قهوة الأمير الأحمر
ما وجد الشدياق سركيس وعصابته حصنًا أمنع من دير القطين فلجئوا إليه.
وكان الشدياق سركيس جالسًا في فم الكهف قبالة زميل له يلعبان «الدريس»، يلعبان ويتحدثان ويدخنان الشبق — الغليون — فينعقد الدخان في الفضاء حلقات حلقات، وتنبعث رائحة التبغ الزكية، فالأهالي كانوا يهدون إليهم أجود التتن وأطيبه، تشجيعًا لهم من جهة، وخوفًا من سطوتهم واعتدائهم عليهم إذا لم يقوموا بالواجب …
فكان الناظر إلى الشدياق سركيس، إذا رآه قابضًا بيده على ماسورة الغليون التي تتجاوز الذراع طولًا، وشاهد الدخان منبعثًا من فمه ومنخريه، ومن بين شعرات شاربيه ولحيته، يخال أن هنالك «حريقة» تستدعي استقدام الإطفائية.
– طيِّب … رجَّعتها يا سيدي.
– العب.
– لعبت.
قال هذا ونقل بحصة. فأكل الشدياق سركيس، وواتى اللعب رفيقه فأكل أيضًا.
وفيما هما يلعبان ويتنادران، بدا لهما هرٌّ في الجبل، وراء النهر، فصاح رفيق الشدياق: تأمَّلْ يا شدياق تأمَّلْ. هذا بسيننا حيمور، قالوا لي إنه ترك البيت يوم تركته وتبعتك.
فضحك الشدياق سركيس بملء فكيه، وقال: ربما كان في البسينات أوادم وثوَّار مثلنا.
– العب. انقل بحصتك. الدق لي …
– الدق لك؟ مَن قال؟
– أنا قلتُ …
وقدم أبو ناصيف من مرقبه وعلى وجهه كآبة وحزن، فأشار الشدياق سركيس برأسه مستفهمًا، فقال أبو ناصيف: خبر منحوس. جاء خبر المطران يوسف.
– المطران يوسف؟ لا!
– بلى.
– وكيف مات؟
– تسأل كيف مات وعند المير بنٌّ وسكَّرٌ؟
فقال الشدياق بحزن وأسف: مسكين معلمنا! نصحته وما انتصح. قلتُ له: خُذْ حذرك، لا يغرَّك وعد المير، وعفو المير، هذا جبَّار. حليم عند عدم المقدرة. رحمة الله عليك يا مطران يوسف، يا عدوَّ الظالمين، ويا حبيب قلب الشعب المظلوم.
قال هذا ثم نهض من مكانه ونفض ما علق في أذيال غنبازه من هشيم وتراب، ونادى: شباب اتبعوني. أين هو الرقيب؟ امشوا كلكم.
وسار أمامهم حتى وقفوا أمام مذبح السيدة، وهناك غمس الشدياق أصبعه بالماء المقدس، ومسح جبهته بزيت قنديلها، راسمًا عليها شكل صليب، ثم وضع يده على الصورة وقال: وحقك يا سيدة البزاز، لا أرجع عن مقاومة المير ما بقي لي رِجْل تحملني.
والتفت إلى عصابته وقال: عاهدوني.
فصاحوا جميعًا: عاهدناك ونعاهدك.
وبعد الغداء قرَّ رأيهم على مهاجمة المير قاسم في جبيل، فإن قدروا كان خيرًا، وإلا كان عملهم هذا ردًّا على غدر والده بالمطران اسطفان، مستشار عاميتي انطلياس ولحفد.
وفي ليلة عيد رأس السنة كانت العصابة على أبواب جبيل، ولكنها ارتدَّت خاسرة. قُتِل من رجالها ثلاثة، ومن عسكر المير قاسم واحد، فتفرَّق رجالها في البلاد تاركين حصنهم إلى حين.
وكان الشدياق إذ ذاك معتصمًا في اللقلوق مع مَن بقي حوله من رجاله، فقال حين بلغه هذا الخبر: الآن صرنا كما قال المثل: مثل الحجر بين شاقوفين. حاكم إقطاعي، وبطرك إقطاعي، كلاهما من غزير. انخلي يا ليلى واعجني يا زمرد.
حكم إقطاعي دينًا ودنيا. الشعب المسكين يتنكر لنا خوفًا من «الحرم» فأين نهرب؟ لا بد من الصبر. السياسة تخلق ما لا نعلم.
ثم قال لرجاله: ما العمل يا شباب؟
فقال الشدياق: وهذا رأيي، فَلْنغب مدة عن البلاد كما غاب «سعادته»، ولعلنا نعود كما عاد.
فقال آخَر: هو غلط، والأوفق أن نتخفى في البلاد فيظنوا أنهم استراحوا منا، ثم نهاجمهم متى أتت الساعة.
وبعد مناقشة دامت ساعات أجمعوا أمرهم وتفرقوا في البلاد متنكرين، فصار الشدياق سركيس معلمًا في قرطبا، يدرِّس الأولاد العربية والسريانية والحساب، ويعلمهم الخط بالقلمين: العربي والسرياني. واستحال رجاله فلاحين وبنائين وأجراء، وكلهم ينتظرون الساعة التي يطفح فيها الكيل ليشعلوا نار الثورة.
وكان الأمير بشير يحوك شراك الدسائس، وينصب الفخاخ لخصومه، والناس في البلاد فريقان: واحد مع المير بشير، وآخَر مع سميِّه الشيخ الجنبلاطي. وكما تكون الحالة في الشوف كذلك تكون في بلاد جبيل، فهي حزبان أيضًا، حزبان سياسيان لا يهمهما الدين والطائفة. يجمع حزبٌ المال ليشتري الخلعة لزعيمه، فيدفع كل واحد من الحزب ما يقدر عليه دونما نظر إلى الملة والمعتقد.
ورأى الشدياق سركيس أن الوقت قد دنا، فلمَّ شمل عصابته، وعاد إلى وكره دير القطين، حصنه الحصين.
عادت العصابة في أوائل الصيف، تظهر الفئوس والمعاول والمناجل، وتخفي الغدارات والطبنجات والمجهريات والخناجر.