الخاتمة
إذا كنتَ تصفَّحتَ هذا الكتاب أيها القارئ وما جاء فيه من المباحث السياسية تجد من نفسك ميلًا مقرونًا بالعلم الذي لا يَشُوبه شائبُ الغرض والتحزُّب لتتبع هذه المباحث.
قلت في الفاتحة إن شرقي الأردن هي جزء من الحجاز، والحجاز جزء من تهامة التي تمتد جنوبًا إلى المخا، والمخا من اليمن، واليمن هو الأصل الذي تتفرَّع منه نجران وعسير سهولًا وحزونًا. هو ذا شطر من أساس الوَحْدة العربية لو كان للجغرافية السيادة على السياسة، أو لو كان للدين نفوذٌ في تلطيفِ مطامعِ الأمراء، أو لو كان للقومية العربية سطوةٌ في القلوب حقيقيةٌ تَسُوقها إلى محجة واحدة.
إن المذهب الديني في شبه الجزيرة لا يزال متغلبًا على الدِّين، وهناك مذهبان قويان عصبيةً وسياسيةً لا يقبلهما السُّنيون؛ هما الوهابية في نجد، والزيدية في اليمن. ومن عقبات القضية أن حاكِمَي البلدين، السلطان عبد العزيز والإمام يحيى يحكمان حكمًا مذهبيًّا، هما مليكان بفضل المذهب وباسمه، ويصح أن أقول أيضًا: ومن أجله. هما من أعظم ملوك العرب قوةً واقتدارًا.
فلو فرضنا أن أكثر الأقطار العربية دانَتْ لابن سعود فيظلُّ القُطْر اليماني عاصيًا خارجًا محاربًا، ولو فرضنا أن الإمام يحيى اكتسح الأقطارَ الغربية والجنوبية كلها فبسطَ سيادتَه من حضرموت إلى الطائف، ومن نجران إلى جيزان، وتقدَّم طالبًا تحقيقَ الوَحْدة كلها، فإنه لَيجدُ في نجد سدًّا لمَطامِعه عاليًا منيعًا.
هذا هو الداء الأول ومكروبه المذهبية، فهل تتحقَّق أماني الوَحْدة أو بعضها يا ترى إذا قُتل المكروب أو عُزل في الأقل من السياسة؟ إن نجاح القضية لا يتوقَّف على هذا الإصلاح وَحْده.
إن روح القبائل لا تزال سائدةً في البلاد العربية ومتغلبة في أكثر أقطارها على الروح القومية، فلو فرضنا أن الإمام يحيى خرج باسم القومية يجاهد في سبيل الوَحْدة العربية، وقد اتخذ لقبًا علمانيًّا وأنشأ في اليمن حكمًا مدنيًّا، فلا تخفى نهضته أن سيفها لا يزال سيف قحطان، وأن قحطان لا تزال نازعةً إلى عصبيتها، مثيرةً في نزوعها العصبيات الأخرى. وبكلمةٍ أوضح: إن العداء بين قحطان وعدنان عمومًا، وبين قحطان وربيعة خصوصًا، لا يزال مستحكمًا في جنوبي نجد — مثلًا — وفي أعالي عسير. فضلًا عن أن نجدًا، والصولة فيها لا تزال لربيعة، تأبى السيادة العامة ليس في قحطان فقط، بل في مضر أيضًا، ومعقل مضر لا يزال الحجاز.
هذا هو الداء الثاني ومكروبه العصبية. فإذا تغلَّب أمراء العرب الكبار على العصبيات القديمة فيهم، وقاموا باسم القومية العربية المحضة الشاملة يبغون الوَحْدة، فهل يظفرون بها يا تُرى؟ إن نجاح القضية لا يتوقَّف على هذين الإصلاحَيْن وحدهما.
إن العوامل الطبيعية توجد في شكلِ أقسامٍ من الأرض، وفي سكانها ما يُسمَّى وَحْدة جغرافية تتشابه فيها القوميات والطباع والعادات والتقاليد، وتشترك فيها مصالح الأهالي وسياسات المتقدمين فيهم، غير أن هذه الوَحْدة لا تدوم إلا بثلاث: حكومة منظَّمة عادلة، ومدارس وطنية عامة، وطرق مواصلات حديثة. وليس في البلاد العربية اليوم، ما سوى العراق، غير قُطْرين في أحكامهما شيء من النظام المدني، هما الحجاز واليمن. وليس في البلاد العربية اليومَ غير حكم واحد عادل، هو حكم ابن سعود. أمَّا المدارس الوطنية العامة فلا تجدها إلا في الحجاز ولحج والبحرين والكويت، وليس في شبه الجزيرة كلها — إذا استثنينا سكة حديد المدينة والتلغرافات السلكية واللاسلكية في اليمن والحجاز — شيء من البرق والبخار.
على أن في الحالة الجغرافية بعض الأمل، فيها اليسير مما يثبت وحدتها ويبشِّر بتعميم عواملها. وكأني بالقارئ يسأل سؤالًا آخر: إذا عمَّت هذه العواملُ الأقطارَ العربية كلها، فأُنشِئت الحكومات المنظَّمة، وطرق المواصلات الحديثة، والمدارس الوطنية العامة، فهل نفوز بضالتنا المنشودة؟
أجيب: نعم، ولكن بعد خمسٍ وعشرين سنة في الأقل من بداءة هذه المؤسسات، فتزول بوساطتها العصبيات القديمة لتحلَّ محلَّها روحُ القومية العربية الكبرى، وتُنبَذ السياداتُ المذهبية من الأحكام المدنية، فتقوم مقامَها سيادةُ العقل والعدل والتساهُل، بل سيادة العقلية العربية الجديدة التي تَرفع فوق كل مصلحة وفوق كل سياسة، مصلحةَ العرب المشتركة وسياسةَ العرب الموحَّدة.
إذن لا أملَ للعرب في تحقيق الوَحْدة العربية الكلية اليوم. فهل من الممكن أن يتفاهم ملوكُها ويتآلفون؟ أجيب: نعم. وأقول فوق ذلك: إنه من الممكن أن يؤلِّفوا وَحْدتَين أوليتَين تقسِّمان شبه الجزيرة شطرَيْن في الحكم كما قسَّمتها الطبيعة؛ أي الشطر الغربي والشطر الشرقي. وما كان هذا ليتم اليومَ لولا سقوط الخلافة وتنازُل الأتراك عنها.
أمَّا رأيي، فها أنا ذا أعرضه على سادتي ملوك العرب. «الخلافة يا سادة في قريش» (حديث شريف). ومَن في قريش اليوم ومن سلالة الرسول أصلحُ وأشرفُ من جلالة الملك حسين؟ ولكننا في القرن الرابع عشر بعد البعثة النبوية، وسُنَّةُ التطوُّر سُنَّةُ الله، فإذا استنكرنا عمل الأتراك فلا يجوز أن نتعامى عمَّا هو صالح فيه، بدأ مصطفى كمال وزملاؤه في فصل الخلافة عن السلطنة، وهذا هو النصف الصالح في إصلاحهم، وإني أظنُّ أن الإسلام لا يعود بعد اليوم إلى التقليد القديم.
أَفَلا يجدرُ بالعرب أن يخطوا هذه الخطوة إلى الأمام فيقبلون من مصطفى كمال نصفَ برنامجِ إصلاحه؟ وهم إذا بايَعوا حسينًا بن علي على الخلافة فيجعلون مقرَّه مكة (أي كالبابا في رومة)، ويُقِيمون بعدئذٍ ملكًا غيره منهم.
إذا سلَّمتَ بهذا أتقدَّم وإياك إلى ما يليه. لنفرضْ أن الملك حسينًا قبِلَ الزعامةَ الدينية، فمَن من ملوك العرب اليومَ يستحقُّ الزعامةَ المدنية ويحقِّق آمالَ العرب بها؟ لا أظنك إذا كنت قرأتَ ما تقدَّم تتردَّد في الجواب. نعم، ابن سعود وابن حميد الدين. فيحكم الأولُ شطرَ البلاد الشرقي، والثاني شطرَها الغربي. فلماذا لا نساعد كلًّا منهما إذن ليبسط حكمَه على سائر الشطر الذي هو اليومَ السيدُ الأكبر فيه؟
أني أحدِّثك أيها القارئ بلغةٍ فيها سدادُ المنطق وبساطةُ ألف باء. ولا أنتقل من مقدمةٍ إلى أختها قبل أن أبيِّنَ الحقيقة فيها. سلَّمنا بالخلافة للحسين، وبالملكية للملكين. ولكنما السبيل إلى ذلك، ما هي؟
إن في سبيل الفلاح عقبتين لا يُستخَف بهما؛ الأولى في داخل البلاد والأخرى خارجَها. اسم الأولى أمراء العرب، واسم الثانية بريطانيا، وإن بين الاثنتين صلةً لا تُقطَع اليوم، ولست ممَّن يُطالِبون بقَطْعها، إنما أقترح أن تنتقل من الفروع إلى الأصل، أرتئي أن يتألَّف من الصلات المتعددة صلةٌ واحدة، أو بالحري صلتان لا غير. أما إذا اعترض الإنكليز قائلين إن الأمراء لا يقبلون بذلك. فأجيب: إن للأمراء ولوُجَهاء العرب الحقَّ في معالجة الأمر دون تدخُّل حكومةِ بريطانيا، على شريطة أنهم منذ البدء يؤكِّدون لها أن مصالحها في البحر الأحمر والبحر العربي وخليج فارس لا تُمسُّ بضر بتاتًا.
أمَّا الأمراء الحاكِمون اليومَ فأول ما يجب إقراره هو أن الحكم يبقى في بيوتهم كما كان منذ القدم؛ أيْ إن آلَ صباح يظلون في الكويت، وآلَ خليفة في البحرين، والعبادلة في لحج، والأدارسة في عسير … إلخ، ولا يتغير في استقلالهم غير اعترافهم بالسلطان الأكبر واشتراكهم وإياه في الدفاع عن البلاد وفي عَقْد المعاهدات، وفي نظام واحد يختص بالمسائل الاقتصادية والمصالح العامة.
ليس في هؤلاء الأمراء اليومَ واحدٌ مطلق من نفوذ الإنكليز مهما كان ضئيلًا، وليس فيهم مَن لا اتفاق أو معاهدة بينه وبين بريطانيا. فهل يعارض أن يكون النفوذ لأمير عربي كبير إذا توفرت فيه شروطُ الزعامة فيتعزَّز بذلك شأن الاثنين؟ وهل تخسر بريطانيا أو تفادي بشيء من مصالحها إذا عقد السلطانُ الأكبر مُعاهَدةً معها شبيهة مبدئيًّا بالمعاهدة أو الاتفاق الذي بينها الآن وبين الأمراء؟
إنني أدرك أنها تفضِّل أن يكون اتفاقُها مع كل أمير على حِدَة؛ لأن في ذلك تقسيم قواهم والاقتصاد بقواها، ولكن الأمراء إذا هم فكَّروا مليًّا، يرون مصلحتهم الكبرى في غير هذه السياسة، فهم إذا وحَّدوا سياستهم يَعتزُّون ويتخلَّصون من تدخُّل عمال الإنكليز، ذلك التدخل الذي يَئِنُّون كلهم منه. وإن بريطانيا لَتكتسبُ ثقةَ العرب وحبهم إذا قبلتْ بمثل هذا الإصلاح وفيه ضمان مصالحها.
إن ابن سعود صديقها وحليفها، فما ضَرها إذا كان هو الموقِّع للمُعاهَدات والاتفاقات التي بينها وبين البحرين والكويت وقطر وعُمان؟ وما ضر هؤلاء لو كان ابن سعود، وهو صاحب الصولة والاقتدار، الضامنَ سلامتهم واستقلالهم، العاملَ في سبيلهم، على شرط ألَّا يكون لسيادته فيهم صبغة مذهبية. وأكثرُ هؤلاء الأمراء مثل ابن سعود من قبيلة واحدة، من ربيعة، ويَمتُّون إلى بكر بن وائل.
ليس في ذا الأمر شيءٌ مستحيل. والخطوة الأولى في سبيله هو أن يُعقَد مؤتمرٌ عربي عام في مكة — مثلًا — يحضره كل الأمراء فتتم فيه مُبايَعة الملك حسين على الخلافة، ثم مُبايَعة الإمام يحيى على الملك في الغرب، والسلطان عبد العزيز في الشرق، ويكون بين المَلِكَين مُعاهَدة ولائية اقتصادية واتفاق بأن يكون أيضًا بينهما وبين بريطانيا مثل هذه المعاهدة أو ما يُقترَن بها مبدئيًّا.
أما الملك حسين فيشترط العرب في بيعتهم أنه يقبل بمَن يُقِيمونه مَلِكًا عليهم، وإذا بايَعَه كلُّ العرب يبايعه — ولا شك — المسلمون في الهند وفي الأقطار الإسلامية الأخرى. أَفَلا يَرْضى، وهو الحصيف الحكيم، أن يكونَ خليفةً يحترمه المسلمون أجمع، ولا يكون ملكًا في الحجاز همومُه السياسية الخارجية والداخلية هي أشدُّ من همومِ حاكمٍ من حكَّام الدول العظمى؟
إن في البلاد العربية اليومَ أربعةَ ملوكٍ كبار، وإن في نفسية الرعايا رعاياهم نصًّا على شخصية أولئك الملوك وشرحًا على حالة تسود سياستهم في البلاد.
رعيةُ الملك حسين تطيعه وتخافه.
رعيةُ ابن سعود تطيعه وتحبه.
رعيةُ الإمام يحيى تطيعه دونَ حبٍّ ودون خوف.
رعيةُ الملك فيصل لا تخاف ولا تُطِيع إلا مُكرَهة.
فمَن من الملوك المذكورين في شبه الجزيرة يستحقُّ أن يَسُودَ العرب؟