغط على الرعية ليجمع مالًا يسد به فم
ذلك
الوالي، ويدعم الكرسي، فضج الأهلون وكانت «عامِّيَّة لحفد» في العام نفسه، فقُتِل من
الأهالي ثمانون رجلًا.
ظن الأمير أنه خنق صوت الشعب الضعيف المظلوم؛ وإذا بريح السياسة تجري بما لا تشتهي
سفن
الأمير، ففر من البلاد وقويت شوكة خصومه.
وبعد حين رقَّع ما تمزق من فروة ولايته، وعاد يسعى لقهر خصومه، ففرَّ أعداؤه متوارين
من
وجهه خوفًا على رءوسهم، وهذا ما حمل الشدياق سركيس على تأليف عصابة «الثورة الدائمة»
على
حكومة المير، وكان أبو ناصيف من أشد أعوانه ضغنًا
١٦ وحقدًا.
أما حياة هذه العصابة وسيرورتها في البلاد، فكانت مطبوعة على غرار جميع العصابات.
لا تكاد
تظهر في قرية حتى تختفي ويذر قرنها
١٧ في ضيعة أخرى. حصونها تلك الكهوف
١٨ المنيعة المنتشرة في أودية بلاد جبيل، وأهمها دير القطين
١٩ وواديه الرهيب.
وهكذا أصبح شعب بلاد جبيل كالحجر بين مهدتين:
٢٠ العصابة الأهلية وعسكر المير، فلا يخرج أحدهما من قرية حتى يجيء الآخَر على
أثره. أما العصابة الشدياق سركيس، فكانت أرأف بالأهلين من عسكر المير الذي تعوَّد التنكيل
٢١ وألِف الانتقام.
ولما انتهت جباية الأموال وأدى الشعب عن يدٍ ما فرضه عليه الحاكم، وانكسرت شوكة غضب
الأمير لانشغاله بدفع الخطر الخارجي، كان يسمع شكايات حزبه في بلاد جبيل ويرسل عسكرًا
يتعقب
الأشقياء، ولكن الشئون الأخرى الجلَّى
٢٢ كانت لا تسمح له دائمًا بتلبية طلب هؤلاء، فملَّ رجال حزب الأمير، ورأوا إجابة
مطالب عصابة الشدياق خيرًا وأبقى، فطايبوها اتقاءً لشرها، وهكذا عاشت في «وادي القطين»
كأنها حكومة في قلب حكومة، إلا أنها لم تكن تبلِّص
٢٣ الأهالي كالأمير، فما طمعت بغير القوت، ولا مدَّت يدها إلى معجن فقير.
وفي تلك الأثناء حل محل حديث العصابة خبر ناسك
٢٤ جديد ظهر في دير مار عبدا الحرش، القائم على مقربة من دير القطين.
فهذا الدير المكفهرُّ
٢٥ الوجه، الملثَّم ببرقع
٢٦ من شجر السنديان، لا يصلح حصنًا لعصابة كدير القطين، ولكن موقعه الطبيعي صالح
لإشعاع الفضيلة والتقوى.
أعجب أهالي القرى المجاورة أن يحل بينهم هذا «الحبيس» الجديد المتكل على الله في معاشه
…
فمن عادة الحبساء في لبنان أن يموِّنهم دير ما، أما هذا الناسك فحلَّ في هذا الدير المهجور
منذ عشرات السنين، ولا معين له غير كاهِن آخَر مثله، ولكنه أفتى منه.
كان يروح هذا الكاهن الشاب ويجيء ليقوم بخدمة معلمه وتموينه، أما الحبيس، وهو كهل،
فلا
يبرح الدير أبدًا. تجده إما على سطح الدير مصلِّيًا، أو في داخله راكعًا ساجدًا، أو نائمًا
على صُفَّةٍ
٢٧ من حجر، قائمة في قبو، قدام باب الكنيسة.
تزيِّنُ جدران هذا الدير الجوَّانية والبرَّانية
٢٨ أعشاب مختلفة، منها ما يتدلى، ومنها ما ينكمش على ذاته كالشعب حين يُغلَب على أمره.
كثيرًا ما مرَّ الناس بهذا الحبيس فولَّاهم
٢٩ ظهره ثم توارى عن أبصارهم. تلك تقاليد الحبساء، ولكن المحترم تَغَالَى
٣٠ فيها.
كان يزعجه جدًّا ذاك الطريق المار حدَّ الدير، القائم على كتف غابة من السنديان فنُسِب
إليها.
لا يبدو اليوم لعين الناظر من هذا الدير العتيق
٣١ إلا القليل، فكأن بابيه عينان تحدقان إلى دير معاد الجاثم قبالته على الرابية المناوحة.
٣٢
تنبسط تحت أقدام هذا المنسك بطحاء
٣٣ عين كفاع التي يسمونها «الوطا».
تكاد تكون هذه البطحاء بستانًا، ففيها التين والزيتون والعنب والأشجار المختلفة من
سفرجل
وإجاص وتفاح، وحواليها من الجهات الأربع تقوم قمم رائعة المنظر، فكأنَّ تلك الجبال المختلفة
الأشكال حيطان رفعتها يد الطبيعة لصون هذه الجنة الأرضية.
أما الدير فتدل بقايا آثاره على كبر شأنه يوم أحدث، وإن لم تُبْقِ منه الأيامُ غيرَ
كنيستين صغيرتين متلاصقتين، واحدة منهما على اسم مار عبدا، وهي هيكل صغير بُنِي على الطراز
اللبناني في القرون الوسطى، وأمامه قبو
٣٤ فيه صفة من حجر، وإلى جانبه كنيسة أخرى على اسم مار سمعان العمودي، وهي أكبر من
هيكل مار عبدا؛ لأنه لم يُبْنَ أمامها قبو مثل تلك.
وإلى جانب الدير آبار عميقة لجميع مياه الشتاء، وبقايا حجارة معاصر وغيرها، تدل على
أن
هذا المكان كان مأهولًا.
يتناقل الأهالي بالتقليد أنه كان فيما مضى ديرًا للراهبات. أما ما حول الدير اليوم
من
عقارات فأصبح منذ عهد بعيد مِلْكًا خاصًّا لا وقفًا، شأن كل بيت قديم تدور عليه الدوائر.
٣٥
وعلى رمية حجر من الدير تشق البطحاء — الوطا — سكة سلطانية
٣٦ لا ينقطع فيها حس البشر، ولا تنفك أصواتهم تقع في أُذُن «الحبيس» ليلًا
ونهارًا. ضوضى قائمة قاعدة، فإذا نام في الليلة الباردة على الصُّفَّة خفت رنين أجراس
البغال وجلاجلها، وسِباب
٣٧ المكارين
٣٨ وأحاديثهم الماجنة. وإذا كانت الليلة حارة ونام الكاهن على سطح الكنيسة في عرزاله،
٣٩ كما اعتاد، فقليلًا ما يستطيع مناجاة ربه ومحاسبة نفسه، فهو لا يكاد ينصرف إلى
تذكر ماضيه حتى تتعالى الضجة حوله من الجهات الأربع.
قرى متجاورة متلاصقة، وسكة سلطانية تشق الوطا ولا تهدأ الرِّجْل فيها لا ليلًا ونهارًا.
والناس هنا وهناك في خيامهم وعرازيلهم ينطرون كرومهم، ويسهرون على زيتونهم وسفرجلهم
وتينهم.
نواطير تروح وتجيء، تسعل وتتنحنح ليعلم السارق أن الناطور سهران … وهناك فريق من
الشباب
يعقدون حلقات السمر على التلال والرجامي،
٤٠ شاربين مغَنِّين.
وفي ليلة كثيرة البرغش، ذاك الخصم الضعيف القوي، قلق الكاهن فجثا
٤١ يصلي.
وقع في أُذُنَيْه حديثُ عائلة تنام في خيمة قبالة الدير، ناطرة كرمها وتينها.
سمعهم يذكرونه فأصغى إليهم. وتذكر أنه يصلي فحوَّل أُذُنه عنهم، ولكنه لم يستطع التغلب
على إرادته.
سمع الابن الصغير يقول لأمه: فزعت منه يا أمي، طويل، طويل، طويل!
فقال الأب: قُلْ مثل المارد.
فضحك الابن وقال: أطول يابا، لحيته ذراع، مروَّسة تصل إلى زناره. حسبته بلا بوز
٤٢ قبلما تكلم. الشرار يطير من عينيه. ما تطلعت صوبه حتى رجفت عظامي.
فقاطعه الأب وقال: ومثل الحشيش يبست.
فاغتبط الولد وقال: هذي من «المزامير»
٤٣ حفظتها اليوم.
فقال الأب: أنت شجاع يا فارس، تصلح للخدمة في عسكر المير.
ثم تطاول الحديث واشتبك، فهام الحبيس في أودية الذكريات … فإذا به يسمع مكاريًا يطوي
«الوطا»، وهو يرتل
٤٤ خدمة القداس، ويؤازره رفاقه فألَّفوا جوقة، حتى خُيِّلَ إلى السامع أن القداس
٤٥ قائم …
أطرب صوت المكاري الرخيم زمرة الشباب الساهرين على البيادر، فأصغوا إليه متعجبين
من صفاء
صوته وليانه. وما سكت حين انتهت الترنيمة حتى صاح به شاب من فوق ذروة:
٤٦ عشت، عشت! سمِّعنا. سكتنا حتى نسمعك، فلا تسكت أنت.
فقال الحبيس في نفسه: ليتكم تظلون ساكتين، ما أغانيكم إلا فشار،
٤٧ أما هذا المكاري فيرتل كلام الله الذي يهز النفوس ويليِّن القلوب، وإن كانت
أصلب من قلب الحكام الظالمين.
وسكت المكاري. وتلك خصلة
٤٨ أصحاب الأصوات الرخيمة؛ ولذلك قيل: لا تَقُلْ للمغني غنِّ.
ويئس الشباب من المكاري، فاستأنفوا أغانيهم من عتابا وميجانا ومواليا. أغاني عشق وغرام
كان يتمرمر الحبيس من سماعها، ويتمنى أن يسكت هؤلاء السكيرون ويرفضُّ اجتماعهم.
وأخيرًا غلبه النوم فرقد، ثم استيقظ ففتح عينيه على ضوء الفجر الكاذب،
٤٩ وسمع خيَّالًا يجدُّ السير في الوطا وهو يقول لرفيقه: يقولون إن المطران يوسف
اسطفان هرب من وجه المير بشير، وإنه متخفٍّ في هذه النواحي.
فأجابه رفيقه: ربما، ولكن مَن يعلم أين هو. قالوا إنه متكل على الشيخ يعقوب البيطار
ليدخله في خاطر المير.
ففرك الحبيس جبهته وقال في نفسه: شعور رءوسكم محصاة لا تخافوا … الله ينجيك يا مطران
يوسف. اتَّكل على يسوع الذي قال: لا تخافوا ممن يقتلون الجسد … إذا قدر المير أن يقتل
جسد
المطران يوسف، فلا يقدر أن يقتل نفسه. لا يقدر أن يخنق روحه وتعاليمه مهما عمل.
وما انتهى من معالجة هذه الفكرة حتى تناول سبحته الطويلة من جيبه الرهباني البعيد
القعر،
وصلَّب يده على وجهه، وشرع يصلي وظل حتى انبلج الصبح.
٥٠
ولما استضاء فتح «شحيمته»
٥١ وأخذ يتلو فرضه. وبعد ساعة استيقظ خادمه فدخلا الكنيسة معًا وأقام
القداس.
وفيما هو يبخِّر الشعب تعجب من تبكير الناس إلى حضور قداسه. وما حانت تلاوة الإنجيل
حتى
رأى رجلًا يقرِّب ولدًا من المذبح راجيًا أن يُتلَى الإنجيل على رأسه، ففعل. وما حانت
الدورة بالكأس حتى كانت امرأة واقفة بباب «الخورس»
٥٢ وعلى زندها طفل ترجو أن يكبس رأسه بالكأس ليشفى من علته. وكان أن شفي المريضان،
كما زعم ذووهما، فطارت أخبار معجزات
٥٣ الحبيس في الجوار، فتقاطر الناس إليه من كل صوب، حتى أقلقوا راحته وهو يريد
الابتعاد عن الناس.
وفي غد أحد الأيام، جاءه أناس كثيرون يسألونه الصلاة للمرضى، وكثيرًا ما كانوا يكلفونه
الصلاة على الماء لطرد الفئران والجرذان والنمل من بيوتهم فيفعل، وهو واثق أنه عبد خاطي
…
لوَّث كهنوته ولطَّخه بأوحال الدنيا وسياستها، والتقوى والسياسة لا يجتمعان. ومَن زعم
غير
ذلك؟ كان الأمير بشير يعترف
٥٤ ويتناول
٥٥ سرًّا، ويصلي ويحضر القداس، ثم يسفك دماء خصومه ولا يتحرَّج ولا يتحوَّب.
٥٦
وكثر عليه طلب الماء المكرَّس
٥٧ لطرد الحيات، حين شاع أن حيَّة مار عبدا الدهرية، التي يزعم الأهلون أنهم رأوا
لها قرونًا، قد اختفت منذ سنة تقريبًا، فما رآها أحد بعد مجيء الحبيس. فلا صيَّاد ولا
معَّاز، ولا فلَّاح، ولا أحد من أصحاب الأملاك المجاورة لحرش مار عبدا، حيث تقيم هذه
الحية المؤلفة،
٥٨ زعم أنه رآها.
وبلغت هذه التخرصات
٥٩ والمزاعم مسامع الحبيس، فكان يعلن لزواره أنه ليس ممن يجترحون العجائب، وهو ليس
من المتقشفين
٦٠ القدامى، ولا الزهَّاد
٦١ الذين صفت أنفسهم، فَلْينتظروا قليلًا ريثما يعتق في هذه المهنة …
ولكن الناس، متى آمنوا، لا يصدقون كل ما يقال ضد إيمانهم، ولو كان ظاهرًا مثل عين
الشمس.
ففكَّر الحبيس آنذاك أن يفتش عن دير آخَر ينزوي فيه ولكن …