عيد مار روحانا
ما جاء «بعد غد» حتى قرع جرس مار روحانا
١ عين كفاع عند الضحى.
كان الدق، أولًا، غير عنيف وغير متزن، يدل على أنه قرع صبيان يستعجلون العيد فتعلقوا
بحبل
الجرس جماعات، فطنَّ طنَّات ضعيفة متقطعة. إن حبل الجرس في القرى مباحٌ للجميع ليلة العيد
ونهاره، ومَن شاء فَلْيجرب باعه وذراعه. فأنشودة الجرس، تردِّد أصداءها الأودية، هي صوت
العيد، صوته الأعلى في القرية اللبنانية، فلا بهجة بلا صلاة جماعية
٢ ولا فرح بلا قرع أجراس.
وسمع الحبيس دقات الجرس، فأخذ يعدُّ موعظة العيد مستعرضًا الأفكار الرئيسية التي يريد
أن
يعالجها.
الموضوع جاهز مُعَدٌّ، إلا أنه لم يُوفَّق إلى آية يجعلها حجر أساس يبني عليه
عظته.
واشتد قرع الجرس وانتظم، فعلم أنه قرب الظهر، وبعد هنيهة دق دير معاد
٣ جرس التبشير،
٤ فأخرج من زناره ساعته الفضية وفتحها، فإذا عقربها يشير إلى أن الساعة الحادية
عشرة والدقيقة العشرين، ففتح بابها الآخَر وشرع يشد زنجيرها بالمفتاح حتى بلغ الغاية،
ثم
نقل المفتاح إلى منزلة العقارب، فقدَّمها خمس دقائق كعادته كل يوم، ثم أعادها إلى زناره
الأحمر، وأحكم وضع بندها
٥ الأسود الذي تضمه في الوسط حلقة صفراء.
وشرع يتمشى في الساحة قدام باب الكنيسة.
تذكر في رواحه ومجيئه أن المحتفى به، القديس روحانا، قد امتُحِن كثيرًا ولكنه فاز
أخيرًا،
فخطرت في باله إذ ذاك الآية الإنجيلية القائلة: مَن يصبر إلى المنتهى يخلص.
رأى أنها مصاقبة كل المصاقبة، فبشَّ وقال: توفقنا، أصبنا عصفورين بحجر واحد.
وظل يفكر ويفتش لعله يقع على آية أكثر وضوحًا وملاءمة؛ لأن الشعب غليظ العقل غالبًا،
فدخل
الكنيسة وفتح الإنجيل، إنجيل اليوم التاسع والعشرين في أيلول، وهو يوم عيد مار روحانا،
فما
وجد شيئًا أحسن.
ودق الظهر في دير معاد فحسر
٦ قلنسوته
٧ عن رأسه وركع يبشر.
ذكَّرته الساعة، ساعة الظهر، تلك الموائد السخية التي كانت تُعَدُّ له في المدرسة،
وفي
قصر الأمير بشير، فتنهد وقال: مَن يصبر إلى المنتهى يخلص.
أعجبته الآية جدًّا، وفكر بإيضاحها كل الإيضاح في القداس الكبير الذي يقيمه في الغد،
فنبَّه رفيقه الخوري ألا يقول في خدمة القدس: «بارخ مور ريش كهنه»، أي: «بارك يا سيدنا
رئيس
الكهنة»، فأومأ الخوري برأسه أن نعم، وصلَّب
٨ الحبيس على تلك المائدة الحقيرة، وصلى عليها شاكرًا، كأنها العشاء السري
٩ أو مائدة المير بشير، ثم جلس ورفيقه يأكلان.
وأخذت وفود العيد تكر من الجرد، فريق يمر من خلف الدير، وفريق من قدامه، فتوارى الحبيس
وخوريه وراء سنديانة عانس
١٠ لا شيخة، فكانا يسمعان حديث المارة ولا يراهما أحد.
وقعد وفد من نساء ورجال وفتيان وصبيان على حجارة مرصوفة في ساحة الدير، واستقلوا من
بئر
مار عبدا العميق ماءً باردًا. شربوا جميعًا إلا واحدًا، فقال له رفيقه: اشرب، هذا ماء
صلى
عليه الحبيس.
فضحك ذاك وقال: ليس في بطني فأر، ولا حيات، ولا نمل، حتى تطردها صلاة الحبيس.
فوبَّخته زوجته على قلة إيمانه، وقالت له: ماذا
يفيدك قداسه غدًا إن كان هذا إيمانك؟ …
فوجَّه أحد الرفقاء الحديث توجيهًا آخَر وقال: من أين يأكل هذا الحبيس؟ فلا دير يطعمه،
ولا وقف ينفق عليه. يقولون إنه مكتفٍ، ما طلب رغيف خبز من أحد.
فقالت المرأة: مَن يدريكم؟ ربما يأتيه غراب برغيف خبز، مثل القديس بولا أول
الحبساء.
فهمهم
١١ زوجها وقال، إذا رأى غرابًا فردًا: اسكتوا قد يكون هذا الغراب يخبي رغيفًا في
عبه، فخاف أن نلتقطه أو استحى منا، فما رماه للحبيس، قوموا نذهب.
وما انصرفوا حتى نهض الحبيس من مجثمه والتفت صوب طريق «الصليب»،
١٢ فرأى جماهير مقبلة على القرية صاحبة العيد، مالئة طول الطريق وعرضها، مشاة
وخيالة، خيل وبغال وحمير، كلهم يثرثرون ويلغطون
١٣ فلا يفهم شيء من كلامهم.
وما انتهى عجب الحبيس من وفود الشرق والجنوب، حتى التفت نحو الغرب فرأى الناس قادمة
مثل
النمل على طريق «معاد» الضيقة. سلسلة طويلة، أشخاصها تمشي واحدًا خلف واحد؛ لأنها طريق
رِجْل لا طريق حافر.
١٤
ثم حوَّل نظره شمالًا فرأى طريق «صغار»
١٥ غاصَّة بوفود المعيدين، فتعجب كيف لا تضيق قرية صغيرة مثل عين كفاع بمثل هذه
الجماهير التي بدت طلائعها.
أما أهالي الضيعة فكانوا قد استعدوا لهذا اليوم السعيد.
إنه يوم يُكرَم فيه الضيف والضيفن،
١٦ والقريب والغريب. يقبل الناس فيه من بني وبني
١٧ على القرية ليحظوا ببركة العيد وزيارة الأقارب والأصحاب.
لكل قرية في لبنان عيد، ولكل ضيعة يوم. أما مار روحانا فيومه أعظم الأيام؛ لأن عجائب
قديس
عين كفاع كثيرة. هو اختصاصي بشفاء المغص، ومشهور في القرية والجوار بسرعة الغضب والاقتصاص
المعجل.
فالذي يعتدي على أملاكه وأشيائه يُصاب «بالفتق» حالًا، ولا يعصمه منه عاصم، لا حزام
بارير
١٨ ولا جد جده. إنه لا يُشفي ما لم يُعوض أو يُرد المسلوب.
واستعدوا لهذا اليوم المحجَّل،
١٩ فغُسِل بياض الفرش، ونُظِّفت البيوت ورُتِّبت أحسن ترتيب، وهُرم التبغ الجبيلي
— كان يعرفه التجار المصريون بالكوراني — ليُقدَّم للضيوف، وعين كفاع أشهر قرية بهذا
الإنتاج، وفي ذلك قال الزجال في ذلك الزمان:
خد عملَّك سيكاره
تتنات رفاع
من دارة حنا بشاره
في عين كفاع
وكان الحبيس واعدًا نفسه بأن يذوق دخان عين كفاع يوم العيد، ولكن حادثًا خطيرًا جرى
فلم
تتحقق أمنيته تلك.
وأشرفت الشمس على الغروب فامتلأت الضيعة ناسًا حتى كادت تضيق. وقعد الحبيس على سطح
مار
عبدا، قدام خيمته يتأمل ويفكر بغفلة الشعب، وبماذا يوقظ شعوره في غده.
وارتفع الغناء فسكت الجرس، واشتدت العربدة.
٢٠
حلقات حلقات على «الرجامي»
٢١ وعلى مصاطب
٢٢ البيوت، النبيذ والعرق يُصَبَّانِ كالماء، ورائحة اللحم المشوي تملأ الأنوف،
وقرع مدقات الكبة يصم الآذان.
ذُبِح في تلك الليلة نحو تسعين رأسًا من الغنم والمعزى، وفرغت خوابي القرية من العرق
والخمور العتيقة، فشرب الزائرون المسطار.
٢٣
واشتد الرقص حول الكنيسة على وقع التصفيق والزمر والغناء، فاختلط كل ذلك حتى ألَّف
وحدة
لا تتجزأ. وكان أبرز شيء رقصتنا البلدية — الدبكة — شباب وفتيات، بجانب كل فتاة فتى يمسك
يدها بأطراف أنامله. يكرون ويفرون، يُقْبِلُونَ ويُدْبِرُونَ، يشرَئِبُّون وينكمشون،
والزامرون تنتفخ بطونهم كالقِرَب
٢٤ من شدة النفخ.
وفي الكنيسة كثيرون من الأتقياء حاملي النذور من زيت وشمع وبخور ونقود يغِطُّون في
نومهم
الثقيل.
أعَدَّ وكيل الوقف فرشًا كثيرة لمَن نذروا أن يناموا ليلتها في الكنيسة. أما جاءوا
ليفوا
نذرهم للقديس الذي استجاب طلباتهم؟
كان يُرى في صحن الكنيسة عشرات النائمين والنائمات من رجال ونساء، صبيان وصبايا ممَّن
نجوا من الآفات والعاهات بشفاعة القديس روحانا، التي لا تتراجع دون معضلة مهما عظمت
وضخمت.
كان أكثر هؤلاء يتجمعون حول محادل صغيرة موضوعة في الكنيسة حد خوابي
٢٥ الزيت منتظرين نوبتهم.
٢٦
فهذه امرأة تمر المحدلة اللطيفة على صدرها لتدر لطفلها، وذاك يدلك بها بطنه، وهاتيك
ظهرها
حيث الألم.
لستَ ترى إلا محادل تدحرج على بطون تقرقر،
٢٧ وكلٌّ يشكر للقديس استجابة طلبه.
أما البيوت فتستحيل خانات يحتلها كل زائر رافعًا الكلفة، يأكل ويشرب وينام.
وبعد انقضاء هذا اليوم الأغر، يفتخر كل واحد من أهل الضيعة بكثرة ضيوفه ليلة
العيد.
أما مَن لم يكن يجد فراشًا فكان يضطجع في ساحة الكنيسة أو على رجامي الضيعة، أو يسهر
الليل كله مع كثير من الشباب الذين لا يذوقون طعم النوم.
لا ضيق ولا عناء، المصاطب قدام كل بيت، والسطوح كلها ممهَّدة مطينة …
لم يكن في ذلك الزمان سطوح قرميد لا يستفيد منها الناس؛ ولذلك قالوا: بساط الصيف
واسع.
وكنتَ ترى «الثريَّات»
٢٨ المصنوعة من القش والقطن والعجين والزيت محمولة على أكف نساء القرية وبناتها؛
لتُشعَل عند أقدام المذبح أو عليه، إكرامًا للقديس، فتبدو المهابة على كنيسته حين تذهب
عتمتها.
وقصارى الكلام أن الناس في العيد فريقان: فريق يجيء ليغني ويأكل ويشرب ويرقص ويصطاد
…
وفريق، وهو قليل، إنما جاء لاستمداد شفاعة القديس العظيم والتماس بركته ودعاه.
لم يغمض لعين كفاع جفن في تلك الليلة، وكذلك أصاب الحبيس؛ أزعجه عياطهم
٢٩ ومياطهم،
٣٠ وشكر ربه على أنه فكَّر بخطبة العيد قبل تلك الليلة الصاخبة، فما طلعت الشمس
حتى كان في ساحة كنيسة مار روحانا، حيث التفَّتْ حلقة قوَّالة
٣١ تحت سنديانة الكنيسة الدهرية. عُقِدت جلستهم تلك منذ منتصف الليل، ولا يزال
أبطالها، وقد طلع الصبح، ثابتين في ميدان القول، ينتقلون من موضوع إلى موضوع، لم يتركوا
غرضًا من أغراض شعرهم إلا عالجوه مرتجلين
٣٢ القرَّادي والمعنَّى، والعتابا والميجانا، والمواليا وكل ضروب الغناء، حتى إذا
ما سكروا راحوا يبوحون بمكنونات صدورهم، ويصرحون بميولهم وآرائهم في شئون الوقت.
ووافق ذلك قدوم الحبيس، فسمع أحد هؤلاء الشعراء يقول:
حكمك يا مولانا المير
ما فيه غير بلص
٣٣ وتعتير
٣٤
شربت الدم وخنت العمَّ
وحرقت دين الفقير
فسد الحبيس أذنيه حين سمع سب الدين، ولكن الشاعر الثمل
٣٥ أتمَّ غير مبالٍ، فأصغى الحبيس إلى بيانه:
كيفما ملت بتضرب كم
وديوانك وادي الحرير
يا ويل الشعب المسكين
إن غيَّر صابون المير
إن غيَّر الله يعينو
من بلصاتو وصابونو
وأكبر بلوي طاحونو
الله يا بشير كبير
فتعالى الصياح من هنا وهناك:
– اسكت يا وحش.
– سد بوزك يا دب.
– خربت بيوتنا الله يخرب بيتك.
– يقطع لسانك يا سفيه.
فصاح القوَّال: ما لكم يا جماعة، قولوا لي أيش صار.
فتقدَّم واحد منه، وبعدما انتزع الدف
٣٩ من يده وقال له: ما صار شي … المير رجع!
– ها ها … قولوا لي رجع. طيِّب رجع يا سيدي. الله يبشركم بالخير.
هات الدف. فأبى الرجل أن يُعِيد إليه الدف، فاشرأبَّ ومدَّ يده صارخًا: اسمح لي.
فصاحت الناس من كل جهة: أعطه الدف.
وتعالى الصياح: الدف … أعطوه الدف، وكاد يعلق الشر، لو لم يتقدم الحبيس ويأخذ الدف،
ويسلمه للقوَّال الذي صرخ على الفور:
عاد البشير عالقصر الله يكون معو
وعين العناية باللطافة تقشعو
يا رب هوِّنها علينا برحمتك
ساد الأمان يا ناس كدوا وازرعوا
ساد الأمان يا ناس والغيم انقشع
لمن حسامك يا بشير حدو
٤٠ لمع
بشفاعتك يا مار روحانا
٤١ عن كفاع
تنظر إلى حكم البشير وترفعو
فصاح الجميع متغامزين: وترفعو … وترفعو!
فهزَّ الحبيس رأسه ودخل الكنيسة وتبعه الجميع، إلا أناسًا لم يجدوا مكانًا يقفون فيه
داخل
الهيكل، فتجمعوا حول الأبواب والشبابيك.
وبلغ الحبيس الخورس.
٤٢ وبعدما أدى واجب السجود والركوع تقدَّم من المذبح، وما همَّ بارتداء ثياب
التقديس حتى انطوى خوري الضيعة عليه يوشوشه، فاضطرب
الحبيس وأدخل يده في عبه، ثم أخرجها وأومأ خوري الرعية، فسار خلفه إلى ما وراء المذبح،
وهناك أراه شهادة سيامته
٤٣ فتأكَّد من كهنوته.
٤٤ ثم خرجا، وإذا بخوري الرعية أصفر الوجه مضطرب مذعور.
وارتدى الحبيس «الغفارة»
٤٥ وتقدَّم من المذبح الكبير بجلال وخشوع وشرع في قداسه «الكبير».
وعندما بلغ الشمامسة
٤٦ قولهم: «بار خمور»،
٤٧ صاح بهم خوري الرعية منددًا: «ريش كهنة».
٤٨
ولكن الحبيس أنشد بصوته الجهوري: «الحي الذي مات ثم قام»، فأخفى صوته كلمة الخوري،
وأتم
الشماسة النشيد.
والتفت الحبيس نحو الخوري غامزًا إياه بعضَّةٍ على شفته المتوارية خلف لحيته، ففهم
ما
أراد …
وبلغ الحبيس الإنجيل فتلا بخشوع عظيم: «سراج جسدك عينك، فإن كانت عينك بسيطة كان جسدك
كله
نيرًا، وإن كانت عينك شريرة كان جسدك كله ظلامًا … إلخ.»
ولما انتهى من تلاوة هذا الفصل المعين ليوم العيد، قبَّل الإنجيل وأعاده إلى مكانه،
ثم
التفت صوب الشعب يعظهم مبتدئًا بالآية: «مَن يصبر إلى المنتهى يخلص».
واستطرد قائلًا: «ما أشبه الحياة، يا إخوتي المباركين، بالطريق الضيق، تعترضنا فيه
عقبات
وصخور لا بد لنا من إزاحتها أو تحطيمها لنعبر بسلام، ونأمن شر الذئاب والوحوش المنتشرة
في
الغابات التي تحدق بالطريق من هنا وهنالك، فإذا كنا غير مسلَّحين بالصبر لا نبلغ المقر
الذي
نقصده ونطمع بالاستراحة فيه.»
«الرجل الصابر يشبه السندان، فإنه لا يخور
٤٩ ولا يسقط مهما اشتد عليه الضرب. كل شعب تمر عليه أهوال وبلايا، فإذا لم يثبت
لها ولم يحتملها، فإنه لا يبلغ يومًا يقول فيه: ها أنا استرحت؛ لأني ثَبَتُّ في وجه العاصفة
فلم تقتلعني.»
«رأيت في أصابع كثيرين من إخوتنا بالرب خواتم محفورة عليها هذه الكلمة: «يزول». إنهم
ينقشون هذه الكلمة على خواتمهم ليتذكروا دائمًا أننا، نحن البشر، زائلون، بل عابرو سبيل.
أما أنا العبد الحقير الخاطي فلهذه الكلمة عندي معنى آخَر وهو: اصبر أيها الإنسان، فكل
ما
يسوءك يزول؛ ولذلك أقول: اصبر أيها الشعب، فالذي يظلمك يزول، إنه يذهب وأنت تبقى إن
صبرت.»
«قد نرى من رؤسائنا رجال الدين والدنيا أشياء لا تنطبق على الشريعة والناموس، فنظن
أن عين
الله نائمة، وأنه — سبحانه وتعالى — غافل عن كل ما جرى ويجري، فيشك بعضنا ويلج
٥٠ فيكفر، ويصبر الآخرون منتظرين عمل الله فيكون جزاءهم الفوزُ والظفرُ. إن الله
يطوِّل الحبل كما نقول في كلامنا، وكما يقول — عز وجل — بلسان نبيه داود: الله فاحص الكلى
والقلوب، طويل البال شديد العقاب. فلا تيأسوا يا إخوتي، فمثل هذه الأحوال الشاذة لا تدوم،
وما ترك الله شعبه في زمن من الأزمان حتى يترككم أنتم. أليس هو القائل: «مَن يصبر إلى
المنتهى يخلص؟»
«لا تشبِّهوا الروحانيات بالزمنيات لئلا تشكُّوا وتدخلوا التجارب.»
«تذكروا ما مرَّ على رءوس جدودكم من اضطهادات وظلم، وكيف قابلوها بالصبر حتى تغلبوا
عليها. إن الصليب يعلِّمكم التضحية، فتأملوا به دائمًا، وتذكروا أبدًا أن يد الله على
قلب
الجماعة.»
وكان خوري الضيعة يهز برأسه عند كل جملة، ويلتفت صوب الشعب معلنًا استحسانه كلام الحبيس
مؤمِّنًا عليه … ثم ينتفض وكأنه يريد أن يقول للحبيس: «صرِّح ولا تخف، كلنا معك!»
ولكن عين الحبيس كانت دائمًا على الخوري.
كان خائفًا من إفشائه السر الذي قضت الضرورة أن يعرفه. ولما رأى الحبيس تساقُط الخوري
تحت
حمل السر خاف عليه من الانهيار، وختم عظته بالثناء على القديس المحتفى بعيده، مانحًا
المؤمنين «البركة»، فخرَّ الخوري إلى لحيته ساجدًا لاقتبالها، ثم تذكر أنه لم يُصِبْ
في
عمله، فنهض في الحال متداركًا ما بدر منه.
وانتهى القداس على خير، وخرج الناس متخشعين، إلا واحدًا يعرفه الناس أنه من المتشردين،
ويتهمونه بحوادث كثيرة لم تثبت عليه واحدة منها. فهذا الرجل، وهو الفتى القوَّال الذي
هجا
المير، اقترب من خوري الضيعة وقال له: «قُلْ للحبيس أني أريد أن أعترف، إذا كان يتفضل
ويسمع
اعترافي.»
فتقدَّم الخوري من الحبيس بخضوع يبديه الكاهن لمَنْ هو فوقه رتبة.
ثم تذكر الموقف فالتفت إلى صحن
٥١ الكنيسة، وإذ لم يجد إلا بضع عجائز وأطفال، قال للحبيس: «لا تخف، هؤلاء لا
يفهمون شيئًا.»
والتمس منه سماع اعتراف الرجل، فخفَّ الحبيس للخلوة بالمعترف وراء المذبح حيث تعوَّد
الكاهن أن يسمع اعتراف الرجال.
وما كان أشد عجب الحبيس حين بادره الرجل بعد تلاوة «فعل الاعتراف» بقوله: أنا تلميذك
القديم، عرفتني؟
– تلميذي القديم! …
قالها الحبيس وهو يهز برأسه، ثم قال بلا اكتراث: «كلُّ مَن يعترف عندي هو تلميذي،
وأنا
معلم اعترافه.»
– لا يا سيدنا.
فقطب الحبيس وجهه، وأتمَّ المعترف حديثه: أنا تلميذك في عين ورقة.
– ﺗﻠ … ميذ … ي في عين ورقة؟ مَن أنت؟ ومَن أنا؟ لا تغلط يا ابني. الناس تتشابه
كثيرًا.
– أنت المطران يوسف اسطفان، زرتك مرات في دير مار عبدا الحرش، وما عرفتك ولا عرفتني.
أنا
الذي كان يزورك في الدير في ثياب شحاذ ولا تعرفه ولا يعرفك، الآن عرفتك، عرفتك من لهجتك
في
الوعظ، ومن روح موضوعك. يا الله! كيف غبيت علينا؟ أنا هارب مثلك، وأنا أقول مثلك: مَن
يصبر
إلى المنتهى يخلص.
– أنت عرفتني، وأنا ما عرفتك بعدُ. عرِّفني بحالك.
– يه، يه، يه! ما عرفتني بعدُ يا مطران يوسف؟ أنا الشدياق سركيس.
وعانق المعلم تلميذه، فسمع خوري الضيعة نشيجًا
٥٢ وبكاءً، فدخل عليهما، فحتم الأسقف
٥٣ على الخوري أن يكتم السر، وانتظر المعيدون الحبيس ليفوزوا ببركة دعائه، ولكنهم
رأوه يصعد في عقبة
٥٤ قرية صغار ومعه القوَّال.
وتناسى الناس ما كان في الحال، ووضعوا «الجرن»
٥٥ في ساحة الكنيسة، والتفوا حوله حلقة واسعة، فانبرى له الشباب، وشرعت كل قرية تنخِّي
٥٦ شبابها، فرفعه شاب فوق رأسه مقومًا زنده أحسن تقويم، فهاهى
٥٧ له أهل ضيعته ورفعوه على الأكتاف، فاحمرَّت عيون منازليه، ولكن الشر وقف عند
هذا الحد.
ثم نزلت الخيل إلى الميدان، وكان رمي الجريد، ثم المنافسة في ضرب السيف، فكانوا يجعلون
العصا الغليظة على فم قنينتين، ثم تُضرَب فتقطع دون أن تتحرك القنينتان.
واختُتِم ذلك النهار الأغرُّ المحجل
٥٨ بلعب السيف والترس — الحكم — فأظهر الكثيرون من الشباب خفة وتفوقًا، وعند العصر
ودَّعوا الضيعة، فعاد إليها هدوءها وسكينتها.