مقدمة
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سافرت للمرة الأولى إلى الولايات المتحدة. فلم أكن أعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية، وما كان في ذهني من العرب وأخبارهم غير ما كانت تُسمِعه الأمهاتُ في لبنان صغارَهن. هس، جا البدوي، والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم «بعبعًا» تخوِّف به أولادَها.
هجرت وطني وفي صدري الخوف ممَّن أتكلم لغتهم، والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم. والبغض والخوف هما توأما الجهل.
أما الأمة الفرنسية فما كنت أعرف من أمم الأرض سواها، ولكنها معرفة مطوَّسة. كانت المدارس تنشر أذنابها في لبنان: إن فرنسا لَأعظمُ أمم الأرض، هي أشرفها وأغناها وأرقاها، بل هي قطب المدنيَّة، وعاصمة النور والجمال؛ هي الطاووس بين الأمم.
أما أميركا فقد كنتُ فيما عرفته منها بعيدًا عن الأم وعن المدرسة. تناولتُ الكأس من يد الوجود، وقد ملأها الشعب الأميركي بنفسه. ومع ذلك فلم تخلُ مما تميَّزت به الكأسان الأوليان. رشفت في نيويورك الجام تلو الجام من العلوم المَشُوبة، وفيها أشياء من الجهل المتلألئ.
غدوتُ بعد عشر سنين في أميركا مُعجَبًا بنشاط الشعب الأميركي، وبحريته في الفكر والقول والعمل، خائفًا من نتيجة الجهاد المادي هناك، ومن التكالُب في سبيل الحياة الدنيا. وما كان خوفي على الأمة الأميركية وأنا في ذاك الحين، في عين نفسي، قطبَ كلِّ ما اهتممتُ له، ونقطة الدائرة في كل ما مِلتُ إليه. خفت أن أغلب في ذاك الجهاد، أشفقتُ على نفسي من ذاك التكالُب.
ونسيت فرنسا إلا في آدابها، تلك الآداب التي زادتني ضَعفًا وتردُّدًا في مضمار الحياة. صرفتني عن حقائق الوجود المادية، وزيَّنتْ لي في الفنون الجميلة الحقائق المعنوية. صرت في نيويورك كئيبًا يحمل كتابًا، وغاويًا من غواة الفنون يمشي في الجنائن العمومية سبهللًا! فانفتحت أمامي أبوابٌ من العلم متعددة، واتَّسع مجال الاضطراب والغرور.
ثم في غزواتي للكتب الإنكليزية غنمت كتابًا استوقفني ظاهِرُه الفخم، وراقتني الصور فيه. وما كان العنوان ليُنبِئني بشيء أكره أو أحب.
لله أنتِ أيتها البلاد العربية التي لم يشأ الله أن أجهلك حياتي كلها، فبعث إليَّ — وأنا بعيد عنك — إنكليزيًّا يعرِّفني إلى رسولك، وأميركيًّا يصِفُ لي محاسنَ أبنائك.
بعد أن قرأت كتاب الحمراء مازَجَ عقليتي الأميركية الفرنسية الإنكليزية شيءٌ من الخيال الشرقي، فصرت أحلم بذاك المجد الماضي أحلامًا تمثِّلني حيًّا فيه أو تمثِّله حيًّا أمامي.
عدت إلى بلادي كئيبًا يحمل كتابًا، ويرغب في أن يكون الكتاب مائة كتاب وكتاب. وكنت لا أعرف من لغتي وآدابها غير اليسير اليسير، فتغلغلتُ في سراديبها دون أن أرثي لحالي. وبينا أنا أتخبَّط في دَياجي اللغة عثرتُ على كتاب شعر أنساني الكسائي وسيبويه، وكلَّ مَن علم حرفًا في البصرة والكوفة.
جمعني الله — سبحانه وتعالى — بأبي العلاء المعرِّي بعد أن هداني بوساطة الفيلسوف الإنكليزي إلى الرسول العربي. قرأت اللزوميات مُعجَبًا بها، ثم قرأتها مترنِّحًا، ورحتُ أُفاخِر بأني من الأمة التي نبغ فيها هذا الشاعر الحر، الجسور، الحكيم.
•••
عدت إلى أميركا أستصحِب صاحب اللزوميات، وكنت ترجمانه هناك. فساقتني المهنة إلى الدائرة الشرقية في دار الكتب العمومية، فاجتمعتُ فيها بعدد من المستشرقين الذين صوَّروا لي الحياة رحلةً في الأرض دائمة، وصوَّروا الأرض بادية عربية، نبغ فيها محمد بن عبد الله القرشي، وامرؤ القيس الكِنْدي، الشعر والنبوءة والدهناء، والواحات في بحار من الرمل، والنخيل في الواحات يهمس في أغصانها النسيم، وتهزُّ جذوعها السموم، وصوت الساقية وهي تغني للأرض المنعمة في ظلال النخيل، وبنية البدو تغني لجمل الساقية — وماذا في نيويورك؟
ماذا في نيويورك غير الضوضاء والعناء والبلاء؟
وكل هؤلاء من الأجانب يسيحون في بلاد كانت قديمًا ولا شك بلادَ أجدادي، ويخاطرون بأنفسهم فيها حبًّا بالعلم، فيكشفون منه المخبأ، ويجلون المصدأ، ويقرِّبون البعيد، ويغربون في اللذيذ المفيد. وأنا في نيويورك كئيب يحمل كتابًا، ويَطرق للمحرر الأميركي المتغطرس بابًا. أديب شعره طويل، وصدره عليل، يسرف من ذهب الحياة في تسويد المقالات. آلة كاتبة، يرقص حولها الهم والأمل متخاصرَيْن. أفٍّ لها من زوجة نقاقة، ومن حديدة لباب الشهرة دقاقة، وأية عبودية أشد من عبودية الآلة الكاتبة وأخبث. طلَّقتُها ثلاثًا، وعدت إلى بلادي أعدُّ العدَّة لرحلة تبعدني عنها، وعن الكتب والمجلات، والأدباء والأديبات.
وكان لي صديق في دمشق يجرُّ قيودًا للسياسة ثقيلة، فحاول التفلت منها. كسرها ذات يوم فأثار السلطة عليه، فصفع السلطة وفرَّ هاربًا إلى الفريكة، فحلَّ فيها أهلًا ونزل سهلًا — سهلًا في القلوب، ومنحدرًا في الوادي. أقام محمد كرد علي عندنا أسبوعًا عددناه من شوارد الزمان. الوادي مهد الحرية وحصنها الحصين. سمعني صديقي أردِّد ذات يوم هذه الكلمات، فقال: لا تنخدع يا أمين، الوادي قريب من دمشق، ومن بيروت، وفي المدينتين للعبودية عبيد، وللظلم سادة رعاديد. لا بأس بالهمس: والحمد لله! ولكنك إذا رفعت صوتك تسمعك الصخور فتنمُّ عليك وعليَّ.
فقلت: صدقت، وفي نيتي أن أهجر حتى هذا الوادي، في نيتي رحلة إلى البادية، إلى البلاد العربية على هجين يبعدني عن كل مظلمة، وكل عبودية. فهلَّل صديقي وقال: نسير معًا. واتَّفقنا يومئذ أن نستعين بتجار من نجد في الشام يمهدون لنا السبيل، ويزوِّدوننا بكتب التوصية إلى أهلهم وراء النفود.
لكن الأيام عدوة الأحلام، أو أنها لا تحقِّق منها غير ما كان ناضجًا في القلوب. تعقَّبت السلطة الأثيمة صديقي كرد علي، فاضطر أن يتركني وحدي في الفريكة، ويفرَّ هاربًا من سوريا. ثم سافر إلى أوروبة، فذاق من حلو المدنية فيها ما استلذَّه فاستزادها. فقالت له عُدْ فعاد، فتعددت رحلاته من المشرق إلى بلاد المغرب، وأثمرت ثمارًا طيبة تجدها في كتابه القيِّم «غرائب الغرب».
أما أنا فقد طوَّحت بي الأقدار، وأبعدتني ثانيةً عن الوادي، وعن البلاد العربية كلها، عادت بي إلى نيويورك. ثم نُكِبت الإنسانية بالحرب العظمى، فزلزلت الأرض زلزالها، فاستعادت ما لها من التراب الذي كان بشرًا مسلحًا محاربًا، وقضت في الكثيرين ممَّن استَبْقَت على جميل الأحلام والآمال.
•••
ومن الأحلام ما يصبح جزءًا من حياة الإنسان، فلا تنفك تزعجه وإن شاخت، فتحرضه وتستحثه حتى يسعى في تحقيقها.
رافقت العرب في خروجهم على الترك أثناء الحرب، رافقتهم في المجلات الإنكليزية، والجرائد العربية، فكنت أقوم فيما أكتب ببعض الواجب الذي يفرضه الحب والإعجاب. وتوفقت في تلك الأيام إلى زيارة الأندلس، فوقفت في الحمراء في الغرفة التي كتب فيها واشنطون أرفين كتابَه النفيس، فسمعت أصواتًا تناديني باسم القومية، ومن أجل الوطن، وتدعوني إلى مهبط الوحي والنبوءة.
وأهم من ذلك يومئذٍ خبرٌ قرأتُه مدهوشًا مسرورًا؛ جاءني الصديق بصديق آخر، وهو من الخلَّان الأوَّلين الذين كانوا يزورونني في الفريكة بعد عودتي الثانية من أميركا، ويشجعونني في إقبالهم على رسالتي كتابةً وخطابة في سبيل الإصلاح الاجتماعي. وهذا الصديق هو قسطنطين يني الذي أبعدته عني الحرب العظمى، وحرمتني أخباره. فجاء العزيز سركيس، كأنه رسول العناية إليَّ، يبشِّرني بوجوده في خدمة الملك حسين.
اتفق أن وصل كتابك إليَّ وجلالة الملك حسين في جدة، فقرأته له كلمةً كلمة، وتباحثنا مليًّا في الموضوع … وهو يرحب بك إذا حضرت. ومن رأيه أن لا لزوم للسياحة في جزيرة العرب كلها، فهو يساعدك على زيارة الحجاز من أقصاه إلى أقصاه، ويعطيك المعلومات اللازمة، ويُطلِعك على جميع العقود والنصوص والمفاوضات بينه وبين الدول من مطلع النهضة إلى اليوم؛ ليكون في استطاعتك تأليف كتاب عن العرب مستوفٍ من جميع أبوابه. ومن رأيه أنك متى درست أخلاق قبائل الحجاز تكون درست أخلاق بقية القبائل؛ لأنهم كلهم متقاربون بالعادات والمشارب … أما زيارتك الرياض وابن سعود فهذه مستحيلة؛ لاستحكام العداء بينه وبين الحجاز … والسياحة توافق أن تكون في فصل الشتاء، ولا تستغرق أكثر من أربعة أشهر ولو انتهت في بغداد … وإني بكل سرور أرافقك حيث شئت … أما الكعبة فلا يُؤذن لك بزيارتها في الوقت الحاضر للأسباب المعروفة … والسياحة تكلِّفك لا أقل من خمسمائة جنيه.
في هذه المعلومات يبدو للقارئ شيء من سؤالات سألتها ولم أقف فيها عند حد من التحفُّظ والمداراة. ولا لوم عليَّ وأنا بعيدٌ حقيقةً وعلمًا عن البلاد العربية، إذا استنرتُ بكل ما ينيرني في رحلتي قبل أن أُقدِم عليها. ولكن سؤالي عن زيارة الكعبة — وأنا مسيحي — يليق بأميركي لا يعرف من العالم غير بلاده، فإذا قيل له إنه لا يُؤذن للمسيحي بالدخول إلى مكة، اعتراه الدهش والعجب.
أما أنا فما دهشت ولا أسفت، بل كنت أعلل النفس بتحقيق أمنيتي بعد أن أقابل جلالة الملك. كيف لا وهو زعيم النهضة العربية القومية الإصلاحية، ومنقذ العرب الأكبر؟! كيف لا والمسيحيون السوريون من العرب، والإخاء والمساواة ركنان من أركان النهضة؟! ما أغرب الأحلام التي كنا نحلمها في بلاد الغرائب، وما أبعدها! لا أظن أن مَن كان قادمًا من القمر أو المريخ يحلم أحلامًا أغرب منها وأعجب.
وفي معلومات قسطنطين مما استُرعِي له نظر القارئ أيضًا قول جلالته: «أن لا لزوم للسياحة في جزيرة العرب كلها»، ولكنني لم أتقيَّد بهذا القول لأني كنت أعرف في الأقل أوليات الجغرافية العربية، وأتأكد أن «مَن يزور الحجاز من أقصاه إلى أقصاه»، لا يكون قد زار البلاد العربية كلها، ولا جزءًا كبيرًا منها. وهناك غير ما تقدَّم من المعلومات التي عرفت فيما بعدُ القصدَ السياسي فيها. وما كان صديقي غير ناقل في أكثرها كلامَ جلالة الملك الذي لم يشأ على ما يظهر أن أَزُور غير الحجاز. وقد خبر قسطنطين ما خبرته في اليمن وعسير مثلًا بخصوص القبائل التي يختلف بعضها عن بعض في الملابس والمشارب والعادات. وتأكَّد مثلي أن مَن يحصر زيارته بالحجاز لا يستطيع أن يؤلِّف كتابًا عن العرب مستوفيًا من جميع أبوابه. وأدرك بعد رحلتنا الأولى من جدة إلى عدن بأن نفقات السياحة ستكون ضِعف ما ذكر، وأن مدتها قد تتجاوز السنة، ولا سيما إذا تمكَّنت من السياحة في نجد. وما كانت زيارة الرياض وابن سعود بالأمر المستحيل. على أنني إذا ما ذكرتها الآن أضحك من تلك البساطة التي حملتني على توجيه السؤال بخصوصها إلى الملك حسين.
•••
وهذا الكتاب وفيه ترجمة سبعة من أمراء العرب غير الحسين بن علي، وكلهم ملوك — وإن اختلفت الألقاب — مستقلُّون بنعمة الله بعضهم عن بعض، وجاهلون شخصيًّا بعضهم بعضًا. فإننا إذا استثنينا الملك حسينًا، وابنه الملك فيصلًا، قد لا نجد بينهم مَن يعرف زميله الملكي معرفةً شخصية خاصة، أو يعرف من الأقطار العربية معرفةً حقيقية تامة غير القُطر الذي هو حاكِمه.
وليس في ملوك العرب اليومَ ملكٌ ساح في البلاد العربية كلها، وليس فيهم مَن يستطيع أن يقول: إنني أعرف بلاد العرب، وحكَّامها، وسكانها، وقبائلها، وأحوالها الاقتصادية، والزراعية، وشئونها السياسية الداخلية والخارجية مما لديَّ من تقارير العارفين، وأخبار المنزَّهين عن الأغراض السياسية، والتحزُّبات المذهبية. ولا أستثني من هذا القول الملك حسينًا، أو الإمام يحيى، أو السلطان عبد العزيز آل سعود.
قد يكون الملك حسين أكثرهم علمًا بأحوال سكان البلاد من بدو وحضر، وبمذاهبهم، ونزعاتهم، ونعراتهم، وعداواتهم، وسياسة أمرائهم؛ لأن مركزه المشرف بالكعبة التي يحجُّها المسلمون من البلاد العربية كافة، بل من أقطار العالم الأربعة، يساعده على ذلك. وقد يعرف من أحوال جارَيْه الإدريسي وابن سعود ما يستطيع أن يستند إليه فينفعه في سياسته الحجازية، ولا ينفعه — بل قد يضره — في سياسته العربية. أريد بذلك أن علمه، وإن تجاوز ما يتناول قبائل نجد وعسير، وما يستطيع كلٌّ من حاكِمَيْها أن يجنِّد من الناس، ويجمع من المال، ومَن لهم النفوذ الأكبر في بلاديهما؛ فلا يصل ذاك العلم إلى عقلية الإدريسي مثلًا، أو إلى قوة ابن سعود الشخصية والمعنوية. إن لسلطان نجد في ذهن الملك حسين صورتَين لا ثالثة لهما؛ صورة تجسِّم نبوغه فلا يُكترَث بها، وصورة تنفي ذاك النبوغ فيُعوَّل عليها، فكيف السبيل مع هذا الجهل إلى التفاهم والولاء؟
أما الإمام يحيى فلا شك أنه يعرف — وهو العالِم الأكبر في أمراء العرب — أقطارَ اليمن وعسير وحضرموت وبعض الحجاز، معرفةً حقيقية تامة، ولكنه يجهل البلاد النجدية وسلطانها، وحقيقة حال أهلها من بدو وحضر، أو أنه لا يكترث بذلك. ولا شك أن السلطان عبد العزيز أكثر ملوك العرب علمًا بالقبائل والعشائر في نجد والحجاز وبلاد الشام، وفي مسقط وعُمان وما يليهما، ولكنه قلَّما يكترث إذا ذُكِر اليمن في غير السياسة. فإذا حدَّثته عن عادات أهل ذاك القطر القديم وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، فكأنك تحدِّثه عن شعب ليس بعربي؛ فيتفكَّه ويستفيد.
ولا أظن أن من وظيفة الحكومة البريطانية أو من واجباتها، فضلًا عن ميلها ومصلحتها، أن تعرِّف ملوك العرب بعضهم إلى بعض، أو أن تُطلِعهم على أحوال الأقطار العربية كلها، ولا أظن أن أحدًا من أبناء العرب يستطيع أن يقوم بهذا الواجب دون أن يرحل الرحلة التي قمت بها.
فها أنا إذن في هذا الكتاب، ولا فخر ولا اعتذار، أعرِّف سادتي ملوك العرب بعضهم إلى بعض، تعريفًا يتجاوز الرسميات والسطحيات، وليتحقَّق سادتي أنْ ليس في الثناء فيما كتبتُ تزلُّف أو مُداهَنة، ولا في النقد تشيُّع أو تحامُل، إنما غايتي القصوى تمهيد السبيل إلى التفاهم المؤسَّس على العلم والخبر اليقين.
•••
كان قصدي الأول عندما سافرت من نيويورك أن أسيح في الحجاز واليمن ونجد، لعلمي أن في هذه الأقطار الثلاثة تجتمع العرب كافة، ففي اليمن قحطان، وفي الحجاز ونجد فرعا عدنان؛ أيْ مُضَر وربيعة.
ولكن المشاهَدات الأولى غيَّرت من قصدي، فشذَّبت ونقَّحت فيه، حتى أصبح يشتمل على جميع شبه الجزيرة.
أما الحجاز، وإن كان من أصغر أقطار الجزيرة مساحةً، وأقلها سكانًا، فهو أهمها مركزًا، وأولها في السياسة الدولية مقامًا، وقد صار بفضل جلالة الملك محطَّ رحالِ الوطنيين المجاهدين في سبيل الوحدة العربية؛ فقلَّ مَن لا يعرف شيئًا عنه. الحجاز كتاب مفتوح، وأهمُّ ما في الكتاب اليومَ بعد الحرمين هو الفصل الذي عنوانه: «الملك حسين، النهضة العربية»؛ فقد اكتفيتُ بهذا الفصل، وولَّيت وجهي الأقطار الأخرى أبغي زيارتها كلها.
ثم قال: وليس لمكلَّا ميناء نرسو فيه، وقد لا تسمح الأنواء بالرسو في عُرْض البحر، وأنت تعرف باخرتي، عرفتها في هدأة البحر الأحمر، فكيف في حضرموت؟! اقبل نصيحتي … إلخ.
فانتصحت آسِفًا. فجاء هذا الكتاب، وليس فيه غير بعض الشيء عن حضرموت أخذته عن رجال من ذاك القطر، اجتمعت بهم في عدن والحديدة. وهذا بعض نقصٍ في كتابي.
وهناك عمان وقطر، تلك البلاد التي تمتد من الساحل تجاه البحرين جنوبًا إلى مسقط، وفيها أربع أو خمس «مشيخات» مستقلة. فما عذري فيها؟ أجيب بكلمة واحدة: العجز.
عندما عدت من رحلتي في نجد رأيتني مرتويًا إلى حدٍّ يخشى مع الزيادة الاستسقاء، أو بالأحرى أمسيت وذهني ونفسي كالإسفنجة، وقد امتلأت ماءً فلا تحتمل من الزيادة نقطة واحدة. وما رأيت، وأنا في البحرين، أن أزور تلك «المشيخات» في عمان قبل أن أزور سلطان نجد في الرياض. فلم آسف على ما خسرت في جنب ما كسبت، ولكنني لا أزال أعلِّل النفس بما فات.
بقي ذاك القُطر الجديد في الشمال الغربي الذي أنشأته السياسة الجديدة، سياسة «بعد الحرب»، وأمَّرت عليه النجل الثاني من أنجال الملك حسين الأمير عبد الله، فما تلك الإمارة في اعتقادي من الإمارات العربية الثابتة الدائمة. قد لا تزول في عهد أميرها الأول، وقد يكون أميرها الأول الحامل غدًا لواءَ الاتحاد إلى ما وراء الأردن، أو إلى ما دون العقبة وتبوك. أما إذا فازت سياسة التقسيم، وثبتت إمارة شرقي الأردن، فالعذر سلفًا إلى سموِّ أميرها، والتفكير ولو مؤخرًا إذا أبقانا الله وإياه على مسرح الحياة.
•••
وفي هذا الكتاب طائفة من الآراء التي تهم العرب خصوصًا والإسلام عمومًا، والتي تهم الأوروبيين عمومًا، والإنكليز خصوصًا، يجدها القارئ في مكانها من البحث. أما الذين لا تهمهم السياسة بقدرِ ما يهمهم العلم والأدب والأسفار، فقد خصصتُهم بقسمٍ مما كتبت.
وليس في الكتاب — أدبًا كان أو سياسة، وصفًا أو نقدًا — إلا الحقيقة غير المجردة؛ لأن في التجرُّد، في العري، شيئًا من سوء الأدب، ولا سيما إذا كان المجرِّد والمجرَّد في الغُربة. ولا ينسى القارئ أني جئت إلى البلاد العربية من أرضٍ قصيَّة، يكثر فيها التجرُّد حقيقةً ومعنى. ثم سِحتُ في بعض أرض الهند حيث يستشعر الناس الهواء، ولا يلبسون أحيانًا غير نسيج من الشمس والغبار؛ فسئمت التجرُّد ولكنني لا أخفي الحقيقة فيما ألبسها، وكأنني بالقارئ يقول: إن في احتجاجك على العُري شيئًا من الدهاء. فأعتذر إليه فيما قد يُعدُّ مُكابَرة إذا اعترفتُ بالذنب. نعم، وفيه كذلك شيء من تلك الصناعة التي يندد بها أرباب الدين على الدوام، وتمارسها على الدوام النساء.
وما الضرر في اليسير من المساحيق والألوان، وفي المهلهل المطرَّز من الكساء؟ إذا كانت الحقيقة المجرَّدة جميلةً فهي في ثوبها المهلهل أجمل. وإذا كانت تؤلم، فهي في زينتها أدعى إلى الألم والحزن. إلا أنها في كل حال لا تجالس التعصُّب، ولا تدنو من التشيُّع والتشنيع، فمن هذه الوجهة لك أن تحسبها مجردة كل التجرُّد.
وقد تجيء في بعض الأماكن ناقصة أو مخطئة، شأن كثير من الأمور والأفكار البشرية؛ ذلك لأن النقص في كل ما يُرى ويُدرَك موجود، والخطأ لا يُستدرك كله. فقد بذلت في التحقيق والتدقيق طاقتي، ولا عُذرَ مع جهد تناهى.
على أني متيقِّن أن كل مَن يطالع الكتابَ من الناطقين بالضاد مهما يكن علمه في البلاد العربية وأهلها، يجد فيه بعض الجديد المفيد. ولإخواني الأدباء خاصة، في سوريا كانوا أو في مصر وأميركا، أقول: تعالوا سِيحوا معي، فتعودوا إلى ما أبعدكم عنه التفرنُج والتأمرُك، إلى حقائقَ لمسنا ظلَّها في آداب العرب القديمة، وإلى حقائقَ أنستنا إياها الأيام والغُربة، وإلى حقائقَ يجهلها كثيرون حتى من العرب أنفسهم، وإلى حقائقَ ننقلها عن علماء الإفرنج ملتويةً مشوَّهة.
تعالوا سِيحوا معي فتعودوا إلى بلاد عجيبة على فقرها، وإلى شعبٍ كريم على آفاته، وإلى أمة حرَّة أبِيَّة على ذنوبها. أيها الإخوان الأدباء، إن في أكثر المدارس السورية روحًا أجنبيًّا من شأنه أن يُبعِد السوريين واللبنانيين عن كل ما هو عربي في غير اللسان. ولو استطاع لَأبعَدَهم كذلك عن اللسان — لَقتلَ فيهم حبَّ اللغة العربية. وفي البلادِ اليومَ سياسةٌ توسِّع الثلمةَ بيننا وبين العرب وبلادهم. أنظل دائمًا حيث كنا مدةَ خمسين سنة؟
إن البغض والخوف توءما الجهل، ومن المجهل ما يولد الحب والإعجاب. وإن الروح الذي يسعى في إبعادنا عن العرب لا يفلح — إن شاء الله — في مسعاه؛ فقد بددت الأيام والأوهام التي صوَّرت لنا الكمالَ كله في الأمم الأجنبية، وعسى أن هذا الكتاب يبدِّد الأوهامَ التي صوَّرت لنا «البعبع» في العرب.
الفريكة، لبنان، في ٢٧ أيار سنة ١٩٢٤ و٢٣ شوال سنة ١٣٤٣