سياسة الخوري بطرس
وعصارى نهار الأحد، قبل العيد بيومين ثلاثة، ذهب خوري الرعية، وكان وكيل الوقف يريد من كل قلبه أن يقيم الحبيس قداس عيد مار روحانا، فيذكر تقليد القرية، بعد عشرات السنين، أن الحبيس أقام قداس العيد على عهد الوكيل فلان!
فصاح به الوكيل: ما هي يا خوري بطرس؟
فضحك الوكيل وقال: لا ماش ولا لاش. أنا سامع يا بونا.
وكان الخوري في هذه الفترة قد استعد على مخرج ينقذه من المضيق الذي حُشِر فيه، فقال للوكيل: أنت عارف أن ابني إبراهيم طلب مني أن يكون في خدمة المير، وأنا مثل جميع أهل بلادي نطيع الأمير غصبًا عنا، وننتظر الساعة التي نتغلب عليه فيها. هذي هي القضية.
وكان الحبيس وراء شجرة فوق الطريق يتفحص أمر القادمين، فعرف أنهما من الغائصين في السياسة الحزبية إلى الأذقان، فأسرع وتوارى في كنيسة مار سمعان، وقال لرفيقه: اصرفهما عنا، ولكن بعد أن تعرف ما يريدان …
وبعْدَ السلام والكلام طفق يعتذر عن تعذُّر مخالطة الناس عليه، بعدما نذر الوحدة والانقطاع.
فتبسم الحبيس وقال: بيت آصاف عندهم مار روحانا وعندهم مار عبدا.
فقال الخوري: أنت تعرفهم، يظهر أنك كسرواني.
– أنا عبد من عبيد الله يا ابني، كل بلد لي فيه إخوان بالرب أنا منه.
فقال الخوري: ﻫ ء … أنت كسرواني، عرفتك من لهجتك.
فقال وكيل الوقف: خوري بطرس! ما لك وما لضيعته! الحبيس لجميع المؤمنين. وخاطب الحبيس قائلًا: يا محترم أرجو منك أن تقدس لنا يوم العيد، فأهل الضيعة جميعًا يلتمسون بركتك ودعاك، لا يحق لك أن ترفض دعوة ربانية لوجه الله، ربما كان بين الناس رجل ما اعترف ولا تناول منذ سنين، يلهمه ربه بوجودك فيعترف ويتوب على يدك.
فقال خوري الرعية، وهو بين ضاحك وعابس: يعني أنهم يعترفون له ولا يعترفون لي؟
فقال وكيل الوقف: أقصد يا معلمي، أن غرباء كثيرين يحضرون العيد، أشكال وألوان، ومع ذلك كثيرون لا يعترفون لك؛ لأنك تعرفهم …
ابنك، مثلًا، لا يعترف لك، الإنسان إنسان، يستحي حتى في كرسي الاعتراف.
فسكت الخوري وهو يقول: طيِّب طيِّب، الحق معك …
وكان الحبيس مطرقًا، فيظن الناظر إليه أنه يتأمل لحيته، مع أنه كان يتخيل لحية الأمير بشير الذي عاد مظفرًا فشرَّد خصومه.
– نعم يا ابني، ولكن أنتم مغشوشون بقداستي، أنا أحقر عبيد الله. أنا عبد خاطي.
فضحك وكيل الوقف وقال وهو يتهيأ لتقبيل يد الحبيس: ليت كل الخاطئين مثل حضرتك.
قال هذا وودَّع وانصرف، ولما وصلا إلى سنديانة كنيسة الضيعة، قعدا يستريحان تحتها، فقال خوري الرعية لوكيل الوقف: حقيقة إنك فصيح يا جنا.
فتضاحك الخوري وقال: إذا كنا لا نعرف أصله وفصله، فكيف يجوز أن نحترمه هذا الاحترام؟ ومَن يدرينا ما هو؟ ومع ذلك لكل شيء وقت. ما أتت الساعة بعْدُ.
هذا ما كان يدور من حديث بين الوكيل وخوري الضيعة. أما الحبيس فكان في الأيام التي سبقت العيد يحاسب نفسه ويتذكر ماضيه، يتذكر كيف كان عائشًا ناعم البال مستريحًا في مدرسته الكبرى عين ورقة، يعلِّم الناس ويهذِّب العقول، يبثُّ في الناشئة مبادئ الحرية الصحيحة عملًا بقول الإنجيل: تعرفون الحق والحق يحرركم.
تذكر كيف كان يسوس شبابًا من أبناء الشعب ليخلق منهم ثوَّارًا على الاستعباد.
تذكَّرَ كيف كان يحدثهم عن الثورة الفرنسية، كيف تغلَّب الشعب الفرنسي على مستعبديه الإقطاعيين، وقد كانوا أفظع جرائم من إقطاعيِّي لبنان وأشد قوة.
وتذكَّرَ كيف اقتلعه المير من محيطه، محيط مدرسة عين ورقة؛ ليجعل منه قاضيًا يتستر خلف أحكامه وينتقم من الناس.
ثم تذكَّرَ كيف أنه عيل صبره ولم يستطع أن يظل في منصب القضاء؛ لأنه رثى للشعب المسكين الذي رآه يُسَاق كالغنم، ويُضرَب كالبقر، ويطوَّع كالخيل؛ لتكمل مشيئة الأمير. وإذا بان حق في غير الجانب الذي يؤيده المير، فذلك الحق محكوم عليه بالإعدام.
إن الشريعة في فم الأمير، وما القاضي إلا منفذ لإرادته. فما استطاع الخضوع لهذا الطغيان، ولا التغلب على صوت ضميره الذي كان يدعوه إلى مناصرة الحق، والعمل بروح العدالة.
ثم تنهد وقال: نحن أبناء بيت كان ضحية الإقطاعية، كادوا لعمِّي من قبلي فحطوه عن البطركية، ولكنه صبرَ فظفرَ.
قد يكونون هم الذين أوصلوني إلى ما وصلت إليه من شقاء وتعاسة وتعب بال. أَمَا كنتُ أميرًا في ظل المير؟
أَمَا كنتُ صاحب الكلمة الأولى بعد سعادته؟
ثم زفر زفرة حرَّى وقال: ضاعت …
وكأن الحقيقة التي انتدبته للنضال عنها قد تراءت له في تلك الساعة العصيبة فصاح: لا لا لا. إن راحة الضمير خير من راحة الجسم.
يا تُرَى، ماذا ينفعه الاعتراف والمناولة وسماع القداس؟
أريد رحمة لا ذبيحة، هكذا علَّمنا سيدنا يسوع المسيح.
عفوًا يا أمناء الكنيسة … أأنا شككت؟ حالة تحير. ذهب المير بشير وتولَّى الحكم أميران، وظلت الحكاية كما هي.
الولاية سلعة تباع بالمزاد عند ولاة صيدا. ترجَّيْنا أن نلتفَّ حول المير بشير ونصون حريتنا واستقلالنا، فإذا به يراعي مصلحته قبل كل شيء، وما يتفق مع مصلحته فهو مصلحة البلاد.
والأميران اللذان وليَا الحكم لم يكونا أرأف بالشعب من بشير. إذن كان يستطاع إصلاحه لو أسعفت الأيام ورضي.
ولكنه أحقد من جمل، يتحين الساعة المواتية ليبطش وينتقم، لا يدعها تفلت منه متى قدر …
ومع ذلك فالأمير ذاهب، أما الشعب فباقٍ، فَلْنعمل لصد الظلم عنه، ولا بأس إن مات الراعي لأجل الرعية.
إن أسرة قد تصير أمَّة، فلا عكس الله الآية لتصير الأمة أسرة … والإقطاعي ابن عم الإقطاعي مهما تباعد بينهما النسب، ومهما فرَّق الدين. والعامِّيُّ أخو العامِّيُّ حيث كانا. فَلْنَسْعَ لتوحيد إخوتنا.
الفرصة سانحة بعد غد. قالوا إنه عيد عظيم تجتمع فيه الناس من بني وبني، فلنهيئ عظة نثير بها الشعب ولا نؤاخَذ عليها، فالكلمة للشعب أخيرًا، مهما طال عمر المستبدين. فالأمير الخيِّر هو مَن يحبه شعبه ويحب هو شعبه.
قال هذا الكلام بصوت عالٍ، فسمعه خوريه فقال له: سيدنا ماذا تقول؟
فتنهد الحبيس وقال: استرنا، ستر الله عليك. رأيت أهوالًا تُشِيب الرأس وتشكِّك مَن لم يشكَّ في عمره.