الملك حسين بن علي
(١) الحجاز
- حدوده: يحد شمالًا العقبة وإمارة شرقي الأردن، جنوبًا القنفذة وجبال عسير، غربًا البحر الأحمر، أما شرقًا فحدوده مختلف عليها وغير واضحة.
- عدد سكانه: نحو ثلاثمائة ألف، وأكثرهم من البدو.
- مساحته: نحو خمسة وسبعين ألف ميل مربع.
- أهم قبائله: حرب، وعتيبة، وجهينة، والحويطات، وبنو ثقيف، وبنو سفيان.
- الأشراف: العبادلة (ومنهم البيت المالك)، وذوو حسن، وقريش.
- أهم مدنه: في الداخل: مكة، والمدينة، والطائف. وعلى البحر: جدة، وينبع، والوجه.
- مذاهبه: السنة: حنفيُّون وشوافع. والشيعة: جعفريُّون وزيديُّون.
(٢) البدو والحضر
في اليوم الخامس والعشرين من شهر شباط ١٩٢٢ (٨ رجب سنة ١٣٤٠) وطئتُ لأول مرة أرضًا في شبه الجزيرة العربية، وقابلتُ ملكًا ما عرف العربُ غيرَه من ملوك العرب. جئت من نيويورك أزوره وفي قلبي بعض التردُّد مما تصوَّرته في رسمه الذي نشرته الجرائد، وجاء من مكة وفي ذهنه صورة وشهرة جسَّمهما لديه صديقان لي في خدمة جلالته، هما قسطنطين يني والشيخ فؤاد الخطيب. وقد اجتمعنا في جدة يومَ وصلت إليها، وكانت أولى دهشاتي فيها أن محافظ المدينة الذي تفضَّل فلاقاني على الرصيف بلَّغَ جلالة الملك بالهاتف خبر وصولي.
الهاتف في مكة المكرمة! ولكنه مستعرَب تمامًا، فالحجاز هي البلاد العربية الوحيدة التي لا تسمع فيها آلو آلو، الناس هناك يهتفون ويتحادثون بلغةٍ عربية لا رطانةَ البتة فيها.
– مركز، أعطني مكة.
لا إبطاء، ولا تسويف، ولا مشاتمة.
– مكة، محافِظ جدة يتكلم. الديوان. خير. قُل لجلالة الملك …
خير … خير … أبشِر.
ثم كلمني المحافظ قائلًا: سيدنا لم يتأكَّد قدومَكم في هذه الباخرة؛ لذلك لم ينزل لملاقاتكم، ولكنه يجيء اليوم.
وبعد ثلاث ساعات من حديث الهاتف جاء رسول يقول: سيدنا دخل البلد. ثم سمعنا صوت السيارة في الشارع، فسارعنا إلى باب القصر ننتظر قدوم جلالته، وكان قد اجتمع هناك نفر من أعيان جدة وعلمائها.
وقفتْ أمام الباب سيارة فخمة، فخرج منها ناظر الخارجية، ثم ناظر المالية، ثم الأمير زيد، ثم الملك حسين.
صافحته مسلِّمًا سلامًا عربيًّا: حيا الله مولاي بالخير. ولا أذكر بأية كلمة حياني. ولكنني لا أنسى أننا في صعودنا الدرج كان يتلطف فيأخذ بيدي لأسير إلى جانبه.
دخلنا رَدهة الاستقبال في الطابق الثاني، وهي طويلة تشرف على البحر غربًا وشمالًا، وليس في فرشها ما يمتاز عن فرش البيت، بيت الضيافة، الذي أُنزِلت فيه. إن البساطة لتدنو في القصر من التقشف، فتبدو في السجاد العادي، وكراسي الخيزران، والدواوين المغطَّاة بقماش من القطن، والجدران العادية الخالية حتى من الآيات، كأنها تتنازل إلى شيء من المدنية إكرامًا للزائرين الأجانب فقط … ولكنها الديمقراطية العربية في بعض مظاهرها التي تروق على الخصوص القادمين من البلاد الأميركية. وهناك مظاهر أخرى في ظاهر صاحب الجلالة؛ أيْ في حديثه، وفي لبسه، وفي إكرامه الضيف.
من عادة المصوِّرين أنهم بصناعتهم يحسِّنون في بعض الأحايين صور الناس، ويظهر عفوًا في رسوم بعض الناس شيء من الحسن قلما يبدو في وجوههم. أما رسم الملك حسين الذي نُشر في أوروبا وأميركا أثناء الحرب فهو لا يشبهه، ولا يمثِّل ما في وجهه من البشاشة وقد مازجها شيء من الغم، ومن الجلال المقرون باللطف، وليس فيه تصنُّع واعتناء.
كانت دهشتي الثانية أني اجتمعت بمليك كنت أظنه من رسمه رجلًا قطوبًا، جافًّا قاسيًا، فكذَّب ذلك الرسمَ الوجهُ منه والحديث. أجل، إن في محيَّا الملك حسين سيماء جلال طبيعي لم أشاهد مثله في غيره من ملوك العرب، بل فيه تتجلى روحانية شرقية قرنت بالتأديب الغربي. ولا غرو، وهو من بني نُمي من سلالة الرسول، وقد أقام عشرين سنة في الأستانة. إن في وجهه كما في حديثه إذن عنصرَين من الأنس والكياسة مما غابا — ويا للعجب — في رسمه، الأول أخلاقي نبوي، والثاني اجتماعي اكتسابي؛ فهو رقيق الأديم صافيه، عدل الأنف دقيقه، له جبين رفيع وضَّاح، يظهر بكمال بهائه عندما يرفع العقال ويلبس العمامة. وفي ناظرَيْه نور يشعُّ من حدقتَين عسليتَين تحيط بهما هالة زرقاء. وله فوق ذلك ابتسامة ما عرفتُ أجذبَ منها للقلوب غير ابتسامةِ خصمِه ابن سعود السلطان عبد العزيز.
أما صوته فألطف من النور في عينيه، وأما أنامله فإن فيها دليلًا أفصح وأصدق مما في كتب الأنساب على طيب الأَرُومة، والشرف الأثيل. وقد كبرت هذه المحاسن في نظري؛ لأنها عارية من مظاهر الأبَّهة والجلال. فإنك لا تميز الملك عن أحد مشايخ العرب إذا كان مسافرًا، لولا عقال من الحرير أصفر فوق كوفية أخف اصفرارًا منه. وهذا العقال إرثٌ ثمين، وهو عقال بني نُمي، عقال بيت الشريف، بل تاج الملك فيه. وإذا اعتمَّ الملك فلا ترى فرقًا بينه وبين أحد الأعيان أو العلماء لولا ذؤابة عمامته البيضاء. هاك في القيافة مظهرًا من مظاهر الديمقراطية التي يشاهدها السائح في كل ملوك العرب وأمرائها.
جلس الملك في زاوية من الديوان، وأشار إلى يمينه فجلست، وفيَّ بعض الحياء من التصدر في حضرته. ثم دخل أعيان جدة، وكبارها مسلِّمين على صاحب الجلالة، المنقذ الأكبر، مهنِّئيه بقدومه السعيد، فانتهت في سلوكهم الديمقراطية. وغدوت حائرًا لا أدري أيبتدئ في الحجاز التترُّك في البلاد العربية أم ينتهي؟!
دخل عرب المدينة، عرب جدة، مطأطئين الرءوس، مكتفين، صامتين، خاشعين. فكان الواحد منهم يقبِّل يد الملك مرة، والآخَر مرتين، والآخَر ثلاث مرات. ومنهم مَن قبَّل منها الكف والظهر، ومنهم مَن زاد على ذلك فقبَّل الركبة الملكية، وكان جلالته يأذن بذلك، ويقبِّل بعض الزائرين في وجوههم، وقد يسحب يده مانعًا مَن هم أرفع مقامًا من الجميع؛ أي الأشراف العبادلة، وهم أقارب الملك الأدنوْنَ.
إن التقبيل درجات إذن في الاحترام وفي العبودية، وكلٌّ من المقبِّلين والمقبَّلين يعرف مقامه فلا يتعدَّاه، ولا يخجل من أن يعرفه سواه. أجل، إن بين مَن يقبل ركبة الملك، ومَن يقبِّله الملكُ في جبينه، أو يمنع عنه يده، بَوْنًا شاسعًا في المقامات لا يخفى على أحد من الناس. وإذا خفي على عرب البادية، على البدو؛ فلأنهم لا يفهمون هذه الرسميات، أو لا يكترثون بها.
يجيء البدوي إلى البلد فيقف تحت نافذة القصر، وينادي «يا بو علي»، وهو سامد الرأس، صريح الكلمة، لهجته لهجة الاكتفاء والقرناء، قل هي لهجة أبناء القفار. والملك حسين يَقبَلها كما يَقبَل قبلة الاحترام والإجلال من المتمدنين المتترِّكين، بل يَقبَل فروضَ العبودية من الحضر باشًّا كما يَقبَل هاشًّا من البدو خشونة الحرية، ولا يتغيَّر في الحالَين، ولا يأمر بتهذيب هذا أو بتثقيف ذاك. أيدهشك منه هذا السلوك الملكي النبوي؟ هو أعلم مني ومنك بأمور مُلكه وبدعائم السيادة فيه.
إن الحضري عادةً تاجر، والبدوي غالبًا مقاتل، والاثنان لازمان، فنأخذ من الأول لنعطي الثاني، ونذلُّ الأول أحيانًا لنتمكَّن من الأخذ والعطاء، ولا سيما إذا كان الثاني خشنَ الخُلق، صعبَ الشكيمة، ويحمل فوق ذلك البندقية. والبدوي لا يفهم غير لغتين: لغة الدينار، ولغة السلاح، بل لغة القوة التي تتمثَّل في سلاح أمضى من سلاحه، وساعِدٍ أشدَّ من ساعِده. أما جلالة الملك حسين، فلسوء الحظ لا يُحسِن في معامَلة البدوِ اليومَ غير لغة واحدة هي لغة الدينار.
«البدو يا حضرة الفاضل ساذجون فقراء، ولكنهم صادقون.» أقول: صادقون. وهم يرعَوْن العهود.
في النصف الثاني من كلام جلالته نظر، بل فيه باب للريب فسيح. إلا أنه أراد كما علمت بعدئذٍ غمزَ قناة الإنكليز الذين لا يشبهون البدو في سياستهم وفي عهودهم، وقد عاد إلى هذا الموضوع مرارًا في المقابَلات التالية. إنه في أحاديثه السياسية كثيرُ الألغاز والرموز، قلَّما يصرِّح بفكره، وقلَّما يشرِّف عدوه بذِكْره. ولكنه في الجلسة الأولى لمس من الموضوع أطرافه، واستعاض عن البحث بذكر الآيات، ورواية الأشعار، وهو شغف بالأولى، وله حافظة لا تزال على سنِّه قويةً.
كان الكلام في العرب والإسلام، وكان جلالته يدعم كل ما يقوله بآية أو بحديث شريف أو ببيت من الشعر: «مَن أعزَّ العرب أعزَّ الإسلام»، «اعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا»، «الإسلام يا حضرة النجيب لا يقاتل غير مَن اعتدى عليه»، «لا نحارب إلا دفاعًا عن أنفسنا». أقول: «دفاعًا عن أنفسنا. الإسلام يعلم البساطة والصدق والمساواة والقناعة، وليس ما يمنع المسلمين من الزواج بالمسيحيات، حبذا السوريون لو جاءوا من أميركا، وأقاموا في الحجاز يتاجرون ويسعدون. أقول: ويسعدون؛ فيساعدوننا في تشييد المُلك العربي، وتعزيز الوَحْدة العربية.»
وكنت قد رفعت إلى جلالته سلامَ إخوانٍ لي في نيويورك، وتحيات بعض العرب والمستعربين في مصر.
«نحن نشكركم على هذه الزيارة، ونكبرها منكم؛ فقد جئتم من أقاصي البلاد وأعظمها — أقول: وأعظمها — إلى بلاد متأخرة فقيرة بينها وبين الحضارة مراحل طويلة، ولكنكم جئتم تلبُّون دعوة القلب. سمعتم — يا حضرة النجيب — صوتَ الضمير، عدتم بعد هجرة طويلة إلى الأصل، بارك الله فيكم.»
في صوت الملك حسين الدمقسي خفوتٌ تضيع عنده الكلمة، فيعيدها مُثبتًا ممكِّنًا — أقول يا حضرة النجيب — كذلك يتكلم.
وكان أعيان جدة وكبارها جالسين على الدواوين، وهم مثل التماثيل في معابد المسيحيين، لا يُفصِح عن حالهم غير السكوت والخشوع. ثم نهضوا مستأذنين، وقبَّلوا يد الجلالة مودِّعين، كما قبَّلوها مسلِّمين. فنهضت على إثرهم، فأشار جلالته تلطُّفًا أنِ اجلس. فعدت إلى مكاني، ثم قال، والاعتذار في صوته وكلامه، صحيح فصحيح: «إن حياتنا في هذه البلاد غير ما ألفت يا أيها العزيز، وخشونة العيش عندنا لا يشفع بها غير الحب والغيرة …» فحاولت أن أباريه في هذا الميدان، فذكرت التنازُل الجميل في مجيئه من مكَّة ليقابلني، فأسكتني بإشارة من يده، وأفحمني، بل زادني خجلًا وعيًّا، إذ قال: «أَلَا نقطع فرسخًا لنلاقي مَن قطَعَ البحار وتجشَّمَ الأخطار في زيارتنا؟!»
(٣) من الضبِّ إلى الطبِّ
إن الملك حسينًا ليعتقد بمبدأ التبادل في المحامد والواجبات، إن كان في السياسة أو في الاجتماع. وعنده من الدين على ذلك براهين. لقد أمرنا الله بالصوم والصلاة وتأدية الزكاة، ووعدنا في مقابلة ذلك بالجنة؛ هذا هو التبادل بالمحامد والواجبات. وقد أخذ الإنكليز منا عهدًا بالقتال فأقمنا على العهد، وقطعوا لنا عهدًا بالاستقلال والوَحْدة العربية، ولكنهم — ويا للأسف — نقضوا العهود.
عندما يذكر جلالته الإنكليز يستحوذ عليه الحنق والغمُّ، فينادي أحد نظَّاره، الناظر الحضرمي، ويكون قد دبَّر له حيلةً للتسلية، أو مفزعة ينشرح لها صدره. والناظر الحضرمي ضعيف العصب، سريع التأثر من غريب الحركات والأصوات، شديد الخوف من الحشرات والزحافات، وفي المبادهات. وبكلمة صريحة هو جبان؛ الجبان الأول في الديوان الهاشمي، أما الثاني فهو الناظر الشاعر؛ إذ كل شاعر في رأي جلالته جبان.
أما الملك حسين فلا الأصوات ولا الخيالات، ولا «بعبع» السياسات، يُحدِث فيه ما يُعَدُّ عيبًا في الرجال. إنه لَشديد البأس ثابت الجنان. يومَ ضربَ الأتراكُ مكة والكعبة كانت تقع قنابلهم على قصره وهو فيه ثابت لا يبالي. أما الأتراك فهم في نظره مثل الحشرات والزحافات التي يرثي لحالها ويستخدمها أحيانًا لترويع الناس. فقد علمت أنه شغفٌ بها وبدرس أخلاقها وعاداتها. وقد يكون فيها فائدة خاصة لجلالته؛ لأنها بمساعدة الناظر الحضرمي تبدِّد الهموم الملكية، وتذبح الغمَّ الأكبر الذي يتولَّاه لمجرد ذكر الإنكليز.
جاءني أحد عبيده ذات ليلة يقول: سيدنا يبغيك. فأسرعت إليه، فإذا بقنصل بريطانيا هناك. وبعد أن حدَّثنا ساعة عن الإبل والأهوية في الحجاز، وعن البدو وعاداتهم، سألني قائلًا: «أتعرف أيها العزيزُ الضَّبَّ؟» فقلت: في الكتب فقط يا مولاي. فقال: «سنريك الضبَّ حتى إذا كتبتَ عنه تُحسِن الوصف.» وضرب كفًّا على كفٍّ، فحضر عبد من العبيد: «هات الضب.»
نظرت إلى القنصل وكان ينظر إليَّ، كأنْ قد خطر بباله ما خطر ببالي، فتبادَلنا ابتسامة فيها الدهش والإعجاب من هذه الجلسة الملكية التي صار فيها جلالته أستاذًا في التاريخ الطبيعي والحيوان.
دخل العبد وبيده حيوانٌ شبيه بالحرباء، فأخذه الملك منه ووضعه على الديوان بينه وبيني.
«هذا يا حضرة الفاضل الضب، وهذا ذَنَب الضبِّ.» قال ذلك وهو يربِّته بيده. ««أعقد من ذَنَب الضب.» ترى أن المثل صادق، وذنبه هو سيفه ودرعه.»
قال القنصل: إنه يشبه الحرباء، وأظنه هو بعينه. فترجمتُ كلامَه لجلالة الملك فقال: «الحرباء غير الضب، والفرقُ البيِّن في الذَّنَب.»
ثم أومأ إلى القنصل أنْ تقدَّمْ وافحصْه، فنهض ودنا من الضب، فأخذ الملك بيده ووضعها على الذنب الشوكي، وضغط عليها؛ فبدَتْ في وجه القنصل علائمُ الألم، فضحك جلالته، واستأنف الحديث: «هذا ضب صغير يا حضرة القنصل، وقد رأيت منه ما يزيد طوله عن الباع، كأنه ضبُّ السياسة. والذنب — كما ترى — هو نصفُ جسمه، إذا ضرب به أدمى، فقد يقتل خصمه بضربتين. أقول: بضربتين. أما هذا الصغير فلا شرَّ فيه يُتَّقَى، ولا خير يُرجَى.»
دخل إذ ذاك الحاجب ينبئ بقدوم الناظر الحضرميِّ.
فقال الملك: «بلى بلى، فيه خير (أيْ في الضب)، وهو يواري الحيوان تحت جبته.»
دخل صاحب الإقبال الناظر الحضرمي، فأشار الملك إلى مجلس قريب منه، وما كاد يتبوَّءُه حتى مُدت إليه يد الجلالة، وصاحبها هادئ البال، وفيها الضب، وضعته في حرج الناظر المسكين، فصرخ وصاح صيحة طفل مرعوب، ووثب على الديوان وثبةً جاب فيها الباب، واصطدم بالحاجب هناك؛ فقهقه الملك وكاد يستلقي، وضحكنا كلنا ضحك الصبيان، وفينا الناظر الشاعر الذي كان جالسًا متكتفًا على عادته، وقد كان يحاول إخفاء سروره في ابتسامة قيَّدها التأدب. ولكن صيحة الحضرمي ووثبته فكَّتا منا القيود، فتساوى في فترةٍ بهيجةٍ الملكُ والشاعر والعبد المملوك. إلا أن جلالته كان أول مَن ثاب إلى الرَّزانة، فخاطب الشاعر موبِّخًا: لا حق لك أنت بالضحك، لا حق لك حتى تركب الطائرة أو في الأقل الخيل. والناظر الشاعر يخاف ركوب الاثنين خوفَ زميله الحضرمي من الحية والضَّبِّ.
عندما خرجنا من مجلس الملك تلك الليلة قال لي القنصل: هي ألذُّ ساعة قضيتها مع جلالته، وهو في غير موضوع السياسة أفصحُ المحدِّثين وألطف الجلساء. فظننت ذلك من مثله جورًا في الحكم، ولكني علمت بعدئذٍ ما يقاسيه الوكيل البريطاني في جدة من فك ألغاز الديوان الهاشمي، وكشف الستار عن رموزه، وخبرتُ بنفسي أثناء إقامتي هناك ما لجلالته من القوة في التعقيد، والبراعة في التورية والإبهام، بل هو يطوف حول نقطة سبع مرات كأنها الكعبة ولا يلمسها، فيدنو منها اضطرارًا في بعض الأحايين، ثم يبعد عنها منقلبًا مسرعًا، وجليسه — وهو يعدو مباريًا، وقد اعتراه من التطْواف الدُّوار — يدق رأسه بالحائط أو يصطدم بباب في هيكل الأسرار، فيتلفت ليرى أين هو من صاحب الجلالة فيراه — وا أسفاه! — بعيدًا، ويقف خجلًا مبهوتًا لا يدري ما يقول. والمصيبة في السكوت مثلها في النطق؛ فإذا قال: فهمت يا مولاي. كان من المجاملين، وإذا سكت ظُن سكوته استهجانًا، فيهزُّ رأسه تخلصًا من الاثنين، وينتظر الفرج من غوامض الحكمة في بوارق الختمة.
وطالما استمالتني إشارة مولاي اللطيفة، فملت بمعقولي إلى السر في يديه وفي ناظريه، وكنت كالمسحور في فيضٍ من المغناطيس يسيل من أنامله ومن نظراته. وما السياسة، وما الحقائق، وما الحكمة كلها، عند سحر ينسيك شقشقات الناس، وخزعبلات الأمم؟!
أجل، إن لمولاي صاحب الجلالة الهاشمية، والغوامض السياسية، وقفات في حديثه تُزري بالفصاحة والبيان، وإشارات تفكُّ طلاسم الكهَّان، ونظرات تقيِّد منك العقل والجنان. يبسط يدَيه إشباعًا إذا أحسَّ من نفسه أنه أفحمك، ويضمُّهما إلى صدره تلطفًا إذا توقَّع منك جوابًا، ويعالج عقاله أو يحرِّك عمامته إذا رأى منك فتورًا أو إدبارًا، ويغيِّر جلسته على الديوان إذا أوجس فيك الملل. فماذا تهمك معانيه ومقاصده، وهو أمامك السحر الحلال مجسَّدًا!
كنت أغتنم الفرصة عندما يفك حبوته أو يعقدها، فأسأله سؤالًا لا علاقة له بالموضوع، ملتمسًا لفعلتي العذرَ في حب العلم، وفي السياحة من أجله: «نعم أيها العزيز، الباقي من قريش قُربَ خمسة آلاف، وهم ثلاثة أقسام: قريش الأعاضيد، وقريش الغَميس، وقريش الطائف. ولا يزال بينهم وبين السلالة النبوية كثير من الحس والعطف … أما بنو سعد، وهم الذين أرضعوا النبي، فديرتهم قربَ الطائف، وفيهم بيت يُحسِن أهلُه الجراحة، ويتوارثونها بعضهم عن بعض … هل تعلم يا حضرة النجيب أن الحُمَّى تُداوَى بالكَيِّ؟ بنو سعد الجرَّاحون يداوونها بالكَي.»
وكشف جلالته عن نجاح طريقتهم في نفسه؛ إذ إنه مرض مرةً بالحُمى، واكتوى فأراني أثرَ الكيَّيْن؛ واحد في زنده الأيمن، والآخَر في ساقه اليسرى.
«السر في مكان الكي؛ فهم يختارون أماكن في الجسم تتصل بالأعصاب التي تنتهي بمجموعها عند موضع المرض؛ لذلك لا يتركون الكي مفتوحًا ليخرج منه الصديد، كما يفعل غيرهم، بل يختمونه حالًا بشيء من الملح، أقول: بشيء من الملح، يذرونه عليه.»
وكان قد انتبه جلالته لحركة في يدي تدل على ألم، فسألني عنها فأخبرته، فقال: «وقد يشفيك الله بواسطة طبيبٍ من بني سعد.» وبعد يوم وصل الطبيب من مكة. جاء بأمر جلالته يداويني، فسألني ثلاثة سؤالات فقط، ولم يفحصني والحمد لله فحصًا طبيًّا، ثم قال: لا ينفعك الكي. سخِّن السمن، وخذ الثوم دقَّه، وامزجه فيه، وادهن ثلاث مرات كلَّ يوم، وستشفى بإذن الله تعالى، وتذكَّرْني بالخير. قال هذا وودَّع وانصرف.
وها إني أذكرك يا أخا العرب، يا راعي الأباعر، ويا طبيب الملوك، يا خير مَن قابلته في حياتي من الأطباء، وسأذكر دائمًا تلك البساطة فيك، وذاك النور في ناظرَيك، وتلك العظمة في صوتك ولهجتك وحركاتك. وسأذكر كذلك أنك لم تصِفْ لي ما هو أصل علاجاتك كلها كما يفعل الأخصائيون في البلدان المتمدنة، بل أشركت مع علاجك الله، فكنت أكبرَ الحكماء، وأصدق الأطباء. سأذكرك دائمًا يا راعي الأباعر، ويا طبيب الملوك؛ لأني كلما ذكرتك أنسى آلامي، وهذا لعمري خيرُ علاجٍ وأنجعُ دواء.
(٤) الإبداع في الإصلاح
إن لجلالة الحسين طريقة في الإصلاح تختلف مبدئيًّا عن طريقة عمه الشهير عون الرفيق الذي حمل مرةً على الأولياء، وشرع في تهديم قبورهم ومقاماتهم. أما جلالة الملك إذا حافظ على تقاليد فيها بقية، أو ليس فيها شيء من الخير، يسعى هادئًا، ويتخذ ألطفَ الأساليب في إصلاحها أو إبطالها.
من مظاهر الحج العجيبة — مثلًا — أن بعض الحجَّاج من الهند، لشدة إيمانهم وتفجُّر بركان اجتهادهم، كانوا يرمون بأنفسهم في بئر زمزم تبرُّكًا واستغفارًا، واعتقادًا منهم أنها أسرع وأسلم طريق إلى الجنة. فلم يقل الملك حسين إن هذا غلو في الدين، ولكنه أمر بوضع شبك من الحديد على فم البئر، فقطع بها الطريق القصيرة — المقربة في لغة أهل اليمن — على المستشهدين.
ولعله يقبل اقتراحَ أحد رجاله المجنونين بالمشاريع الاقتصادية جنونَ أولئك الحجاج بالدين؛ فيأذن بوضع مياه زمزم في القناني لتُباع للحجيج. ماء مقدس ومعدني معًا! إنها لَنعمة تُشكر وتُستثمر، تُستثمر في سبيل الصحة العامة. وقد باشَر جلالته بعض الأمر المتعلق بها.
ليس مَن ينكر أن الأمراض والأوبئة كانت ملازِمة للحجيج في الماضي، إن كان في الأماكن المقدسة، أو في الطريق منها وإليها. وقد أدرك الملك حسين ذلك، واكتشف السبب. إن قُنِي الماء في منى مكشوفة، والحجاج وهم في بهجات الحج لا يهمهم المكروب، وهم يدوسونه بأرجلهم، ويرجمونه بالأوساخ، ثم يشربونه ويقضون عليه، للطاهر كل شيء طاهر. والملك حسين كذلك يقول هذا القول، إلا أن الحنفية لا تضر بالطهارة، وكل ما فيه راحة الحجاج وليس فيه ما يمس العقائد الدينية محلَّل. ومَن ذا الذي ينكر في مكة أو خارجها أن الشرب بواسطة الحنفية أسهل منه عبًّا أو صبًّا؟!
وهناك في جزيرة أبي سعد في مياه جدة محجر صحي يفتخر الملك به، ويلفت إليه نظر الإنكليز قائلًا: «وما الفائدة من محجر الطور، ومحجر قمران، وهذا محجرنا كامل الأجزاء، نظيف الزوايا والأرجاء، ولا يُظلم فيه الحجَّاج، ولا يُغبنون؟! هم أبناؤنا وإخواننا، ولا نظنكم تغارون على صحتهم وراحتهم أكثر منا.»
قد رافقت جلالة الملك إلى تلك الجزيرة، وكان فيها يومئذٍ مائة ونيف من حجاج جاوا، تهافتوا على جلالته وحاقوا بها، فعفروا — ولا استعارة — أمامها وجوههم، وقبَّلوا اليد والجبة والركبة والرِّجل الملكية، ثم التراب، ثم بدءوا بالشكوى. وقد علمت أن الماء قليل، وأن الخدَّامين، وعلى رأسهم رجل تركي، يتاجرون به، وأن الطعام رديء، وأثمانه غالية، وأن غرفة التطهير مقفلة لخلل في عدتها. أما البيوت التي يقيم فيها الحجاج ثلاثة أيام فهي نظيفة؛ لأنها خالية خاوية، يلعب فيها الهواء على الدوام. وهذه لعمري فضيلة المحجر الصحي الحجازي الوحيدة.
انتهى إلينا يومَ كنتُ في جدةَ خبرُ البعثة الطبية لفحص المحاجر الصحية في الشرق، وكانت يومئذٍ قد وصلت إلى مصر، فاقترحت على جلالة الملك أن يدعوها لفحص المحجر في جزيرة أبي سعد؛ لعله يدرك بعد ذلك بعض النقص فيه، فقرأ في اقتراحي غير ما قصدت، وأمر ناظر الخارجية أن يبعث حالًا بنبأ برقي إلى المعتمد الهاشمي في القاهرة يأمره بأن يدعو البعثة المذكورة لزيارة المحجر الصحي في جدة، وفحص أسباب التطهير والصحة فيه، ولا أظن أن جلالته يعتقد بغير الشمس والهواء تطهيرًا.
«تأمَّل يا حضرة النجيب طمع الناس؛ يأخذون من الحجاج في الطور راتبَ تطهيرٍ قَلَّما يفيد، ويأخذون راتبًا في قمران، ويبغون فوق ذلك مدَّ أيديهم إلى أبي سعد لتتم لهم السيادة على الحجَّاج أبنائنا وإخواننا؛ وهذا مستحيل. أقول: مستحيل.»
إن من بنود المعاهدة بينه وبين الإنكليز، تلك المعاهدة التي جاءه بها الكرنل لورنس وحداد باشا في شتاء سنة ١٩٢١ فرفضها، أن يكون لبريطانيا الحق في تعيين أطباء بريطانيين في جزيرة أبي سعد؛ فأبى الملك حسين؛ لظنه أن الإنكليز في طلبهم هذا يبغون أكثر من معاش بعض أطبائهم، وأكثر من السيطرة على الحجاج. وقد لا يكون لهم في الأمرَيْن غرض يُخشَى. إلا أن أساليبهم الحديثة لتدخُّلهم في شئون البلاد، وبسط سيادتهم عليها تشمل الأسباب الصحية، وقد تنحصر أحيانًا بها.
والحق يُقال؛ إن محجر أبي سعد من الزيادات غير المفيدة بالنظر إلى محجر الطور في شمال البحر الأحمر، ومحجر قمران في الجنوب منه، فإذا أمر الملك بإقفال أبي سعد يقفل بابَ الصحة الوهمي الذي يتذرَّع الإنكليز به لتعزيز سياستهم في بلاده، ويرجع إلى الحقيقة العلمية البارزة في الطور وفي قمران فينتفع بها. وقد يتوصَّل إلى إصلاح أبي سعد أو بالحري إبطاله في المستقبل، على طريقته المخصوصة في الإصلاح والعمران التي تقدَّم ذكرها.
وإلى القارئ مثالٌ آخَر منها: إن في مكة جوقة موسيقى ملكية أمسى أمرُها من التقاليد الهاشمية المقدسة، وهي تضرب أمام القصر ثلاثَ مرات كلَّ يوم، وتزعج جلالته كلَّ يوم ضِعفي الثلاث المرات، بل تكاد تُخرِجه من ثوب الحكمة وثوبه. ولكنها التقاليد ينبغي احترامها على ضررها، ثم مُداوَاتها بالتي هي أحسن. ومن تقاليد هذه الجوقة أن رجالها لا يُعزَلون، ولا يُبدَّلون فيخدمون فيها مدة الحياة، وعندما يموت أحد أفرادها يعيِّن الملك مَن يخلفه. وهاك طريقة صاحب الجلالة والحكمة في وضع حدٍّ لهذه النكبة واستئصالها.
مات منذ سنتين راعي (صاحب) الدف، فلم يعيِّن خلفًا له، ومات في السنة الماضية أحد الزمَّارين فقال الملك: وما الضرر إذا نقصت زمرًا؟ ثم مات راعي الطبل فكان سرور الملك عظيمًا. وإنه بعون الله وعزرائيل ليتخلص تدريجًا من الجوقة كلها.
بعد أن أقام جلالته أسبوعين في جدة عاد إلى مكة لأشغال هامة، وظل معي من قِبَله وزيرُه الشاعر الشيخ فؤاد الخطيب وحاشيته — أيْ حاشية الشيخ فؤاد — المؤلَّفة من امرئ القيس، والنابغة الذبياني، والأخطل، والمتنبي، وكان الشيخ قسطنطين يني راعي الكاس والقرطاس، فلا يَدَع فرصةً تفوت، أو كلمةً من الشعر تموت.
عزيزي المحترم
بعد إهدائي حضرتك السلام وجزيل الاحترام. بأنامل الشوق تلقَّيْتُ رقيمك، وبقدر ابتهاجي به، وما احتوته مباحثه الكريمة، كان خجلي من بقائكم في جدة هذه المدة، ومخلصكم جنى على نفسه حرمان لذَّاته، واستفادته من فضائلك وكرائمك، فإني مهما جسمتْ ضرورةُ أسبابِ هذا الحرمان لا أجده إلا حجةً عليَّ. وعلى كل حال، ففي كمالاتك ومداركها ما يُغنِي عن كل بيان، وبها متسع محيط كل ما هو في معنى ذلك. وليس لي ما يهون تلك الرزية التي أحكم بها على نفسي إلا اعتقادي بأن أسبابها ودواعيها هي مما تهتمُّ لها فضائلكم. والله يحفظ ويمنُّ عليَّ بتلافي ما فات عزيزي.
فهل في مروج الذهب ورياض الجنة ألطفُ من هذا الكلام وأعذب؟ عاد جلالته بعد أسبوع من مكة ليودِّعني، ومعه الضب يراضيني به. وكفى بمجلسه رضوةً وسلوانًا.
(٥) تلميذ في البداوة والحكمة
لا حاجةَ في الضيافة العادية إلى صلة بين الضيف ورب البيت، فإنك تَقبل ما يقدم لك أو ترفضه، وتطلب أو تتمنى ما تشاء، ولا رسول بينك وبين مضيفك غير رسول الأدب والذوق. أما في الضيافة الملكية فالأمر غير ذلك، والقاعدة الأولى فيها هي أنه لا يجوز أن ترفض شيئًا يُهدى إليك، أو يُنعم به عليك.
وملوك العرب — على ما يُظن فيهم من البداوة والخشونة — هم مثل سائر الملوك في أنهم لا يُبادِهون الضيف فيرتبك؛ لذلك هم يعيِّنون، فوق مَن ينتدبون لخدمته، رجلًا يقيم معه، فيكون له رفيقًا وسميرًا، ويكون بينهم وبينه رسولًا يحقِّق البغيات، وينبِّه إلى ما فيه تدارُك المزعجات.
كان صديقي قسطنطين يني هذا الرفيقَ السمير الرسول، فجاء في اليوم الثالث بعد وصولي يحدِّثني بالألقاب، فذكرته بأيام الفريكة، والعزلة في الوادي، ثم قلت: ومَن يقيم في أميركا عشرين سنة مثلي لا يتغيَّر رأيه في الموضوع. وقد أخبرني بما كان من أمر صديقي سركيس قبلي، فقلت: وعسى ألَّا أضطرَّ مثله أن أرفض شرفًا هاشميًّا. إن أمري في يدك يا قسطنطين، تدارَكِ النعمةَ قبل حلولها. فقال: والهدايا؟ فقلت: أقبلُ كل ما يجيئني منها.
وجاء في اليوم التالي عبدٌ من عبيد جلالة الملك يحمل إليَّ كسوةً عربية، وخنجرًا مكيًّا، وقطعةً مزركشة بالذهب من ستار الكعبة. لله در قسطنطين، الرسول الأمين، القائل لجلالته: هذا الريحاني ناسكٌ تليق به الآثار القدسية، ولا تليق به الألقاب. وفي الحقيقة إن قطعة من ستار الكعبة هي علق من الأعلاق لا يحوزها غير المقرَّبين.
وجلسنا نتحدَّث في السياسة. ثم جاء قنصل فرنسا وبعض التجَّار مسلِّمين، فانتقل جلالته إلى البدو — إكرامًا لهذا البدوي الجديد التلميذ في البداوة — وحدَّثنا في حقوق الحماية والخُوَّة.
وللبدو طرائق في المحاكَمة، وتقاليد يحترمها حتى اليوم ملوكُ العرب كلهم؛ فلا يضطرونهم في كل أحوالهم إلى الخضوع للأحكام الشرعية. ومن تقاليد البدو مثلًا أن على كل أعرابي أن يحكم في خصومة إذا رُفِعت إليه. أما إذا كانت الخصومة بين قبيلتَين فتُسمع غالبًا في ديوان الملك الخاص.
حدَّثنا جلالته في طريقة المرافعة قال: ينتخب كل فريق اثني عشر رجلًا لإثبات دعواه، فينتخب المدَّعي رجالَه من قبيلة خصمه، والعكس بالعكس. ويكون من الاثني عشر رجلًا أربعةٌ هم الجزَّامون، وأربعة هم المساوون. ويحلفون كلهم اليمينَ المعظَّمة قبل أن يشهدوا، يقول الجزَّام: القضية كذا وكذا. ويقول المخبر: سمعت بما يختص بها كذا وكذا. ويقول المساوي: إذا كان كذلك، فينبغي أن يكون كذا وكذا.
أي إن الجزَّام يبسط الدعوى، والمخبر يشهد، والمساوي يحكم فيها. وإنك لترى في هذه الطريقة البدوية شيئًا من أحكام الأمم المتمدنة، بل فيها ما هو أقرب للحق، وأضمن للعدل؛ لأن كلًّا من المدَّعي والمدَّعَى عليه ينتخب رجاله، أيْ وكلاءَه وشهوده وقُضاته، من قبيلة خصمه، وما أشبه المساوين عند البدو بالمحلَّفين عند الأوروبيين.
قلت ذلك لجلالته فقال: الله — سبحانه وتعالى — لم يخصَّ الأوروبيين بكل فضيلة. عندنا — نحن العرب — بعض الفضائل، وأنت أيها العزيز النجيب أعلم بذلك. ليس كل ما يجيء من أوروبا خاليًا من الغشِّ أو من الشوه والشين. قد يجهل الأوروبيون أشياء نعلمها ونعلِّم بها. خذ الطب مثلًا، قد شاهدتَ أيها العزيز أعظمَ الأطباء فلم يشفوك من آلامك العصبية، وعسى أن يشفيك الله بواسطة طبيبنا، فتقول لهم إذ ذاك: جاءني الشفاء من جوار مكة من الله.
ثم قال: وقد يكون فيما تشكو منه بعض الوهم أيها العزيز. أقول: بعض الوهم، والوهم يسطو على الناس كما يسطو على الحيوان. أذكر لك مثلًا في الإبل. من النوق، لمزاج فيهن أو لعِلَّةٍ عصبية، مَن لا يرضعن ولدانهنَّ، فيحمل العرب الولد الذي لا ترضعه أمه إلى ناقة أخرى، وهذه لا ترضعه؛ لأنه ليس بولدها. فيحتال الأعرابي على الناقة، ويسلِّط عليها الوهم. أقول: يسلِّط عليها الوهم، وكيف ذلك؟ إنه يضع في حيائها خرقةً مطوية، أو شيئًا آخَر يسمُّونه الدُّرْجة، ثم يشدُّ على عينيها عصابة، وعلى أنفها أخرى، ويترك الناقة كذلك أيامًا، فيأخذها غمٌّ كغَمِّ المخاض، ثم يحل الرباط عنها، ويخرج الدُّرْجة ويلطِّخ بها ولد غيرها، فتظن أنه ولدها فتُرضِعه.
وكان ينتقل جلالته من موضوع إلى آخَر، وفي كلٍّ منها المستغرَب من اللذة، والبسط المفيد من الحِكَم والأمثال. وهي ببلاد وشعب يعرفهما كما يعرف الكتابَ الكريم.
ما حرمنا الله كلَّ فضيلة أيها النجيب، ولا حرمنا كلَّ ثمرة من خيراته. قد أنزلناك بوادٍ غير ذي زرع. هذا صحيح. ولكن الحجاز — على فقره — يُفاخِر سائر الأقطار العربية بشيئَيْن، بعسله ورمَّانه. عندما جاء الخديوي عباس حاجًّا أكل من عسلنا، وكان يقول بعد الشهادتَين: وأشهد أن لا عسل في العالَم مثل عسل الحجاز. أما الرمَّان، وهو يجيء من وادي لِيَّه قرب الطائف، فيصير كبيرًا كالحبحب (البطيخ)، وهو كبير الحبة خالٍ من البذر، أكبر وألذ ما في الدنيا. أرسلنا مرةً صندوقًا منه إلى السلطان عبد الحميد، فقال: هذا أجمل رمَّان جاء من أجمل بقعة في أرض الله، وهو يليق بالهدية. كذلك ينادي بائع الرمَّان: من وادي ليَّه، للهدية. نعم، أيها العزيز في عسلنا ورمَّاننا برهانٌ أن الله — سبحانه وتعالى — لا ينسانا نحن العرب، عرب الحجاز.
وكيف ينساهم وفي جدة مظهر من مظاهر الوَرَع والتقوى ما شاهدتُ مثله في مكانٍ آخَر. هو نادٍ قليل الأعضاء، ولكنهم كلهم حكماء، صغير الحلقة، ولكنها حلقةُ نورٍ صفي ليس فيه خيط واحد من الظلام. هو نادٍ فريد في بابه لا رئيس له، ولا بيت، ولا قانون، يجتمع أعضاؤه كل يوم عند الغروب على كثيب رمل قرب البحر خارج البلد، فيصلون المغرب أولًا، ثم يبادرون إلى أَكْرَة من حديد فيتمرَّنون ويتبارون في رَمْيها، ثم يجلسون في حلقة على الرمل، ويتحدثون في الأدب والشعر والتاريخ.
إنه يُدْعَى نادي الصلاة، ولكنه في غاياته الثلاث — أيْ رياضة الجسم، ورياضة العقل، بعد الرياضة الروحية — قد جمع بين أطراف الحكمة كلها. لا أظن أن في العالم شرقًا وغربًا ناديًا آخَر مثله، ولا أظن أن فريقًا من الناس غير أعضائه — غربيين كانوا أو شرقيين — توصَّلوا قولًا وفعلًا إلى غايات الحياة القصوى، أي المحافظة بواسطة الرياضة على سلامة الروح، وسلامة العقل، وسلامة الجسد معًا.
وما أجملها ساعة نذكر الله فيها، ثم نذكر نعماءه في الأجساد، فنسعى دائمًا في حفظها صحيحة سليمة، ونذكر نعماءه في العقول، فلا نهملها في الرياضة والتمرين لتساوي الجسد والروح صحةً ونشاطًا.
إن نادي الصلاة في جدة هو مقاصد الحياة كلها، ويصح أن ندعوه نادي الحكمة العَمَلية المثلثة الزوايا، فإن الحكمة كل الحكمة في المساواة والتوازن بين الروح والعقل والجسد.
أما أعضاء النادي فهم — كما قلت — من صفوة الناس، كلهم أتقياء عقلاء حكماء، وقد شرَّفوني يومَ كنتُ هناك بأن أدخلوني في الحلقة المباركة على نقصٍ وخللٍ في مثلثة الزوايا عندي. فقد غلبني شيخُهم الأكبر في رمي الأَكْرة، وغلبني شيخهم الأصغر في المساجَلات الأدبية والشعرية. أما في الصلاة فكنتُ أشاركهم، دون أن أقفَ في الصف وراء الإمام.
ومَن هو الشيخ الأكبر الذي يرمي الأكرة كالشاب؟ ومَن هو الأصغر؟ أما إذا أدخلت القارئ إلى النادي الفريد في قصده ومقره، فينبغي لي أن أتمِّم العمل فأعرِّفه إلى الأعضاء، وعددهم هو العدد السري القدسي سبعة فقط.
هذا الحاج زينل علي رضا شيخهم الأكبر، يحترمه التجَّار في الحجاز، وفي بمباي. ويعرفه ويحبه كل الأولاد في جدة؛ ذلك لأنه في عيد الفطر يخصُّهم بقسم مما كسب في الاتِّجار؛ فيجلس في إيوان داره وإلى جنبه أكياس من النقود الفضيَّة، ريالات وروبيَّات، فيوزِّعها على الفقراء، وخصوصًا على الأولاد يمرون أمامه صفوفًا في ذلك اليوم، وكثيرًا ما يمر الولد الواحد ثلاث مرات، فيأخذ قسمته ثلاثة أضعاف، والحاج زينل عالم بذلك ضاحك محبور.
وهذا أخوه الحاج عبد الله محافظ جدة، وهو حكيم الحلقة الأكبر، وصاحب الفكرة في حفظ التوازن بين العقل والروح والجسد، وإنَّ عدْل الحاج عبد الله في الحكم ليجاري البر والحكمة في أعماله الخيرية، وأهمها المدرسة العمومية التي أُنشِئت في جدة.
وهذا الشيخ محمد نصيف أديب جدة الأكبر، وأمير الكتب فيها، فإن عنده مكتبة حافلة بالقديم والحديث من التآليف، لا يقنيها للعرض فقط، بل لينتفع وينفع بها. يجيء الأدباء إلى دار الشيخ محمد كأنها دار الكتب العمومية، فيُعِيرهم ما يشاءون منها، ويشتري ما يعرضون من مخطوط أو مطبوع. وهو دائرة معارف ناطقة يجيب على السؤالات التي تُوجَّه إليه، ويهدي إلى مصادر الثقة في العلوم الأدبية والتاريخية والفقهية.
وهذا الشيخ سليمان قابل رئيس البلدية، وأخوه عبد القادر، وهما من العرب الذين لا يفادون بنعيم الدنيا في سبيل النعيم السرمدي المنتظر، بل يشركون بين الاثنين، أو بالحري يجعلون الواحد مقدمة للآخر؛ فيلبسون الدمقس والإستبرق، ويتطيَّبون بعد الأكل وقبل النوم، ولا يستكثرون الخمسة الجنيهات يدفعونها ثمن زجاجة واحدة من الروائح الطيبة، ولا الخمس الصلوات يصلُّونها كل يوم.
وهذا الشيخ محمد الطويل، أصغر الأعضاء قدًّا، وآنقهم كساءً، وألطفهم مبسمًا، وأقدرهم في عَدِّ الأموال وتصريفها. أجل، إن الشيخ الطويل هو المصرف الهاشمي، هو خزينة الملك حسين، هو ناظر الجمارك في القُطر الحجازي. وعليه دفع الكبيرة والصغيرة، فإذا شاء جلالة الملك أن يُنعم أحدًا بمائة روبية يحيله على الطويل، وإذا شاء شراء باخرة أو سرب من الطائرات، فالدفع على الطويل.
ولا أظنُّ أن أخصائيًّا أوروبيًّا يفوق الشيخ محمد في علمَيِ الإدارة والاقتصاد، ولا يفوقه يقينًا في النزاهة والإخلاص.
وهذا الملا حسين الشيرازي العالم بأسرار الميكانيكيات والتصوُّف، يُصلِح القناديل وآلات الخياطة، ويروي من أشعار مولانا جلال الدين رومي باللغة الفارسية، فيشدو ولا شدو البلابل، فيجاوبه الحاج زينل بتلك اللغة الفخمة الشريفة، ثم يترجم لي بعربيةٍ أفخم وأشرف.
قال مولانا جلال الدين: إني عودٌ قُطِع من الشجرة، وصُنع منه الناي، فهو في صوته يحن دائمًا إلى الغاب.
وإني وإن كنت ضيفًا سارحًا أحس بأني عودٌ قُطِع من تلك الشجرة المبارَكة؛ شجرة نادي الصلاة في جدة، وصُنِع نايًا صغيرًا. والناي يحنُّ دائمًا إلى الغاب.
(٦) قرون السياسة
في كل كبير تجتمع الأضداد، ولكل كبير من العرب اليومَ قِبلتان: قِبلة الدِّين، وقِبلة الدنيا، فيولِّي وجهَه الأولى مرةً أو خمسَ مرات كل يوم، ثم يتطلَّع إلى المغرب بقيَّة يومه. يا قبلتي ساعة نلبس، وساعة نأكل، وساعة نركب السيارة. ولكن القبلة الجديدة كثيرة الأسباب، كثيرة النفقات. فينبغي لنا إذن أن نستعين عليها بالمعاهدات الدولية، والقروض المالية، وإما بالبعثات الفنية والامتيازات. وقد جرَّب جلالة الملك حسين الطريقتَين، ولا يزال يتردد بين معاهدة تقيد وامتياز وطني قد لا يفيد.
في سنة ١٩١٩ بعث صديقي قسطنطين يني إلى سوريا ليبحث له عن أخصائيين مهندسين وأطباء، فعاد قسطنطين إلى جدة ومعه بعثة كاملة من الفنيين، أبناء العرب النجباء، المخلصين للقضية العربية، والمخلصين كذلك للذهب الوهَّاج، كما اتَّضح بعدئذ. جاءوا مع القسطنطين راغبين مستبشرين، فأقاموا في الحجاز سنةً ينقِّبون ويبحثون، ويقيلون، ولكن أعمالهم لم تُسفِر عن شيء مفيد، ولا يعلم جلالته اليومَ أكثر مما كان يعلمه قبل قدومهم. نعم، إن في جوار الوجه نفطًا ينبع على الشاطئ من البحر، وفي جبال الحجاز نحاسًا وطلقًا وحديدًا، وفي مكانٍ حول مكة معدنًا من الألماس، وليس في البلاد العربية شركة مالية فنية تستثمر هذه المعادن، فتُخلِّص جلالتَه من ظل مخالب الشركات الأجنبية.
قلت: إن أعمال البعثة الفنية لم تُسفِر عن شيء مفيد. وما الفائدة من مدرسة زراعية بمكة، وليس في الحجاز أرضٌ توجب الاهتمام بعلم الزراعة. وقد أنزلناك بوادٍ غير ذي زرع.
فلا عجب إذا كان سيد البلاد يرهق أهلَه ليُعِيد إليهم — بوساطة الجيش النظامي — عزًّا قضى «الإخوان» عليه. ولا غرو أنه يخصُّ التجار بما يستوجبه تسليح البدو. فإذا أبَوْا يستشيط غيظًا، ويسترسل إلى نزعة فيه تركية اكتسابية. قيل لي: إنه في ساعات الغضب مخيفٌ هائل، وإنه إذا استدعى أحدًا منهم إلى مكة، بريئًا كان أو مذنبًا، يكتب الرجل وصِيَّته قبل أن يخرج من بيته.
رسا الأسطول الإنكليزي ذات يوم في مياه جدة، وكان حديث الناس، فقال أحد الظرفاء، بل البسطاء: إن الأسطول الهاشمي أكبرُ وأعظم منه، ولو لم يكن كذلك لما جاء الأسطول الإنكليزي مسلمًا مواليًا. فوصلت الكلمة إلى جلالة الملك، فطُلِب الرجل إلى مكة، وأُنزِل السجن عند وصوله إليها، وظل فيه أربعة أشهر دون أن يعرف ذنبَه، ودون محاكَمة، ثم جيء به إلى حضرة صاحب الجلالة المنقذ الأكبر، فقرصت اليد الملكية أُذنَ ذاك المسكين، وأسمعه اللسان الملكي من الحكمة ما يُعِينه في المستقبل على حُسن الكلام في الحكومة الهاشمية أو في أسطولها.
حدَّثتُ أحد وجهاء جدة في ولدٍ له ذكي، ورغَّبت إليه أن يرسله — لا إلى أوروبا — بل إلى مصر، أو إلى سوريا ليتلقَّى العلوم فيها. فقال: وهذه رغبتي، ولكن سيدنا لا يأذن بذلك. وقد تأكَّدت أن في جدة غيره من الناس الذين يرغبون بتعليم أولادهم خارج الحجاز — في القاهرة أو في بيروت — ولكن سيدنا لا يأذن به.
أَلَا هو الشرع، لِنَعُد إلى الكتاب والسُّنة. وإن كل ما يخالف ذلك في حياة المسلم، قولًا أو عملًا، وكل ما فيه شيء يطلق في المسلم حريَّة قد تُخرِجه عن المشروع والمنقول، بل كل ما فيه جرثومةُ علمٍ قد تكون نتيجتها، ولو بعد جيلَيْن، حيوانَ كُفرٍ كبيرٍ، فهو من الويلات التي يحاربها المتشرِّع الحكيم، والحاكم البعيد النظر. أجل، إنه يحاربها قبل أن تظهر إلى عالَم الوجود.
وجلالة الملك حسين من ملوك العرب الذين يهمُّهم فوق كل شيء سعادة المسلمين الدائمة السرمدية، وهذه السعادة التي ذكرها النبي ووصفها الله في كتابه وصفًا جميلًا لا تقوم بالموسيقى، والرقص وشرب الخمر، وكسب المال، أو بالتعلم في المدارس الأجنبية.
وإذا ما تساهل جلالته في أمورٍ لا تمسُّ «السعادة السرمدية» بضرر، كالطائرات مثلًا أو الدبابات التي يَعدُّها للزحف على «الإخوان»، أو كآلة لتصفية الماء، الذي جعله الله في أرضه المقدسة مالحًا، أو كمعمل لصنع الثلج؛ فهو لا يتساهل قطعًا فيما يبلبل الأذهان، ويفسد الأخلاق، ويخرج العرب ولو قيْدَ فِتْرٍ عن دِين هو كَنْزهم الثمين في الدنيا وفي الآخرة.
«لا يلزمنا نحن العرب من العلم — يا أيها النجيب — غير ما يوافق حالَنا وبلادَنا، ويمكِّننا ضمن حدود الدِّين، أقول: ضمن حدود الدين، من الانتفاع بالكمالات.»
إن في جدة أفاضل من التجار والعلماء ساحوا في العالَمَيْن؛ عالَم المادة، وعالَم الفكر، وخبروا الزمان، ولم يفقدوا كَنْز الإيمان. وهم يرون في التعلُّم، حتى في مدارس الأجانب غير ما يراه صاحب الجلالة، ولكنهم …
وفي جدة أناسٌ فيهم ما في غيرهم من أصناف الناس من النزوع إلى الكيف، فيطربون لصوت العود، ويبتهجون بتلك التي تشعشع في الكأس. ويُحسِنون لعب اﻟ «بوكر»، ولكنهم إذا جاء المعلم يتأدَّبون، وإذا غاب يلعبون. يكفي أن أقول إن في جدة غير نادي الصلاة، فيها نادي الكأس أيضًا، ولكن أعضاءه الذين لا يتجاوزون العددَ المقدس، لا يجتمعون إلا مثل الفوضويين سرًّا. حدَّثني أحدهم، وكان الأحرى به أن يستعمل ضمير المتكلم بدل الغائب، قال: عجيبٌ يا أستاذ أَمْرُ الناس في هذا البلد. ولا تستغرب قولي إن الخوف يستحوذ عليهم من مجرد ذكر صاحب الجلالة المنقذ الأكبر؛ فتراهم عندما يشرف البلد كأنهم في مَأْتم، وعندما يعود إلى مكة يُعيِّدون، فيُخرِجون من الصناديق الكأس والإبريق، وترى حتى الجليل مسترسلًا في التهليل. هذا الشيخ قاسم يشهد على ما أقول.
فقال الشيخ قاسم، وهو البارع الحاذق في أفانين الحديث، فيغيِّر الموضوع دون أن ينتقل منه أو أن يسيء: عندما كنت في الأستانة كنت أقول لزميلي سليمان البستاني: لا يُصلَح هذا الكون إلا بأمرَيْن: أن أصير أنا بابا رومه، وتصير أنت شيخ الإسلام.
فقال الضابط: لا يصلحه إلا السيف.
فأجابه الشاعر: قد كان السيف بيدكم، وما أصلحتموه.
فقال التاجر: مصيبتنا البدو، البدو مشكل لا يحلُّه إلا الله.
فأجابه الحكيم: جهلٌ مُسلَّح يُزِيله عِلمٌ مُسلَّح.
– أحسنت أحسنت. وهذه المدرسة الحربية الهاشمية قد أُسِّست لهذه الغاية.
بينا نحن في هذا الحديث جاء الأمير زيد يُنبِئني بأن جلالة الوالد قادم لزيارتي؛ فارفضَّت الجلسة، وبعد دقائق دخل عبد يقول: سيدنا. فخففنا إلى استقباله، ووقفنا في الباب ننتظره حتى نزع نعلًا من رجله يلبسه فوق حذائه، ودخل فجلس في كرسي إلى جنب الديوان الذي خصَّني به. ثم جاء الخادم بالقهوة، وجاء عبدُ جلالتِه بالفنجان الملكي الخاصِّ الذي يحمله في بيت من حرير مزركش باللؤلؤ الثمين.
وكان للكآبة يومئذٍ خيالٌ على جبينه العالي، بل ظلٌّ في وجهه الصافي الأديم. وكان الحديث في السياسة، وفي النهضة، وفي مؤتمر فرساي، وفي الإنكليز، وفي فيصل.
«لا تظنَّني أشكو يا أيها العزيز النجيب، أقول: إننا ثابتون في خدمة البلاد مهما تشعَّبت المشاكل، وتعدَّدت الصعوبات، ولا نبغي غير عز العرب. والسوريون من صميم العرب، فإذا صعدنا في الكمالات، وبعدنا عن مفاسد المُفسِدين، ودسائس النفعيِّين، ولا أستثني أقربَ الناس إليَّ — أقول: أقرب الناس إليَّ يخونون أو يخطئون — فالحجاز يتبع سوريا، وأنا يا حضرة الفاضل أتبع مَن تختارون للخدمة وللزعامة. أقول: أتبع مَن تختارون …» وكان الكاتب الأول في الديوان الهاشمي الشيخ أحمد السقاف، وهو كاتب سر جلالته، يحمل حقيبة، فأمر بفتحها، وقدَّمها للملك فأخرج منها أوراقًا رسمية أطلعني عليها.
«ما جئتك شاكيًا يا أيها النجيب العزيز، ولكنها العهود، وحقوق الأب على بَنِيه … إن أحقر البدو لا يخون عهدًا يعاهد به. ولو اتبعوا نصيحتي، لو امتثلوا لأمري، لما كان ذاك التساهل والتذبذب في المؤتمرات. فتحوا للفرنسيس بابَ سوريا، وكادت سياستهم تقضي على القضية العربية.»
قد علمتُ بعدئذٍ من شرح المتن لجلالته، أن الضمير في «اتبعوا»، و«امتثلوا»، و«فتحوا» هو عائد إلى مَن كان يمثِّله في الشام، وفي فرساي، وعلى رأسهم الأمير فيصل، وعلمت كذلك أن جلالة الملك حسينًا كان يرغب بالقدوم إلى سوريا، وبأن يمثِّل العرب في مؤتمر السلم الأول. إذن هو ناقم على فيصل، وقد قيل لي إنه يومَ عاد الأمير آخِر مرة من أوروبا إلى الحجاز لم ينزل جلالة الوالد ليُلاقِيه في جدة كما كان يفعل سابقًا.
إنها لمن المُحزِنات. أما الحقيقة في القضية، الحقيقة كلها، فهي مقسمة لا تجتمع لواحد من آل هذا البيت الشريف. فلو مثَّل الملك حسين العربَ في باريس ولندن أيامَ المؤتمرات، لَكان الأمرُ ولا ريب أثبَتَ في يديه، ولَكانت النتيجة أحسنَ للعرب، ولكن وجود الملك حسين في الشام، في سوريا، يضيع ما قد يكون كسبه في مفاوَضة الأحلاف بباريس؛ ذلك لأن السوريين كانوا أميل إلى فيصل منهم إلى والده؛ لعلمهم أنه عصري، رَحْب الصدر، دَمِث الأخلاق.
فالصلابة التي تفيد في لندن وباريس لا تفيد في الشام، ومهما قيل في الملك حسين، ومهما تعدَّدت مَناقِبه الشريفة، فهو في صفته الدينية لا يُعزز زعيمًا كان أو مليكًا، في بلاد تعدَّدت أديانها، واشتدت من جرَّاء ذلك النعرات والنكبات.
ولكننا إذا ما نظرنا إلى القضية من وجهة الملك الأبوية، نرى في حقوقٍ تقضي عليها الحوادث ويمحو أثرها الزمان، مأساةً بشرية في قلبها شيخٌ جليل نبيل. وهو مع ذلك ثابت في عزمه، وفي ديوانه، وفي جريدته. يهز على أعدائه السيف واليراع، ولا يهمه من المُلْك ما ضاع، وما لا يُعطى منه ولا يُباع، فهو — ما دامت له قوةٌ — يطالب به على الدوام، ولا يرضى بغير «مَلِك العرب» لقَبًا، وإن كانت سيادته لا تتجاوز الطائف شرقًا، والقنفذة جنوبًا، رضي أمراءُ العرب أم لم يرضوا.
ملك مغبون، وشيخ في بيته محزون، لا يشكو الزمان، ولكن في قلبه من الزمان جمرة حامية. ولا يلوم العربان، وفي صدره من العربان دملة دامية، ولا يندم على ما تقدَّم في سبيل النهضة من المساعي والذنوب؛ فهو النهضة أولًا وآخرًا، وهو لا يزال بإذن الله قويًّا عصيًّا، مهما كان من أمر «فيصلنا»، و«زيدنا»، وعزيزنا في شرق الأردن. قد قال بلزاك: «إن أبناءنا أعداؤنا.» وما أصدقها كلمة، ولا سيما على الأُسَر الشريفة المالكة!
(٧) بين الأستانة ومكة
إن الملك حسينًا إذن لَأكبر ملوك العرب سنًّا، وأظهرهم جلالًا، وأرفعهم من الوجهة الدينية مقامًا، وأغمضهم في السياسة مسلكًا، وأضعفهم اليومَ سلطة، وأشدهم كربًا وغمًّا. هو مَلِك الحجاز في المعاهدات الدولية، ومَلِك العرب في الجريدة الرسمية، والمنقذ الأكبر في عين أولئك الذين لا يعرفون من البلاد العربية غير الحجاز. وليس مَن ينكر أنه كان منقذًا في برهةٍ من الزمن لا أظن التاريخ يعيدها، أو الأقدار تسمح بتمديد أسبابها، فتمكَّن المَلِك حسين من تحقيق آمال المتهوِّسين وآماله الوطنية، بل أحلامه الهاشمية.
إن فضله الأكبر لَفي ثورته على الأتراك، وإن كانت المصلحة والمساوَمة فيها مَرْعيةً أكثر من المبادئ التي أعلنت من أجلها، ثم في نشره الدعوة العربية في أوروبا، وإن كان ذلك ضمنًا من سبيل آل البيت الخاص، ثم في الثبات المدهش في مطالَبته بحقوق العرب، وإن كانت عمومية إلى حد الإبهام.
إن في النهضة العربية مجد الملك حسين وأنجاله البواسل الذين حارَبوا في سبيلها، وإن في الوَحْدة العربية المفازات التي ضاعت فهلكت فيها كلُّ آمالهم. ومَن المسئول في ذلك؟ إن في سيرة الملك حسين ما يجعل غوامضَ الموضوع ظاهرةً جلية.
وفي أيام الشريف عون ظهرت مواهب ابن أخيه الحسين، فتلألأ ذكاؤه، واشتدَّ عزمه، وكان في شعوره ومساعيه عربيًّا كريمًا، غَيُورًا على قومه وبلاده، لجوجًا متهوسًا. ولا غرو وعمه الشريف عون كان يومئذٍ مثاله الأعلى. فراب الأستانة أمره، فاستُدعِي إليها سنة ١٣٠٩ﻫ ليكون ضيفَ البادشاه، وأسيره مثل مَن تقدَّمه من الأشراف، فأُشرِب هناك روح السيادة العالية، ومبادئ السياسة التي اشتُهر بها المابين.
صعد الشريف حسين في الدواوين إلى مقام المقرَّبين من السلطان، وأُسنِدت إليه رتبة الوزارة مثل أبيه، وعُيِّن مثله عضوًا في مجلس شورى الدولة، فاستمرَّ في وظيفته إلى سنة ١٣٢٦ﻫ، أيْ أول سنة الدستور العثماني، وكانت مدة إقامته هذه المرة في الأستانة سبع عشرة سنة، ثم عاد إلى أم القرى أميرًا عليها، وظل مخلصًا للدولة أو متظاهرًا بالإخلاص حتى السنة الثانية من الحرب العظمى عندما أعلن الثورة، وشهر الحرب على الأتراك.
إن ما يُستغرب من أمره في مدة إمارته هو أن الحجاز في تلك الأيام — أيام راتب باشا السوداء — كان نهبًا للنَّاهبين، ومحطَّ رحال السفهاء من الاتحاديين، فتعددت من فوضى الأحكام المظالم، وغدا العدل شريدًا، والأمن طريدًا، فكان الحجاج والمطوِّفون يُسلَبون حتى في ظل البيت الحرام في رائعة النهار. ومع ذلك فلم يُغضِب الشريفَ حسينًا إثمٌ من مآثم الترك يومئذٍ أكثر من خروجهم — وهو في نظره الإثم الأكبر — على التقاليد الإسلامية البالية. إنها لعمري فضيلةٌ فيهم يستحقون من أجلها احترامَ الأمم المتمدنة.
أما الملك حسين فسجَّلها عليهم في رأس المفاسد والآثام، وقد عدد منها في منشور الاستقلال الذي أصدره في ٢٧ حزيران سنة ١٩١٦ / ٥ رمضان سنة ١٣٣٤، فجاءت قسمين: قسمًا نشأ مع الدستور وكان ملازمًا له، فصبر جلالته ثماني سنوات دون أن يحرك ساكنًا عليه، وقسمًا نجم عن الحرب العظمى والسياسة التركية الجديدة. وقد ذكر من الذنوب الأخيرة في منشور الاستقلال «مخالَفة نصوص الشرائع الإسلامية»، و«إهانة النبي»، و«التبديل في شريعة الوراثة الشريفة»، و«المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل»، و«إعفاء الجنود الموجودين في دمشق والمدينة ومكة من المحافظة على الصوم»، و«إصدار الأحكام التي فيها مخالفة صريحة لنصوص سورة البقرة»، وبعد ذلك احتجَّ على إعدام الأحرار في سوريا.
ومنشور استقلال العرب هو أساس الوحدة العربية، أوَلَا يحق لنا أن نتساءل نحن العرب غير المسلمين: ماذا يهمنا من نهضة أساسها سورة البقرة؟ وأي دخل لنا في ثورة أُعلِنت في ذاك السبيل، ولتيك الأسباب الدينية؟
على أنه إذا أنعمنا النظر في سيرة الملك حسين، وفيما له من الدهاء، وغريب أساليب السياسة، نتأكد أنه اتَّخذ الدين أو العاطفة الدينية في العرب سبيلًا إلى تحقيق مقاصده.
لست أنكر إخلاصه في احتجاجه على ما يعتقده بدعةً في سلوك الاتِّحاديين، إلا أن الحكمة في سياسته قصرت دون المراد. قال: النهضة العربية عززوها، وهو عالم بأن أحد ركنَيْها مسيحيو سوريا الذين لا يستحسنون الصبغة الدينية فيها، والركن الثاني مسلمو سوريا، وأكثرهم يعطفون على الأتراك، ويستحسنون الإصلاحات الدينية التي يسعى الحزب الراقي منهم إلى إدخالها في الإسلام. ليس ما يجلو الحقائق مثل الأيام، ولا ما يُظهِر كامنَ الشعور مثل الحوادث. ولعمري إن ملوك العرب لا يفلحون، لا يفوزون فوزًا تحسن نتائجه وتدوم، ما داموا يتخذون الطائفية وسيلةً لتأدية سيادتهم، وتحقيق مقاصدهم، وتعزيز العصبية فيهم. والملك حسين في فوزه وفي خيبته برهانٌ شريف على ما أقول.
إنه لَيصعب على مَن نشأ بين الأتراك، وتشرَّبَ روحهم، ومارَس سياستهم عشرين سنة ونيفًا، أن يتجرَّد تمام التجرُّد من آفاتهم، أو أن يحاربهم بسلاحٍ هم أعلم به منه، وأقدر على استعماله. ولا يفوتنَّك أن الأتراك حاوَلوا مرارًا أن يعلنوا على أوروبا الجهادَ ولم يفلحوا، فهل يفلح جهادُ فريقٍ من المسلمين على إخوانهم في الدين، وفي هذه الأيام؟ إنها لَمِن المحزِنات. ومهما كان من انتصار العرب على الترك في الحجاز وفي سوريا باسم الدين أولًا، فإن انتصار الروح التركية على زعيم النهضة وكبيرها إنما هو رأس الخيبة والفشل في سياسته كلها.
يدعونه عبد الحميد الصغير، ولعمري إذا صحَّ التشبيه فالتصغير لا يجوز؛ لأن الأمور تُقاس ببيئاتها، والأشياء كلها نسبيةٌ بما فيها من خير أو شر. إن مكة في نظر المسلمين لَأعظم من فروق، وقد قيل لي إن سجنها أظلمُ من أعماق البسفور! فما قول أهل جدة وقد شاهدتُ بعيني، ولمست بيدي ذاك الخوف المستولي عليهم؟ الخوف من رجل مكة الظالم، ومن سجن مكة المُظلِم، ومن وحشة مكة عند المغضوب عليهم، هي وحشة لا يتخللها بصيص من الرحمة أو المعروف.
(٨) بين مكة ودَوْنِن إستريت
بينا كان جلالة الملك ونجلاه الأميران عبد الله وزيد جالسين ظهرَ يوم من الأيام إلى المائدة في الطائف، دخل الحاجب يقول: غريب في الباب يبغي سيدنا. وكان الرجل رسولًا خفيًّا جاء الحجاز متذرِّعًا بالحج، وهو يحمل إلى الشريف حسين من مندوب بريطانيا في مصر اللورد كتشنر دعوةً للانضمام إلى مصافِّ الأحلام. فأبى يومئذٍ الشريف، ثم كتب إليه خلَفُ اللورد كتشنر السر آرثور مكماهون في الموضوع نفسه فتردَّد وتودَّد.
وكان لا يزال محافظًا على ولائه للعرش العثماني، مع أنه لم يحضر إلى المدينة ليسلِّم على أنور وجمال عندما زاراها في طلائع سنة ١٩١٦. وقد كان نصح الأتراك ألَّا يدخلوا في الحرب العظمى، ولكنه بعد دخولهم عرَضَ عليهم المساعَدةَ بشروط، منها: العفو عن المسجونين السياسيين في سوريا والعراق، وإعطاء البلدَيْن نوعًا من الاستقلال بإنشاءِ حُكمٍ لا مركزي فيهما. وعندما رفض الترك طلبه وألحُّوا عليه — رغم ذلك — بالتجنيد في الحجاز، راح إلى قريةٍ خارجَ مكة يعتزل السياسةَ إلى حين.
ثم حدثت الفظائع في سوريا، ورأسها شَنْق أحرار العرب، فأثارتْ غضَبَ الشريف، فكتب إلى جمال باشا يحتجُّ على أعماله القاسية، فأجابه جمال أن يتَّقي نفسه بدل أن يدافع عن سواه. وكان الأمير فيصل في الشام يومئذٍ فخاف الملك عليه، وأحجم عما كان يدبِّره من أمر الثورة إلى أن يخلص ابنه من الخطر هناك. فكتب إلى جمال باشا يقول إنه مهتم بالتجنيد، وسيشترك العرب مع عساكر الدولة وحليفتها ألمانيا في الزحف على ترعة السويس، اللهم إذا أسرع فأرسَلَ الأمير فيصلًا إلى الحجاز لهذه الغاية. فجازت الحيلة على جمال باشا، وجاء الأمير فيصل إلى المدينة ومعه عشرة آلاف ليرة وأربعة آلاف بندقية.
- أولًا: تتعهَّد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقًا خليج فارس، وغربًا بحر القلزم، والحدود المصرية، والبحر المتوسط، وشمالًا حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبهما في خليج العرب، ما عدا مستعمرة عدن؛ فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والاتفاقات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود، بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها، أمراء كانوا أو من الأفراد.
- ثانيًا: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخُّل كان بأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البريَّة والبحرية من كل تعدٍّ، أيًّا كان الشكل، حتى لو وقع فتنة داخلية من دسائس الأعداء أو من حسد بعض الأمراء، تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنى على دفع تلك الفتنة. وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أيْ إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية.
- ثالثًا: تكون ولاية البصرة تحت مشارفة بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية. ويُعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابلة تلك المشارفة مبلغٌ من المال يُراعى فيه حالة الحكومة العربية.
- رابعًا: تتعهَّد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاج إليه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدةَ الحرب.
- خامسًا: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها.
قد تلقَّينا رقيمكم المؤرخ ١٤ ربيع الآخر ١٣٣٤ عن يد رسولكم الأمين، وسررنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوون اتخاذها، وتَرَونها موافِقةً للأحوال الحاضرة. إن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تجيزها. ويسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك وافقت على جميع مطالبكم، وأن كل شيء رغبتم بالإسراع فيه وفي إرساله هو مرسل مع رسولكم حامل هذا، وستحضر الأشياء الباقية بكل سرعة ممكنة، فتبقى في بورت سودان تحت أمركم إلى حين ابتداء الحركة وإعلامنا رسميًّا بها. وقد انتهت إلينا إشاعات مؤداها: أن أعداءنا باذلون الجهد في أعمال السفن ليبثوا بوساطتها الألغام في البحر الأحمر، ولإلحاق الضرر بمصالحنا هناك، فنرجوكم أن تُسرِعوا بإخبارنا إذا تحقَّق ذلك لديكم.
مرت أربعة أشهر على الاتفاق البريطاني العربي قبل أن يطلق الشريف حسين بندقيته من قصر الإمارة بمكة. وكان الحجاز يعاني من شدة الحرب وأهوالها أكثر من سواه من الأقطار العربية. فسُدت أبواب البحر، وانقطع الحجَّاج عن الحج، ونفد القليل مما كان في البلاد من زاد، فضجت الناس، وهلك مئات من الجوع. وقد قال جلالة الملك إنه ظلَّ وأهل منزله سنتَين يأكلون الدُّخن.
مرت الأربعة الأشهر وكان قد أصبح الأمير فيصل في مأمن من الأعداء، ولديه فوق ذلك من مالهم وسلاحهم ما لا يُستهان به. وكانت الذخائر والسلاح والمال بدأت تَرِدُ عن طريق بورت سودان من المصدر الذي لا تنفد عداته وقواته.
فتوكَّل الشريف على الله، ونهض في صباح اليوم التاسع من شعبان سنة ١٣٣٤ﻫ/٢ حزيران ١٩١٦م قبل الفجر، وبيده بندقيته أطلقها طلقة واحدة كان لدويِّها صدًى في جدَّة والطائف والمدينة. أُعلنت الثورة في مكة وجدة في اليوم الأول، وفي الطائف والمدينة في اليوم الثاني. وكان ما لديه من القوات العسكرية موزَّعة متأهِّبة كلها، فحاصر الأمير زيد بجنوده قلعة «أجياد» بمكة، وهجم الأمير عبد الله على الطائف، وكان الشريف محسن قائدًا في جدة، والأميران علي وفيصل، وقد خرجا من المدينة يجمعان العربان ليحاصر الترك فيها.
وقد برهن أبناء الشريف خصوصًا صغيرهم الأمير زيد على بسالة فيهم أظهرها القتال، وعزَّزها الجلد في النضال، ولم يمرَّ شهر على حصار قلعة «أجياد» التي كانت تصب نارها على مكة، وخصوصًا على قصر الإمارة فيها، والشريف في غرفته الخاصة في ذاك القصر يدير الحركة، ولا يبالي بشظايا القنابل التي كانت تخترق السقوف والجدران؛ لم يمر شهر حتى كُلِّلَ الحصار بالنصر.
سلمت «أجياد» في ٤ رمضان. ثم استولى الأمير عبد الله على الطائف في ٢٦ ذي الحجة من تلك السنة.
وفي ٢ محرم ١٣٣٥ﻫ/٣١ تشرين الأول ١٩١٦م بُويع الشريف حسين بالملك، وفي الشهر التالي اعترفت به دول الأحلاف الكبرى، أيْ إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، مَلِكًا على الحجاز، وجاء الأسطولان الإنكليزي والفرنسي إلى جدة يحملان إلى جلالة الملك تهانئ تلك الدول أحلافه، فخطب في حضرته أميرال الأسطول الفرنسي، ودعاه بأعظم أمراء العرب.
أؤمل ألَّا يبرح من بال جلالتكم أن الحكومة البريطانية هي التي تحترم المعاهدات، وهي حامية ذمار الحق والعدل، والحليفة الوفيَّة التي لا تخون العهود.
(٩) الوَحْدة العربية١٦
إنه لَيصعب على مَن أنعم النظر، وكان مُنصِفًا أن يقول مَن هو رأس البلية في القضية العربية. وإذا ما بغينا الحقيقة كلَّ الحقيقة في الموضوع، أي موضوع الفشل، يبدو أمامنا في أربعة أجزاء تجسَّمت في إنكلترا وفرنسا، ومَن تولى الزعامة من العرب، ثم العرب أنفسهم. رأس البلية إذن تنين ذو أربعة رءوس.
ولكنَّ هناك عاملًا واحدًا يُعَدُّ من أهم أسباب الخيبة والفشل يشترك معه عامل آخَر، ألا وهو السياسة الدولية السرِّيَّة؛ لنجتنب التعميم. إن المعاهدة السرية — التي كانت سرية — بين فرنسا وإنكلترا، أيْ معاهدة سيكس بيكو، هي من أهم أسباب الفشل في تحقيق الوحدة العربية.
وقد تمَّ عقد هذه المعاهدة في ١٥ أيار سنة ١٩١٦، أيْ قبل أن يُعلن الشريف حسين الثورة على الترك بسبعة عشر يومًا. فبينا كان السر آرثور مكماهون يفاوض مكة، ويقطع للعرب العهود كان المسيو بيكو والكرنل سيكس قد أتما عملهما المشئوم، فقسَّما البلاد السورية إلى مناطق سياسية اقتصادية، زرقاء وحمراء وسمراء، وهي كلها اليوم إذا اعتبرت مصلحة البلادِ مناطقُ سوداء.
على أن الحكومة الإنكليزية لم توافق على تلك المعاهدة دون تردد، أو دون شرط، فقد كتب السر إدوارد غراي ناظر الخارجية يومئذ إلى سفير فرنسا في لندن المسيو كمبون كتابًا مؤرخًا ١٥ أيار سنة ١٩١٦ يقول فيه إن حكومة جلالة الملك توافق على المشروع (مشروع التقسيم) إكرامًا لمصالح الأحلاف العامة، بشرطِ أن يشترك العرب بالحرب، ويكون لهم المدن السورية الأربع؛ أيْ حمص، وحماة، وحلب، ودمشق.
وكان جلالة الملك حسين قد طلب من الإنكليز البلادَ السورية كلها، ثم تنازل عن مرسين وإسكندرونة، واستمر يطالب بالمدن الأربع والسواحل أيضًا، ثم اعترف للإنكليز كما يظهر من الشرط الثالث في الشروط الخمسة بالمشارفة — وقد ترجمها ترجمان الديوان الهاشمي بالأشغال — على ولاية الموصل. نعم، إن الشرط ينصُّ حرفيًّا على الاستيلاء، مشارفةً كان أم إشغالًا، والاستيلاء يبدأ غالبًا بالشروط، وينتهي بالإطلاق.
أيجوز أن نقول إذن إنه لولا المعاهدة السرية بين فرنسا وإنكلترا التي تقدَّمت المعاهدة بين إنكلترا والشريف، لَكانت تحقَّقت اليومَ الوَحْدةُ العربية؟ ليس مَن ينكر أن تلك المعاهدة قضت على القضية في الشمال، في سوريا وفلسطين، ولكنها لم تصل بكل أسبابها المدمرة إلى شبه الجزيرة، وإني في هذا القول لا أنطق بغير نصف الحقيقة.
أما نصفها الآخر فهو أن الشريف لم يكن ليهتم بشبه الجزيرة يومئذٍ اهتمامَه بسوريا وفلسطين، ولا جزءًا من ذا الاهتمام. وماذا في شبه الجزيرة، إذا مال بوجهه إليها، غير الأمراء الأعداء، والقبائل المتمرِّدة، والصحارى والقفار؟ أما سوريا وفلسطين، قبلة العرب الفاتحين، فينبغي أن تكون جزءًا من الحجاز، أو يكون الحجاز جزءًا منهما. لا فرق عند الشريف، وفي ذلك الانضمام تتحقَّق الوَحْدة العربية.
أفلا ترى في هذه الخطة أن صاحبها يهتم بسقف البيت قبل اهتمامه بالأساس؟ وليس الأساس أيها العربي الغيور في سوريا وفلسطين، بل هو في نجد واليمن وعسير، في الأمراء الأعداء والقبائل المتمردة. فلو تمكَّن الملك حسين من ضم كلمتهم إلى كلمته، وجمع شتاتهم تحت رايته؛ لَكانت له سيادة تُذلَّل عندها عقبات الشمال، وتزول ألوان المناطق السياسية كلها. ولكنه، وقد فشل في سوريا وفلسطين، أمسى ولا نفوذ له يُذكَر في شبه الجزيرة.
أقول هذا وأنا عالم بما لجلالته من الفضل في سبيل القضية، بل قبل أن صار ملك الحجاز. وإنه في ثباته ومضائه، في دهائه وإبائه، عندما كان يمهِّد السبيل إلى العمل الخطير، ذاك العمل الذي لم يُقدِم عليه إلا بعد أن نال من دول الأحلاف مَطالِبه المادية كافة، من سلاح وذخيرة ومئونة ومال، وأخذ منهم الوعود بتحقيق مطالبه السياسية كلها؛ إنه، وإن كان مبدؤه المساومة، لَجديرٌ بالإعجاب والإجلال. ولكنه بعد أن صار ملكًا طمع بأن يكون ملك العرب. ولم يكن في أساس عمله ما يجيز مثل ذا الطمع؛ فهو فوق احتقاره أمراءَ العرب الحاكمين، أضمر لهم العداء كما يظهر من الشرط الثاني في الشروط الخمسة. ومهما كان من عزمه وثباته في الدفاع عما يعتقده حقًّا، فإن الخطل في سياسته العربية تقدَّمَ السداد في ثورته الحجازية.
وما الفائدة اليوم من ضجة تملأ الدوائر السياسية احتجاجًا، وقد انكشف الستار، ولم يَبْقَ في القضية سرٌّ يستثمره الدهاء؟ إنه لَوَهمٌ قديم طُلي بذهبِ حلمٍ جديد، ولكنَّ الملك حسينًا أصلبُ ساسةِ الأرض اليومَ رأيًا، وأيبسهم عودًا؛ فهو وإن شابت الأوهام، وهرمت الأحلام، لا يطوي العلم، ولا يكسر الحسام. وقد يموت شاهرًا سيف السياسة والدهاء على أعدائه الحقيقيين والوهميين في سبيل المجد الهاشمي، والوحدة العربية. ما أعظمها وما أجملها ثقة، تلك الثقة بالنفس!
أجل، ومَن يطلب ما طلبه الملك حسين من دولة بريطانيا غير رجل طماح، ثقته بنفسه أعظم من ثقة الإنكليز بأنفسهم؟ ومَن مِن أمراء العرب الذي يعرف بعض الشيء عن زملائه وإخوانه في الجزيرة يعلِّل النفسَ بتحقيق تلك الأماني، أماني الشريف، وأماني الملك، وأماني المنقذ الأكبر؟ وهي كلها واحدة لا تتغير.
ولكنها لا تتفق مع أماني الآخرين. قلت: إنه أضمر لهم العداء في الشرط الثاني من شروطه الخمسة، فقد جاء فيه أن «لو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداء، أو من حسد بعض الأمراء»، تتعهَّد بريطانيا أن تساعده عليهم «مادةً ومعنًى». ولا ريب أن ابن سعود والإدريسي كانا في ذهن الملك عندما أمر وزيره أن يكتب هذا الشرط، ولا ريب أن معتمد بريطانيا كان يدرك ذلك؛ لِمَا بين الملك وابن سعود والإدريسي من العداء القديم. ولكن سلطان نجد وسيد عسير من أصدقاء بريطانيا وأحلافها، فكيف يمكنها أن توافِق على شرط قد يوجب عليها مُحارَبتهما من أجل الملك حسين؟
وكيف يستطيع الإنكليز أن يقوموا اليومَ بشروطِ اتفاقٍ نسخته سلفًا معاهدة سيكس بيكو؟ إن تلك الصفقة لَصفقةُ يائسٍ مستهتر، وإن في تلك الشروط دليلًا على سذاجة في المنقذ الأكبر مهما كان دهاؤه السياسي. وإن في قول بريطانيا بها دليلًا على جهل في معتمدها، أو حماقة في رُسلها، أو خدعة في حكومتها مهما كان من قول رجالها في برِّها بالوعود، ومحافظتها على العهود.
قد أدرك جلالة الملك حسين حتى قبل انتهاء الحرب وُعُورةَ المسلك الذي سلكه في تأسيس دولة عربية، يريدها أولًا سورية، وقد لا يريدها إلا هاشمية. فكتب قبل انتهاء الحرب بثلاثة أشهر إلى نائب ملك بريطانيا في مصر كتابًا يقول فيه: «فمتى أضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمِّل من النتائج، يتحتم عليَّ الانسحاب من الأمر، والتنازل عنه.» ثم قال وهو لا يزال يصرُّ على الشروط الخمسة: «فإذا كان لا بد من التعديل، فما لي سوى الاعتزال والانسحاب … وإنها (أي بريطانيا) لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا يتغير ولاؤهم وإخلاصهم … ثم تعيِّنون البلاد التي يستحسن إقامتنا فيها للسفر إليها في أول فرصة.»
ولا تزال هذه لهجة الملك، ولا يزال هذا قصده منذ ذاك الحين إلى يوم تشرَّفتُ بمقابلته في جدة، وقد قال لي يومَ ودَّعتُه، وهو يقبض على لحيته: «إني لا أبغيها (أي الزعامة)، لا أبغيها. ليتفق أمراء العرب عليها، وأنا أعتزل. ليتفقوا على تأييد الوَحْدة العربية، فأنسحب إذا شاءوا، وأشاركهم بما يتفقون عليه، تابعًا كنتُ أو متبوعًا. أقول يا حضرة النجيب: تابعًا كنت أو متبوعًا.»
- ٣٤٩٥: برَسْم المعايَنة.
- ٣٣٠: برَسْم المعالَجة في المستشفى.
- ٣٩١٧: تغيير القروح.
- ٣٤: الوَفَيات.
- ٢١: عمليات جراحية.
وتتكفَّل الشركة بإنشاء خط حديدي بين جدة ومكة، وخط ثانٍ بين ينبع والعلا لحساب الحكومة. وتسلِّم هذين الخطين إلى الحكومة الهاشمية بكل لوازمها، فيصيران مِلكًا للحكومة. وتستوفي الشركة قيمة ما تصرف على إنشاء الخطين مع الفائدة القانونية من واردات الأربعين بالمائة العائدة إلى الحكومة.