هَواجِس١ المير بشير
شهر آب موسم صيد الحجل في لبنان. وفي آخِر هذا الشهر كان الأمير بشير يخرج إلى ضواحي بتدين في موكب ملوكي للصيد.
تذكَّر الأمير في ذلك النهار صقره «كاسب» الذي انتقل من هذه الدنيا الفانية حديثًا … فعزَّ عليه فقده.
أحبَّ سعادته هذا الصقر العبقري فصنع له عند أحد أبناء نفاع، في بيت شباب، تمثالًا نحاسيًّا قبل موته، ودشَّنه في حفلة كبرى واضعًا إياه في وسط الدار الداخلية، على حافة البركة الكبيرة في القصر. وقد جعلوا الماء يتدفق من منقاره كأنه الفضة البيضاء سائلة …
كان الأمير، في ذلك النهار، فرحًا مرحًا على غير عادته، ولكن امتعاضة عابرة كانت تمرُّ في خاطره حين يتذكر الفقيد العظيم — كاسب — فتجرُّه تلك الذكرى إلى التفكير بمصير إمارته بعده.
كان الأمير يقلب أموره على جميع وجوهها، فيرى أنه قد استراح من جميع خصومه، وأمن شر دسائسهم بعد أن ربح وقعة المختارة، وقتل سميَّه الذي كان يقض مضجعه بائتماره به.
وطال التفكير فتذكَّر كلمة خصمه الجنبلاطي: «البلاد لا تسع بشيرين.» وتذكر كيف أجابه هو: «المكعوم يرحل.»
أجل، إن الشيخ بشيرًا الجنبلاطي قد رحل رحلة لا رجعة بعدها، وها هو الأمير بشير يفتكر الآن بمَن يخلفه فلا يجده بين أولاده.
وبعد صراع عنيف في الجو، إذا بأسبرة كان قد سماها الأمير «ميمونة»، تقبل على سيدها وبين مخالبها طائر أكبر منها، ثم استقرت على كتف العبد مهيار المختص بحملها وخدمتها، تحدق إلى سعادة المير بإعجاب ودلال.
سمع المعلم بطرس ما قاله سيده، فعرف أن سعادته كان يفكر في مشكلة عظيمة الشأن، فسأل مولاه: أي أمل يا سيدنا؟
فانتبه المير وقال: كنتُ ظننت أنه لا يقوم بين البازات خلفًا لكاسب، وها إن «ميمونة» ظهرت وبرزت، فَلْنسمِّها بعد اليوم «ظافرة». قرِّبها إليَّ يا مهيار.
وظلَّ يدغدغها وقتًا طويلًا، وظلَّت تتمسح بصدره حتى غيَّبت رأسها تحت لحيته العامرة، فابتسم وهو يبعدها.
وسمعت حس حجال فانطلقت كالسهم، ثم رجعت بعد حين إلى أميرها بحجل عتيق، فعَنَّ له أن يسميها اسمًا أجمل، قد يكون فيه شيء من حفظ العهد، فقال للمعلم بطرس: سمَّيْناها «كاسبة» … فما رأيك؟
فأدرك بطرس حالًا قصد مولاه، فأجاب: رأي الأمير أمير الآراء. في الاسم الجديد رعي عهد، وذكرى وفيَّة للفقيد الغالي «كاسب».
ومرَّ ابن آوى في الوادي فأطلق بعض رجال الحاشية بواريدهم وجفوتتهم فأردوه، فامتعض الأمير وقال: لا الأمير ولا رجاله يصطادون ثعالب …
•••
وبعد الاستحمام كان العشاء، ثم سهرة طويلة.
قعد المير على طراحته في صدر قاعة العمود، حيث اعتاد أن يجلس بعد الرجعة من المعارك غانمًا.
قال بطرس كرامه: ما يأمر مولانا؟ فلأمرٍ ما ظهرت لنا بهذا الثوب على خلاف العادة.
فابتسم الأمير وقال: كأنك قاعد في فكري. لا فرق يا معلم بطرس بين ربح يوم صيد وربح معركة. الظفر حلو، ولو في أحقر الأمور، والغلبة أحلى ولو كانت على أجبن الطيور: الحجل.
وكان الحراس المختلفو الألوان والأجناس في مراكزهم يصغون ويسمعون.
وبعد أن سكت المير هنيهة قال: أين كاسبة؟ من حقها أن تحضر مجلسنا هذا.
ومد يده إليها يدغدغ رأسها وهو يقول، بينا تشغل فكره قضية أخرى: عافاك … ربحت معركة اليوم.
– نعم؛ لأننا نعرف أعداءنا ونتقيهم. الرئاسة يا معلم بطرس تخلق لنا أصدقاء موقتين، وأعداء دائمين.
وسكت الأمير ولم يشبع الموضوع بحثًا، غير أنه لم يَزِدْ على ما قال شيئًا.
كان يمر كفه على ظهر كاسبة ويمتص غليونه، ثم ينفخ الدخان فيخرج من فمه متغلغلًا بين شاربيه ولحيته. والتفت فرأى بطرس كرامة يتطاول كعادته حين يحضره شيء من الشعر، فقال له: عندك شيء؟ فأجاب المعلم: نعم، إن أمرت.
فقال الأمير: لعله في كاسبة، ونظر إليها نظرة عطف.
وقال المعلم: وفي كاسبة، وأنشد:
فأبدى الأمير استحسانه بقوله: أوم … وأتم المعلم بطرس:
لم يهتز المير اهتزازته المعهودة حين كان يسمع المديح، ورفع نظره إلى الأبيات المكتوبة على جدران القاعة، فقرأ بصوت عالٍ:
فأسرَّ بطرس كرامة إلى الشيخ أمين الجندي: نفس سيدنا غير طيبة الليلة.
فسمع الأمير وقال: إنْ ذكَرْنا الله لا تكون نفسنا طيبة؟ بلى يا معلم بطرس. أتمنى على ربي ألا يحلني من ديار آخِرته دارًا أقل رونقًا من قاعة العمود. مَن يذكر منكم حديثًا شريفًا في هذا المعنى؟
ثم أنشد قوله ببيت الدين:
كيف رأيت يا معلم بطرس، أليست نفسي طيبة؟ ألا تكون نفسه طيبة مَن يقول شعرًا كشعرائه؟ … تمرُّ على المرءِ ساعات لا يدري كيف يتخلص من سودائها، ثم تنقضي ولا يدري كيف انفرجت تلك الأزمة.
وتحلحل ونفض رماد غليونه فتقدم الخادم لرفعه من الحضرة، وتلك كانت علامة ارفضاض المجلس الأميري والانصراف.
وبعد دقائق معدودات كان قصر الأمير صامتًا مظلمًا لا يُرى النور إلا من نوافذه التي يدخلها ضوء القمر.
لا ضوء في ذلك القصر العظيم إلا ما يرسله قنديل معلَّق في البهو، فهذا وحده كان يُضاء طول الليل.
فهمهم المير وقال: هذه جنة تجري فيها ومن تحتها الأنهار. اللهم أعضنا عنها مثلها.
ولما وقف على شفير الشرفة، ألقى بنظرة على الوادي العميق القائم على كتفه القصر.
رأى أشجار التوت فخالها صفوف عسكر عارضة الرماح، مصطفة فوق جدران كأنها مدرج، جدران شيدتها يد الفلاح اللبناني وعنه ورثها الأمير.
رأى ذلك المشهد الجميل فأعجبته نفسه وشعبه حتى تخيَّلَ قضبان التوت رماحًا تصون الإمارة.
وكان موسم الحرير في تلك السنة مقبلًا جدًّا، وقد قبض الأمير من محصوله ما ملأ الصندوق، فاستبشر بالموسم المقبل، ولكنه تذكر ما طلبه منه باشا عكا، فمر في خاطره المثل القائل: لا تستكثر أولادك على عزرائيل، ولا مالك على ظالم.
انتفض صدره في تلك اللحظة، وخرجت الزفرة من أنفه علامة استهزاء لم يَدْرِ الأمير أهي له أم عليه، إلا أنه اطمأنَّ أخيرًا إلى استطاعته تأدية ثمن «الخلعة» مهما أغلاها الباشا.
وكان الوادي يزداد رهبةً كلما مال القمر صوب بعقلين، فتمثل لعينيه وادي يوشافاط حيث ينتظر أن يقف للدينونة.
ونظر إلى الحور والسرو والشربين، فحسب تلك الأشجار عمالقة تريد منازلته، ورفع عينيه إلى الجبال المناوحة فخال الأشجار المنتصبة على قممها الشامخة جيوشًا متأهبة.
وقفز فكره إلى موقع قصره الاستراتيجي، فأعجبه وقال: من أين يأتينا العدو ولا نراه؟ أمن الوادي، والسبيل كالدرج اللولبي؟ أمن الدير ودون ذلك أهوال؟ أمن بعقلين، وعيون الحراس ساهرة لا تنام؟ إننا لا نؤخذ ما دام الله معنا.
وما ذكر رضا الله عنه حتى لاحت ضحاياه.
مرُّوا أمامه في تلك الدقيقة الرهيبة كجنود معركة منهزمين، أو جنود سلَّموا وألقوا سلاحهم، فتعجَّب من أين تجيء هذه الأفكار السوداء. وأراد أن يخبئها تحت لحافه، فهرع إلى مخدعه، فما غمضت عينه حتى رأى في نومه حيَّة رقطاء تنساب نحو «كاسبة»، فاستلَّ خنجره وضرب، فإذا بالطعنة تصيب رأسها فماتت …
استيقظ مغمومًا، فترك فراشه، ولبس غنبازه، وخرج غير متزنر ولا شاكًّا خنجرًا.
وقف هناك حيث ظنَّ أنه يتغلب على هواجسه بخرير الماء، ولكنه لم يفلح.
لم يصدق ما كان يتراءى له، وأيقن أن لا شيء مما توهم، فشدد عزمه وفرك عينيه مرارًا فتغيَّر المشهد.
رأى حجارة واجهة القصرة البيضاء قد استحالت إلى حمرة حجارة عكار التي نقلها فخر الدين وبنى بها قلعة دير القمر حين قهر ابن سيفا، فصاح الأمير: الله، ماذا بنا الليلة! صار بطل المزة وسانور أضعف الناس. ما هذه الأوهام!
وأخذ يخمن ويحسب ويظن، فما أصاب في واحد من ظنونه.
فقال الخفير: لا تنسَ أن الليل ناصف. ثم التفت إلى القمر وقال: أكثر أكثر. الساعة الخامسة — زواليه — تقريبًا. ما صبح إلا فتح. مَن يتجاسر على دق باب سعادته في هذه الساعة؟
فقال الرجل: ما العمل، يا أخي، أنا قعدان حسن شهاب. اسمح لي بالدخول، وأنا المسئول.
– لا، لا، لا. لا قعدان ولا قيمان، وإذا غضب سعادته فمَن يردُّ لي رأسي إلى محله؟ لا، لا، لا.
فسمع صوت من الشرفة يقول: خالد، اسمح له، وتعالَ أنت معه. فعرف الخفير خالد أنه صوت سيده المير فتعجب.
ومشى الخفير خالد مع الرجل، فإذا بالأمير قاعد ينتظره في قاعة دار الحريم. نهض له حين عرفه، وقَبَّل كتفه حين سلَّم، ثم التفت بالخفير التفاتة معناها: انصرف.
وروى قعدان لعمه المير بشير ما حل بالمير قاسم، وكيف وقع في يد عصابة بلاد جبيل. فأسكت الأمير هنيهة هذا الخبر، ثم قال لقعدان: قُلْ للحارس الخارجي يحضر.
وقال له حين أقبل: المعلم بطرس.
وجاء المعلم بطرس، فكانت بين المير ومستشاره مداولة طويلة انتهت مع الصبح.
وقبل شروق الشمس كانت خيَّالة المير تطأ بحوافر خيلها ساحة دير القمر.
وظل غضب الأمير يشتد فيتوعد ويتهدد.
فصاح الأمير: وماذا يورثني هذا التنبل غير الشماتة؟ قاسم مهما علمناه لا يتعلم. أكبر مصائبي هي في أولادي. نسيت حين سألتني أمس عن كلمة قلتها في الصيد. كنت أستعرض أولادي ثلاثتهم، فما وجدت فيهم واحدًا يستطيع أن يخلفني. صح فينا القول المأثور: النجيب … النجيب … نسيت المثل، كمِّله أنت.
فقال المعلم بطرس: النجيب لا يُنجِب. وهذا لا يصح فيك إن شاء الله.
فقال الأمير: بلى صحَّ يا بطرس.
– أنت غضبان الآن يا سيدي، ومتى ذهب الغضب تعرف أن مثل هذا قد يحدث. المهم أن ندركه قبل أن يصاب بأذى.
فانتفض الأمير وقال: وجِّه الآن رسالة إلى قائد الخيَّالة، قُلْ له يأمرك المير أن تضرب، وتقتل، وتنهب، وتحرق كل بيت، وكل قرية تعرف أن العصابة دخلتها. لا بد من الإتيان برأس الشدياق سركيس مهما كلف الأمر. هذا الكلب يأسر ابن المير بشير؟ يا خجلتي عند الباشا إذا بلغه الخبر! بلاد جبيل شوكة في عيني، ولا بد من قلع هذه الشوكة.
فقال بطرس: إن حزب سعادتك قوي في بلاد جبيل.
فصاح المير: لا تصدق! هذا كلام كذابين يهمهم بياض الوجه، يهمهم الاستغلال، ومتى دارت الدوائر على المير كان هؤلاء أول مَن يطبِّل ويزمر للراكب. النار تحت الرماد يا معلم، نسمة هواء تشعلها. بلاد عنيدة، تحب المير يوسف وأولاده. هؤلاء حزب المير يوسف وأولاد باز.
– ولكنهم صاروا كلهم تحت التراب.
– وحبهم ما زال في القلوب … أنا المخطي. جعلت من أولاد باز شهداء تقدِّسهم العامة. آه من العوام … إنهم دائمًا أعداء الجالس على الكرسي، يتذكرون الرائح، وينسون جميع خطاياه.
– لا تضطرب يا مولاي. كل شيء هادئ. هذا حادث بسيط، فالأعداء الكبار راحوا.
فنفر المير وقال: حادث بسيط! لصوص يقبضون على حاكمهم، وتقول حادث بسيط؟ الله! كيف يكون الحادث المركب يا بطرس، إذا كان هذا بسيطًا؟ لا تهوِّنها.
وفي تلك الدقيقة أدخل صاحب الإذن على الأمير رجلًا يحمل رسالة فيها أن المير قاسم قد نجا، وهو الآن في سرايته بجبيل، وقد سيَّر رجاله وراء العصابة وهم الآن يتعقبون آثارها.
فقال بطرس كرامه: أتأمر يا مولاي بإرجاع الخيَّالة؟
أصلح غلطتك بالانتقام من بلاد جبيل، أريد أن أرى من شرفة بتدين دخان بلاد جبيل يتصاعد فوق أرز جبل جاج، أريد أن أرى جبيل تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
وظلَّ كبس البيوت والتثقيل على الناس في بلاد جبيل أشهرًا، ففُرِضت الغرامات على القرى، وكانت فرصة سانحة للوشايات والتشفيات، فانتقم الأخ من أخيه، والجار من جاره.
وظلَّ الأمير ينتظر قدوم رأس الشدياق سركيس وتقتيل أبطال عصابته، والخَيَّالة عاجزون عن ذلك مع عظم جورهم وشدة فتكهم وقسوتهم.
شفى هذا التنكيل نفس الأمير بشير، ولكنه لم يُبرِئ سقمها؛ فحين جاء ابنه قاسم إلى بتدين بعد أشهر، لم يسمح له بالدخول عليه.