دير القطين
دير القطين كهف لا أخ له في لبنان. بناه قدماء الرهبان الجبابرة في أحشاء جبل تُطاول
قمَّته أسمى القمم المناوحة
١ جبل معاد. ومعنى القطين في لغة العوام: الكهف العظيم؛ ولهذا سُمِّي الدير
باسمه، ولعله كان نحو ثمانين مترًا طولًا في ثلاثين ونيف علوًّا واتساعًا، تُنبِئنا عن
هذا
العلو تلك الغرفة الباقية، معلقة كالحرز
٢ في عنق الجبل، ويسميها أهل القرى المجاورة «أوضة الريس»؛
٣ لأننا كما يقول مثلنا: نحب العلى ولو على الخازوق.
فإذا جئت هذا الدير — الكهف اليوم — رأيت في طرفه الشرقي معبدًا ذا حنيتين،
٤ تحتل «السيدة» إحداهن حتى الساعة، وهي معروفة باسم سيدة البزاز، تزورها الأم
القليلة الحليب فترجع من عندها وأقل ما يقال فيها: لله درُّها
٥ … والمظنون أن السيدة قد اكتسبت هذا اللقب من رواسب متحجرة مدلاة في سقف تلك
المغارة على شكل الثدي أي: البز.
تزعم الناذرات
٦ أنهن إذا بخرْنَ هذي الثدي المتحلبة
٧ ينقط منها الماء، ومتى حصل ذلك تؤمن المرأة أن نذرها قد قُبِلَ، وطلبتها
استُجِيبَت وستدرُّ لولدها.
وإذا سرت في اتجاه الغربي قاطعًا الكهف، رأيت عند نهايته بناء ما يزال قائمًا، وشاهدت
في
هذا الجدار الكثيف منافذ واسعة من الداخل، ضيقة من الخارج، تشبه المرامي
٨ التي في القلاع القديمة.
كان الرهبان يرصدون منها حركات الأعداء، ويرمونهم بالحجارة وغيرها ليصدوهم عن ديرهم.
فالصعود إلى هذا الدير صعب جدًّا، حتى كأن الإمام علي عناه بقوله: ينحدر عني السيل ولا
يرقى
إليَّ الطير.
تقوم فوق هذا الدير صخور عالية جدًّا، وهي ملساء كأنها نشرت بمنشار، فلا يستطيع حتى
الطير
التعلق بها. يعيش في نخاريبها نحل كثير آمنًا إغارة البشر على عسله، وتعشش كواسر الطير
في
شماريخها مطمئنة إلى فراخها.
يحسب الناظر، من بعيد، هذه الصخور جدارًا قائمًا، وفوق هذا الجدار صخور مرصوفة، من
عهد
نوح، صفوفًا صفوفًا، وأدراجًا أدراجًا. وعند انتهاء هذه الأدراج تطبق على القمة صخور
تشبه —
مجتمعةً — السلحفاة الجاثمة.
إن الذين يعتصمون بهذا الكهف لا يؤخذون إلا بالتجويع والعطش. أما في غير هذا فلا
يمكن أن
يدركهم أحد إذا كانوا مستعدين، فإنهم يقتلونه بما يُدهدون
٩ عليه من صخور كانوا يعدُّونها في مغارتهم كعتاد حربي — في ذلك الزمان — لا بد
منه في الملمات.
أما مَن يجرؤ من الأعداء على الهبوط إلى النهر ليقتحم الدير ويأخذه عنوة، فإنه ينام
هناك
تحت الردم نومة الأبد … حصار تعجز عن فكه طائرات اليوم وقنابلها ذوات الأطنان. فالدير
جبل
حقًّا، ويا جبل ما تهزك ريح.
منظر وعر
١٠ يخافه أشجع الناس في وضح النهار، فإذا قعدت في ذلك الكهف وتأملت قليلًا الجبال
المطبقة عليك، بدت لعينك المغاور أشكالًا وألوانًا، بعضها كالعيون تنظر إليك نظرات تفزع
وتخيف، ومنها ما هو كأشداق الحيتان، تخالها مفتَّحة لتزدردك،
١١ وبعضها كالصدور المنحنية كأنها تريد أن تضمك فتعصرك.
وفوق هذه صخورٌ كالشيوخ المحدودبة، تخاف منها أن تنطوي عليك فتهرسك.
١٢ وهناك مغارة ذات بابين يسمونها مغارة العينين، تزعم أساطير الضيعة أن فيها وفي
جاراتها «الرصد»،
١٣ وأن المكان كان مأهولًا بالجن قبل أن استعمرت المكانَ «السيدةُ» وأجلتهم
عنه.
وإذا تأملت رأيت شماريخ الصخور تمثل لعينك أشياء عديدة من مخلوقات الله، وإذا نظرت
في سقف
الدير رأيت أعشابًا تتدلى كأنها زينة أقامتها يد الخراب، وفي الجدران نبات مختلفة أسماؤه،
منه العطري كالقويسة، والصعتر، ومنه الكريه الرائحة كالفيجم، أما الأشجار النابتة في
الصخور، حيث وجدت لها غذاء، فهي في الغار والبطم والسنديان والعفص.
لا يمكن الناس أن يدخلوا هذا الدير إلا واحدًا واحدًا، متعلقين بالصخور تعلُّقًا،
وإذا
زلت بأحدهم قدمه لقي حتفه في النهر. والقدماء والمحدثون يسمون هذا المكان «العاصي»، وقد
تدهور هناك أناس كثيرون فقُتلوا، والتقليد يحفظ أسماءهم الكثيرة.
هذا هو الوادي الذي يقي حقًّا لفحة الرمضاء،
١٤ ويحنو على ضيفه حنوَّ المرضعات على الفطيم. فإذا قعدت فيه فلا ترى من السماء
إلا مقدارًا يسيرًا، وإذا جئته في كانون ترى النجوم صلاةَ الظهر.
١٥
إن أول ما يواجه الداخل إليه مذبح السيدة القائم قرب فم مغارة لم يدرك آخِرها رجل
بعدُ.
إذا توغلت فيها قليلًا تسمع هديرًا
١٦ فتفزع وتعود على عقبيك، وإذا تمشيت لتقطع الكهف طولًا تسترعي انتباهك أشياء من
صنع يد البشر، يُظَنُّ أنها آثار مَعاصِر عنب أو غيرها.
لا يدركك السأم في ذلك المكان، على وحشيته ووعورته. الأطيار المختلفة الأصوات والأشكال
تغنيك، فهناك الحجل، والغراب، والترغل، وأبو زريق، والحسون، وكل الأطيار التي تألف لبنان
…
وإذا سكتت الطيور فالقرقضون — السنجاب — يناجيك، ويترنم لك ليلفت نظرك ويغريك جماله
الفتان. أما الماء ففي مجرى النهر الشتوي يطمُّه
١٧ في الشتاء ما يجرفه السيل من تراب وحصى، ويكشفه الرعاة المضطرون إلى الماء في
آخِر الصيف، فيروون غليل قطعانهم.
في الهيكل قنديل قديم جدًّا قلاووني الشكل، ما زال الناذرون والناذرات يمدونه
بالزيت.
يعلوا موقع هذا الكهف عن الأرض نحو مئتي متر، والجبل الذي يقوم فوقه قيامًا عموديًّا
لا
يقل ارتفاعه عن أربع مئة متر.
وقصارى الكلام كان هذا الدير حصنًا حصينًا يتوارى فيه الشعب اللبناني هاربًا من وجه
حكامه
الظالمين، الذين كانوا يكتفون بنهب البيوت إذا لم يجدوا السكان. أما كيف خرب هذا الدير،
ففي
المحيط أسطورة تروي حكاية عن سكانه لا محل لها هنا.