الإمام يحيى بن حميد الدين المتوكل على الله
(١) اليمن
- حدوده: جنوبًا: خط يمتد من المخا على البحر الأحمر إلى تعز فماوية فقعْطبه. شمالًا: خط يمر في بلاد خولان، وبني بشر إلى نجران. غربًا: البحر الأحمر من الشيخ سعيد إلى ميدي. وشرقًا: البحر السافي أو الرَّبْع الخالي.
- ألويته: لواء صنعاء، ولواء الحديدة، ولواء تعز، ولواء صعدة.
- عدد سكانه: نحو مليونَيْ نفس ونصف مليون.
- مساحته: نحو أربعين ألف ميل مربع.
- أهم قبائله: حاشد، وبكيل، وحمدان، والحوارثة، وذو محمد، وذو حسين، وبنو إسلام، وبنو مطر، والمكارمة.
- أهم مدنه: صنعاء، وذَمار، ويريم، وإبْ، وتعز، وزبيد، وبيت الفقيه، ومناخة.
- مذاهبه: الزيديَّة، والإسماعيلية، والسُّنة (شوافع)، واليهود.
(٢) التبليغ في الترويع
كنتُ ذاتَ يوم في إدارة إحدى الجرائد النيويوركية حين دخل رجل غريب اللهجة لا اللسان، يبغي كتابًا يعلِّمه الحديث في اللغة الإنكليزية. فسألته: من أين أنت؟ فقال: من اليمن. وكنتُ يومئذ في أهبة السفر إلى بلاد العرب، فاستأنست بالرجل وبلهجته، وقلت، وأنا راغب في الاستفادة: اجلسْ وحدِّثْني عن بلادكم. فقال على الفور: بلادنا طيِّبة الهواء والماء، ولكن أهلها دائمًا في احتراب. فقلت: ومَن يحاربون؟ فأجاب: حاربنا الأتراك، وحاربنا القبائل، وحاربنا الإدريسي، ويحارب دائمًا بعضُنا بعضًا.
– وهل الإمام يحيى حاكم اليمن كله؟
– لا، هو يحكم جزءًا صغيرًا منه. نحن أهل اليمن لا نخضع لأحد دائمًا. نحب الحرية، ونحارب من أجلها، نذبح أقرب الناس إلينا لنكون مستقلِّين. نقول للإمام: هذا الرجل لا نشتهيه (لا نريده) حاكمًا، ونقيم منا شيخًا علينا، ونقول له: أنت حاكمنا، أنت إمامنا.
قلت: وإذا أبى عامل الإمام التنازُل عن منصبه؟ فأجاب بلهجة هادئة: والله نذبحه.
ثم سألته ما إذا كان من أجانب في اليمن؟ فقال: لا. وإنه لا يُؤذن لهم لا بالذهاب ولا بالإقامة هناك.
– وإذا جاءكم الأجنبي؟
– والله نذبحه.
– وإذا ساح متنكرًا.
– إذا عرفناه فوالله نذبحه.
– أوَمَا يُؤذَن للسوري وهو عربي مثلكم؟
– إذا كان مسيحيًّا فهو والفرنجي سواء عند أهل اليمن. وقد يحميه لسانه، أو يصرف النظر عنه.
قلت: وإذا انكشف أمره فعرفتموه؟ فأجاب الرجل دون أن يغير لهجته الناعمة اللطيفة: والله نذبحه. كأنه يقول: نضيِّفه ونكرمه.
– ومَن هم أولياء الأمر؟
– الإنكليز.
– وهل للإنكليز سيادة في اليمن؟
– هم في عدن يرصدون الأبواب. ما لك واليمن؟ قد يأذنون بزيارة سلطان لحج، وهذا يكفي. في اليمن حربٌ اليومَ، والأخطار كثيرة. زِدْ على ذلك …
ولم يزد شيئًا جديدًا! سكت فروَّع، ثم قال: مستحيل سفرك إلى اليمن مستحيل. ودعاني للعشاء في بيته. فقلت: إني أقبل دعوتك بشرطِ ألَّا تقول إن سفري إلى صنعاء مستحيل. فقبل الشرط — رحمه الله — وما لمسنا في تلك الليلة في الحديث حاشيةً من حواشي اليمن.
جئت إلى جدَّة، واجتمعت فيها بصديقي القديم قسطنطين يني، وخطر لي أنْ لا بأس بل لا بد في السفر إلى جبال اليمن من رفيق، فسألت جلالة الملك حسين أن يأذن لقسطنطين أن يرافقني، فأجاب تلطُّفًا سؤلي. فسافرنا متوكِّلين على الله، أنا في ثياب إفرنجية وعقال، أحمل جوازًا أميركيًّا، وهو في ثوب ملازم في الجيش الحجازي، يحمل جوازًا حجازيًّا. وكانت العلائق بين الإنكليز والملك مُتراخيةً في ذاك الحين كما أسلفتُ القول.
وصلنا إلى عدن فاستقبلَنا على الرصيف ضابطٌ إنكليزي، وبعد أن اطَّلع على جوازاتنا احتفظ بها قائلًا: بأمر من الحاكم. فقلت: وهل هو أمر عام أو أنه يختصُّ بنا فقط؟ فأجاب: هو أمر عام يا سيدي. ثم أخذ عنواننا ووعدنا بأن يُعِيد الجوازات إلينا في ذاك اليوم، ولكن ذاك اليوم والأيام الثلاثة التالية شهدت على الإنكليزي؛ فتيقنَّا أنه لا يبرُّ دائمًا بوعده.
وقد كنتُ أحمل كذلك كتاب تعريف من الوزارة الخارجية بواشنطن، فقدَّمته للقنصل الأميركي، وسألته أن يطلب من الحاكم إعادةَ جوازي. ثم أعلمته بقصدي، فصفر مدهوشًا، ثم قال: وقد يُقطَع رأسك، ولا أحد يسأل عنك! أنصحك لا تسافر، هذا إذا أُذِن لك. في البلاد حربٌ اليومَ، والطرق غير أمينة، وأنا لا أقدر أن أحميك.
فقلت وكاد يملكني الغيظ: اسمع يا رجل، قد تنازلت في العاصمة، وفي الوزارة الخارجية عن حقوقي كلها، ولا أسألك الآن غير كتاب تكتبه إلى الحاكم، تعرِّفني إليه، وتقول له: إني أبغي مقابلته. فكتب القنصل الكتابَ في الحال، ولكن الحاكم أبطأ في الجواب كما أبطأ في إعادة الجوازات.
جاءني القنصل صباحَ اليوم الثالث، وفيه بعض الاضطراب يقول: لستُ أدري ما السبب في التأخير، ولكني اجتمعت في النادي مساءَ البارحة بالمعاون الأول. تعالَ نزوره الآن. فذهبنا إلى دار الوكالة فاستقبلَنا المعاوِنُ قائلًا للقنصل: قد كتب إليك الجنرال، وعيَّن هذا اليومَ للمقابَلة. وتلطَّف حضرته بأن قابلنا في تلك الساعة. دخلنا إلى مكتب الجنرال سكوت وكيل بريطانيا، والحاكم المدني والعسكري في عدن، فإذا هو كهلٌ طويلُ القامة طَلْق المُحَيَّا. صافحَنا وأمر بالجلوس، فجلس معنا المايجر رَيْلي معاوِنه الأول، وكان القنصل أول المتكلمين. ثم قال الجنرال يخاطبني: قيل لي إنك شاعر. فقلت: صدق مَن أخبرك. فضحك وتتبع الموضوع، فكان الحديث في شعراء العرب والعجم، فذكر الجنرال عُمر الخيام، ورجال الجندية يعرفونه ويعجبون به أكثر من سواهم؛ لأنه بشير الخمر واللهو والغناء. ثم قال: أما الشاعر الذي ترجمته إلى اللغة الإنكليزية … فساعدته في لفظ اسم أبي العلاء المعري. وشرحتُ إجابةً لطلبه الفرقَ بين الشاعرين: فلسفة المعري عقلية، وفلسفة الخيام محض حسية.
أعجبني من الجنرال أنه لم يفاجئني، فيجبهني، كما يفعل موظف أميركي في الحديث عما أبغي منه. وكان في ذلك أشبه بموظف شرقي. ولا عجب وهو من رجال حكومة الهند خدم بلاده هناك عشرين سنة. تطرَّقنا من الشعر إلى العقائد الدينية، ثم إلى السياحة؛ فجهرتُ بقصدي، فقال: أَوَلا تهمك الأخطار؟ فقلت: هي لذة الأسفار. فقال: ولكنَّ في السفر إلى اليمن خطرًا أكيدًا، خطرًا كبيرًا على المسيحيين، ونحن لا نستطيع أن نحميك فيما تجاوز حدودَنا.
فقلت: يا حضرة الجنرال، هذا قنصلي وقد غسل يديه مثل بيلاطس في قديم الزمان. وأنا راضٍ بذلك. فإذا كنتُ لا أطلب الحمايةَ من حكومتي، أفيجوز لي أن أطلبها منكم؟ إني مسافر إلى صنعاء يا حضرة الجنرال، وليس لي مهمة سياسية، لا علاقة لي بأية حكومة من حكومات العالم. إلا أني أحب العرب، وأنا أصلًا منهم، وأحب في سياحتي أن أخدمهم ما استطعت. فإذا تأكَّدتُ بعد البحث والمشاهَدة أنهم في حاجة إلى مساعَدة إنكلترا، أنصح لهم بالتفاهم وأحثُّهم عليه. وإني أجهر أمامك، وأمام قنصل أميركا بذلك؛ لعلمي أننا كحكومة وكأمة لا يهمنا اليمن، ولا مطامع لنا في البلاد العربية. فإذا كنت أستطيع أن أخدم إنكلترا فيما أعتقده نافعًا للعرب أفعل ذلك مسرورًا ومجانًا، لا أسألكم مكافأةً غير إذن بالسفر إلى صنعاء. وإذا مهَّدتم لي السفر إلى نجد كذلك أكون لكم شاكرًا، ولمصلحة العرب خادمًا أمينًا.
فقال الجنرال: لا دخلَ لحكومة عدن بنجد، أما السفر إلى صنعاء فهو — كما قلت — محفوفٌ بالأخطار، وخصوصًا إذا كان المسافرون مسيحيين. فإذا أذنَّا لكم باجتياز حدودنا لا نكون مسئولين قطعًا عن حياتكم وسلامتكم دون تلك الحدود.
فقلت: وهل تريد أن أكتب لكم صكًّا أتنازل فيه عن حقوقي، بل عن حياتي؟ فضحك، ثم سكت، ثم وقف قائلًا: سأنظر في الأمر، وأكتب إليكم قريبًا.
وقال القنصل عند خروجنا من دار الوكالة: يظهر أن الجنرال يعرفك، وسأبحث لأعرف بعض ما يعرفه أو يظنه غير ما سمعناه الآن. وما كان متوانيًا أو مبطئًا، فأوقفني في اليوم التالي على ما كنتُ أجهله من غرائب الأمور التي أصبحت في البلد حديثَ الناس.
- أولها: أني رسول الملك حسين إلى الإمام يحيى. والبرهان على ذلك رفيقي الملازم في الجيش الحجازي؛ فكيف يأذن لنا الإنكليز بالسفر إلى صنعاء وهم لا يرتاحون إلى عقد معاهدة بين الملك والإمام؟
- وثانيها: أني قادم من أميركا من قِبَل الشركات المالية، أبغي امتيازات من حاكم اليمن. والبرهان على ذلك اهتمام القنصل بأمري؛ فكيف يأذنون بالسفر إلى صنعاء وهم المنافسون؟ فإذا كان هناك من امتيازات، فإنما يبغونها لأنفسهم.
- وثالثها: أني ممثِّل حزب النهضة العربية في مصر، وقد جئت سائحًا في البلاد أبثُّ هذه الفكرة، فأستثير العرب على الإنكليز، والبرهان … سبقنا في البرق إلى عدن.
فهل يستغرب الترويع بعد ذلك؟ وهل يستغرب صدور الأمر إلى إدارة الشرطة بمراقَبتنا أنا ورفيقي؟
ولَّى الأسبوع وأنا أنتظر، وأحاول في الظنون التثبُّت والإنصاف. وكنت أثناء ذلك طلبت أن أزور السلطان عبد الكريم فضل سلطان لحج، وأراد القنصل مرافَقتي، فقيل لي: ينبغي أن أكتب إلى سموه، وأن أستأذن كذلك الإنكليز. فكتبت إلى سمو السلطان وإلى معاون الحاكم، فجاءني الجواب من الأول مؤهلًا مرحبًا، وجاءني ورفيقي بوساطة القنصل إذنٌ من الثاني مصحوب بكتاب يقول فيه: إن الجولان خارج حدود لحج محظور وممنوع، وإن السفر بدون حرس لا يكون، وإن أمر الحرس «منوط بهذه الدائرة»، أيْ دائرة الحاكم. أظنه خاف أن نسافر من لحج بدون إذن منه، ونستغني كذلك عن الحرس. على أننا والحق يقال بتنا والخطرُ الأكيد أحبُّ إلينا من الترويع والقيود.
دفع القنصل الكتاب إليَّ، وحذَّرني من أولئك العرب الذين يتكلَّمون اللغة الإنكليزية: أكثرهم يَزُورون المايجر ريلي بعد أن يزوروك. ثم قال: ويظهر أن اعتراض أصحابنا على رفيقك أشدُّ من اعتراضهم عليك. فأكَّدتُ له أن رفيقي صديقٌ قديم، وأن لا صفةَ له رسمية في هذه السياحة، وأني أرفض السفر إذا صدر الإذن لي وحدي.
بعد ثلاثة أشهر — أيْ بعد رجوعي من صنعاء — عرفتُ السبب في إبطاء الجنرال الحاكم؛ فقد اضطره أمرنا إلى مراجَعات كثيرة طويلة بعيدة، اتصل بعضها بوزارة المستعمرات بلندن، وبوزارة الخارجية الأميركية بوشنطن.
عندما رأت الوكالة البريطانية أنْ لا بد من الإذن اتخذت خطة أخرى، فسعت بوساطة أصحابها، ومنهم أولئك العرب الذين يتكلمون اللغة الإنكليزية، أن تقنعني بأن السفر إلى صنعاء من الحديدة أسهلُ طريقًا وأقل خطرًا. وقد أرادتْ بذلك أن أزور أولًا صديق الإنكليز السيد الإدريسي، فأرى في تهامة ما قد يغنيني عن زيارة خصمهم الإمام، فرفضتُ بتاتًا، وكتبت إلى معاون الحاكم جوابًا على ما جاءني في كتابه إلى القنصل، أسأله أن يتفضَّل فيرفقنا بالحرس اللازم إلى حدودهم، أي الحدود التي تنتهي عندها حمايتهم. فجاءني منه جواب يقول فيه: قد كتبت إلى سلطان لحج بخصوص طلبكم، وسأُعلِمكم بما يجدُّ.
أقف عند هذا الحد في القصة لأرجع إلى مصدر آخر من مصادرها الغريبة. بعد أن زرت الوكالة البريطانية رحت أقصد وكالةً أخرى سياسية. يمَّمْتُ في فم البركان، في عدن القديمة، ومعي رفيقي قسطنطين، بيتَ القاضي عبد الله العرشي وكيل الإمام يحيى، وسفيره إلى الإنكليز في عدن. فلما وصلنا إلى دار السعادة اليمانية بادَر إلى استقبالنا عند الباب رجل صغير نحيل في قميص من القطن قصيرة، تحتها قميص أخرى من الصوف زرقاء، وفي رجله الخف، وعلى رأسه — وقد نزع العمامة — طاقية بيضاء. هو القاضي عبد الله سفير الحضرة الإمامية.
جلسنا على سجادة صغيرة في زاوية من غرفة تكاد تكون عارية، وكان إلى جانب مسند القاضي عدد من الجرائد المصرية والسورية، وفيها جريدة نيويوركية أشار إليها فضيلته قائلًا: نعم، الغيرة غيرة أبناء العرب في أميركا على الوطن واللغة. ولكنني أقف حائرًا في مطالعتي هذه الجريدة عند ألفاظ وتعابير ليست من العربية بشيء. أَفَلا يقرءون النحو واللغة على أساتذة من العرب هناك؟ أما هذه، وأشار إلى مجلة مصرية، فأسلوبها «ناهي» (جميل) … ومن الغريب يا حضرة الفيلسوف أن يومَ وصلتنا برقيتكم من بورت سودان وصلت هذه المجلة وفيها مقال عنكم، طالَعناه والإعجاب بكم يسابق الشوق إليكم. فشكرنا الله الذي حقَّق أملنا باللقاء … ومولانا الإمام هو عالم كبير، وشاعر مجيد، وعنده مكتبة من الكتب المخطوطة لا مثيلَ لها في البلاد العربية كلها … يومَ وصلتنا برقيتكم يا حضرة الكامل أشعرنا بالسلك (تلغراف) حضرة الإمام. ومتى جاء الجواب نسارع إليكم به. نحن في خدمتكم. وهذا قليل تجاه مَن وقف نفسه على خدمة العرب …
وفي اليوم التالي جاء فضيلته لابسًا ثيابه الرسمية، راكبًا السيارة، يزورني في الفندق. وكان في معيته كاتب سره، واثنان من العبيد. دخل أحدهما عليَّ يقول: مولانا القاضي. فلبست عقالي، وخففت إلى استقباله. ولولا العبد المبشِّر بقدومه لما عرفته لأول وهلة؛ أين القميص والطاقية والخف من هذه المطارف الفخمة التي جاء يرفل بها! وهذا البرد اليماني المخطَّط بالأصفر والأحمر، وقد طرحه على كتفه كأنه رداء روماني. وهذه العمامة العامرة الباهرة الألوان، والسيف يحمله بيده، والجنبية في زناره، هو ذا حقًّا سفيرُ الحضرة الإمامية دام نصرها.
والغريب أن القاضي كان في تلك الزيارة رسميًّا في حديثه كما كان في ثيابه. فما أنعش لي أملًا، ولا قال إنه زار كذلك صباح ذاك اليوم الوكالةَ البريطانية. فلا غرو إذا فتحت أذني لرواة الأخبار الذين قالوا إنه راح يستشير الحاكم في أمري، وإنه لا يُقدِم على عمل لا يُستحسَن في دار الوكالة، وإنه يقبض منهم، لا من الإمام، المشاهرة. وقال بعضهم — بئس المفسدون — إنه يقبض من الاثنين، وإنهم — أي الإنكليز — إذا شاءوا أن يمنعوني عن السفر فلا يفعلون مباشَرةً إكرامًا لقنصل أميركا، ولكنهم يوعزون إلى القاضي عبد الله بأن يقول لي إن الطريق إلى صنعاء محفوفة بالأخطار، فلا يستطيع أن يرفقني بالحرس اللازم، وغيرها من الأقاويل. لله منك يا عدن، ما أكثر الدسائس فيك والجواسيس!
وصلني هذا الكتاب وأنا في لحج ضيف سمو السلطان عبد الكريم فضل أنتظر الفرج من الوكالة البريطانية. وكنا — على جميل ضيافة سموه وحفاوته بنا — في حالةٍ تعدَّدت همومها؛ فقد مرض أولاد الرفيق قسطنطين بالحمى، ومرضت أنا ﺑ «القال والقيل»، وكان داء الجدري متفشيًا في البلد، فخفت أن يكون قد أُصِيب رفيقي به. وأطلعني السلطان ذات ليلة على كتاب من الحاكم: لا تأذنوا لفلان وفلان أن يتجاوزوا الحدود قبل أن يجيئهم الإذن منا. فإذا تمثَّل القارئ تلك الحال، وقد بقينا أُسَراء في القصر بلحج، يدرك شيئًا من سروري بكتاب القاضي عبد الله العرشي.
أسرعت بإعلام القنصل، فراح إلى دار الوكالة يسألهم البت في الأمر. ومرت خمسة أيام حسبتها خمس سنين، وأنا أجتهد أن أكون محسنًا بالإنكليز الظن. ولكن سئمت التسويف والمماطَلة، ونفرت من الأثرة في أمرٍ أربعةُ أخماسِه بيد سواهم حقًّا وعملًا. ولو كان كله موكولًا إليهم لما كنت ألوم. فها إن صاحب البلاد يرحب بنا، ووكيله في عدن يَعِدنا بما يلزم من الخدم والحرس في الطريق من ماوية إلى صنعاء، والسلطان عبد الكريم — رغم رسائل الوكالة — يرفقنا ساعةَ يشاء بحرس إلى حدوده. وأنا ورفيقي، وحياتنا على كفنا، مكتفيان بهذه الضمانة.
– وإذا مت يا مولاي (كان السلطان عبد الكريم يحاول تسكين خاطري) أموت واللهِ في حبكم، في حب العرب.
دار الوكالة. عدن، في ٥ نيسان ١٩٢٢
إلى المستر أمين الريحاني
أيها السيد العزيز
قد كتب الحاكم إلى سلطان لحج يسأله أن يرفقكم أنت وقسطنطين يني بالحرس إلى حدود حمايتنا عندما تُزمِعون الرحيل. ولكنه رغب إليَّ أن أعلمكم بأن البلاد في اضطراب، وأن السفر فيها خطر على المسيحيين، وأنه وإن كان قد سأل السلطان أن يرفقكم بالحرس إلى الحدود، فلا هو ولا السلطان يضمنان لكم السلامة. وَلْيكن معلومًا لديكم بأن الحاكم غير مسئول البتة عما يحدث لكم فيما دون حدود المقاطعات المحمية.
ذكَّرني هذا الكتاب بالكلمة الأولى التي قالها القنصل لي: قد يُقطع رأسك، ولا أحد يسأل عنك … وكنت قد تركت عنده من أمتعتي ما لا أحتاجه في السفر إلى اليمن، وأعطيته عنوانَيْن، في بيروت، وفي نيويورك؛ لينعيني في الأقل إلى أهلي.
لست أدري وأنا أعيد ذكرى تلك الأيام ما الذي تغلَّب فيَّ على ذلك الترويع، إذا لم يكن ثباتي على أحد أمرين، وهما ثقتي التامة بإخواني العرب، وعزمي على إنجاز ما باشَرته من السياحة الدراسية. نعم، قد كنت مزوَّدًا بكتب التوصية من الملك حسين. وقد رأى القارئ فيما تقدَّم ما له من المنزلة عند الإنكليز الذين حاولوا أن يمنعوا صديقي عن السفر؛ لأنه في خدمة جلالته. وأما أولياء الأمر من رجال الإمام يحيى، فسيرى القارئ ما لملك الحجاز عندهم من المنزلة.
أما الخطر وإنْ جسَّمه الإنكليز، فقد كان — والحق يقال — في حيِّز اليقين، وخصوصًا في بلاد الحواشب، إحدى السلطنات الداخلة في حماية الإنكليز، الكائنة بين لحج واليمن الجنوبي. وكانت عساكر الإمام في الزحف تلك السنة على المقاطعات التسع المحمية قد وصلت إلى الحواشب، ونكَّلت بهم، فأرسل الإنكليز على اليمانيين طائرتين رمتهم بالقنابل، فتفرَّقوا وعادوا خاسرين؛ لذلك كان العداء لا يزال متمكنًا بين الإمام والحواشب. ولذلك أطلقوا الرصاص على رجال الوفد اليماني عندما مروا بأرضهم قبلنا بشهر واحد في رجوعهم من الحجاز إلى صنعاء. فماذا عسى أن يكون حظنا منهم، ونحن قادمون من الحجاز ووجهتنا الحضرة الإمامية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
أمد الله مدة مولانا، ومالك أمرنا أمير المؤمنين، والحجة على الخلق أجمعين، المتوكل على الله رب العالمين، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته يُردَّد في كل وقت وحين.
وبعدُ، فصدورها للسلام، مقبِّلة بواطن الأكفِّ والأقدام، وهي لكم صحبة السيد الماجد … أمين الريحاني الذي فيه سبق الإشعار من المملوك إليكم بوصوله إلى عدن، وقصده الوصول إلى حضرتكم الشريفة للمزاورة والمعرفة، وتأدية ما معه من خدمة ونصيحة. وقد وجدته على جانب عظيم من الحب والمودة للعرب، ومن اللطف … وعرفت أن لا مانع من توجُّهه إلى حضرتكم، وكتبت في التوصية به، وتسهيل سفره، وحسن وفادته إلى أمير الجيش في ماوية، حماها الله. وسيتضح لكم حُسن نيته، وما هو عليه من المحبة والمودة للأمة العربية كافة عند المواجَهة، وربما تستفيدون منه ومن نصائحه، ومعرفته بالأحوال ما يكون فيه نفع الوطن وعمرانه. وليس لمن مثلي أن يشير إلى مَن مثلكم، فقد نوَّركم الله بمعرفة كل شخص فتعطونه حقه وفوق حقه. وفي هذا كفاية. والله تعالى يصلح بكم جميع الأمور، والسلام عليكم.
قبل أن أختم هذا الفصل المؤلم المفكه معًا، ينبغي أن أسجِّل على أولياء الأمر فعلة قد يفيدهم نشر خبرها. عندما صدر الإذن بسفرنا استخدمت الوكالة البريطانية رجلًا عربيًّا ليرافقنا سرًّا في رحلتنا إلى صنعاء، فيتجسَّس أخبارنا، ويدوِّن أحاديثنا كلها، وأعطته الوكالة كتابًا مختومًا ليفضَّه بعد أن يخرج من لحج، ويعمل بموجبه.
ولكن الرجل تاب في آخر ساعة إلى ربه، وأبى القيام بتلك المهمة. بل إنه فضَّ الكتاب في السوق بعدن، وأطلع بعض التجار على ما احتواه. سمعنا في الحرب العظمى بالغريب الفظيع من أخبار الجاسوسية، وهذا بعد الحرب الغريب المضحك منها.
(٣) في الطريق إلى صنعاء
ركبنا قبل انبلاج الفجر سيارة صغيرة، وخرجنا من لحج نبغي الدُّكيم التي كانت يومئذٍ حدود السلطنة اللحجية شمالًا، وفيها حامة إنكليزية من الهنود، وكانت الحملة قد سبقتنا إليها، ومعها الحرس يركبون الهجن، ورسول القاضي عبد الله العرشي إلى أمير الجيش، وبعض المسافرين الذين أحبوا أن يرافقونا.
وكان في الدكيم أيضًا عشرة جنود من جيش سلطان الحواشب علي بن مانع، جاءوا بأمر منه يستقبلوننا ويصحبوننا في بلادهم. والحوشبي لا يثقل نفسه بالعدة والثياب. ليس في العالم جندي أخف منه حملًا، وأشد منه بأسًا. ولا أظن أن في جنود الأمم المتمدنة أجسامًا مثل أجسام العرب في اليمن الأسفل. هاك الحوشبي مثلًا، وجلده الأسود أو الأسمر يلمع في نور الشمس كالنحاس المصقول، وعضلاته الشديدة المفتولة تتحرك كالأجزاء الدقيقة في آلة كهربائية، وقامته المتناسقة الأعضاء تُسر بالعري، فيكتفي بالفوطة يشدها على وسطه ليستر بها عورته؛ هو ذا معرض محاسن من صنع الله تمتع به ناظريك، إذ يَثِب صاحبه والبندقية على كتفه، والأمان في قلبه، كالغزال الشارد أمامك.
من هؤلاء الحواشب ولدٌ لا يتجاوز الخامسة عشرة مشى إلى جنبي، وهو ينظر إليَّ من حين إلى حين كأنه يبغي الحديث. سرنا في وادي دُبَن، وهو طويل يتصل شمالًا بمدينة إب، والشمس حتى في نيسان تشوي الضَّبَّ، وكنا بدأنا في التصعيد، فتراءى لنا خيال أسحم على الأفق البعيد، فوق قنن من الجبال كثيرة. فهتف الجندي الصغير قائلًا: هذا وَرْوَه — جبل وروه — تراه من عدن، وسنراه غدًا من ماوية. لم أتأكد القسم الأول من مقاله؛ لأني لم أهتم وأنا في عدن بالجبال. ولكني تأكَّدت المبالَغة في القسم الثاني منه. رافقنا وروه يومًا واحدًا، وغاب عن الأبصار، وكذلك الجندي الصغير الذي تأسَّفتُ على فراقه. كان يحدِّثني وهو ينقل البندق لثقله من كتفٍ إلى كتف، ويمشي على بؤسِ حاله سامِدَ الرأس.
– العفو يا أمير، حضرتك من الشام؟ أجبته بإيجاب.
– وهل راضية الشام بالسلطان؟ أخبرته بأن حكم السلطان فيها قد انتهى، فما سرَّه الخبر، فقال: السلطان رجل طيب يا أمير، ما فيه شرٌّ.
أما الصبيحة يا حضرة الأمير فهم يحاربوننا لأنهم لا يحبون الأمن، ونحن نهجر حقولنا ومواشينا ورِزْقنا لنحمل هذا البندق؛ لنوجد في البلاد الأمنَ للعباد، وحضرة الأمير — العفو — لا يقدر أن يسافر وحده، لا والله. بنادقنا وحياتنا مِلك السلطان، وهي الآن تحت أمر الأمير. هل أنتم تحكمون في بلادكم؟
قلت له: إن اسمي أمين لا أمير، وإني محكومٌ مثلكم لا حاكم.
– ومَن يحكمك يا حضرة الكامل؟
– يحكمني الآن الإنكليز. هل تحب الإنكليز؟
– يقول السلطان إن الإنكليز ما فيهم شرٌّ.
– وهل الحواشب يحبون سلطانهم؟
– إي والله نحبه، علي بن مانع رجلٌ طيب، ما فيه شر. ولكن مَن هو الحوشبي، وما هي أهميته؟! البندق على كتفه، والموت قدامه، ولا يعرف في الليل إذا كانت تُشرِق عليه الشمس.
استأنفنا السيرَ بعد الظهر، فالتقينا في نصف الطريق بين الخُندُق والمسَيمير فرقةً أخرى من جيش السلطان، يتقدَّمها ابنه الصغير راكبًا جوادًا رائعًا، جاءوا من قِبَله يلاقوننا، فدوَّت في الوادي أصواتُ البنادق ترحيبًا، أطلقوا ثلاث طلقات، فأجبناهم بمثلها، ورحنا وابن السلطان يتقدَّمنا، ورجله الحافية في الركاب، ويده اليمنى على عمامته الكبيرة الرفيعة، الطويلة الذؤابة، الكثيرة الألوان كأنها عمامة العيد، ترقص فرحًا على رأسه، وهو على ظهر الجواد أثبتُ منها.
وصلنا عند الغروب إلى قصر السلطان في المسيمير، وهي قرية بيوتها من الحجر واللبن، قائمة على ربوة خضراء، ينساب عند سفحها في وادي دُبن سلسبيل فضيٌّ، إلى جنبَيْه الحقول المزروعة وهي تتموَّج حول أكواخ من القش. إن الجمال الذي يُجَلْبب المكان لَيُنبِئ بالسلم القروي، ولكنه مفقودٌ فلا في سلطنة ابن مانع وجدناه، ولا في قلبه. ومن المسئول سيجيب السلطان على سؤالنا. هذه جنود تطلق البنادق ثانيةً ولاءً لا عداءً، تأهيلًا لا تهويلًا.
دخلنا إلى بيت في القصر أُعدَّ للضيوف، وبعد قليل جاء سموُّه للسلام يتبعه الخدم، وبين أيديهم أطباقُ الطعام: خبز بسمن وسكر، ومرق وبرغل، ولحم، وعسل، فجلسنا في حلقة على الأرض ننطح بأيدينا الزاد. وكأن السلطان وهو ينظر إلينا أُعجِب بسَفِّي البرغل سفًّا، فقال: أنت منَّا يا أمين! أنت والله منَّا …
– وكم تأخذون مشاهرة من الإنكليز؟
نظر السلطان علي إليَّ ويده على لحيته، وثلاث أصابع من الأخرى مرفوعة، وقال: ثلاثمائة روبية، وهي والله غير كاملة. يدفعونها لنا كل ستة أشهر، ولا يدفعون غير ألف وستمائة روبية، احسبها. وعلينا أن نؤمن للقوافل الطرق، وأن نطعم أهلنا ورجالنا، وعندنا قبائل يذكروننا حين يجوعون، وينسوننا حين يشبعون. الإنكليز ضرورة يا أمين.
قلت: ولو دفع لك الإمام مشاهرة مثل الإنكليز أتتركهم وتواليه؟
فأجاب على الفور: لا والله، أنا متعاهد والإنكليز فلا أخلف، وسأبقى صديقهم دائمًا. إي والله، الإنكليز يا أمين يعقلون، عندهم حكمة كما عندهم مال. نعم، هم غير مسلمين، والمسلمون إخوان. ولكن القلب يعرف الأخ يا أمين، والسياسة لا تعرف غير الضرورة.
إن الحواشب مثل الشوافع في اليمن وعسير يكرهون الإمام، لا لأنه عدوهم في الحرب فقط، أيْ في ضرورات السياسة؛ بل لأنه خصمهم كذلك في المذهب؛ هو زيدي شيعي، وهم سُنيون.
ودَّعْنا السلطانَ تلك الليلة، شاكِرين له حُسْن الحفاوة والضيافة، وأعلمناه أننا سننهض باكرًا للرحيل، فلا نكلِّفه مَشقَّةَ القيام مثلنا ليودِّعنا ثانية. وفهمنا منه أنه قبل بذلك، إلا أننا في صباح اليوم التالي بينا كان المكارون والخدم يحمِّلون، دُهِشْنا بل ذُعِرنا لحادث فيه منتهى الغرابة؛ كنا مقيمين في جناح من القصر قبالة الجناح الذي يسكنه الحريم، وبيننا الحوش الذي كانت فيه الركائب والخدم، فسمعنا بغتةً أن إناءً من الفخار تكسَّر فيه، فظننا أنه وقع من السطح، ولكنَّ إناءً آخَر تبعه — رأيناه يُرمى من النافذة ولم نَرَ الرامي — فأصاب أحد العساكر فرفع صوته شاكيًا. ثم جفنة، ثم قطعة أخرى من الفخار تحطَّمت بين أقدام البغال، فعَلَتِ الضجَّةُ في الحوش، وسمعنا رجالًا يصيحون: هم يطردوننا، عجِّلوا يا ناس، هذه ضيافة ابن مانع، عجِّلوا بالرحيل.
خرجت وقسطنطين مسرِعَيْن، فركبنا وسِرنا نتقدَّم الحملة. نزلنا من الجبل إلى السهل فالنهر، وقلبنا — أقول وقلبي ولا أتهم رفيقي — يختلج حنقًا ورعبًا. ظننا أننا بعدنا عن الخطر وعن ضيافة صاحب السمو الحوشبي عندما وصلنا إلى النهر، ولكننا قبل أن اجتزناه سمعنا أصواتًا تنادي: قفوا، قفوا. فلم نقف، فأطلقوا إذ ذاك البنادق طلقاتٍ متعددة، فقلت لرفيقي: هو ذا الخطر الذي نتوقَّعه. دنَتِ الساعة يا قسطنطين، قِفْ وأشهِرْ سلاحك.
بعد قليل قرب القوم منَّا، فإذا هم خدم السلطان يحملون على رءوسهم الأطباق، ومعهم بضعة عساكر، جاءوا بالفطور! إيْ بالله. كيف نسافر قبل أن نفطر؟ وكيف نسافر قبل أن نودِّع السلطان الذي نهض باكرًا للوداع؟
سألناهم عن الفخَّار الذي رمونا به، فأخبرونا أن السلطانة، وهي في خِدْرها رأتنا من على السطح في أُهْبة الرحيل، فنهضت كذلك باكرًا من أجلنا، فأرادت تنبيهَ الخدم النائمين في الطابق الأسفل، ولم تشأ أن تُسمِعنا صوتها، أو ترينا من النافذة وجهَها، فرمتهم بالفخَّار تستفيقهم لينهضوا، ويهيئوا لنا الطعام. الضيوف، انهضوا للضيوف، والحقوهم بالفطور، وأطلقوا الرصاص إذا كانوا لا يقفون.
أكثر الله أيتها السلطانة من فخَّارك، وجعلَنا ألسنةَ فَخَارِك. إنك في الضيافة شاعرةُ الأقران، وفي البلاد العربية فريدةُ الزمان. وكيف لا وأنتِ السيف في إكرام الضيف. تضربين من أجلنا الكسل، وتلحقيننا بالعسل.
دخلناها في أصيل ذاك النهار وهي مثل المسيمير مختبئة في الجبل وراء الوادي الذي اجتزناه، فشنف آذانَنا لما كنَّا مصعدين إليها صوتٌ كان وقعه جميلًا في ذاك الوادي الموحش، وفي تلك الساعة. فاستأنسنا به أيما استئناس. كأننا عند حدود الإمام عدنا إلى المدينة والنظام. ولما بلغنا رأس العقبة رأينا على سطح من السطوح صاحب ذاك الصوت، وهو جندي بيده البرزان (البوق) ينفخ فيه مرحِّبًا بنا باسم أمير الجيش.
وكانت فاتحة الألطاف. فلما دنونا من القصر سمعنا الموسيقى العسكرية تعزف نشيد اليمن الوطني، ورأينا فرقةً من الجنود النظامية مصطفَّة خارج السور لاستقبالنا، وعلى رأسها ضابط تركي؛ فترجَّلنا نرد السلام، ودخلنا البوابة إلى الحوش بين صفوف من العساكر المسترسلي الشعور، اللابسين القمصان والعمائم المصبوغة بالنيل، المسلَّحين بالبنادق والجنبيات، وعندما وصلنا إلى الباب يتقدَّمنا كاتب سر الأمير، واثنان من رجاله، أوقفنا الحارس هناك، ونادى بكلمةٍ حارسًا آخر داخل القصر، فجاء الجواب مؤذنًا بالدخول.
صافحناه وهو جالس كأنه أحد ملوك اليمن في الزمن الغابر السعيد، فأشار إلى فتر من السجادة حشرنا فيه بين شيخين هائلين، وكان كل من أولئك الأجلاء المحترمين ينظر إلينا شزرًا كأنه يلتمس لنفسه عذرًا من مجرد النظر، «وما أظن أننا ظفرنا بشعاع من العطف في تلك العيون، ولا فزنا بنظرة واحدة فيها شيء من الارتياح أو التساهل.»
وقع السؤال عليَّ كالصاعقة، فبلبل الخاطر مني لأول وهلة، وعقَلَ اللسان، فجالت في ذهني، بل جرت كمجرى البرق صورٌ كلها سُود تُنذِر بالبلاء. أفلم ينذرنا الإنكليز بالخطر على المسيحيين؟ أفلم يحذِّرنا عربُ عدن ولحج من الزيود المتعصِّبين؟ وها نحن في مجلس أميرهم وعلمائهم، وفي قلعةٍ ظلماتُها كظلماتِ السجن أو أشدَّ، وروائحها مثل نظرات أصحاب العمائم بل أحَد، ولا نزال والحمد لله في بداءة الرحلة، وهل أنت حَسَني أو حُسَيْني؟
جاوِبْ يا فتى، هل تكذب على الأمير فتنتسب، وما الحَسَن وما الحُسَيْن في مثل تلك الساعة؟ أذكر أني في خمس لحظات غيَّرت ديني خمس مرات، فكنتُ أنتقل كالبرق من الحَسَن، إلى مارون، إلى الحسين، إلى داروين. أما إذا اكتشف الأمير بعدئذٍ حقيقةَ دينك — اصدقْه بالخبر يا رجل ولكن — هل تعلن أمام الجَمْع الزيدي الرهيب مارونيتك أو مسيحيتك أو داروينيتك، قد يوقفونك فيأسرونك، يرجعونك إلى حيث جئت، هذا أخف ما في البلية، ومن جهة أخرى أشدها.
جالت هذه الصورة والسؤالات في نفسي، جرت مجرى الكهرباء، وأنا أثناء ذلك أسيرُ خوفٍ أشدَّ من خوفي ساعةَ أطلَقَ الحواشبُ الرصاصَ ليُوقِفونا للفطور. وما خفتُ على حياتي خوفي من تعرقل مسعاي؛ من الفشل، من الرجوع إلى عدن مدحورًا مذمومًا، ولكنه سبحانه — بعد أن غيَّرتُ فكري خمسَ مرات في خمس لحظات — فتح عليَّ فقلت مجيبًا: أنا عربي يا حضرة الأمير، أحترم كل المذاهب الإسلامية، وأحبُّ كل العرب، وأتمثَّل دائمًا في مثل هذا الموقف بقول الشاعر:
أظن أن الأمير استحسن الجواب، أو أنه أحسن أمام العلماء المداراة. وكان من رجاله الذين استقبلونا خارج القصر رجلٌ بَشَّ لقدومنا بشاشة الصديق، فلمسنا القلب منه في سلامِه، وتبادلنا وإياه الثقة والولاء، فقال يعقب على جوابي مخاطبًا الأمير: حضرته من سادات لبنان.
فبدت منه — بارك الله فيه — شارةُ القبول والاقتناع، وغيَّر الحديث دون أن يبعد كثيرًا عن الدين. بدأ الأمير علي وهو فصيح اللسان بخطبةٍ رأسُها النبي والإسلام، وذيلُها أولئك الذين يُفسِدون بالبِدَعِ الدينَ؛ يتقرَّبون حبًّا بالمال أو السيادة من الإفرنج، ويدنِّسون الشرف النبوي بالنياشين الإنكليزية، يوالون الكفار ويفتحون لهم حتى أبواب الحرمين … إلى أن قال: الإيمانُ بالله رأسُ الفَلَاح والصلاح، والجهادُ في سبيل الله واجبٌ على كل مسلم سَلم إيمانه. وفي سبيل مَن يجاهد الملك حسين وأولاده؟ في سبيل الله؟ أستغفر الله.
فتصدَّى قسطنطين للدفاع عن المَلِك، وقلت أنا كلمةً أُثبِتُ ما قال الرفيق فيما يختص برفضه المعاهدةَ مع الإنكليز. ثم قلت وأنا أَتُوق إلى الهواء: قد يريد الأمير أن يصلي المغرب. فأذِنَ لنا بالانصراف، وأمر كاتبَ سِرِّه ورجالَه أن يصحبونا إلى المضيف، ويعتنوا بأمرنا. صافَحْناه مودِّعين، فلم يقف لنا ولا وقَفَ أحدٌ من العلماء. في مجالس القات تقل الترهات.
(٤) اليمن الأخضر القديم
مشينا من قصر الأمير إلى قصر الضيافة، بل إلى قلعةٍ أخرى عالية مظلمة، وكل البيوت في تلك الجهات من اليمن قِلاعٌ وحصون، فأنزلنا في الطابق الأعلى، في غرفةٍ سقفُها واطٍ، ونوافذها ضيقة صغيرة، ضاق منها صدري، فهربتُ إلى السطح، ونصبتُ سريري هناك.
وكان كاتب سر الأمير الأديب التركي، الذي أدرك بعضَ ما فيَّ من الانقباض والاضطراب، يحاول تسكينَ خاطري وتسليتي بما قصَّه علينا من قصص الحيوانات المفترسة في اليمن الأسفل. فقلت له، وأنا أحس أن الحيوان المسجون فيَّ وفي تلك البقعة يشتهي الفلاة: إننا نروم الوصولَ إلى الحضرة الشريفة بأسرع ما يمكن، ونلتمس من أمير الجيش، وإن كان ذلك مخلًّا بآداب الضيافة، أن يسهِّل أمرَنا فنسافر في الغد. فوعدنا خيرًا.
ثم جاءنا بعضُ وجهاءِ البلد زائرين، وفيهم أحد أقارب الأمير يحمل إلينا هدية من القات، فاستقبلهم الرفيق قسطنطين، وحدَّثهم وتناقَشَ وإياهم في موضوع الطائرات. نقرأ عليها الفاتحة فتسقط كالطير المذبوح إلى الأرض، فأفحم القسطنطين، وبادَر إلى القات يكتشف فيه اليقين. أمَّا أنا فاعتصمتُ بالسطح أبغي العزلة والهواء، فصحبني ذاك الفاضل الذي جعلني من سادات لبنان، فشكا إليَّ أمورًا وأسرَّ أخرى: لا شكَّ أن حضرة الإمام رجلٌ كبير قدير، ولكنه ظالمٌ يُرهِق الرعيةَ بالضرائب المتعددة، ولا يُنصِف السنيين الشوافع في بلاده، ولا يُحسِن السياسةَ مع الإنكليز، فقد استنزل على جنوده هوْلَ طائراتهم، ولا يفتح المدارس في البلاد، ولا يعزل الظالمين من عمَّاله مثل عامل هذا البلد، ولا يَجُود بما رزقه الله، وهو الغني الأكبر في اليمن كله.
نمْتُ تلك الليلةَ وأنا أفكِّر بالسلاح الجديد، أي الفاتحة ضد الطائرات، وبما عدَّده الشافعي من سيئات حكم الإمام. فحلمتُ حلمًا غريبًا عجيبًا ما ذكرت منه عندما استفقتُ غير أني كنت والإمام يحيى نطير في طائرة صُنِعت في إنكلترا، وكُتِبت على جناحَيْها فاتحة القرآن، ونُقِشت على ألواحها آياته البينات. فبأي سلاح يا ابن الوزير تحارب طائرةَ المؤمنين؟
سافَرْنا في اليوم التالي عند الغروب راكبين البغالَ بدل الطائرات، مصحوبين بحرسٍ من جنود الأمير المنيلة أثوابهم، المدهونة بالسمن شعورهم. فتهنا في ضوء القمر ساعةً عادت فيها إليَّ الأحلام، وأنا على ظهر الدابة شطران: شطر نائم، وشطر يقظان، فكانت تدور الأرض تحتي بما فيها، وتمر بي الأشجار كأنها عرائس من الجن. وكنت أسمع القسطنطين يناديني فأظنه في قارة، وأنا في أخرى، ثم رئيس القافلة: هذه هي الطريق، ثم أحد الجنود: هداك الله يا مقدم. فيُخيَّل إليَّ أني في أرضٍ غريبةِ الظل والسراب، فيها أشباحٌ تتكلَّم العربية.
وفي الساعة الثانية بعد نصف الليل وصلنا إلى قريةٍ تُدعى الشيخ صلاح، فنزلنا هناك والتعب والجوع فينا يساوران النوم. فنام رفقائي في كن صغير لا يليق في بلاد الله بغير المواشي — ما رأيت أناسًا يخشَوْن البردَ مثل أهل اليمن — ونمت أنا في الفَلاة على سطح ذاك الكن، ساعتَين لا غير، ثم نهضنا قبل الطيور نستأنف السير، والتعب لا يزال حليفَ الجوع علينا.
عندما وصلنا إلى أعلى درجات نقيل المحرس تراءى لنا منها جبل بُعدان، ووراءه جبل حبْ أعلى وأبعد منه، وانكشف أمامنا مشهدٌ آخَر من السهول والهضاب في وسطها، عند منحدرٍ من جبل بُعدان، مدينة إب القديمة، التي تتساوى في علوها ووادي نحلان؛ لأننا بدأنا في النزول إليها، فوصلنا بعد ساعتين إلى ساحةٍ تُدعى عند أهل المدينة ساحةَ الاستقبال، هناك يترجَّل المسافر إذا كان معروفًا، وينتظر قدوم المرحِّبين.
ترجَّلْنا طائعين، وكان قد تقدَّمنا أحدُ العساكر ينبئ العسامل بقدومنا، فبتنا ننتظر «استقبالًا يليق بنا» كما قال فيقنا رسول القاضي عبد الله العرشي. وما عتمت أن تحرَّكت الجموع وخرجت من المدينة، فشاهدنا عسكرًا زاحفًا إلينا، وسمعنا أصوات الأبواق والطبول، جاء العامل إسماعيل باسلامه بخيله ورجاله، بجنده وجمعه، وبنوبته وأهازيجه، يستقبلنا ويرحِّب بنا باسم الإمام، وبعد السلام ركبنا وانخرطنا أنا ورفيقي في ذاك الجمع المنيل المهلل، نحسب أنفسنا في حلم من الأحلام، أو في موكب من مواكب الجان، والجنود مسترسلو الشعور، مكحَّلو العيون، مزينة عمائمهم بالورود والريحان، حولنا وأمامنا ينشدون بصوت جبلي رهيب:
دخلنا المدينة دخول الفاتحين، ونزلنا على الرحب والسعة في بيت من بيوت العامل إسماعيل، المشهور في بلاد اليمن، أعلاها وأسفلها، بكَرَمه وفَضْله وعَدْله، فتمتعنا بعد أيام من المشقة والشقاء بنواعم العيش وطيباته، ومثلما أسرعنا من ماوية أبطأنا في إب، بلا حياء في الحالين. فجاءنا ونحن هناك برقية من الأمير علي بن الوزير يقول فيها إنه محزون لفراقنا، فأخجلنا وعاد بنا إلى ما كدنا ننساه من التأدُّب في الغربة.
جاءنا صباحَ اليوم التالي يسلِّم علينا وبيده طاقة من ورد نيسان قدَّمها لي. وزرت وإياه بساتينه التي يزرع فيها من الثمار أنواعها، تلك التي تصلح في الشمال وفي الجنوب، في المنطقة الباردة والمناطق الحارة، فرأينا الزيتون، والموز، والعَمب، والعنب، والتفاح، والرمان زاهية كلها زاهرة. إن هذه الأشجار تنمو كلها في اليمن الأسفل؛ لأن تلك البقعة من الأرض في حين أنها تعلو خمسة آلاف قدم عن البحر فإنها لا تبعد أكثر من عشر درجات عن خط الاستواء.
أما مدينة إب فمسوَّرة، وهي وسخة ومزدحمة، تروق الناظر إليها من الخارج فقط. بيوتها من الحجر، وأكثرها ثلاثُ طبقات، تُستخدَم الأولى للمواشي والدواب، والثانية للخدم، والثالثة لأهل البيت. ليس في المدينة مدارسُ غير ما في المساجد لتعليم القرآن، وليس فيها أحد من الأطباء، ولا نقطة ولا حبة من الدواء، ويكثر فيها الجدري، والحمى، وأكل القات. إننا كلما صعدنا في اليمن نرى «التخزين» في ازدياد، وصحة النسل في نقص ظاهر، ولا سيما في الأولاد. فإن وَفَيات الأطفال في اليمن كثيرة؛ إذ قلَّمَا يعيش للرجل الواحد من عشرين ولدًا مثلًا أكثر من سبعة أو عشرة أولاد. وأظهر ما فيهم النحول، والشحوب، وضَعْف الأعصاب.
قلت إن إب جميلة من بعيد، فالقادم إليها من ماوية أو تعز يراها في السهل، وحوله الرُّبى كأنها حفنةٌ من اللؤلؤ على بساط أخضر، مفروش في بحيرة جفَّت مياهها. والقادم إليها من يَرْيم يراها قائمةً على رأس الجبل كصخر في مَرْج أو كبُرْج في جزيرة. ولها ساحةُ وداعٍ كما لها ساحةُ استقبال. مشى معنا إليها إسماعيل باسلامه ومعيته، وأرفقنا إلى ذمار بثلاثين من الجنود النظامية على رأسهم ضابط تركي. فسِرْنا بعد استراحة يومَيْن في نعيمِ ضيافته، ونحن نخشى أن يزدادَ عددُ الحرس كلما دنونا من صنعاء.
مررنا في طريقنا إلى يريم بوادي المرفِد الذي يفوق وادي الذهب جمالًا وخصبًا، وشاهدنا فيه لأول مرة شجر البن الذي يشبه في ورقه وزهره الليمون، وشاهدنا كذلك الجوز واللوز والخرنوب، وبساتين غضَّة من العنب والموز، تجري في ظلالها مياه النهر الذي يتدفق من جبل سماره. وبدأنا بعد الظهر نصعد في نقيل ذاك الجبل، وهو أعلى نقيل في اليمن، فوصلنا إلى وسطه عند الغروب، وبتنا تلك الليلة في قرية تُدعى المَنزل.
أمَّا استقبالنا في بريم التي كانت تُدْعى مَرْيمه في عهد حِمْير، فقد كان مثل استقبالنا في إب، وذا مظهر — فوق ذلك — فريد؛ فقد خرج لمُلاقَاتنا أولادُ المدرسة مع شيخهم الفقيه، فاصطفُّوا إلى جانب الطريق، ينشدون ويهلِّلون مُرحِّبين. ما فهمت من النشيد غير كلمة نصر الله المسلمين، رسول الخير الأمين. ولكني علمت أن الأولاد هم من الرهائن عند الإمام. إنه لَحُكْمٌ عسكري قاسٍ شديد، بل حُكْمُ اشتباهٍ وارتياب، فلا عجبَ إذا أخلص العمال لرئيسهم الأكبر، ولكل واحد ولده عنده أو أخ أو قريب عزيز.
سألنا صاحب سمسرة في الطريق: هل عندكم حليب؟ فقال: لا غنمَ عندنا، ولا بقر، ولا معزى. ولو كان عندنا فليس مَن يرعاها. شبابنا في عسكر الإمام، وأولادنا هاربون من التجنيد، والعمَّال أخذوا أغنامنا كلها زكاةً وضرائبَ لبيت المال.
ولكننا عندما وصلنا إلى ذمار قابلنا أمير الجيش فيها ابن الوزير الثاني، السيد عبد الله، صنو ابن عمه في ماوية، سمعناه يقول: هذه بلادنا، وهي بفضل حضرة الإمام بلادُ العدل والدين والصدق والوفاء، الحكم الكامل العادل تراه عندنا في اليمن، فلا خمرَ ولا فِسْق ولا زِنى، ولا قتل ولا سرقة، ولا رباء ولا رشوة ولا اغتصاب؛ كل ذلك لأننا محافظون على ديننا، عاملون بكتاب الله، مجاهِدون في سبيله تعالى … ثم قال: نحن نقول ونفعل، وغيرنا يقولون ولا يفعلون، أو إنهم يقولون الحقَّ ويفعلون الباطل. العرب كذَّابون ساقطون، يفضِّلون مالَ الأجانب على الجهاد في سبيل الله. نحن حارَبْنا الأتراك مرارًا، وجاهَدْنا الكفَّارَ الخَوَنة في تهامة، وسنحارب كلَّ مَن يحاول اختلاسَ فترٍ من أرضنا، أو هضْمَ ذرةٍ من حقوقنا، سنحارب حتى الموت. نحارب، وإذا غُلِبنا نتقهقر، نحارب ونرجع إلى الشمال، نحارب ونعتصم بالجبال، نحارب ونلجأ إلى الصحراء، وإذا لم يبقَ لنا غير موطئ الأقدام نحارب حتى الموت مؤمنين بالله، واثِقين برحمته، وَطِيدي الأمل بعَوْنه. ولماذا لا يعمل كذلك سائر العرب؟ أين فيصل اليوم؟
قلنا: هو في العراق، مَلِك العراق.
فقال: وأي خير وأي شرف في مُلْكٍ عربي زِمامُه بيد الإنكليز؟ لَكان أحسنَ فيصل لو ذهب إلى ابن سعود ليُصلِح بينه وبين أبيه الحسين. الملك حسين! إن قلامةَ ظفرِ الإمام والله لَخيرٌ منه. يا لَلعار! أيفتح أبوابَ الكعبة للنصارى الكفار؟
حاوَلْنا إصلاحَ ظنِّ الأمير فيما أُشِيع عن الملك حسين. وأنا أعلم أنه لم يأذن للمسيحيين بالدخول إلى مكة. فما هدأت تأكيداتُنا من ثورة غضبه.
العرب كذَّابون ساقطون يحبون المال. وقد يصيرون بعدئذ — إن شاء الله — مثل أهل اليمن. هذا إذا اقتدى أمراؤهم بمولانا الإمام، وأخذوا من أحكامه مثالًا لأحكامهم. فتطهر البلاد كلها من الفِسق والفجور، من الزنى والخمر، من الرباء والرشوة كما تطهَّر اليمن.
كنت في كل قُطْر من الأقطار العربية أفتح الأذن دائمًا لجميع الناس، فأسمع الشريف والبدوي، والجمَّال والجندي، والتاجر والسياسي، فأدوِّن أحاديثَهم دون رأي لي فيها إذ ذاك أُبْدِيه. وإني أسألك أيها القارئ، وأنا أشارِكُك الآن فيما سمعت وشاهدت، أن تُرجِئَ رأيَك كذلك إلى أن تسمعَ الحديثَ كله إن كان عن الإمام يحيى أو عن سواه. وها قد أسمعتُك كلامَ أبناءِ الوزير، وهم من كبار رجال الإمام، وحديثَ أحد الشوافع العقلاء، وهم باطنًا أعداءُ الإمام، وحديثَ صاحبِ سمسرة، وهو ممَّن يدفعون ضرائبَ الإمام. وإليك الآن بحديثِ مَن يحارِب لتعزيز وتمديد حكم الإمام.
كان في حرسنا جنديٌّ اسمه أحمد، حارَب على صغر سنه، في ثلاثة حروب مع الطليان في طرابلس الغرب، مع الإنكليز في الهند، ومع الترك في اليمن. قال أحمد: أُخِذت خدعة من عدن. قيل لي إن في الغرب حربًا بين الأتراك والكفَّار، فركبت الباخرة، ونزلت في طرابلس، وبعد أن صرت في عسكر الطليان عرفتُ أنهم يحاربون الأتراكَ المسلمين، ولكنهم أعطوني مالًا، وأسمعوني الكلامَ اللطيف، وعامَلوني معامَلةً حسنة، فحارَبتُ واستغفرت الله، الطليان أحسنُ من الأتراك، وأحسنُ من الإنكليز الذين كانوا يقتلوننا بالشغل والنظام. أمَّا الأتراك فلا يهمُّهم النظام، ولكنهم لا يدفعون مثل الطليان. والآن يا أفندي — اقترَبَ مني لِيَهمسَ كلمته هَمْسًا — لا مال، ولا نظام، ولا لطيف كلام. أمَّا حضرة الإمام فهو رجلٌ عظيم، رجلٌ صالح عادل عزوم. ولكن عمَّاله طمَّاعون يشتهون دائمًا الفلوس … قسمتنا خمسة ريالات في الشهر، عندما يدفعونها. ولكنهم يسيِّروننا في البلاد من طرفٍ إلى طرف، وليس في قميصنا بغشة — أيْ قرش — واحدة. والأهالي لا يحبوننا؛ لأنهم يدفعون ضرائبَ كثيرة، ولا يُطعِموننا ولا يُؤووننا إلا إذا دفعنا. وماذا ندفع؟ ما في هذه القميص شيء — نفَضَها ليُرِيَني أنها فارغة — وثمنها يا أفندي أنا والله دفعته. ويجب أن أدفع أيضًا ثمنَ النيل لأَقِي جلدي من البرد. والقات؟ مَن يدفع ثمن القات؟ نحن في اليمن فقراء، وحُكْم الإمام يزيدنا فقرًا.
وكان معنا ولد لا يتجاوز الخامسةَ عشرةَ وهو متزوج، فسألته: أين زوجتك؟ ففرقع أصابعه وهو يشير إشارةً يمنية لطيفة، وقال: هي هناك وراء الجبل. وهو لم يَزُرْها منذ سنة. «ولا أعود إليها والله حتى يصير في جيبي ظلط.» فقال أحد رفاقه: مسكينة تموت ولا تَراك.
وقال آخَر لحيته بيضاء، ظننته يتجاوز الخمسين: لا والنبي! لا أزال في الثلاثين. أما هذا الشيب فهو من هنا — وأشار إلى قلبه وسَكَت. ثم راحوا كلهم، ويد الواحد في يد الآخر، يعدون وينشدون:
لم أَرَ عربًا يتكتَّمون في أمورهم مثل عرب اليمن، وخصوصًا الزيود. ولكنهم إذا سنحَتِ الفرص ووثقوا من محدِّثهم يجهرون، فيفصحون ويصدقون. والسيد والأعرابي واحد من هذا القبيل. أرفقنا أمير الجيش في ذمار بأحد السادة إكرامًا أو استعلامًا، لا فرق، فكان يركب بعيدًا عن الجنود، ولا يقترب منهم إلا آمِرًا أو ناهيًا. وظل في اليوم الأول بعيدًا كذلك عني؛ فما كان بيننا من الكلام إلا السلام.
ولكنه في اليوم الثاني سألني همسًا أنْ أُطلِعَه السرَّ في حفظ الماء باردًا في قنينة اﻟ «ترموس» التي كانت معي. فأخبرته ورسمتُ الشكلَ في الزجاج المزدوج الخالي من الهواء. فدُهِش وقال: الإفرنج أصحاب عقول — عقول ذكية. وهم يستخدمونها دائمًا في كل شيء. ونحن لا نستخدم عقولنا إلا في الحروب. سأسافر يومًا ما إن شاء الله. سأخرج من اليمن متنكِّرًا … أهل اليمن يا أمين يغارون جدًّا على دينهم، ويظنون أنْ ليس خارج بلادهم غير الكفر والكفار، ولكني سأسافر — إن شاء الله — وإن كفرت.
سألني السيد محمد أن أعطيه عنواني، فكتبته في ورقة، فأخذها وخبَّأها في طَيَّة من طيَّات عمامته البيضاء، وقال: ستبقى سرًّا بيننا، وعندما نصل إلى صنعاء أنت تنزل ضيفًا على حضرة الإمام وأنا أذهب إلى بيتي، فلا نتقابل بعد ذلك، ولا لزوم.
وفي اليوم الثالث اقترَبَ مني وأنا أكتب، فقال: ما الذي تكتبه في دفترك؟ فقلت، وكنت خلال السفر قد سألته عن أسماء بعض النباتات والأزهار: ما أعلَمْتَني به. فقال: وما الفائدة من كتابة أسماء الأزهار والأشجار والحجار؟ فقلت: قد تهمُّ معرفتُها مَن يجيء بعدي. فاقتنع ظاهرًا، ثم قال: هو ذا اليوم الثالث وأنا رفيقك، أفتأذن بسؤال؟ فقلت: نعم، بعد أن تجيب سؤالي: هل أنت مسافر إلى صنعاء لشغل خاصٍّ بك، أو بأمر من أمير الجيش؟ فأجاب: لي حاجة في صنعاء، ولكني لولاك ما جئتها اليوم. أرسَلَني الأمير رفيقًا حبًّا وإكرامًا. وما قصدك يا أمين من زيارتك اليمن؟
– مُشاهَدة البلاد، وتأليف كتابٍ فيها وفي أهلها.
– وهناك مقاصد أخرى؟
– نعم، أراكم حيث كان أجدادكم منذ ألف سنة، وسأقول هذا لحضرة الإمام، فعسى أن يسعى فيما يدفعكم إلى الإمام، فيفتح المدارسَ في البلاد، ويمهِّد سبيلَ العلم والتعليم.
– لا أعلم، قد أكذب إذا قلت لا، وقد أكذب إذا قلت نعم.
– ألستَ رسولَ الإنكليز إلى الإمام؟
– لا، حتى ولا رسول أي دولة من الدول. لا ناقةَ لي في السياسة ولا جَمَل، ولكني أقول لك إني أخو العرب، وصديقُ العرب، وأشتهي أن أراهم جميعًا في ائتلافٍ بعضهم مع بعض. أشتهي أن أرى الأمراء ساعِين في سبيل الوَحْدة العربية وتعزيزها.
– ناهي، ولكن كيف تتم الوَحْدة؟ اعلم أن الإمام رجلٌ عظيم، أعظم العرب اليوم، وهو يطمح إلى حُكْم اليمن كله بأسره، ثم إلى حكم البلاد العربية كلها بأسرها.
– قد يكون الإمام رجلها وابن بحدتها. ليجتمع الأمراء ويتفقوا على ذلك.
– ولكن كيف يجتمعون وأين؟ ومَن يدعوهم؟
– يا حضرة السيد، قلت وأنت الصادق: إن عندي رسالةً أبلِّغها الإمام. فلو أطلعتُك أنت على كل شيء، فبماذا أحتفظ للحضرة الشريفة؟
ابتسم السيد محمد، وقال: كلام حكيم. ولكني أنا أُطلِعك على ما لا عِلمَ لك به. شكوتَ بيوتنا الضيقة، وسقوفها الواطئة، ونوافذها الصغيرة، فلو سحتَ في عسير لَوجدتَ البيوت هناك أضيقَ وأظلم. أتعرف السبب؟ لا يزال أهل اليمن وعسير وحشيِّين، لا يثق الواحد منهم بأخيه، ولا يركن إليه، حياتهم خوفٌ دائم واضطراب. هكذا ينامون في عسير — وبادَرَ إلى بندقيته فوضَعَها بين جنبَيْه وضمَّها إليه — هم كالحيوانات البرية يخشَوْن كلَّ مَن يدنو منهم. وفي اليمن، قد رأيت بعينك، الناس كلهم مسلَّحون، وكلهم يقاتلون ويقتلون لأمرٍ طفيف. نحن نغار على حقوقنا. ما قيمة هذا؟ — وأخذ بيده فنجانَ القهوة — ولكنه لي، هو حقي. فإذا أخذتَه مني، اغتصبتَه، وما سمعتَ احتجاجي أقاتِلُك، أستلُّ عليك هذه الجنبية، أذبحُك. هذه طريقتنا في اليمن. وإذا حدث قتال بين بيتَيْن في هذه القرية مثلًا ينضمُّ أهلها وقد انقسموا حزبَيْن إلى المتقاتلين، فتشبُّ في القرية نارُ الحرب، وعندما تنطفئ، يتساءلون: وما السبب في القتال بين فلان وفلان؟ يقاتلون أولًا، ثم يستعلمون، هذه طريقتنا في اليمن، نحارب حتى أهلنا. فإذا كانت هذه حالَ بعضِنا مع بعض، فكيف تكون حالنا مع الأجانب؟
فقلت: وهل في اليمن أناسٌ يشتهون رجوعَ الأتراك؟
فأجاب: مَن يشتهي ذلك نذبحه.
– وهل في اليمن أناسٌ من الباطنيين؟
– كان منهم طائفةٌ فأفنيناهم بالسيف.
– أهذه هي طريقتكم في اليمن؟
– نعم يا أمين، يغار أهل اليمن على بلادهم كما يغارون على حريمهم. لا حقَّ في البلاد لغير أهلها. ونأبى الشركةَ فيها كما نأباها في الحريم، فنحارب ليَسلمَ الشرف، ونحارب ليَسلمَ الوطن.
(٥) صنعاء اليمن
في صباح اليوم الثاني عشر (١٨ نيسان سنة ١٩٢٢) بعد خروجنا من لحج وصلنا إلى حزيز، المرحلة الأخيرة في رحلةٍ مشقَّاتها تُنسِي المسافِرَ ما فيها من الحسنات والمستغربات، ولكن أثر المشقَّات يزول فتعود الحسنات إلى مقامها في الذاكرة وفي الفؤاد. إني وأنا أكتب الآن أتمتع بها، وأستأنس بترداد ذِكرها. كأني في رحلةٍ أخرى إلى صنعاء، لا مشقَّةَ فيها ولا عناء.
وصلنا إلى حزيز، وما هي إلا بضعة بيوت وسمسرة، ساعة الضحى فجلسنا هربًا من الشمس في فيء حائطٍ نتناول الفطور. وكان مما قام حولنا من الجبال اثنان شهيران بما ينبتان ويجاوران؛ هما بنو مطر غربًا، وفيه أحسن ما يُزرَع في اليمن من البن، ولُقُم شمالًا، وفي ظله أكبر وأجمل مدينة في اليمن، بل في شبه الجزيرة العربية كلها.
وما هي إلا ساعة بعد ارتحالنا من حزيز حتى تراءت لنا رءوسُ المآذن في تلك المدينة، ثم قباب مساجدها، وهي بيضاء تتوهج في نور الشمس الذي يترجرج كالزئبق في الجفاف الشفَّاف من الهواء. بينا نحن ندنو من لقم الذي أصبح على يميننا، إذ بدت لنا المدينة نفسها وهي محاطة بالجبال، تمتدُّ شرقًا وغربًا، كأنها وهي كلها بيضاء، سلسلةٌ من التلال الكلسية، في سهل ذهبي منقطع الاخضرار.
اثنا عشر يومًا في المشقَّات، وهذه صنعاء تُنسِيك أضعافها. أي صنعاء، مثَّلك لنا التاريخُ فكنتِ مليكةَ الزمان، ومثَّلكِ لنا العلمُ فكنتِ يومًا ربةَ العرفان، ومثَّلتكِ لنا الأساطيرُ فكنتِ سيدةَ الجن والجان. أجل، فكم من ليلة، وفي اليد الكتاب وإلى جانب الكتاب نورُ شمعةٍ ضئيل، تغلغلنا في سراديبك، ووقفنا عند كنوزك، وطفنا حول قصورك، وسمعنا الشعراءَ ينشدون الشعر في دُورك. واليوم، ومطيتنا غير الخيال، نشاهد ما يثبت المقال، ويحقِّق الآمال. هذه بيوتك العالية، وقصورك الشاهقة، فما كذب التاريخ. وهذا جمالك الطبيعي، وبهاؤك العربي، فما كذب الشعر. وفي خزائنك الكتبُ النفيسة والمخطوطات، فما كذب العلم. وهذه كنوزك، وسِحر قصورك، وسِحر الأسماء فيك، فما كذبت الأساطير. كنا نظنها أسماءً ابتدعها الشعراء لعرائس الجن والخيال، ولكنها من الحقيقة في أعلى مكان. أفما صعدنا وإياك أيها القارئ في نقيل السيَّان، واجتزنا وادي نحلان، ونمنا في بريم ووعلان، وتقيَّلنا في ظل بعدان، وها نحن نشرف على قصر غمدان.
أجل إن صنعاء في محاسنها لا تخيب للزائر أملًا. وكلما دنوتَ منها، وهو عكس الحقيقة في أكثر المدن، ازدادَ رونقُها، وازداد إعجابك بها. هي في مقامها الطبيعي فريدةٌ عجيبة. فيها الهواء أعذب من الماء، والماء أصفى من السماء، والسماء أجمل من حلم الشعراء. وفيها البرد، وقد علتْ تسعةَ آلاف قدم عن البحر يستحيل لقُرْبها من خط الاستواء دفئًا. وهي قائمة في قاع سنحان، تزينها من جهة الروضة، وفيها البساتين والكروم، ومن جهة أخرى الحوطة، وفيها السواقي والطواحين. ثم تحيط بها الجبال دون أن تقصر أرجاءها. أقربها إليها عُصُر، وهو يظلل المروج في الأصيل، ولُقُم الذي تجري منه المياه إلى المدينة، وتحمل الشمس من فوقه وميض الزجاج — تلغراف المرايا — الذي ينقل أوامر الإمام من قنة إلى أخرى. وهذا عِشار، وفيه الرخام والمرمر. وذاك آنس في الجنوب، وشعوان دونه شَرقًا، وفيهما معادن الطلق. وهناك رضراض، وفيه معدن الفضة. وهنالك شبام شمالًا بغرب، وفيه من الحجارة الكريمة الجزع والعقيق.
وصلنا إلى صنعاء الظهر، فلاقانا على مسافةِ ميلٍ خارج السور رجال الإمام، وثُلة من جنوده. وسرنا في موكب ألِفْناه وما مللناه؛ لأن «الزامل» نشيد الزيود، عكس ثيابهم المنيلة راقنا جدًّا. وكنا كل مرة يقفون فيه عند القرار الغريب الرهيب نمثِّلهم على العدو زاحفين، وبمجرد الزامل غالبين منتصرين.
ساروا وهم يهزجون، فمروا ببوَّابة عدن الجميلة الهندسة والبناء، وإلى جانبها خارج السور ثكنة كبيرة شيَّدها الترك. ثم حول السور غربًا إلى بوابة أخرى، أفضَتْ بنا إلى ساحة فسيحة بين صنعاء والحيِّ الجديد منها الذي يُدعى بير العزب. هناك سمعنا وشاهدنا في مظاهر الاستقبال اليمانية مشهدًا آخر كان له في لبنان مثيل، أَلَا وهو «المشَوبِش» الذي يُدعى في اليمن «الدَّوْشن»، فشرع يصيح مرحِّبًا بنا صياحًا فيه نبرات وغنَّات جمعت بين رديء الخطابة والنشيد، علمنا منها أننا نور شمس الكمال، وقمر الفضل والجلال، وغيرها من آيات المحال.
وعندما وصلنا إلى بير العَزب؛ أي الحي الذي يسكنه أغنياءُ صنعاء، وفيه قصور الإمام، ومركز الحكومة، ودخلنا البيت الذي أقمنا بعدئذٍ فيه بميدان الشرارة، كان الخيال في الانتقال إلى لبنان وإلى الشام أبهج وأتم. البيت صغير، ولكنه في الذوق وأسباب الراحة كبير. رَدْهة الاستقبال فيه تُشرِف على صحن في وسطه شاذروان، وحوله القرنفل والريحان، وفوقه تتدلى أغصان المشمش والرمان، يغرِّد فيها القمري والحسُّون، وتتلألأ خلالها الشمس، فتكلل حبال الماء المتصاعد من البركة لجينًا رجراجًا.
أما سرورنا الأكبر في اليوم الأول ففي مائدة، على طاولة تحت المشمشة، عند الشاذروان، بادَرْنا إليها وعيوننا لا تصدِّق أن الكرسي كرسي، وأن في أيدينا الشوكة والسكين، وأن ما نأكل قد طبخه طبَّاخ متمدِّن، وإنْ بالَغَ بالأبازير. ثم سألنا ونحن في ذا النعيم عن النعيم الآخر؛ الحمَّام. فقام السيد علي زبارة، وهو وزير المالية ووكيل الضيافة عند الإمام: الحمَّام يومَ وصولكم لا يجوز. ولكني عرفت في اليوم الثاني عندما زرت الحمام، الذي أرسلنا مصحوبين بجندي إليه، أن للتأجيل سببًا آخَر فيه دليل على ذوق السيد علي ولطفه؛ فقد بعث إلى صاحب الحمَّام يأمره بتنظيفه، وإعداده لنا — لنا وحدنا.
ثم عرفتُ في اليوم الثالث أن السبب الأول في ذلك هو التحذُّر من اجتماعنا بالناس ومحادَثتهم؛ وذلك عملًا بأمر الحضرة الإمامية الشريفة التي كانت يومَ وصولنا متغيِّبة في الشمال لتحسم خلافًا بين الحواشد وعيال سريح استفحل أمره. وقيل لنا في الطريق إن بعض رؤساء تلك القبائل كانوا يُفاوِضون السيدَ الإدريسي لينضموا إليه وينصروه على الزيود. فلما أُخبِرَ الإمام بقدومنا أمَرَ ألَّا نقابل أحدًا من الناس قبل رجوعه.
ولكن في اليوم الثاني زارنا أحدُ رجاله الكبار القاضي عبد الله العمري، وهو يد الإمام اليمنى ورئيس ديوانه، فاستأنسنا بحضرته، وسررنا بحديثه. ألفيناه على جانبٍ كبير من الفضل والاتضاع، ومن الحكمة والتساهُل، فحملنا زيارته على المقابلة بينه وبين أولئك المتبجحين أمراء الجيش، وشكرنا الله أن في رجال الإمام مَن ينظرون إلى الأمور من وجهةٍ عالية حديثة، ويُحسِنون الرأي والموازنة.
سألَنَا زائرُنا عن زميله القاضي عبد الله العرشي، فأجبناه بما نعلم، فقال: له سنة في عدن ولم يفعل شيئًا (أيْ في محادَثاته مع الإنكليز بخصوص الحديدة)، وسألناه نحن عن عمال الحكومة، والسبب في الرهائن، فقال: النقص موجود وبعض الخلل. ولكنها نتيجة غيرةٍ أخطأت السبيل. الشافعي والزيدي اليومَ متساويان، وحضرة الإمام عالم عادل، سديد الرأي، سمح الخلق، قويم الخطة، لا يعرف في إقامة الحق غيرَ الشرع، ولا يفرِّق بين الكبير والصغير، أو بين الزيدي والشافعي. ولكن هناك بعض الذين يُغالون ولا يعقلون؛ نياتهم حسنة، أمَّا غيرتهم فقد أخطأت كما قلت السبيلَ … نعم حضرة الإمام يضبط الأمور بيدٍ شديدة، لولا ذلك لما كنتَ ترى العدل والأمن، والإقبال في أنحاء البلاد كلها، إلا في الأطراف حيث بعض الاضطراب لا يزال موجودًا.
كانت هذه من القاضي عبد الله أولى الزيارات وآخِرها أثناء غيبة الإمام، وما علمنا السبب في ذلك. إلا أننا كنا راغبين في مقابلة رجلٍ آخَر كان معنا كتابُ توصيةٍ إليه، فاستأذنَّا السيدَ علي زبارة، فقال: حينما يرجع الإمام. وراح ذات يوم خادمنا إلى المدينة، فعاد يحدِّث بما شاهَد فيها من العجائب والغرائب، فاستأذنَّا السيدَ عليًّا في زيارتها بينما نحن ننتظر رجوع الحضرة الشريفة، فما أذِنَ بغير الطواف حول السور، وأرسل معنا شرطيين، وأحد الموظفين. مشينا في طريق واسعة بين الحقول المزروعة والسور الكبير المبني من اللبن والطين، ووقفنا بعد نصف ساعة عند بوابة الشام؛ أيْ بوابة الشمال، فتباحَثَ إذ ذاك الموظف والجنود، وقد كنت سألتهم أن ندخلَ المدينة، وكانوا قد ملُّوا المشي في الشمس على ما أظن، فأسفَرَ البحثُ عن إجابةِ طلبي، بشرطِ ألَّا يعلمَ السيد علي بذلك. دخلنا المدينة، وقد تعاهَدْنا على أن نكتمَ الخبر، وجُلنا في أحياء السكن منها دون أسواق التجارة.
إن صنعاء مدينة عربية صافية روحًا وشكلًا، أسواقها مثل أسواق جدة غير مرصوفة، ولكنها أوسع وأنظف. أما بيوتها العالية، وبعضها ست طبقات، فبناؤها أجمل هندسة، وأكثر إتقانًا؛ لأن الأسلوب العربي فيها لا يَشُوبه شيء أجنبي هندي أو أوروبي. وهي مبنية بالحجارة البيضاء والسوداء، وبعضها بالآجُرِّ، والبعض باللَّبِن، وبين كل طابق والآخَر زنار من الجص الأبيض المنقوش أشكالًا هندسية، وفوق كل نافذة كوَّة فيها لوحٌ من المرمر يكاد يكون كالزجاج رقيقًا شفافًا، ولكنه أمتنُ من الزجاج وأجمل. وهناك في الطابق الأخير لأكثر البيوت غرفةٌ واحدة، هي غالبًا مطلقة من جهاتها الأربع، تُشرِف على المدينة، وتُدعى المنظرة، يستخدمها الناس للاستقبال والقيلولة، فيفرشونها بالطنافس والمساند والوسائد. ومنهم مَن يستعملون الزجاج في النوافذ، فيقسِّمونه أشكالًا هندسية، ويلوِّنونه أحمر وأصفر وأخضر وأزرق، أي الأصباغ الأربعة التي يصنعونها في اليمن، فيستخرجونها من النبات.
أما الأحياء فتختلف رونقًا ونظافةً. كان رفيقي، ونحن ننتقل من حي إلى آخَر كأننا نبحث عن بيتٍ نقيم فيه، يقول: هذه الدرجة الأولى، أيْ أحسن البيوت في المدينة، وهذه الثانية، وهذه الثالثة. وأهل اليمن أو بالحري أهل صنعاء مثل سكان المدن كلها، لا ينقسمون إلى ما يتجاوز ثلاثَ طبقات. ولو كان في جوارها أو فيها من البدو لَكانت الطبقة الرابعة في المضارب خارجَ السور.
وهم مع ذلك يشكون؛ يشكون قلةَ المال ووقوف الأشغال، وعسر الأحوال. ومنهم مَن ينسبونها كلها إلى حكم الإمام، ومنهم إلى الله وحده، ومنهم العاقلون الذين يبرِّئون اللهَ والإمامَ من شرور هذه الأيام، وقد وصل بعضُها إلى اليمن عن طريق السياسة؛ سياسةِ الترك بالأمس، وسياسة الإنكليز اليوم. أما الإمام ففي مقاوَمته هذه الأخيرة كما قاوَم تلك يُكثِر الضرائب، ويدَّخِر الأموال، فتقل ولا غَرْو في أيدي الناس، فتسبب وقوف الأشغال، وعُسْر الأحوال، فضلًا عما يعتري اليمن دائمًا من الاضطراب والشقاق والضَّعْف، الناشئة كلها عن حروبهم الأهلية، فضلًا عن العشائر وجميعها مسلَّحة، فيندر في البلاد ذاك الغرس الطيب؛ غرس الوطنية المجردة من المصالح الذاتية. أجل، إن الناس مع الإمام اليوم ومع أعدائه غدًا، والسببُ الأول في ذلك الجهل، والسبب الأكبر هو الجهل المسلَّح.
عدنا بعد الطواف في المدينة، فكان السر الذي تعاهَدنا على كتمانه قد سبقنا إلى بير العَزَب، ودخل مفسدًا حيث لا يستطيع سواه. لذلك لما رغبنا المرة الثانية في النزهة، قال السيد علي دون أن يُظهِرَ ما علمه من سرنا: الأولاد في المدينة يجتمعون عليكم ويزعجونكم.
سكتنا على علمنا أننا أسرى إلى أن يرجع الإمام. والأسير لشدةِ ما يحدق بالجدران يصبح حادَّ النظر، وتتنبَّه فيه كذلك الحواس الأخرى. فقد سمعت مرة صوتًا شبيهًا بصوت الآلة الكاتبة؛ تك تك، تك تك تك، وراحت العين تبحث لتحقِّق ظنَّ الأذن، فاكتشفت شريط السلك، أي التلغراف، وعلمت أن المركز فوقَنا في الطابق الثاني من البيت. وكان لمنزلنا باب موصد من الخارج بينه وبين البوَّابة إلى السوق حوش صغير، سمعت يومًا جلبة فيه، فاستطلعت من ثقب في الباب الخبر، فإذا هناك بعض العساكر يتنافرون. ثم جاء واحد وهو يقول: هم عرب مثلنا. وفتح الباب فاستأذنته في الخروج إلى الحوش، فأذن هاشًّا، وكان هو الدليل الأنيس. أخبرني أننا مقيمون في بيت من بيوت الإمام العديدة، وأن الحضرة الشريفة غنية جدًّا، وأنها تقية، وَرِعة، عالمة، عادلة؛ فهي تجلس للناس كلَّ يوم تحت شجرة في الحوش أو خارج البوابة في الساحة. أما المجلس الرسمي ففي الطابق الثاني من البيت.
نحن إذن قريبون جدًّا من الحضرة الشريفة، أو أنها تعطُّفًا — وقال المفسدون تحفُّظًا — جعلتنا على مقربة من الأُذُن الإمامية والعين العلوية، ومما لا ريب فيه أن الزيود يتقون كثيرًا، ويتكتَّمون كأن هذه الخلة، وهم قريبون من المذاهب الباطنية، صلة الانتساب بينهم وبينها. زِدْ على ذلك أنهم يختلفون عن العرب بأنهم شَغِفون بالفخفخة والأبَّهة الظاهرة. ولنا في موكب الحضرة الشريفة دليلٌ وبرهان. كنت قد سمعت بالمظلة المشهورة التي تظلُّ الإمام يومَ يؤمُّ المسجدَ الجامع، فتحفُّ به السادة والعلماء، وتمشي أمامه ووراءه الجنود وهم ينشدون «الزامل»، تتقدَّمهم النوبة، وثُلة من الفرسان، والمظلة وسط الموكب كأنها القبة الزرقاء المرصَّعة بالكواكب، وقد مشى تحتها القمر المنير سُبُل الدنيا والدين.
هي ذي المظلة التي طبق ذكرها الآفاق، ومعها شقيقات صغيرات مُلقاة في الزاوية في طريقنا إلى الديوان. قال رفيقي وقد قبض على أكبرها: هذه لصلاة الجمعة، وفتحها فإذا هي كالخيمة، قُطْرها ثلاث أذرع، وكلها مصنوعة من الحرير الأزرق والأبيض المزركش، وعلى أطرافها من الخرج العريض الثمين ما يندر حتى في ملابس السيدات الفخمة.
رأيت في تلك الزاوية أيضًا طبولَ الإمام العديدة حجمًا وشكلًا، بعضها مشدود على الفخار، وبعضها على النحاس، وإلى جانبها البيارق والرايات، فكان الدليل اللطيف أسرعَ بيده مني برغبتي. ففتح الراية الأولى فإذا هي خضراء مكتوب عليها بالأصفر: «وفتحنا لكم فتحًا مبينًا.» والثانية صفراء مكتوب عليها بالأخضر: «الجنة تحت ظل السيوف.» والثالثة بيضاء وعليها بالذهب آية التوحيد والشهادة.
ولكن الجندي في اليمن، مثل قارئ الجرائد في البلاد المتمدنة، لا يعرف من الشئون السياسية غير ما يُذاع رسميًّا لإبعاده عن حقيقتها. فغدًا يحدِّث عنا فيقول: إننا جئنا من الجامعة الأميركية لنشتري الكتبَ الخطيَّة.
(٦) الضيف المأسور
أربعة أيام مضت ولم نخرج من البيت إلا مرة واحدة. ثم عاد الإمام إلى صنعاء من رحلته السِّلْمية موفَّقًا، فأمَّ قصره أولًا، وجلس بعد الظهر للزائرين، فكنا بعد استئذانه أولَ المسلِّمين المهنِّئين. لم أشاهد في طريقنا إليه، لا في الرواق، ولا على الدرج، ولا عند الباب شيئًا من تلك الأبهة العسكرية المصنوعة التي شاهدناها في ماوية وذمار. حاجب واحد، وهو جندي زيدي في عمامته غصن من الحبق، فتح لنا الباب حين رآنا قادمين.
دخلنا وفينا ما يعتري كلَّ غريب على ما أظن في مثل هذه الحال؛ أي الشوق الذي يَسُوده الاحترام، ويَشُوبه بعض الظن. أترى الإمام مثل أمراء جيشه، أم هو كريم الخُلق لطيف الذوق كالملك حسين؟ أيشفُّ ظاهرُه عن باطنه، فترقُّ ملامحه، ويستطيل وجهه، شأن معظم الأئمة والعلماء، أم يخدع بما يكنُّه مما لا تفصح عنه الوجوه والإشارات؟
دخلنا فإذا نحن أمام رجل رَبْع القامة، صغير الرجل واليد، أسمر اللون، عالي الجبين، مستدير الوجه قاتمه، له فم كفم الطفل صغير بارز إلا أن في مرونته وهو يتكلم إشارة تقرِّبه طورًا منك وتارةً تُبعِده. وفي عينيه السوداوين القريبتين من أنف قصير عريض نورٌ يضيء وشرارةٌ في بعض الأحايين روَّاعة. وله لحية قصيرة مستديرة سوداء تتخللها خيوط من الشيب. يلبس قباءً من القطن، مخططًا فوقه جبة ذات أردان من نسج اليمن، ولعمامته البيضاء الكبيرة ذؤابة تكاد تصل إلى أذنه. دخلنا فإذا هو جالس على فراش أسود وثير، تحته فراش آخَر، وسجادة عجمية، وإلى جنبَيْه الوسائد يتَّكِئ عليها، وأمامه زجاجة من الماء، ورزمة من القات، وخادم ينتخب الطري من غصونها فيقدِّمها له. وهو الإمام يحيى بن حميد الدين المتوكل على الله. صافَحْناه مسلِّمين، فردَّ السلام مرحِّبًا دون أن يقف. جلسنا أمامه على سجادة تحتها فراش، والغرفة الصغيرة مفروشة بمثلها، وفيها عند الباب ديوان، وعلى الحائط خرائطُ اليمن، والبلاد العربية باللغة التركية.
كان في نيتي أن ألقي كلمةً في حضرته، فحدَّثته بها جالسًا. ومما قلته بعد تهنئتي بعودِه سالمًا موفَّقًا: إني جئت من وراء البحار، وأقاصي الديار، عملًا بعاطفةٍ لا قُوَّةَ للقومية بسواها، ولا عزَّ للأمم بدونها، فإننا مهما استرسلنا في حب الإنسانية المطلق لا ننسَ إذا كنا مُنصِفين حبَّ الوطن الخاص. وهذا الحب يحملني اليومَ على السياحة في البلاد العربية. فإني، وإن كان لبنان وطني الصغير، وسوريا وطني الكبير، أنتسب إلى البلاد العربية، وطني الأكبر … وإني، وإن كانت المسيحية ديني ودين أجدادي، أدين بدينِ كلِّ مَن أقام حقًّا وأزهق باطلًا. بل أدينُ بدِين فلاسفة العرب، وشعرائها الكبار، كالغزالي، وابن الفارض، والمعرِّي أبي العلاء، بل أدين بدِينِ كلِّ مَن قال بالوَحْدة العربية، وتجديد مجد العرب، وسعى في هذا السبيل سعيًا شريفًا خالصًا لوجه الله. فمَن أعزَّ العرب أعزَّ يا مولاي الإسلام … ولا غَرْو إذا جئتُ بلاد اليمن حاجًّا هذه الكعبة المباركة، وقد مُنِعت عني تلك المقدسة كعبة الإسلام الأولى. على أني لقيت في جدة في مقام الملك حسين الرحب العالي، من الفضل العربي، والمكارم الهاشمية، ما سأذكره دائمًا شاكرًا مفتخرًا. وأول مرة ذكرت في حضرته أني أرغب في زيارتكم كان — حماه وحماكم الله — أول المستحسنين، بل أول المحبِّذين والمشجِّعين، فجئت يرافقني بإذن جلالته صديقي العزيز القديم الشيخ قسطنطين يني، وهو في حب العرب والعربية على جانبٍ عظيم من الغيرة والإخلاص … والبلاد اليمانية مهد العرب! جئناها متجشِّمين المشقَّات، مذلِّلين العقبات، مصعِّدين في الجبال الشامخة، متغلغلين في أوديتها المعطَّرة الأرجاء، ونحن أثناء الرحيل وقبله ننظر بعين الحب والشوق إلى هذه السدَّة المبارَكة نستمد منها النشاط في السير والسرى. وكنا نلاقي في كل بلد حللْناه من حُسْن الحفاوة والإكرام ما شكرناكم بعدَ الله عليه، وسجَّلناه لكم في صميم الفؤاد ليحفظ مدى العمر ذكرًا ذكيًّا جميلًا.
فاه حضرة الإمام ببعض كلمات الشكر والترحيب، ثم وقف قسطنطين فتلا قصيدة كان قد نظمها في الطريق، فسُرَّ بها وأثنى عليه، ثم قدَّمنا لحضرته كتابًا من جلالة الملك حسين ففضَّه وقرأه، ثم قال: ولكن الكتابَ أهمل الاسم فيه. فقلت: وقد يكون ذلك عرضًا أو ذهولًا. أما الحقيقة فإن ناظر الخارجية في جدة كان قد كتب كتابَ تعريفٍ أحمله إلى حضرة الإمام، فلم يستحسنه جلالة الملك، فأمر كاتِبَه الخاص أن يكتب كتابًا آخَر يعرِّف فيه الحضرة الإمامية الشريفة بالأستاذ الفاضل والعربي الصميم … إلخ، وأغفل عمدًا اسمي لأسبابٍ لا يدركها إلا مَن كان يدرك شيئًا من غوامض السياسة الهاشمية.
لذلك ظلَّ الإمام على شيءٍ من الريب والتحفُّظ. ونحن، لخاطرٍ جال في ذهن الملك فلم يذكر في كتابِ توصيةٍ اسمَ الموصى به، نقاسي ما سيجيء ذكره. أفضْنا في الحديث بالوَحْدة العربية، فكانت أول كلمات الإمام في الموضوع: وصلتم إلى محطِّ رحالها. بيْدَ أنه الداعي إلى الوَحْدة الإسلامية، فحاولتُ أن أقنعه أن الجامعة القومية أصحُّ أساسًا وأسهل تحقيقًا من الجامعة الدينية. ومَن أعزَّ العربَ أعزَّ الإسلام.
وكنت قد طالَعتُ قصيدةَ الإمام المشهورة التي مطلعها:
والتي يستنهض فيها المسلمين وإخوان الدين، ويحثُّهم على الاجتماع والتعاضد:
فقلت: إن القوميةَ تجمع الشعوبَ والدين يفرِّقهم. وإننا نحن المسيحيين في سوريا مثل العرب المسلمين تجمعنا القومية، وهي التي حملتنا على التشرُّف بزيارتكم، ولا يجمعنا الدين. ثم انتقلنا من التعميم إلى التخصيص — من مجمل القضية إلى أجزائها — فكان الإمام أكثر اهتمامًا لذلك؛ مما دلَّني على أنه ذو عقلٍ عملي حاذق. وإني أذكر كلمته عندما أشرنا إلى المهمة التي انتدبنا أنفسنا لها، فسأَلَنا قائلًا: هل عندكم كلامٌ مضبوط؟ إلا أن بعض الزائرين دخلوا إذ ذاك فمرَّ بيده على فمه. فسكتنا، وتأجَّل البحث في الموضوع إلى وقتٍ آخَر.
دخل الزائرون المهنِّئون، وفيهم بعض السوريين من طرابلس الشام، وبعض الضباط الترك، فظهر لنا من استقبال الإمام، ومن تقبيل اليد الإمامية تقبيلاتٍ متنوعةً لها درجات ومقامات، أن العظمة و«المحسوبية» في صنعاء أشدُّ منهما في الحجاز.
على أنه تزحزح قليلًا عندما دخل محمود بك نديم آخِر والٍ من ولاة الأتراك في اليمن، وهو كردي الأصل سوري المولد. فاستقبله واقفًا نصفَ وقفة، وبادَله قبلةَ اليد بقبلةٍ في وجهه. ثم دخل ضابط تركي في ثوبه ونياشينه وجزمته فركع أمام الإمام وقبَّل يده، وجلس على الديوان. ثم ذلك الإفرنجي أي النمساوي الموكل بمعمل الخرطوش، أيْ جرجي المشهور في اليمن، فقدَّمه الإمام إلينا قائلًا: هذا منكم. ثم دخل شيخٌ نحيلُ الجسم، طويل اللحية، حليق الشارب، يشبه أميركيًّا من أميركيِّي نيو إنكلند القدماء، فاستوى الإمام واقفًا، وصافَحَه مصافحةَ الأقران. هو شيخ الإسلام الذي تبوَّأ مكانَه في الزاوية. وكان قد تقدَّم حضرته ثلاثة صبيان، منهم اثنان من أولاد الإمام يرفلون بالأثواب المخطَّطة ذات الأردان، وعلى أكتافهم البردُ اليمانية، وعلى رءوسهم عمم مزركشة بالقصب، ومكتوب عليها آيات من القرآن. دخلوا دون أن يفوزوا بنظرةٍ منه.
غصَّت القاعة بالمهنِّئين، وكان حضرته يعرِّفهم إلينا فيقول: هذا أمين، وهذا قسطنطين، مسيحيان من لبنان. فقلت: حضرة الإمام شَغِف بالسجع. فقال: أنتم السجع. تنوعت الأحاديث، وكان هو مدير رحاها، فسألني سؤالًا غريبًا، ثم جاوَب عليه، فكان الجواب أشدَّ غرابة: لماذا دُعِي صاحب الديانة المسيحية بالمسيح؟ فأجبتُه بكلمةٍ تاريخية وجيزة فلم يقنع، فقال: لأن رِجلَه كانت مسحاء. وأشار بيده إلى رجله، ثم توكيدًا بالسبابة إلى خط الانحناء، أي القوس في راحتها.
قد ساءتني — والحقُّ يُقال — هذه النسبة، وإن لم يكن الاحتقار فيها مقصودًا، وعاد بي الفكر إلى جدة، إلى مجلس الملك حسين، الذي لا يسمع فيه الزائر كلمةً واحدة تكدِّر أو تسيء، بل لا يسمع غيرَ ما يسرُّ، ويفكِّه ويفيد. أما الرِّجل المسحاء والمسيح! لم أتمكَّن على تساهُلي من دفع ما وقر من هذه الكلمة في النفس، وقد أكون أسأت إلى الحضرة الشريفة في سؤال سألته؛ لأنه في ذاك الموقف لا يليق ولا يجوز. ولكن عذري أني طالبُ علمٍ سائح في سبيله. قلت: أتعلمون يا مولاي كم عدد سكان اليمن؟ فقال: بالتقريب لا بالتحقيق، خمسة ملايين. فقلت: وكم منهم تحكمون؟ فأجاب وهو يبتسم ويضم أنامله إلى كفه: اليسير، اليسير. فقال الضابط التركي باللغة العربية، وكان قوله ولا شك تزلُّفًا: كل واحد من الخمسة ملايين مُطِيع للإمام. فاعترضه الإمام قائلًا: لا لا. ومال بوجهه إليَّ، وهو يشير بيده تلك الإشارة اللطيفة البليغة كأنه يقول: حفنة منهم فقط.
أما حدود اليمن فالإمام لا يعرف منها غير القديمة التي كانت تشمل عُمان وحضرموت، فإذا اعتبرنا هذا التحديد، وفهمنا إشارة الحضرة الشريفة، ظهرتْ لنا مطامحه السياسية بأجلى مظاهرها.
وكان الحديث بعد ذلك في السياسة الأوروبية، فأدهَشَني منه ما يعلم وما يهتم به من أخبار العالم؛ فهو يُطالِع الجرائد المصرية، وإذا ضاق دون المطالَعة وقتُه يدفعها إلى أحد كتاب ديوانه، فيلخِّص له الأخبار كأنه من هذا القبيل مدير شركة أميركية، أو رئيس وزارة بريطانية. سألني عن أرلنده، وهل حازت استقلالها؟ سألني عن لويد جورج وهل يخلفه في الوزارة كرْزُن؟ وعن زغلول باشا وأين هو الآن؟ وعن الأتراك، وهل عُقِدت المعاهدة بين مصطفى كمال والفرنسيس؟ وعن أميركا، وكم سنة يحكم الرئيس؟ وهل يُعاد انتخابه؟ وكم مرة يجوز أن يعاد؟ فلما أخبرته عن الرئيس الأول جورج وشنطون الذي ترأَّسَ مرتين، ورفض الثالثةَ قائلًا: ما تحرَّرْنا من الملوك لنقيم مَلِكًا علينا في هذه البلاد. أُعجِب جدًّا. أما كلمته المأثورة: فاستعدوا في أيام السِّلْم للحرب. فأبرَقَ لها جبينُ الإمام كأنها حديثٌ شريف، وأطرق وهو يهز برأسه ويقول: ناهي، كلام ناهي، حكمة رائعة.
وما توقف عن أكل القات، وشرب الماء أثناء الحديث. ولا ردَّ واحدًا ممن جاءوه يحملون العرائض والكتب. إلا أنها كانت تقدم بواسطة الحاجب فيفضُّها في الحال، ويقضي بها. ومنها عريضة طويلة مسحت اللطف والبشاشة من وجهه. وكنت وهو يُنعم النظر فيها أنظر إليه وأراقب عينيه، وفيهما يبدأ الانفجار، أو ما يشير إليه. إنما الغريب أن قد تشهر العين الحرب عليك في حين أن الفم مثل رسول السلم، يبسم لك مطمئنًا. كثيرًا ما شاهدت هذه السيماء المتناقضة فيه، ولكنه في ذاك الحين تغيَّر تمامًا فساد الغضب في ناظريه، وقلص العنف شفتيه، فاستأذنَّا بعد أن فرغ من قراءة تلك العريضة، وكانت قد طالت الزيارة، فأشار بيده إشارة سريعة جافية أن اذهبوا اذهبوا، ولم يفه بكلمة سلام واحدة.
خرجنا كالمطرودين، وبتنا في أمر هذا الإمام حائرين، أبدوي هو إذا غضب، وسياسي إذا رغب، وشاعر فيما يجب؟ أعالم مجتهد، وحاكم مستبد؟ أغليظ الكلمة، ورقيق الشعور يجتمعان في شخص واحد — في زيدي؟ هو في أمور الدين والدنيا الحاكم المطلق المعصوم في الاجتهاد الغلط، ولكنه عادل، وفي إقامة الحق لا يميل ولا يحابي، وعند الاقتضاء سمح حليم. إن له في حكمه فضائل أخرى، منها أنه يستشير ذوي العلم والخير من رجاله، وطريقته في الإدارة والعمل منظَّمة، وقوَّته على العمل عظيمة مدهشة، رأيته في ليالي رمضان، وقد انصرف جميع كتاب الديوان، يشتغل حتى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، وسيدخل القارئ بعدئذ إلى ديوانه، فيرى كل شيء في مكانه.
أما الآن فعلائقنا — في لغة السياسيين والصحافيين — متوتِّرة، ومنا بدا منا، على ما أعلم، ما يسيء إلى الحضرة الشريفة بشيء، فقد قبلنا «رجل المسيح المسحاء» قائلين: إن الإمام من المجتهدين، وطويل البال في غوامض الدين، ولكن رجل حضرته أنيقة الشكل، لها قوس بليغ، يدل بحسب علم الفراسة على طيب الأرومة، وحسن الذوق، وكرم الأخلاق، فأين هذه الفضائل من تلك الإشارة العنيفة، وذاك الوجه القطوب، ونحن ضيوفه، ورسل السلم والخير إليه؟
مرَّ اليوم الأول بعد هذه المقابلة، ونحن ننتظر من حضرته كلمة تسكِّن منا البال، أو إشارة تعيد إلينا الثقة والأمل، ومرَّ اليوم الثاني ونحن نحسب كل ساعة منه شهرًا، ونود لو جاءنا أحد يساعدنا على محنة الريب وسوء الظن، بل نود أنفسنا بعيدين عن الزيود وبلادهم. أفلم يرضَ الإمام يا ترى بكتاب الملك حسين، أم هو في ريب من أمرنا مما قد يكون سبقنا إلى عاصمته، وإلى ديوانه من الوشايات؟ فقد قال لي أحد السادة: الناس مشتبهون بكم، حتى الذين أكرموكم يكتبون إلى الإمام ليتحرَّز منكم. فهل تلك العريضة الطويلة سيرة حياتنا يا ترى؟
استأذنَّا السيد علي بزيارة المدينة، فكان جوابه أنه يخاف علينا من الأولاد، بل على كيسنا من الشحَّاذين. ثم استأذنَّاه في اليوم الثاني بالطواف حول السور، فقال: إن المشي في الشمس يتعبنا، وقد تؤذينا شمس اليمن المحرقة، فالأحسن أن نخرج عند الغروب، ثم جاء سيادته عند الغروب يصحبه أحد الموظَّفين يزورنا، فتعذَّر علينا الخروج للنزهة، وقد قال: إن أشغال الإمام بسبب تغيبه كثيرة، وسيأذن بمقابلة أخرى قريبًا — إن شاء الله …
أما الرفيق قسطنطين فكان يستعين على هذه الحالة المزعجة بنظم الأشعار. فلما فتحت دفتري مساء ذاك النهار لأدوِّن فيه بعض الخواطر اطلعت على ما يلي: وبما أني لا أعتقد بالجن تيقَّنت أن البيتين من نظم مكروب مثلي، قال الرفيق:
مولاي
حياكم الله بالخير والسعادة، أما بعد: فإني منذ وطئت أرضكم أسير فضلكم، وموضوع إكرامكم، وسأكون مدى العمر شاكرًا لكم، وجئت الآن أسألكم، وأستميح عن ذلك عذرًا؛ لعلمي بما أنتم فيه من الأشغال المتراكمة أثناء غيابكم، أن تعلموني إذا كنتم تسمحون بمقابلة خاصة ومتى؛ فإني مقيد بخطة سفرٍ تضطرني إلى القيام — بإذن الله — بالمحدد من زمانٍ ومكان، وفي كل حال إني شاكر أبدًا لمولاي الإمام، فخر العرب والإسلام، حمى الله ذماره، وأعز بنوده ومناره.
عافاكم الله ووفَّقكم، لا بد نطلبكم لما أشرتم إليه إن شاء الله قريبًا ا.ﻫ.
والحرف الأخير «ﻫ» علامته الخصوصية في كل ما يكتب، ويُكتب باسمه.
زادني الكتاب حيرة واضطرابًا، فضلًا عما ظننته إهانة مقصودة، أهذه طريقة الزيود في المراسلة؟ أو أنها طريقة الإمام فيما يختص بالنصارى، فلا يرغب حتى بورقة من أشيائهم؟ قد أكون أسأت الظن ساعة الحنق والاضطراب، على أن ما عرفته بعدئذٍ وشاهدته أثناء إقامتي في صنعاء لم يكن ليزيل التأثير الأول كله تمامًا.
كادت تحملني تلك المعاملة على الاستئذان بالرحيل؛ لأني — ولا بد من الجهر بذلك — سئمت ما شاهدت في طريقي إلى صنعاء من مظاهر الاجتماع والسياسة، سئمتها كعربي محبٍّ لأبناء جنسه، راغب في نجاحهم، وعمران بلادهم، وها إني في صنعاء أسير ريب الإمام بعد أن كنت أسير فضله، فما السبب في الانقلاب؟
ما نمت تلك الليلة إلا قليلًا، وكنت كل مرة أستفيق أسمع السلك يشتغل مجدًّا، وفي أنبائه البرقية ما قد يزيل في الغربة والكربة، ولا حاجة ﻟ «قد» التوقيع. فإن سبب كربتنا كما تحققنا إنما هو الملك حسين، أو بالحري كتاب التوصية منه، فرأى الإمام الحكمة في تثبت الأمر قبل أن يفاوضنا بشيء، فاشتغل السلك لذلك، وكان الجواب من عدن، والحمد لله، مثبتًا ما أكرمنا من أجله ذلك الإكرام الجميل في الطريق، فإذا كان كتاب التوصية من صاحب الجلالة المنقذ الأكبر يجلب هذه الظنون والشجون، فماذا عسى أن تكون نتيجة كتاب التحرير؟
(٧) حكم الإمام
وجاء في مذهب الزيدية ما ينقضها، ويقضي على صاحب الزمان، كأن الزيديين يقولون لخصومهم: إذا أنتم رضيتم بإمام موجود دائمًا في كل مكان، ولا يُرى في مكان، فنحن لا نرضى. نحن نشتهي أن نرى الإمام أمامنا، ولو في مكان واحد، وفي فترة من الزمان. ولم يهتدوا في ذاك الحين إلى غير السيف إثباتًا لعقيدتهم، وتحقيقًا لأملهم، فقالوا: إن الإمامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدهما، فمن خرج منهم شاهرًا سيفه، داعيًا إلى دينه، وكان عالمًا ورعًا، إنما هو الإمام المنتظر.
ولعمري إن شروط الإمامة في الزيدية لمن خير ما تتطلبه الجماعات في حكامها لولا هذا الشرط الذي ينزل السيف منزل الشورى والمبايعة؛ فهو ولا عجب السبب الأكبر في الفتن والحروب في تلك البلاد الجميلة التي دعاها الرومانيون سعيدة، ونتمنى نحن اليوم أن تكون السعادة فيها حقيقة لا خيالًا.
وكيف يثبت ملك فيها ويدوم نظام، وكيف تضمن سبل الفلاح والعمران، إذا كان يحق لكل من كان شجاعًا طماحًا، وكانت له بعض السيادة في عشيرته، أن يخرج شاهرًا سيفه، داعيًا إلى دينه، طالبًا الإمامة؟ وإن في اليمن اليوم عددًا من هؤلاء الطامحين إليها، ومنهم من كان آباؤهم أو أجدادهم أئمة حاكمين. فإذا أحسوا بوهن في حكم الإمام، أو بضعف في موقفه، فسيف الإسلام عليه. فيتسع المجال إذ ذاك لغيره من سيوف الإسلام، فتشبُّ نار الفتنة، وتدق طبول الحرب، ويخنق دخان الفوضى روح الأمن والنظام والعدل.
لا نخطئ إذا قلنا: إن الفتن في اليمن حالة مستمرة يتخللها في بعض الأحايين فترات يسود فيها السلم والسكينة. وقد كانت قبل أن جلا الترك عنها ميدانًا لسيف الإسلام — الجهاد ثالث الماء والزاد — بل لسيف الإمام زيد، بل لسيف كل طمَّاح من السادة المحترمين — ميدان هلاك ودمار، لا يسكن فيه غبار، ولا تخمد له نار، إلا في فترة عياء عام، أو تفوق شخصي مثل فترة الإمام يحيى بن حميد الدين، وقد ضبط الأمر فيها بيد من حديد، وبالعدل والرهائن.
ولا عجب، وتلك طريقة الاستيلاء على الإمامة، إذا كانت الرهائن أساس الملك، لكنه — ولا ريب — أساس فاسد، لا يسلم حتى في أيام الحرب. أجل، إن الرهائن دمل في حكم حضرة الإمام، بل دمل في نفسية أهل اليمن؛ لأن الإمامة التي ترضى في أيام السلم أن يؤخذ أبناؤها رهينة الوفاء والأمانة، وإن كانت سليمة العقيدة، فليست بسليمة في وطنيتها، لسنا نلوم الإمام وهو يحكم مثل هذه الأمة، وأعداؤه يحيطون به من الخارج ومن الداخل شمالًا وغربًا وجنوبًا، ومع أن البلاد اليوم في أكثر أنحائها هادئة ساكنة، وسُبل التجارة والسفر فيها آمنة، فهو دائمًا في احتراب ظاهر مع الإدريسي، وفي احتراب خفي مع الشوافع، وفي احتراب متقطع مع حاشد وبكيل، وفي احتراب سياسي مع الإنكليز، وفي احتراب كذلك مع من يدعون حمايتهم من العرب في النواحي التسع حول عدن. هؤلاء أعداء الإمام، فضلًا عن السادة أقرانه، الطامعين بمكانه، ليس فراش الإمامة بالفراش الوثير، ولا أمل في تلك البلاد بالسلم الدائم واليُمْن والنجاح إلا في نزع حق الإمامة من السيف، ووضعه في الشورى الحقيقية، في المبايعة بالاقتراع بموجب السنة، وعلى طريقة الصحابة.
لا ينكر ما كان لليمن في الماضي، في عهد أسلاف الإمام يحيى، من المجد الأثيل، والسيادة الواسعة، وسأعود بالقارئ ألف سنة إلى عهد مضى، ولا أكلفه قراءة أكثر من صفحة أو صفحتين.
في القرن الثالث للهجرة جاء إلى اليمن من العراق السيد يحيى بن الحسين القاسم الرسي يدعو الناس إلى المذهب الزيدي، فأقام في صعدة يعلم عدة سنين، ودُعي الإمام، هو رسول الزيدية الأول في اليمن، ولكن الذي أسس الإمامة في صعدة هو القاسم بن محمد الذي يتصل نسبه بالرسي المذكور.
وقد تشعبت الزيدية إلى فرق، منها الجارودية نسبة إلى أبي جارود زياد بن أبي زياد الذي سمي سرحوبًا، والسرحوب — كما قيل — شيطان أعمى يسكن البحر، وهذه الفرقة تقول بالنص من النبي على إمامة علي وصفًا لا تسمية، وتختلف والفرق الأخرى في الإمام المنتظر، والسليمانية تتبع سليمان بن جرير، وتقول: إن الإمامة شورى بين الخلق، إلا أنها مقيدة بواحد من خيار المسلمين، وهناك أمور طفيفة يختلفون عليها، منها: سب الخليفتين الأولين أبي بكر وعمر، فمنهم من يقول بوجوب السب، ومنهم من يقول بوجوب الإغضاء.
كان اليمن في عهد الأئمة الأولين قطرًا كبيرًا يشتمل على عمان وحضرموت، ويمتد إلى الحجاز، فيدخل فيه عسير وقسم من تهامة. فالإمام شرف الدين بن شمس الدين (٩٣٠ﻫ) الذي مدحه موسى بن يحيى بهران شاعر صنعاء، كان من الفاتحين الكبار. والإمام المهدي أحمد بن حسن استولى على اليمن كله بما فيه عمان وحضرموت. والإمام المهدي لدين الله هو الذي أذن للفرنسيس أن يدخلوا عدن والمخا، وأن يزوروه كذلك في مقره بمواهب، وعقد معهم معاهدة تجارة وولاء سنة ١٧٠٩م.
لكن الإمامة لم تكن من سلالة واحدة دائمًا، فقد انفتح فيها الباب للحسني والحسيني، ولم تكن دائمًا مستقلة. فقد حكم القرامطة في اليمن ردحًا من الزمن قبل مجيء الترك، ثم استولى السلطان سليمان القانوني على بعض الأقطار العربية في أوائل القرن السادس عشر (١٥١٧م)، ومنها عدن، وقسم من اليمن. بيد أنه ما عتَّم أن ثار أهل اليمن على الترك، فأخرجوهم بعد عشرين سنة من البلاد، واستمرت الإمامة مستقلة بعد ذلك أكثر من مائة سنة، فثار عليها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر شريف أبي عريش` بتهامة، واستقل عن اليمن. ثم ثار عليها أحد عمالها في لحج، فاستولى على عدن وأعلن استقلاله.
وفي سنة ١٨٤٩ عاد الأتراك بقيادة توفيق باشا إلى اليمن، فنزلوا في الحديدة، واستولوا على أبي عريش، وتقدموا إلى صنعاء. ولكنهم لم يستولوا عليها، ولا تمكنوا من البقاء في اليمن الأعلى، إلا أن الثورات في تهامة وفي لحج قسمت البلاد، وأضعفت شوكة الإمامة، فقام السادة سنة ١٨٧٢ على الإمام واستعانوا بالترك فدعوهم إلى صنعاء. ففازوا هذه المرة، ووطدوا في الجبال العالية حكمهم إلى حين؛ لأن أهل اليمن الذين يثورون على سادتهم، والسادات الذين يتمردون على إمامهم لا يوالون الأجنبي طويلًا. ففي سنة ١٨٩١ نهضوا على الترك، فحاربوهم وأخرجوهم من صنعاء. وكانت تلك الثورة فاتحة حروب وفتن استمرت ربع قرن، يومًا تضطرم نارها، ويومًا تهمد تحت الرماد، وعندما قام عليهم الإمام المنصور والد الإمام يحيى بعثت الدولة الفريق أحمد فيضي باشا، فتقدم بجنوده إلى صنعاء فحاصرها واستولى عليها، فتقهقر الإمام المنصور إلى صعدة.
ففي سنة ١٩١١ كانت العشائر قد تاقت إلى الحرب، فهجمت على صنعاء، وأحاطت بها تطلبها باسم الإمام، ولكنها لم تفز فوزها في حصار ١٩٠٤–١٩٠٥. وكان يومئذ عزت باشا والي اليمن، وكانت الدولة على أهبة الحرب مع إيطاليا. فسعى عزت بما كان له من حنكة، وفصاحة، وكرم أخلاق إلى مصالحة الإمام ليمنعه على الأقل من محالفة العدو كما فعل بعدئذ السيد الإدريسي.
وقد كان عزت كريمًا جوادًا، فاستغوى العرب بالمال، واستمال الإمام بفصاحته وحذقه. فعقدت معاهدة ١٩١١ (شوال ١٣٢٧) لمدة عشر سنين، وكان من شروطها أن يعترف الإمام بالسيادة التركية، وتقبل الدولة ألَّا يكون في البلاد غير المحاكم الشرعية التي يعيِّن الإمام قضاتها. قد تعهدت الدولة كذلك بأن تدفع للإمام ولرجاله السادة ومشايخ حاشد وبكيل مشاهرات مالية مقدارها ألفان وخمسمائة ليرة ذهبًا. وبما أن الزيود، بموجب مذهبهم، لا يتوجب عليهم دفع الزكاة لغير الإمام إمامهم، كان موظفو الترك يجمعونها باسمه، ويقدمونها له بعد حسم اثنين ونصف بالمائة بدل الجباية.
الإمام يحيى بن حميد الدين هو من سلالة الرسول الزيدي الأول في اليمن السيد يحيى بن الحسين الرسي. وقد كان والده المنصور مفتي صنعاء، وذا نفوذ كبير في عهد الإمام شرف الدين، فلما تُوفِّيَ الإمام انتخب بالإجماع خلفًا له، ودعي بالمنصور. وبعد وفاة المنصور ظفر ابنه يحيى المتوكل على الله بالإمامة، وهو اليوم في السادسة والخمسين من سنه، وفي الثانية والعشرين من حكمه، قضى أكثرها — كما قلت — في الاحتراب والمهادنات. ولحضرة الإمام أربع زوجات شرعيات جاءه منهن أربعة وثلاثون ولدًا، مات منهم ثمانية عشر، أما الباقون فمنهم: محمد سيف الإسلام البكر، والمطهر، والقاسم، والحسين، وخمس بنات متزوجات.
عندما توفي أبوه المنصور سنة ١٩٠٢ قام بعض السادة يطالبون بالإمامة، ومنهم السيد أحمد بن قاسم بن عبد الله المعروف بالضحياني، وهو لا يزال حيًّا. ولكنهم لم يفلحوا. ثم بعد إعلان الهدنة تحركت ركاب الإمام من السودة جنوبًا، وتحرك غيره كذلك يبغي الإمامة. وكان في البلاد حزب يقاومه مقاومة شديدة، فلجأ زعماؤه إلى أعدائهم يستنهضونهم على الإمام. هي عادة في العرب لم تتغير من عهد الأمويين في الأندلس حتى اليوم. كتب أعداء الإمام إلى الملك حسين، وإلى الإدريسي، وحتى إلى الإنكليز في عدن، فبعثوا بوفد سافر رجاله سرًّا إليها عن طريق مأرب سنة ١٩١٩، وقصدهم السفر إلى الحجاز شاكين مستنجدين. ولكن الإنكليز لم يأذنوا لهم بالمرور؛ فرجعوا إلى بلادهم. قد سمعت من مصادر شتى ما يدهش ويضحك من أخبار هذه الفتنة، وأغربها أن الإمام يحيى رشى بعض الموظفين الكبار من الإنكليز في عدن ليوقفوا أعداءه أعضاء الوفد، فحققوا له تلك الرغبة.
قد استتبَّ لحضرته الأمر بعد ذلك، فحكم بيد من حديد. وانتفع بمن تخلف من ضباط الترك، فنظم قسمًا من جيشه. وانتفع بنصراني نمساوي، فأسس معمل الخرطوش. وانتفع بمذهب أجداده فحارب الإدريسي، وتغلب الزيود على الشوافع مرارًا. ألا وعنده المجاهدون في سبيل الله يحاربون غيرهم من المجاهدين كذلك في سبيل الله. إن المرء ليأسف على أمة عربية مجيدة ترفع المذهب على الكتاب والسنة، أو بالحري تجعل المذهب وسيلة إلى الاستيلاء والسيادة.
إني على يقين أن لو حكم الإمام يحيى حكمًا مدنيًّا بحتًا، حكمًا عربيًّا يمانيًّا لا حكمًا زيديًّا، لتمكَّن من تحقيق مطامعه السياسية. فالشوافع إذ ذاك يدينون له طائعين راضين، أو أنهم يأبون على الأقل أن يكونوا آلة مذهبية في يد أعدائه. أما اليوم فمهما قيل في عدله الجمِّ، وحلمه الشامل، فالشوافع في حكمه غير راضين، والذين في الجيش منهم يحاربون الشوافع إخوانهم مكرهين. ومن المظالم التي يشكونها أنه يجمع الزكاة والأعشار منهم بالتضمين كما كانت تفعل الدولة العثمانية في الولايات. والعشَّار مثل الجلاد، مكروه في كل بلاد.
(٨) الضرائب والسلاح
كنت أسمع الناس في جدة يتكلمون عن الحكومة العربية في الحجاز، فيذكرون اليمن كأنه ولاية من ولاياتها، وكأن الإمام، وهو العربي الصميم — هاك قصيدته في جريدة القبلة — يبغي الوحدة التي ينشدها الملك حسين، ولا يقبل بغيره زعيمًا. وسمعت بعض الناس في عدن يقولون: إن بضع طائرات تبدد صفوف الزيود، وتشتتهم في الأودية والجبال، فتنسيهم الإمام ووحدة الإسلام. ولكننا سمعنا كذلك كبار قواد الحضرة الإمامية الشريفة، وشاهدنا جنودها النظامية. لا نظن أن عدنًا تشاهد ما شاهدناه، وأن الحجاز يسمع ما سمعناه؛ لأن الحقيقة في البلدين مشوَّهة، أو مطموسة، أو مجهولة.
وهذا مما يؤسف له، فإن ملوك العرب وأمراءها ناءون بعضهم عن بعض، وقلما يعرف بعضهم بعضًا معرفة اليقين. قد يسمع أحد المسافرين كلام مثل ابن الوزير، فيحمله إلى الحجاز، فيظنه الناس هناك كلام الحكومة. وقد يسمع أحد رجال الإمام المعتدلين، فيتصور في كلامه صورة لآراء الإمام ومقاصده. لا أنكرُ أن شيئًا منها ينعكس في كلام الاثنين. ولكن الإمام الكبير، الكبير باستعداده وبمطمحه، لا يظهر في كلمة يقولها هو أو يقولها أحد رجاله.
في كل حال يحقُّ للإمام أن يردد أنشودة الإنكليز الحربية الاستعمارية، فيهتف قائلًا: عندنا المدافع والرجال، وعندنا فوق ذلك المال، إني أشهد على الأولى والثانية شهادة عين، وقد سمعت عن الثالثة أخبارًا شبيهة بأخبار الجن والكنوز المرصودة. فالإمام غني، غني جدًّا. عنده في كل بيت من بيوته في بير العزب خزنة من الذهب والفضة؛ لذلك تسمع الحرس في الليل يتبادلون كل ساعة كلمة الأمان. وعنده في شهارة، في قنن الجبال هناك، كنوز لا يعرف الطريق إليها سواه. وإذا اكتشفت الطريق فالحجر الذي هو باب الكنز لا يعرفه سواه. وإذا عُرف الحجر فلا يستطيع أن يرفعه أحد سواه؛ لأنه موضوع في شكلٍ سرُّه مفتاحُه عند الإمام. دعنا والكنوز.
إن الضرائب والميزانية تشهد أن الحضرة الشريفة غنية، غنية جدًّا؛ لأنها مثل الإكليروس عند النصارى تأخذ ولا تعطي. في أيام الدولة كان أهل اليمن يدفعون الزكاة فقط، وكانت العشائر معفاة منها. أما اليوم فهم كلهم يترحمون على الأتراك. قد أسمعتك شكوى الجندي وشكوى الفلاح. وإليك الآن بحديث لرجل غريب، كان يلبس فوق ردائه معطفًا إفرنجيًّا من الجوخ، أكل الدهر عليه وشرب وهو في رقاعه، وطوله ووسعه وأزراره البيضاء والسوداء آية في الزي والاختراع، وكان الرجل يشد فوق هذا المعطف الجنبية، أي الخنجر، ويحمل بدل البندق العصا.
استوقفت هذه القيافة المبتكرة نظري، فسألت الرجل عن مهنته فقال: مهنة الأجاويد. فقلت: زدني علمًا. فقال: نعطي ولا نأخذ. فاعتذرت واستغفرت، فقال: تريدها بلغة الفقهاء. قلت: بلغةٍ من فضلك أفهمها. فأجاب وهو يهز برأسه: حياتنا هبة من الله، ونحن نهبها الإمام، لا نربح ولا نخسر. فقلت: ولكن للهبة طرقًا وأساليب. فقال ضاحكًا، وهو يلطم صدره بيده: كلها عندي. أنا أصلًا، كما يقول الفقيه — وماذا يقول الفقيه؟ — يقول: أنا أصلًا واحد أمَّارٌ بالسوء. أما أنا فثلاثة وفي كلهم الخير، ثلثي يا أفندي شيخ، وثلثي فلاح، وثلثي جندي، والمجموع سيد.
كل ما يجمع من العشور والأموال يحفظ في بيت المال الذي له فروع في كل الأقضية، وفي هذه الفروع أي المستودعات دائمًا كثير من الحبوب والبن وغيرها من لوازم المعيشة، التي لا يصرف شيء منها إلا بأمر من الإمام. على أن من حسنات بيت المال أنه يقرض المحتاجين مما فيه، ويستوفي الدين منهم من الموسم الجديد دون فائدة، وهي في اليمن ممنوعة إطلاقًا في التجارة، وفي المعاملات كلها، ممنوعة شرعًا وعملًا.
وما سوى القروض فلا ينفق من بيت المال إلا القليل؛ لأن عند الإمام مصدر خراج آخر هو الجمرك ورسم القوافل. فكل ما يدخل إلى صنعاء من عدن أو من الحديدة اليوم يدفع رسمًا معلومًا. وكذلك كل جمل، وكل دابة محملة. فمن هذه الرسوم ينفق الإمام على حكومته. أما بيت المال فلا تمسه يد صالحة أو أثيمة. كل ما فيه مدخور بعون الله، وبفضل الإمام والرهائن، مدخور لليوم المنتظر. غليوم العرب الإمام، ألمان العرب الزيود.
(٩) الشمائل القدسية
كان للرفيق قسطنطين خادم مدني، وهو ولد مغربي نشأ في كنف الأشراف بمكة، فما اكتسب غير المشاكسة والمكابرة، وما كان رأس ماله في الحياة غير رأس من حديد، ولسان ذي حدين. استصحبه الرفيق، فكان أضحوكة الطريق، وأعجوبة الخطر والضيق. وكأن الأقدار تحسن الأمثال، فكان ينطبق على المدني ومطيته — بغلة كانت أو ناقة أو حمارًا — المثل المشهور: شبيه الشكل منجذب إليه. وكم وهلة روَّعتنا وأضحكتنا معًا، والمطية فيها تضرِب بقوائمها الهواء، والمدَني ينطح برأسه الأرض، ثم ينهض كالجنِّ ضاحكًا، وإن غلظت في فمه اللعنات، ويروح راكبًا فوق مطيته كأنه سيد السادات. ولد لا يعرف التوبة، ولا يحسن من الكلام ومن الظنون إلا أسوأها. فما رافق أحدًا إلا شاكسه في الساعة الثانية بعد اللقاء، وجاء يتحفنا بمعلوماته عنه ويحذرنا منه.
لما دخلنا إلى صنعاء فاز المدني قبلنا برؤية المدينة، فراح يطوف فيها، وعاد ولسانه على غير عادته يقطر عسلًا من عسل الألفاظ، وعيناه تبرقان ابتهاجًا. سبحان الله، لقد أعجبت المدينة المدني، ففضلها حتى على جدة. فقلت: أفلا تفضلها على مكة كذلك؟ فقال: لا والله. فسألته عن السبب، فأجاب: في مكة أمي. وهذا، أي حبه أمه واحترامها، هو — بعد الأمانة — فضيلة الولد الوحيدة. قلت: إنه نقَّاد وقَّاد، لا ينجو أحد من لسانه ومن ناره. ولكنه جاء ذات يوم وهو عائد من المدينة يقول: رأيت الإمام، واللهِ وأمي، وقبلت يده.
– أين رأيته؟
– هو جالس الآن في الساحة، وحوله الرجال والنساء والأولاد. ولما رآني قال: حي الله الجاي. وقام من كرسيه، والله وأمي، وأعطاني يده فقبلتها. وسألني عن اسمي، وقال: أمسلم أنت أم مسيحي؟ فقلت: مسلم والحمد لله. فقال: بارك الله فيك. هو حياني، والله وأمي، قبل أن حييته. ما رأيت أحسن منه، وألطف منه، رجل متواضع كريم الأخلاق — والعدل! وأمي لا أظن أن في البلاد العربية من هو أعدل منه. هو جالس الآن في الساحة يسمع شكاوى الناس. وكلهم رجالًا ونساءً وأولادًا ينادون: يا إمام، يا إمام، يا حضرة الإمام. جاء وأنا واقف جنبه ولد يبكي. فقال للناس: أفسحوا له، قربوه مني. دموعه أفصح من الأفصح فيكم وأصدق. تعال يا بني. وأمي، ما أقول غير الصدق … لا أظن أن في البلاد العربية كلها أحسن من هذا الإمام.
وهذا أجمل ما فاه به المدني في الرحلة كلها. على أننا نضرب صفحًا عن رأيه، وننظر في ما تضمنه حديثه من الحقائق. قد حياه الإمام عندما رآه قادمًا وقام له، وهو يعرف أنه خادمنا، ولكنه يجهل ما إذا كان مسلمًا أو مسيحيًّا، هذا جميل منه. ولكننا تساءلنا ما السرُّ يا ترى فيما تناقض من سلوكه. ينهض لخادمنا، ويستقبلنا جالسًا. والسر لا يزال سرًّا نزفه إلى القارئ، ونسأل له التوفيق في اكتشافه واكتناهه.
أما الحقيقة الثانية فهي أنه قدم شكوى الأولاد، ومنهم الولد الباكي، على شكاوى الرجال والنساء، وهذه بذاتها ثناء على الإمام لا يقارنه في النطق ثناء. نذكرها إجلالًا ساكتين حائرين. إن أمر هذا العربي اليماني الشريف لغريب ينسب المسيح إلى الرِّجْل المسحاء، ويشبه المسيح في عطفه وحنانه، دعوا الصغار يأتون إليَّ. من فم مسلم زيدي تتساقط درر حبك، وفي اليمن يُسمع صدى كلماتك، أيها السيد الكبير الأوحد، أيها الناصري العظيم. فما أصغر من يقيم الحدود، ويحصر الحقيقة بالنصارى والزيود.
قد رأيت بعيني ما يثبت رواية الخادم مدني، بل رأيت حضرة الإمام وهو يجلس ساعة وساعتين كل يوم دون تأفف وتذمُّر، فيسمع شكاوى الناس واعيًا صابرًا، طلق المحيا، عطوفًا شفيقًا، فيقضي بينهم في بعضها، ويحيل البعض الآخر على المحكمة الشرعية.
أما القصد من الجلوس في الفلاة، فهو يدل على رغبة الإمام الشديدة في تعميم العدل والإنصاف. قد علمت أن الحجاب في بابه يردون أحيانًا من ينبغي أن تسمع دعواه، أو تُقدِّم على دعوى سواه. وقد يرتشون ويظلون في مكمن من السر لا تصل إليه يد العدل والتأديب. فيجلس الإمام حيث لا حاجب بينه وبين الناس. إنما هي عادته كل يوم صباحًا عندما يخرج من قصره إلى الديوان؛ يجلس في الساحة عند الباب، أو تحت الشجرة في الحوش، ويقف وراءه جندي حاملًا السيف، وآخر إلى جنبه حاملًا المظلة؛ فيفتتح الجلسة التي تستمر من الساعة إلى الساعتين، ثم يطوف في المدينة مصحوبًا ببعض الموظفين والجنود، وبمن شاء من الناس. ثم يصلي صلاة الظهر، ويرجع إلى القصر راكبًا في موكب رسمي تتقدمه النوبة، وتعلو فيه أصوات الجنود، وهم ينشدون الزامل. وبعد الغداء والقيلولة يجيء إلى الديوان فيشتغل حتى صلاة المغرب، وهو يأكل أثناء هذه المدة أو بالحري «يخزن» القات، بل يظل في بعض الأحايين حتى الساعة العاشرة مساءً في الديوان قائمًا بما تقتضيه شئون الإمامة والرعية.
ولكنه في حبه العلم لا يحب على ما يظهر تعميمه، لم نرَ مدرسة واحدة في المدن والقرى التي مررنا بها. أما عذر الإمام في ذلك فهو أنه منذ تولى الحكم وهو وأعداؤه في احتراب. فكيف له أن يهتم بالمدارس؟ ولكن أهل اليمن يهتمون كل الاهتمام بالمساجد وبالصلاة وبالقات، فلو أنصفوا، لو أحسنوا إلى أنفسهم، لساووا في الأقل بين التعليم والتديُّن.
أما ما يتلقنه الأولاد في المساجد فينحصر بالقرآن واللغة والفقه. لكن الفقه لا يدرسه هناك غالبًا إلا من هم من السادة، وليس الفقيه دائمًا فقيهًا، الفقيه هناك مثل معلم الأولاد عندنا، وغالبًا تكون مهنته أن يعلم القرآن واللغة فقط. ومن هذه الجهة يقسم أهل اليمن إلى ثلاث طبقات: العلماء، والفقهاء، ويدعون بالقراء، والعامة. ويقسم العلماء قسمين: قسم يتولى أمر التعليم والإرشاد، وأكثرهم من الفقهاء، والقسم الثاني هم أهل الحل والعقد، هم السادة، وبيدهم مقاليد الأحكام الشرعية والسياسية والعسكرية. أما العامة فهم الذين يعلمهم القراء الكتاب وشيئًا من اللغة، ويعلمهم السادة الطاعة والمحافظة على كل ما فيه تعزيز سيادتهم في البلاد؛ لذلك تراهم يكرهون السيد، ويسخرون من الفقيه.
حدَّثْتُ ذات يوم ولدًا ذكيًّا، وما أكثر الذكاء في الأولاد هناك، ولكنه كالأرض الطيبة غير المزروعة، فسألته ما إذا كان يشتهي السفر. فقال: عندنا والحمد لله ما يغنينا عنه. فقلت: ولكن الأسفار تفقِّه وتفكِّه. فقال: الذي عندنا يكفي لمعاشنا فقط. فسألته: كيف يبذل الزيادة لو كانت. فأجاب: والله يا سيدي أنا أحب المدارس، كان عندنا أيام الأتراك مدارس منظمة، يعلمون فيها الجغرافية والحساب. وكانوا يعطوننا الكتب والألواح، والحبر والأقلام، والدفاتر والطباشير — كل شيء، وكله مجانًا. والله يا سيدي أنا محزون، لا مدارس اليوم عندنا، ولا معلم غير الفقيه. والفقيه سفيه، لا يحب التعليم، ويأخذ مع ذلك ثمانية ريالات في الشهر، وينام في المسجد والكتاب بيده. والورق والحبر والكتب ذهبت مع الأتراك. فلو كان عندي مال زائد كنت أفتح مدرسة، وأعزل الفقيه، وأجلب الكتب والدفاتر والألواح والطباشير، وأوزعها على الأولاد مجانًا.
– ولماذا لا يفتح الإمام المدارس؟ الإمام غني.
– بلى، ولكنه … سكت الولد، ومد يده مقبوضة. ثم قال: فهمت؟
– وهل عند الإمام خيرات؟
– خيرات، خيرات.
– وهل هو عالم كبير كما يقولون؟
– أشتهي أن يكون لي هذا القدر — وهو يضم أصابعه بعضها إلى بعض — من علمه.
– أوَلا تحب أن تكون جنديًّا؟
– بلى، ولكن بعد أن أحصل العلم أحمل البندق.
– وماذا ينفع العلم إذا كنت تظل راغبًا في الحرب، وفي تقتيل إخوانك؟
– صدقت، ولكن حضرة الإمام أعلم منا. فإذا قال: الحرب، فإلى الحرب. كلنا نحارب من أجل الإمام. وهو أعلم الناس بكتاب الله والسنة، وبما يجب على المسلمين. قد أمرنا الله بالجهاد …
أعاد حديث الولد إلى ذهني وجه الشبه بين هذا الشعب اليماني، وذاك الشعب الذي قام في أوروبا منذ عشر سنوات يلبي أمر إمبراطوره بتأديب العالم، وبسط السيادة الألمانية على أوروبا جمعاء. وكلمة الإمام اليوم مثل كلمة ذاك الإمبراطور بالأمس، تكاد تكون منزلة في نظر رعيته.
إن الإمام يحيى إذن رب الحرب والاجتهاد، رب السيف والقلم. هو الزعيم الأول والمعلم الأكبر في اليمن. وهو القاضي الشفيق العادل يجلس في الفلاة كي لا يقف أحد بينه وبين المظلوم. قد علمت ذلك أيها القارئ، ولم تعلم بعد أن الحضرة الشريفة تمارس كذلك الطبَّ. تداوي المريض بالإيمان، وتشفيه بالصلوات. أجل، إن الإمام هو الطبيب الأكبر، بل هو الطبيب الأوحد في اليمن.
أخبرني أحد الذين عالجهم أنه كان مصابًا بداء الصرع، وكان في رأسه اهتزاز دائم، فأخذ الحشائش التي وصفها له بعض البدو، واكتوى، واحتجم وظل في رأسه الصرع والاهتزاز؛ فجاء إلى الإمام ضارعًا مستشفيًا، فلبَّاه الإمام. أخذ الكتاب فقرأ بضع صفحات فيه، ثم تناول ورقة وكتب فيها آية من آياته الكريمة، ووضعها في كأس من الماء وحرَّكها وهو يتلو الآيات، ثم أعطاه الكأس قائلًا: اشرب بسم الله، فشرب المريض الماء. فقال الإمام: اذهب في شأنك، قد شفيت بإذن الله. وهذه قصة واحدة في الكرامات من عشر سمعتها.
(١٠) الجو ينجلي
من فوائد السفر البطيء — على ما فيه من مشقة وعناء — أنه يمكِّن طالب العلم من الاستقصاء والاكتشاف والدرس. كنا في طريقنا من لحج إلى صنعاء سؤالًا متجسِّمًا، سؤالًا حيًّا متحرِّكًا، إذا أُذن لنا بالاستعارة. وحسبنا في بعض الأماكن أن نقف ساكتين صابرين، فيجيئنا ولي الإمام مادحًا، ويجيئنا عدو الإمام قادحًا، فضلًا عن الفلَّاحين والجنود، وقد عضهم البؤس والفقر؛ فيجيئوننا شاكين ومتبرعين همسًا بما نبغيه من المعلومات. فوصلنا إلى صنعاء، وعندنا «خيرات» من أخبار الإمام والزيود واليمن، قد دونت بعضها في الفصول السابقة، وأقول الآن تمهيدًا وإفادة: إنها تتفرع إلى فرعين، الواحد فيه قوة الزيود الطبيعية، والثاني في ضعفهم الكامن في تلك القوة.
قد ذكرت أن الإمام هو الزيود، وأن قوته وقوى تلك الأمة تنحصر في ثلاثة — ثلاثة حصون — هي: المذهب، والوطنية، والوحشية، أي الاعتزال، أما المذهب فلا رأي لي فيه، وأما الوطنية فالمدارس توسع نطاقها لتشمل في المستقبل القريب ربوع العرب كلها. ولكنها الوحشية، أي النفور من الغريب، والنزوع إلى العزلة، تؤثِّر في السائح أشد التأثير وأسوأه، وهي مع ذلك أول الحصون المقضيِّ عليها؛ لأنها لا تقوى في هذه الأيام على تيار العلم والتجارة، ذلك التيار الذي يقرب الشعوب بعضها من بعض.
أما ضعف الزيود ففي جهلهم الكثيف وتقهقرهم، لا بالنسبة إلى الأوروبيين، بل بالنسبة إلى المصريين والسوريين والعراقيين. كأنك في السياحة في تلك البلاد السعيدة قولًا وتقليدًا تعود فجأة إلى القرن الثالث للهجرة، لا مدارس، ولا جرائد، ولا أدوية، ولا أطباء، ولا مستشفيات في اليمن. إن الإمام لكل شيء، هو المعلم والطبيب والمحامي والكاهن. هو الأب الأكبر، ولا أظن أن في اليمن من يقوم مقامه اليوم لو فاجأته لا سمح الله المنون. على أنه، وإن حافظ كالأب الرءوف على أرواح أبنائه، وعلى صحتهم، فقد أهمل عقولهم إهمالًا محزنًا مفجعًا. وهو ذا النقص في حكم الإمام.
إن في العزلة قوةً نأسف على دوامها، ولكننا نأسف كذلك على زوالها إذا كان التعليم الوطني لا يحل محلها، فيكون فيه لأهل اليمن قوة جديدة تفوق ما فقدوه. ولا بد مع التعليم من تحسين الصلات، وتمكينها بين الحضرة الإمامية، وسائر ملوك العرب، أضف إلى ذلك تسهيل المواصلات التجارية بين اليمن وعدن، وهي من الأمور الجوهرية التي لا تتم إلا بموالاة الإنكليز، والاتفاق معهم على ما فيه مصلحة البلاد.
اثنا عشر يومًا في الطريق، وأسبوع في الأسر أنضجت هذه العقيدة. فدخلت صنعاء، وقابلت الإمام وهي متأصلة فيَّ متمكنة مني، بيد أني جئت اليمن، ولا أرى لي في رجاله وفي شئونه، فلو ألفيتهم كالمصريين أو كالعراقيين لكان حديثي مع الإمام غير ما ستسمع أيها القارئ العزيز.
وهناك مسألة هي في نظر الإمام أهم من المدارس، وأهم من المعاهدة مع ملك الحجاز، وأهم من سكك الحديد والامتيازات، هي مسألة الحديدة. الحُديدة! لا ينام الإمام سعيدًا مطمئنًّا ما دامت، وهي ميناء صنعاء، في يد الإدريسي والإنكليز، وهي قضية اليمن السياسية الكبرى اليوم.
لا تسل أيها القارئ كم كان سرورنا عظيمًا عندما دخل أحد الحجَّاب في اليوم السابع يبشرنا بقدوم الحضرة الشريفة، جاء الإمام يزورنا في منزلنا، والحمد لله مُزيلِ الشكوك من قلوب عباده. دخل يحمل السيف، وظل مَن رافقه من الحرس في الرواق. هو يلبس ثيابًا قطنية من نسيج اليمن، وليس ما يميِّزه عن أحد السادة غير العمامة شكلًا لا لونًا، وذؤابتها الطويلة. وسادات اليمن مثل أشراف الحجاز، وتجَّاره يلبسون غالبًا الأجربة، والأحذية لا النعال. بادرنا أنا والرفيق إلى الباب نستقبل الزائر العظيم، ودخلنا وراءه فأمر أن نجلس على الديوان، وجلس هو أمامي على كرسي، وسيفه بين يديه.
أما الحديث فأنقله من يوميتي، وقد كتبت خلاصته توًّا بعد المقابلة. فما اتكلت على الذاكرة آنئذ، ولا أتكل عليها الآن، ليتيقَّنَ القارئ صدق الرواية.
قلت: لست بأجنبي يا حضرة الإمام، بل أنا منكم، من العرب. ولا يُخدَع من كان يجيد التفرُّس مثلكم. انظروا إليَّ؛ إن قصتي كلها في وجهي، فإذا رأيتم ما يريبكم، أو ظننتم فيَّ شيئًا من التلبيس، فمروني فأسكت، وأعود غدًا من حيث أتيت.
فاعتذر حضرته عن التأخر بما لديه من كثير الأشغال، وأعاد الكلمة التي وقفنا عندها في المقابلة الأولى عندما دخل الزائرون — هل عندكم كلام مضبوط؟ فقلت: غير ما توجبه الوطنية العربية، وتثبته المشاهدة لا نُسمعكم — إن شاء الله. ولكن قبل أن أفيض بالكلام أؤكد لمولاي أن لا علاقة لي البتة مع الإنكليز، ولا مع أميركا، ولست أمثل رسميًّا الملك حسين. أنا مندوب نفسي، رسول فكرة هي بنت علمي ووطنيتي. أما قسطنطين فهو رفيقي بصفة ملازم في الجيش الحجازي. وهنا أعدت ما قلته في المقابلة الأولى عن الغرض من سياحتي، ثم قلت: هذه بالاختصار خطتي في السفر. فإذا ساعدتموني في تحقيقها تعززون يا مولاي مصلحتكم. ما شك أحد حتى الآن في حبي للعرب، وإخلاصي لهم. ولا أظن مولاي وأنا أصارحه كل المصارحة يشك فيما أقول.
فأعاد حضرته الاعتذار، وأكَّد لنا أنه مطمئنُّ البال لا يخامره شيء من الريب في حسن قصدنا. ثم قال: وأسمعني الآن بيت القصيد. فقلت: هما بيتان. الأول أن تتفقوا والإنكليز، والثاني أن تعقدوا معاهدة مع ملك الحجاز. ينبغي لكم يا مولاي أن تفتحوا البلاد للتجارة وللسياح؛ لأن اليمن لا ينجح إذا كان لا يتصل بالعالم الخارجي اتصالًا حديثًا. فلو عقدتم مع الإنكليز معاهدة تجارية ودية دون أن تمس استقلال اليمن بشيء، أو تقيد بشيء سيادتكم، يكون لكم فيها الفائدة الكبرى. وإذا علم الإنكليز بأنكم عقدتم معاهدة مع ملك الحجاز، وأنكم اتحدتم لتعزيز شئون البلدين، ومصالحهما المشتركة، يتسامحون في بنود المعاهدة معكم رغبة في عقدها. إني أظن يا مولاي أن اتحادكم والحجاز يساعد في حل مشكل الحديدة على طريقة ترضيكم. بل أعتقد أن الحديدة، وهي ميناء صنعاء التاريخية والطبيعية، تعاد إليكم إذا استعضتم عن السيف بالسياسة. استمروا في مفاوضتكم والإنكليز، واعقدوا المعاهدة أو التحالف مع الملك حسين. ولا يخفى على مولاي أنه إذا فتحت بلادكم للتجارة، وهي من أسس العمران، فينبغي أن يكون لكم قوة تحافظون بها على استقلالكم وقوميتكم، بل على سيادتكم التامة، محافظتكم على الأمن والسلم في البلاد. وأما عزلتكم اليوم، فإذا دامت تتلاشى فيها قوتكم. إنكم تبذلون أموالكم وحياة رجالكم في الحروب الدائمة، وفي الاستعدادات الحربية التي هي شيء من الحرب. إن عندكم اليوم قوة مسلحة يا مولاي، وهذا لا يكفي، فالأمة تحتاج إلى ثياب تقيها البرد، وإلى تعليم يقيها الجهل والمرض، وإلى تجارة تقيها الفقر والشقاء. ولا تنال ذلك إلا بالسلم وبالعلم. لست ممن يدعون إلى حرب بين الشرق والغرب، ويستبشرون بها، بل من مبادئي وآمالي أن تتحسن العلائق بين الفريقين. وإني أشتهي أن تكون البلاد العربية مستقلة استقلالًا تامًّا. ولكني أغار عليها من الجهل يا مولاي كما أغار عليها من دسائس السياسة الأجنبية. وما السبيل إلى التخلص من الاثنين إلا في اتحادنا، في اتحاد ملوك العرب وأمرائها اتحادًا لا يقدح بسيادة كل منهم، ولا يجحف باستقلالهم التاريخي، أضعفتم أنفسكم بالحروب، قتلتم البلاد بالحروب، أفما حان لكم أن تجربوا طريقة أخرى، طريقة السلم، والتفاهم والتحالف؟
كان الإمام وهو مطرق يصغي لما أقول، ويهز رأسه مبتسمًا من حين إلى حين ابتسامة فيها دهش، وفيها استحسان. ولما وقفت عند هذا الحد رفع رأسه، وقال: كلامك مضبوط، ولكن الإدريسي حليف الإنكليز وعدونا؛ يأخذ منهم المال والسلاح، ويحاربنا بها، وهو بيننا وبين الحجاز المانع الحاجز.
– هو ينضم إليكم عندما تتحدون، لا يقف الضعيف عدوًّا بين قويين.
– ولكن الإنكليز يساعدونه.
– الإنكليز يا مولاي لا يستمرون على مساعدة الضعيف إذا استقوى خصمه إلى حد أدعوكم إليه — إلى حد فيه تتم المحالفة اليمانية الحجازية. فهم إذ ذاك يغيرون سياستهم أو يعدلونها، ويسعون في عقد معاهدة صداقة، وتجارة معكم كلكم. وأي ضرر يا ترى في اتحاد الحجاز واليمن وعسير، وفي عقد معاهدة ودية تجارية بينها وبين بريطانيا؟ أما الحديدة فتعاد إذ ذاك إليكم، ويسترضي الإنكليز صديقهم الإدريسي بما فيه توسيع حدوده شمالًا أو شرقًا في الجبال؛ لأن بلاده اليوم إن هي إلا أساكل متعددة، فهو لا يحتاج إلى أسكلة أخرى، وعنده اللُّحيَّة، وميدي، وجَيْزان، والصَّليف، بل يحتاج إلى أرض مخصبة، وبلاد في الداخلية تساعد على تعمير الأساكل. إذا تم اتحادكم سهل إذ ذاك تحديد الحدود بين الأقطار الثلاثة.
فقال الإمام: ناهي، نحن لا نعادي الإنكليز بالرغم من سياستهم. وقد عهدنا إلى وكيلنا العرشي بعدن أن يفاوضهم، ولكن لم تثمر المفاوضات حتى الآن. هم يماطلون ويسوِّفون، ونحن صابرون.
– لا يسوفون إذا عقدت المعاهدة بينكم وبين الحجاز، وعلموا بها، وكان قد نفد صبر القسطنطين وهو يتحفَّز للكلام، فقال مخاطبًا الإمام: بل يعيدون الحُديدة إليكم. وإذا أبوا فنحن إذ ذاك نضرب الإدريسي من الشمال، وأنتم تضربونه من الجنوب، فتأخذون الحديدة منه كرهًا، وترغمونه فيضطر أن ينضم إلى المحالفة.
لم يقف القسطنطين عند هذا الحد بالرغم عن إشارتي وتحذيري السابق، بل أمعن في موضوعه الخاص المحبوب، فشرع يخطب خطبة حربية، ساد فيها صليل السلاح الحديث، وهدير الطائرات. فخفت منها على بناء السلم الذي أبنيه. وقد تأثرت من لهجة الرفيق وتهوره، وأعدت بعدئذ عليه ما طالما قلته في مواقف شتى. وهو أني رسول سلم لا رسول حرب أو ثورة في البلاد العربية. وقد جئتها مبشرًا بالعلم والتمدين، لا بالوحدة العربية، وحدود ابن عباس كما يفهمونها في الحجاز.
لا، ما جئت لأنصر جهلًا مسلحًا، وأعزز تعصبًا يفتخر بوحشيته. نبغي الحرية والاستقلال، نعم، ولكننا نبغي المدارس أيضًا، والطباعة، والمستشفيات، ونبغي النظافة في المعيشة، وفي اللباس، وفي المسكن.
إن حضرة الإمام بعيد النظر، ثاقب الفكرة، طويل الأناة. فمهما كان من صياح أمراء جيشه وتبجحهم — نشتهي عدن — دعنا نزحف على عدن، فنأخذها بعشرة أيام! — فهو يسير في جادة التؤدة والحصافة. وقد أحسست بميل فيه إلى السِّلْم أكيد بالرغم من استعداداته الحربية كلها، على أنه — كما قلت — طماح يحلم حلمًا سياسيًّا باهرًا، ويعد لتحقيقه العدات، ويجمع الأموال، الذهب والفضة، ويخزنها لذاك اليوم العظيم. وإن لعدن مرقدًا، ولا شك في حلمه، وعَلَمًا في محيط علمه، كيف لا وقد كانت في الماضي زينة بلاده، ودرة في تاج أجداده. إنما هو يعلم ما يعترضه من العقبات، ولكنه لا يعلم على ما أظن ما للأمم الشرقية والغربية في عدن اليوم من المصالح التجارية والمالية، وقد أصبحت من أهم مراكز الاتصال بين الشرق والغرب. سألت أحد السادة العلماء: في عدن كثير من الأجانب، فكيف تعاملونهم إذا أخذتموها، فأجاب سيادته: يدفعون مثل اليهود الجزية! ولكن حضرة الإمام، وهو الرفيع الجناب، الوسيع الرحاب يسمع كلام السادة، وأمراء الجيش، ويخرج إلى الساحة ليسمع شكاوى الناس.
وكأنه سمعنا نئنُّ، سمع النفس الصامتة تشكو الأسر، فأذن لنا في ختام تلك الجلسة بالتطواف والتنزه، وكان يرسل الخيل أحيانًا لهذه الغاية، فيرافقنا بعض الجنود حيث نشاء. بيد أننا، وإن كنا قد سررنا بهذا التعطف الأمامي، عدنا بعد بضعة أيام دون كلمة أو إشارة من حضرته إلى الريب المؤلم والظنون. وقد كان ظني — سامحني الله — أن القسطنطين أفسد علينا الأمر بخطبته الحربية، وأفقدنا ما أحرزناه من ثقة الإمام. ومما زاد في الطين بلة أن الرفيق — ونحن في تلك الحال — شرع ينظم القصائد في مدح الحضرة الشريفة، وفي مدح سيفها ومظلتها وقصورها … إلخ. فرُحت أنا أبحث في المدينة عن ترياق لسم الجزع والقنوط.
أزال الخط كل ريب بأننا مأسورون، وتيقنَّا أن الحجَّاب في الباب لا يأذنون بالدخول إلينا إلا من كان حاملًا براءة من الإمام. فكان السيد أحمد الكبسي أول من حظي بهذا الإنعام، وهو من سادات اليمن المستنيرين المتساهلين الراغبين في فتح كوات في سور العزلة، يطل منها اليمن على العالم؛ فيستنشق هواء المدينة دون أن يعرض بنفسه لرياحها الشديدة، ومجاريها المضرة. والسيد أحمد جسيم وسيم، بطيء الحركة، خفيف الظل، فصيح الكلمة، لطيف الإشارة. وله عين في الفتن السياسية ثاقبة اللحاظ، وعينان في كشف الحقائق التي فيها خيره وخير الإمام. أما سواها فهو لا يراها، ولا يشتهي أن يراها.
في ١٦ رمضان الكريم:
لقد هيَّج فيَّ القسطنطين نهمة إلى الشعر كانت راقدة، لطالما تاقت النفس، وتشوقت العين إلى شيء يخصني من ذاك العنوان الجليل في الدواوين، وقال يمدح فلانًا. ولكني بدأت في النظم وفي الهجاء معًا، فقلت وأنا في صنعاء أهجو سيدي وصديقي السيد أحمد بن يحيى الكيسي، قدوة السادات الكرام، وأحد أركان مولانا الإمام:
(١١) المخيم المنصور
إن للدين تأثيرًا في الأخلاق وفي العقول. فإنك لتلقى امْرَأً ذا فكر وقاد، ونظر نقاد، سليم الذوق والعقل، كبير النفس والخلق في كل أعماله وأقواله إلا ما كان له علاقة منها بدينه ومذهبه. فتلقاه إذ ذاك سخيف الفكر وإن ضنَّ به، سقيم الذوق وإن عالجه بالأعذار، وحلو الكلام، عقيم العقل وإن أغرق في الاجتهاد، قليل الثقة بالناس وإن عظم إيمانه بالله.
خذ البروتستانتيين مثلًا، فإنهم بوجه الإجمال أسلم عقيدة، وأوسع حرية في العقليات من الكاثوليكيين. ولكن في البروتستانتية مذاهب تضيق عندها جادة الحياة، وتربَدُّ آفاق الطرب والسرور، فلا يُحب لذلك تَقِيها، ولا يُرغب في مجلس عالمها، وقلما يطاق قسيسها إذا كان من الطراز القديم. بينا أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية، وإن ضيقوا على العقل وقيدوه، لا يطفئون أنوار اللهو والسرور في جادات الحياة.
إن الزيود مثل بعض البروتستانت عقيدة وعملًا. وإن إمامهم الأكبر في سلوكه الديني، وأحكامه المذهبية ليذكرني بذاك القسيس المحترم الذي يحمل الإنجيل في جيبه، والعالم على منكبيه، فيسعى، والغم مخيم فوق حاجبيه، في نشر كلمة الرب في الناس، إلا أن الإمام يختلف عنه في أنه شرقي عربي يحسن الضيافة والمؤانسة، ولا يحزن عليك إذا ظنك في ضلال، ولا يقف مبشرًا بين يديك.
إنك لا تجد في ملوك العرب من هو أعلم من الإمام يحيى في الأصول الثلاثة: الدين والفقه واللغة، ولا من هو أكبر اجتهادًا، وأغزر مادة منه، وهو أوسع نظرًا من بعض ساداته العلماء الذين لا يزالون يعتقدون بسطحية الأرض، وله ذوق في الشعر والأدب فيقضي بعض أوقاته في المطالعة: بل هو الشاعر الوحيد في حكام العرب جميعًا. قد أشرت إلى قصيدته المشهورة التي يدعو فيها إلى الوحدة الإسلامية، وسيطلع القارئ على شيء من رقيق شعره أيضًا.
ولكني الآن مثبت ما قلته في تأثير الدين أو بالحري المذهب في الإنسان ليسمح لي حضرة الإمام إذن، وإن كنت موضوع إكرامه وضيافته، بالإشارة إلى ما يعد نقصًا في الضيافة والإكرام. لم أكن لألمس هذا الموضوع بكلمة لولا أنني أحسب نفسي من العرب، وأنتسب مثله إلى قحطان، فأغار عليه وعلى شريف تقاليد العرب من انتقاد الغرباء جنسًا ودينًا في مثل هذه الأحوال. فهل يخل بقاعدة من قواعد الزيدية إذا آكل ضيفه الأجنبي، ولو مرة واحدة؟ أو ليس «الخبز والملح» من شروط الضيافة عندنا؟ وإذا كان الضيف عالمًا تلذُّ له مطالعة الكتب، وخصوصًا المخطوطات القديمة، فهل يهدم حضرة الإمام ركنًا من أركان الدين إذا أطلعه على بعض ما عنده منها.
أما إذا استأذنه الضيف بأخذ رسمه فيأبى، ثم يأذن بتصوير الجنود وهم زيود، فلا أظنه على طول باعه في الاجتهاد يستطيع أن يوفق بين الأمرين، على أن آلة التصوير لم تنجح في ما أباح فلم تصح وا أسفاه من صور الجيش صورة واحدة. وقد كنت فيما منع مصرًّا؛ لأني كرهت أن أعود من صنعاء، وليس لدي من طلعة الإمام الشريفة غير الذكرى والخيال. فاستعنت بالقليل مما عندي من فن التصوير، واغتنمت الفرصة ذات ليلة كنا في ديوانه، وكان هو يشتغل فدرست وجهه، ورسمت عندما عدت إلى المنزل ما حفظت منه، فكان الرسم الذي تراه صادقًا بشهادة من عرف الإمام.
العفو يا مولاي. إننا في زمن يحل الرسم فيه غالبًا محل الكلام، وله في أحوال شتى المقام الأول. فضلًا عن أن الناس — غربيين كانوا أو شرقيين — يرغبون في مشاهدة كبار السن، فإذا حرموا ذلك فلا يحرمون، بفضل الرسامين والمصورين، رؤيتهم في الكتب والمجلات.
وإن كاتبًا يتشرف بمشاهدة كبير من ملوك العرب ليقصر في واجب التصوير، كلمة ورسمًا، إذا كان لا يصفه في ديوانه. وديوان الإمام يسمى «المخيم المنصور»، وهو يشتغل فيه كل يوم كأحد كتابه، بل أكثر من جميع كتابه، ها هو جالس على الفراش الأسود فراش الملك وفراش الإدارة، في فمه «تخزينة» مضغة من القات، وعلى رأسه عرقية نسيجها أسود تتخلله خيوط صفراء، وقد نزع سيفه وبردته وعمامته كما ينزع أحد الغربيين القبعة و«الساكوه» تجردًا للعمل، كأني به أميركي كبير يفوز في كل أعماله وهو جالس إلى منضدته يملي على كاتب سره.
أجل، إن الإمام يحيى هو الملك العربي العامل بثبات ونشاط وإدارة قلما تجدها في زملائه، ديوانه بسيط، قريب من الأرض، لا رفعة ولا ترفع فيه، يجلس متربعًا وأمامه منضدة صغيرة وورق وأقلام وحبر، ويجلس إلى يمنيه كاتبه الأول القاضي عبد الله العَمْري، وإلى يمين القاضي ثلاثة من الكتاب رءوسهم فوق أيديهم، وأيديهم على ركابهم يكتبون. وقبالتهم من زملائهم ثلاثة آخرون، وفي وسط الديوان جنديان جالسان أمام الإمام، بيد أحدهما الختم الإمامي والمحبرة الحمراء يختم الرسائل والخطوط والأوامر التي تدفع إليه، وبيد الثاني رزمة من القات ينتخب منها أوراقًا يقدمها لسيده الأكبر.
يُفتح الديوان في شهر رمضان مثلًا الساعة الثامنة مساءً، فيجيء جندي ببريد اليوم، بعرائضه ورسائله وتقاريره، ويضعها أمام القاضي عبد الله موزع الأعمال ومديرها، فيفضها فضيلته، وهي كلها لفافات كالسواكير صغيرة وكبيرة، ويقرأها واحدة واحدة، ويأمر هذا الكاتب أو ذاك بالجواب على ما يستطيع البتَّ فيه دون الإمام، ثم يقدم له ما يستوجب النظر الإمامي فيأمر بما يجب في شأنها، وهو يطلع على ما يكتب في الديوان، ويعلق عليه بحرف ﻫ إثباتًا، أو بكلمة سلام، وغالبًا يؤرخه بخطه، ويدفعه إذ ذاك إلى مأمور الختم فيختمه ويرمِّله، ثم إلى من يلفه لفافة، ويكتب عليها اسم صاحبها.
الديوان الإمامي أو المخيم المنصور مفتوح دائمًا لبعض السادة يدخلونه دون استئذان فيسلمون ويجلسون ويسكتون، أما الرجل الوحيد المباح له الكلام والصياح فهو الحاجب في الباب، وكثيرًا ما كنا نسمع صوته، ولا نرى وجهه — الوجع بكبدك قلت لك الإمام مشغول ذا الحين … ناهي، ناهي … جوابك تحت الختم … البلا بروحك ظل مكانك … اسكت يا يهودي، البرص يعميك اسكت (أ) درله البندق يا آنسي … على رأسي. حسن الحرازي يا سيدي — لينتظر — هو يشتهي السفر ذا الحين لينتظر — يقول إن العامل … فيحتدم الإمام غيظًا، ويصيح مثل حاجبه وبه — ضربك الله بروحك اسكت. اخرج!
وعند الإمام يحيى أخصائيون يستشيرهم ويستعين بهم. هذا السيد أحمد الكبسي المقدم الأول، العالم بشئون العشائر وأطماع رؤسائها وطغيانهم، قد اقترب من الإمام وفي فمه «تخزينة» عامرة ليهمس كلمة في أذنه. وهذا السيد محمد زبارة أمير القصر، قصر غمدان، ومدير السكة والسجن فيه، يطالع استدعاءً طوله ذراعان ملصوقة أوراقه بعضها ببعض، وهذا «جرجي» أبو الخرطوش يعيد النظر في رسوم قنابل رسمها، ولا يستطيع صنعها في صنعاء قد جثا أمام فراش الملك ورائحة الخمر تفوح من فيه. وكم يلزمنا من هذه؟
فيجيبه الإمام: ألف.
– ومن هذه؟
– ألفان.
– ومن هذا المدفع الهاون؟
– خمسمائة فقط.
ثم يكتب الإمام الطلب بيده، ويدفعه إلى راعي الختم فيختمه ويرمله.
وهو ذا شيخ الإسلام يدخل محنيَّ الرأس فلا ينظر إلى أحد، ولا أحد ينظر إليه، فيتبوأ مجلسه في الزاوية ويأخذ كتابًا مخطوطًا يقلب في صفحاته، فلا يتبرع برأي أو يتلطف بكلمة إلا نادرًا. وهذا، قد انتصف الليل، أحد الموظفين في دائرة السلك «التلغراف» جاء برزمة من ثمار سلكه، فيفضها القاضي عبد الله، ويقدمها بعد أن يطالعها للإمام. هكذا يستمر العمل إلى ما بعد منتصف الليل والإمام ثابت فيه جالس لا يتحرك، إلا أنه يقف هنيهة من حين إلى حين فيضع القلم جانبًا، ويتناول غصنًا من القات بيده، أو يشرب جرعة من الماء، ويتلمَّظ هاتفًا: والحمد لله.
بين الساعة الواحدة والثانية بعد منتصف الليل تدقُّ الطبول، ثم يطلق مدفع السحور فينهض الكتَّاب واحدًا بعد الآخر، ويخرجون متسلِّلين دون استئذان. أما الإمام وكاتبه الأول فيثابران على العمل حتى الساعة الثانية بعدها؛ ذلك لأن من مبادئه ألَّا يؤجل إلى الغد ما يستطيع إنجازه في يومه، بل من قوانين الديوان ألَّا يؤجل إلى الغد شيء من أمور اليوم، فيجب أن ينظر في كل ما يرفع إليه في اليوم الواحد؛ لذلك ترى الإمام وكاتبه الأول الأخيرَين غالبًا في الخروج من الديوان.
والإمام يحيى — على ما هو فيه دائمًا من أشغال الملك وهموم الإمامة — يستطيع حتى في رمضان أن ينظم الشعر. أجل، قد نظم قصيدة يدافع فيها عن القات، وكان الداعي إلى ذلك ما أوحي ذات يوم بوساطتي تحت شجرة الجوز إلى الرفيق قسطنطين. قلت: يا قسطنطين، قد طفحت صنعاء بخمر قصائدك، وكلها مديح وتباريح، فما نجا أحد، حتى ولا ولد الساقية، ولا مدفع رمضان، من قوافيك العسلية. فلماذا لا تغير النغمة والحنان، وتستبدل القيثارة بالسندان؟ إني مشتاق إلى قصيدة هجو منك. فأجاب الرفيق: أتريد أن أهجوك؟ فقلت: إنك تفعل كل يوم، وقد أصبح هجوك إياي مثل مدحك الإمام مبتذلًا. فقال: أتريد أن أهجو الإمام ونحن ضيوفه؟ فقلت: أشتهي أن أسمعك هاجيًا. اهجُ — اهجُ — ولم أدر إذ ذاك ما يستحق في تلك البلاد التخصيص والتفضيل، ولكني سمعت صوتًا في الجوزة يقول: لينظم قصيدة يهجو فيها القات.
فنهض الزعيم الشاعر في الحال، وبادر إلى القلم والسيكارة، وجلس في البستان، ثم قام يتمشى حول الشاذروان، ومنه وثبًا إلى الديوان. وبعد ساعة في الزاوية والعرق يتصبب من جبينه الملتهب، قام والقصيدة بيده يكرمني، يجربها فيَّ على عادته:
إلى أن قص القصة التي يروونها في اليمن. أضاع الراعي شاة من غنمه فراح يبحث عنها، فرآها نائمة في فيءِ صخرة، وورقُ القات في فَمِها، فجرَّبَه مثلها فاستعذبه:
وبعد أن يصف كيفية استعماله في اليمن، ويعدد الفضائل التي يرَونها فيه يضع القيثارة جانبًا، ويرفع المطرقة فوق السندان:
ثم التاريخ، ولا بد منه في قصائد القسطنطين؛ لأنه أشد من عرفت من الشعراء شغفًا به، وأسرعهم في نظمه. وقد اقترن المعنى بالصناعة في تاريخ هذه القصيدة اقترانًا طبيعيًّا، وفيه الضربة القاضية:
أما النفحة الثانية من جنان الوحي، فهي أننا رفعنا القصيدة إلى حضرة الإمام مشفوعة بكتاب نقول فيه: إذا كان أحد من شعراء صنعاء يبغي المعارضة والدفاع، فليسرع قبل أن يرحل الشاعر. وكان أسبوع في عاصمة حمير، والأذواء أُضرمت فيه نار القوافي، فوردت علينا المحروقات منها المهلكات. أجل، قد جاء أحد الشعراء وقصيدته في خنجره، يشتهي دم الشاعر الكبير الذي تجاسر أن يذم القات، وما ذمه، وهو ذا ذنبه الأكبر، بغير المبتذلات الشعرية والركاكات: فأوقفه لحسن الحظ الحارس، ولم يأذن له بالدخول، وبعد بضعة أيام جاءنا من المخيم المنصور، من الإمام نفسه، كتاب في غلاف مختوم، على غير العادة اليمانية «ففضضْناه»، فإذا فيه قصيدة من نظمه وبخطه الشريف، وفي القصيدة خلال الدفاع عن القات من الغزل والدماثة والاتضاع. تلك روح الشاعر الحقيقي — ما يزيد الناظم رفعة ومجدًا، ويزيد المعجبين به حبًّا وإعجابًا. وما أجمل العذر والتواضع في الكلمة التي ذيل القصيدة بها.
الزعيم قسطنطين.
صدر ما يشبه الجواب، ومهما رأيتم قصورًا فلا عتاب، مع كثرة الأشغال وتبلبل البال.
قال في مطلع القصيدة — نفعنا الله بمزاياه الحميدة: إن للقات مزايا لا يحصيها الإسهاب، فيذكر عشرًا منها فقط:
•••
في البيت هذا يظهر الأديب العالم في الإمام فيقربه من كل من آثر الكتاب جليسًا، إلى أن قال:
إن في الأبيات الأخيرة من الدماثة والخفة والتواضع ما يستحبُّ في أصغر الشعراء وأكبرهم. فكيف به في أحد كبار الحكام والأمراء؟
(١٢) الزيود واليهود
هيوا على الصلاة! هيوا على الفلاح! وكان المؤمنون يجيئون إلى منزلي يصلون: الحاجب، والحارس، والسيد، والخادم، والعشي، والبستاني، وولد الساقية الذي يغني إلى جمله من الشروق إلى الغروب: صدر البُنَيَّة بستان وأنا زرعته، كانوا كلهم يجيئون خاشعين فيتوضئُون في بركة الشاذروان، ويفرشون حولها في ظل شجرة الجوز بردة أو إحرامًا، ويصلون صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء. ما رأيت ولا عرفت أناسًا يصلون مثل هؤلاء الزيود، وما قرأت في التاريخ عن أناس كانوا يصلون مثل هؤلاء الزيود، ولا أظن أن صلاة تصعد من فم بشر فتذهب كالهباء المنثور مثل صلوات هؤلاء الزيود.
كان في البيت إزاء بيتنا الوفد الفرنسي الذي وصل إلى صنعاء يوم كنا هناك، وكان أحد الخدم يجيء ليأخذ لهم ماءً من الشاذروان، فسألته مرة: لمن الماء؟ فقال: للخنازير النصارى. فقلت: أليس في بيتهم ماء للغسل؟ فقال: هم يشتهون الماء للشرب. فقلت: أتسقونهم من هذا الماء، من ماء الشاذروان؟ فراح يحمل الجرة ويقول: خنازير نصارى لا يستحقون أحسن منه.
ويجيء هذا الزيدي فيتوضأ في البركة، ثم يفرش بردته تحت أغصان الجوز، ويتجاسر أن يخاطب «الرحمن الرحيم … رب العالمين»، ويضرع إليه ليهديه «الصراط المستقيم»، ويجيء البستاني كل يوم فيفتح بركة الشاذروان ليفرغها فتجري مياهها في بستان مهمل، أرضه طيبة، لم يزرع فيها إلا شيء من البصل واللوبياء والبرسيم. كنت دائمًا عندما أرى البستاني في عمله وفي صلاته آسف على الماء الغزير الذي يكفي ليروي حقلًا وسيعًا، ولا يستخدم إلا لري ثلم من البصل، وعلى الصلوات الفائضة التي لا تروي في قلب الزيدي غير حقلٍ زرعه البغض والتعصب.
أي أخي الزبيدي، ما الفائدة من الصلاة وليس في قلبك غير البغض؟ بغض العالم خارج اليمن، وبغض الخنازير النصارى، وبغض اليهود في بلادك، حتى وبغض الشوافع إخوانك في الإسلام. إن صلواتك وماء الشاذروان سواء، وإن في الاثنين بركات لو نشطت، وعقلت، وكنت كريمًا. فلا تضع إذ ذاك ماء بلادك في الأرض البور، ولا تسق ماء وضوئك الناس، ولا تسمع ربك كلمات التجديف في معرض الخشوع والابتهال.
جاءني ذات يوم الحارس أحمد، وفي عنقه ورم والتهاب. فدهنته بصبغة اليود مرتين، فشفي وعاد يشكرني. فقلت: يجب أن تشكر الخنازير النصارى؛ لأن هذا الدواء اختراعهم، صُنع في بلادهم. فقال: جزاهم الله خيرًا، والله يا أمين — ورفع يده ورأسه إلى السماء — عينه ترى كل شيء، ورحمته تسع كل الناس، ثم جاء آخر وثالث ورابع يحملون إليَّ الآلام من جرح أو قرح. وكنت كل مرة أعالجهم أذكرهم بأن شفاهم من الله، ثم من أولئك الخنازير النصارى الذين اكتشفوا الأدوية والمخدرات — بعد أن تعلموا الطب من أجدادكم يا أجهل العرب — ليزيلوا الأمراض، ويخففوا الآلام البشرية. وكانوا، وقد جاءوني زيودًا، يرجعون مسلمين إلى الديانة السمحاء التي يقول صاحبها: الإنسان أخو الإنسان أحب أو كره.
ولما عاد خادم الفرنسيين ليأخذ الماء من الشاذروان انتهره الحارس أحمد، وهزَّ إليه العصا. والله بالله إذا سقيتهم من الشاذروان أشكوك إلى الإمام. ما سررت بشيء في صنعاء سروري بعصا أحمد وكلماته؛ فقد برهن الانقلاب السريع في نفسيته ونفسية إخوانه في الزيدية وفي الأوجاع على أن بذرة الصلاح التي زرعها الله في قلب كل إنسان لا تزال طيبة في قلوبهم، ولا تحتاج إلا إلى عمل أو كلمة تحرك فيها الحياة، وترويها بماء المكرمات. أما التبعة في رقاد تلك البذرة وخمودها فعلى السادة الذين لا يرغبون في تعليم عامة الناس. وإذا علموهم شيئًا فمزيجه الأكبر التعصب والطاعة للرؤساء.
وليس اليهود في مذهب الزيود وفي جهلهم أقل من النصارى استحقاقًا للكره والاحتقار. كان الجندي حزام، أحد من مشى معي في المدينة حراسة وإكرامًا من قبل الإمام، يضرب بقبضة بندقيته كل يهودي يمر به — ابعد — يا يهوده ضربك الله بروحك! زادك الله عماوة يا يهوده، أخلِ السبيل! وقد لا يكون المسكين في الطريق. ولكن حزامًا وهو شغف بحب اليهودي يراه على مسافة قادمًا نحونا ماشيًا بعيدًا عنا فيبادر إلى ملاقاته بالبندقية واللعنات، وهو يظن أنه يرضيني بذلك، ثم يبصق عليه، ويهتف قائلًا: لولا الإمام. بلى، لولا عدل الإمام لكان يذبحه ذبحًا، فهددته مرة — وكان قد نفد صبري عليه — أني أشكوه إلى حضرة الإمام إذا استمرَّ يفعل هذه الفعلات؛ فصار بعدئذ إذا رأى ذا السوالف قادمًا في جهة من الطريق يسير هو في الجهة الأخرى، وإذا مرَّ به اتفاقًا يميل بوجهه ساكتًا صابرًا كأنه لم يره.
وكان السيد محمد، رفيقنا من ذمار إلى صنعاء، أحد الأماجد الذين لا يتجاوز عددهم الستة المأذونين بزيارتنا، الحائزين على ذا الإنعام من حضرة الإمام، فاستصحبته مرة إلى قاع اليهود، أي حيهم، وهو مدينة معتزلة بينها وبين بير العزب ساحة كبيرة مثل ميدان الشرارة الكائن بين صنعاء وبير العزب؛ فزادني بذوي السوالف علمًا، وبالإمام يحيى إعجابًا.
أما اليهود فهم راضون بهذه الحال. هم راضون شاكرون ما دامت الجزية، وهي تافهة تخلصهم من التجنيد، وهم لا يزالون منذ عهد نجران الزاهر على عاداتهم وتقاليدهم ودينهم الذي يلقنونه أولادهم باللغة العبرية القديمة. فلم يدخل عليهم من جديد، أو بالحري من غريب، غير لقب حاخامهم الأكبر الذي منحه إياه الترك، فهو يُدعَى حاخام باشا.
قلت: إنه لم يكن أحد ليدخل منزلنا إلا بإذن من الإمام. ولكن يهوديًّا كنت قد اشتريت منه في السوق بعض النقود الحميرية، وأوصيته على غيرها أدهشني ذات يوم بوقوفه فجأة أمامي في الديوان. فظننت أن الحارس حزامًا نائم أو غائب، وإلا فكيف يأذن له بالدخول. سألت اليهودي فقال: هو في الباب. فقلت: ألم يرك داخلًا؟ فأجاب بالإيجاب وسكت، فاشتريت منه ما اشتريت، ودفعت المال.
مشى اليهودي مسرورًا والمال في جيبه حتى وصل إلى الباب فأوقف هناك، فرأيت حزامًا ويده على تلابيبه، والبندق مرفوع باليد الأخرى، ورأيت اليهودي ويده في جيبه يخرجها، ويقاسم الزيدي ما قبضه مني من المال، إلا أني لم أتحقق مصدر الخلل. ولولا علمي بتفوق الزيود واحتقارهم اليهود لقلت: إن ذا السوالف رشى أبا النيل ليأذن له بالدخول والمتاجرة، وقد يكون ذلك، ثم رفض أن يدفع ما وعد به، فقبض أبو النيل على عنقه، وابتزَّ منه ليس نصف الربح بل نصف المال كله. وقد يكون الزيدي في تغاضيه عندما دخل اليهودي، نصب له الشرك الذي وقع بعدئذٍ فيه، كأنه قال لنفسه: القنص للقناص؛ ليربح من ضيف الإمام، وأنا أربح منه. إن بيت الأول من زجاج مصوغ، وبيت الثاني من زجاج بسيط. الواحد يحب المال، والثاني يشتهي «الظلط»، وهل في حب المال ما يُستنكر، ومولانا سيد المحبين؟ وهل في الاقتصاد ما يستقبح، وهو في علم الاقتصاد الأستاذ الأكبر؟
أظن أن الإمام يحترم اليهود ويحميهم ويقيم فيهم العدل، فيأمر بذبح الفدان إذا أهينوا؛ لأنهم المثال الحي لما هو عنده من قواعد الحياة في مقام الإيمان. المال، المال، والاقتصاد بالمال. فإذا كان اليهود في عهده آمنين مطمئنين، وفي تجارتهم ناجحين، فالزيود وقد حرمهم «الظلط» أمسوا من أمهر الاقتصاديين، والناس على دين ملوكهم.
إن أول ما شاهدت من مظاهر الاقتصاد المدهشة في اليمن طريقتهم في المراسلة ورفع العرائض. فلم أدرِ ما تلك القصاصات المكردسة التي رأيتها لأول مرة أمام منضدة أمير الجيش في ماوية إلا بعد أن وَصَلَنا منه، ونحن في إب، برقية مكتوبة في إدارة السلك على شقة من «كابون» الدولة العلية. ثم وصلنا ونحن في زمار من عامل إب برقية أخرى مكتوبة على قصاصة من معروض بالتركية مرفوع إلى جناب قائمقامية حراز العالي. فالإمام يحيى الذي غنم من الترك المدافع والسلاح احتفظ بما تركوه من الأوراق والدفاتر والكابونات والمعاريض، ولم يأمر بتقطيعها وباستخدامها في إدارة السلك فقط، بل في دوائر الحكومة كلها حتى وفي المخيم المنصور.
إنه ليندر استعمال الغلاف في اليمن إلا في المراسلات الرسمية الخارجية. أما في البلاد وبين أهله فالغلاف هو الرسالة، والرسالة هي الغلاف. يجيئك الرسول بلفافة صغيرة مثل السيكارة فتفكها، فإذا هي رسالة من حضرة الإمام، وقد تكون بخطه الشريف، فتقرأها ثم تنظر فيما لها من هامش فتقطعه وتجاوب عليه، وتلف الجواب سيكارة، وتعيدها مع الرسول. وإذا أسرفت في الورق، وأضعت مقدار ختم منه دون أن تسوِّده توبخ على ذلك، وقد تعزل إذا كنت موظفًا في الحكومة. أما إذا جاءك كتاب في غلاف فتثقه، وتستعمل ظهره للمراسلة، وإذا كانت الرسالة من صنوٍ، وهي على قدر بطاقة الزيارة تعيدها إليه، والجواب في المكان الأبيض منها، سطرًا كنعلة الفرس، أو سطرين كخط المابين.
ومن المستغرب المستعذب أن بعض الناس يرفعون شكاياتهم نظمًا في بيت أو بيتين من الشعر. ومما قرأته من هذه الشكايات سطران من إنسان يشكو حمار جاره في شهر رمضان المبارك. فهو يلبط وينهق كثيرًا في الليل. فصدر الأمر إلى صاحب الحمار أن يقيده ويشكمه بين مدفعي السحور والإفطار.
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم اطلعنا على قصاصة من حضرة الإمام يأمره بدفع مائتي ريال إلى أحد العمال، فقلت له: أتمزق هذه أيضًا؟ فكان جوابه أن مزقها وهو يقول: إذا دفعت ألفي ريال لا أسأل عنها. فقلت: وقد ينسى الإمام فيسألك أن تبرز الأمر، فأجاب قائلًا: لا ينسى ولا يسأل؛ فعجبت لهذه الصلة، صلة الثقة والأمانة، النادرة في حكومات المتمدنين، بين الحاكم وناظر ماليته.
تلك اللفافات وفيها الشكايات نظمًا ونثرًا، إني لا أزال أذكر منها رسالة جاءتني يوم سفرنا من أحد الحراس يقول فيها، بعد أن رفعني إلى الجوزاء وتركني هناك: إن القات في شهر الصوم غالٍ جدًّا، وإن الله لا يخيب أمله «بأمير المحسنين العزيز أمين». وما أغرب ما ترويه هذه الرسائل، وأحزن ما تفشيه، وفيها شكوى اليوم وراء شكوى البارح، وراء الاثنين أو على هامشهما بياض يسوده الغد بما قد يكون أبعد غرابة، وأشد حزنًا.
ولفضيلة الاقتصاد بالورق في اليمن شقيقة أجمل منها، ألا وهي الاقتصاد بالكلام. أنعم بتلك الصراحة والإيجاز، وبما يوجبه الإيجاز من إهمال الألقاب، وعبارات التبجيل. أوَليست الصراحة والإيجاز والخطابة البتراء من مزايا العرب المشهورة؟ ولكنهم فيما دخل من بلادهم في حكم الأتراك كالحجاز مثلًا، وبعض نواحي اليمن وعسير، أمسوا أتراكًا فيما يكتبون، وفي الكثير مما يقولون ويفعلون.
أما في اليمن الأعلى، في غير الرسائل الرسمية، فلا يزالون من العرب العرباء، إلا أنهم إذا كتبوا إلى أمير أو حاكم أو سيد خارج اليمن فلا الترك عندئذ ولا العجم يفوقونهم في فخامة الألفاظ، وضخامة الألقاب. وهاك مثالًا من تباجيلهم. إذا كان المخاطب أميرًا فإلى: قدوة الأمراء الكرام، وعمدة النجباء الفخام، عالي المجد والمقام، فخر العرب والإسلام … وإذا كان إمامًا فإلى: خلاصة الأطهار الأمجاد، وروضة المجد الرفيع العماد، قرة العين والكمال، عنوان الاعتبار والجلال، الركن الأسند والسند المستند … وإذا كان سيدًا بسيطًا فإلى: ذي الأخلاق الزكية، والشمائل المرضيَّة، الهمام المقدام، الرفيع المقام، التقي النقي …
على أنه يسر كل من يكبر في العرب شمائل الأجداد أن يرى في خطوط الإمام إلى رعاياه، وفي عرائضهم إليه تلك الصراحة، وذاك الإيجاز اللذين امتازت بهما قديمًا خطب الأمراء، ورسائل الأدباء. وعندي فوق ما أشرت إليه نموذج باهر في رسالة من صديقي السيد أحمد الكبسي على قصاصة من الورق صغيرة. قال حجب الله عليه: لا عتب على صديقكم، فالليلة هذه تتم الأمور، والسفر يوم الاثنين — إن شاء الله — وسأحضر إليكم الساعة السابعة غدًا.
لكن الأمور لم تتم تلك الليلة، ولا السفر كان يوم الاثنين، ولا شرَّف الصديق في الساعة السابعة أو العاشرة من ذاك الغد. إلا أنه جاءنا في اليوم التالي والطيب ينتشر من أردانه، و«التخزينة» بين أسنانه، و«ظاهر وماشي» تتمشى في بيانه، فقال: أنا مسرور؛ لأن حضرة الإمام أذن بأن تتعشوا عندي، فإلى مساء الغد يا أمين إلى مساء الغد يا قسطنطين. وراح يشكو الصداع ويداويه بالقات وبالآيات.
(١٣) المسألة السياسية الكبرى
الحُديدة كابوس الإنكليز في عدن، وكابوس الإمام في صنعاء. هذا يبغيها، ولا ينفك يطالب بها، وأولئك، وقد وهبوها صديقهم الإدريسي يودون لو كان بإمكانهم أن يهبوها كذلك الإمام. وهناك وعد من وعود الحرب، وبعدها يزيد العقدة شدة في دار الاعتماد بعدن. ما العمل؟ أيمكننا أن نقسم المدينة بين الإمامين: الإمام الزيدي في اليمن، والإمام الشافعي في عسير، فننجو من الكابوس. أوَيستطيع الإمام الأكبر أن يضغط على الإنكليز في جنوب اليمن بفيلق من زيوده، فيضطرهم أن يسلموا بما يطلبه منهم في تهامة؟ إنما هي مسألة المسائل.
الحديدة من المدن العربية المشهورة. كانت عهد الأتراك وقبله ميناء اليمن الأكبر، مدينة تجارتها واسعة، وملاحتها عامرة، وعدد سكانها يتجاوز المائة ألف، وكان الترك ينزلون فيها العساكر لإخضاع أهل اليمن، فمدوا منها الأسلاك البرقية إلى أعالي الجبال، ومنحوا شركة فرنسية امتيازًا بسكة تمد من الحديدة إلى مناخة فصنعاء، فباشرت الشركة العمل بما أرسلته من مواد البناء، فنشبت نار الحرب في أوروبا فقضت على المشروع، وذهبت تلك المواد نهب العربان.
وقد كانت الحديدة أثناء الحرب العظمى لا تزال في يد الأتراك الذين حاربهم اليمانيون أربعين سنة، فانتزعوا منهم القسم الأكبر مما احتلوه من البلاد. ولكنهم في تلك الفترة والَوْا أعداءهم، وهم إخوانهم في الإسلام، فحافظ الإمام على المعاهدة التي عقدها معه عزت باشا، والتي تقدم الكلام عليها في فصل سابق، وظل معتزلًا السياسة والحكم مقيمًا في جبال شهارة. كان يومئذ محمود نديم والي اليمن، وعلي سعيد باشا قائد الجيوش المحتلة، وفي حوزتهما البلاد كلها من لحج حتى صنعاء، ومن اللُّحيَّة على الساحل حتى المخا. أما العرب من شوافع وزيود فقد كانوا على الجملة قانعين بتلك الحال، راضين عن الترك وسلطانهم يومئذٍ المال.
ولما أعلنت الهدنة سعت بريطانيا باسم الأحلاف في إخراج الأتراك من النواحي التي كانت لا تزال في حكمهم في اليمن الأسفل غربًا وجنوبًا، فسلموا في بعضها كلحج دون قتال، وأبوا في الحديدة وملحقاتها إلا الدفاع. فجاءت أولًا الأوامر من عدن بالتسليم، ثم المدرعات لتنفيذها، فضربت الحديدة البلد الآمن غير المحصن، فدمرت قسمًا منها، وقتلت مئات من أهلها، فهرب أكثر الباقين لاجئين إلى الجبال.
ولكن الإنكليز رغم وعدهم المذكور سلموا المدينة إلى صديقهم الإدريسي الذي كانوا يمدونه وهو حليفهم بالمال والسلاح ليحارب الأتراك، عملًا بمعاهدة بينه وبينهم، شبيهة أساسًا بمعاهداتهم الأخرى، وأمراء العرب الذين نصروا الأحلاف. إننا في استقرائنا الحقيقة نسجلها كلها بعد أن نثبتها، ولا نخفي جزءًا واحدًا منها. والحقيقة كلها هي أن ملوكنا وأمراءنا الذين نصروا يومئذ الأحلاف نصروهم لأغراض خاصة، اغتنموا تلك الفرصة لتحقيقها. فكان الواحد منهم إذا ضرب الأتراك ضربة يذخر من قواه وعدته ليضرب أخاه العربي بعدئذ ضربتين وثلاثًا. أجل، قد استخدم الملك حسين مال الإنكليز وسلاحهم على خصمه ابن سعود، فكان من الخاسرين. وحمل ابن سعود على ابن الرشيد فكان من الفائزين. وظل السيد الإدريسي بعد الهدنة، وبمعاونة الإنكليز، يحارب خصمه الإمام دون قصد يُشكر، أو نتيجة تذكر.
قد أبرُّوا ببعض وعدهم فخرجوا عسكريًّا من تلك المدينة، ولكنهم سلموها إلى الإدريسي، وأقاموا فيها من قبلهم وكيلًا سياسيًّا، فضلًا عن أنهم بهذا العمل الذي قيدوا أنفسهم به، وجعلوا الحديدة كابوسًا عليهم قد ظلموا أهل اليمن الأعلى، فسدُّوا عليهم منافذ البحر، وسلبوا صنعاء العاصمة ميناءها الطبيعي التاريخي. فأمست في شبه حصار لا اتصال لها بالعالم إلا عن طريق الإنكليز في عدن.
لم تنقطع المفاوضات أثناء تلك الحوادث بين عدن وصنعاء، وقد أثمرت ثمرة استحالت بعدئذ حنظلًا؛ ذلك أن الكرنل جاكوب، وكان لا يزال المعاون الأول في دار الاعتماد، سعى لدى حكومته أن ترسل بعثة سياسية إلى الإمام يحيى، وزيَّن الأمر لحضرته فقبل به. وكان الكرنل رئيس تلك البعثة التي دعيت باسمه، وسافرت من الحديدة في ١٩ آب سنة ١٩١٩ تقصد صنعاء. بعثة إنكليزية سياسية مؤلفة من مندوبين وطبيبين وترجمانين وكاتب يصحبها خمسة وعشرون من الجنود، وعدد من الخدم والمكارين تسير من الحديدة كأنها قافلة تجارية دون أن تستعلم، وتتثبت أحوال البلاد التي ستمرُّ بها.
إن في تهامة بين الحديدة وعُبال قبيلة من قبائل العرب المشهورة ببأسها وسطوتها، هي قبيلة القحراء التي تحكم فعلًا في تلك الناحية. عربها من السنيين الشوافع لا يميلون إلى الإمام، ولا يحبون الإنكليز، بل كانوا يكرهونهم يومئذ؛ لأنهم ضربوا الحديدة ودمروها، وقتلوا مئات من أهلها، وقطعوا فوق ذلك موارد المعيشة مدة عنهم. وكان القنصل الإنكليزي في الحديدة يدرك ذلك، ولكنه بشهادة العرب والإنكليز أنفسهم رجل أحمق متصلِّف، ظن أنه يستطيع تأديب القحراء إذا تعرضوا للبعثة بما يستعين به من العساكر الإدريسية، فشجَّعها على السير وطمأنها.
خرجت البعثة من الحديدة تجر أذيالها، وهي تحمل — كما قيل — كتابًا خاصًّا من جلالة الملك جورج الخامس إلى حضرة الإمام. وكانت الحملة ومعها الهدايا الثمينة تقدمتها لتجس الأرض، حتى إذا عبرت الحدود آمنة يتبعها أعضاء البعثة مطمئنين آمنين، فمرت بباجل دون أن يعترضها أحد، واجتازت عشرين ميلًا منها إلى عُبال، فباتت تلك الليلة هناك، فتقدمت البعثة تتبعها، ودخلت في الشرك الذي نُصب لها.
وصل الكرنل جاكوب ورجاله إلى باجل، فرحب عرب القحراء بهم، وأنزلوهم ضيوفًا عليهم في بيت كان الأمر فيه بعدئذ لا للإنكليز، ولا للإمام، ولا للسيد الإدريسي، بل لسادات القحراء ومشايخها. وقد روى الكرنل في كتابه خبر ذاك الأسر بما يجدر بشهم إنكليزي من الصراحة والصدق.
قد جاء في كتاب الكرنل جاكوب أن الإمام يحيى أرسل إلى باجل حرسًا مؤلفًا من مائة جندي وثلاثة عشر خيالًا؛ ليلاقي البعثة ويرافقها إلى صنعاء. ثم أرسل محمود نديم ومعه أربعة آلاف ليرة عثمانية؛ لينقذ البعثة، ويمكنها من استئناف السير إليه، «وجاء مندوب سياسي إلى الحديدة يعرض باسم حكومة بريطانيا العظمى خمسين ألف ليرة إنكليزية على مشايخ القحراء؛ ليطلقوا سراح المأسورين»، ثم تدخل السيد الإدريسي في الأمر، فبعث أحد رجاله إلى باجل، فلم يفز بغير ما فاز به من تقدمه من رسل الإمام والإنكليز. ثم طارت طائرة من عدن إلى باجل قصد الإرهاب والترويع، وعادت دون نتيجة تذكر.
لم يلن عود القُحراء، ولم يزعزع ذهب الإمام، وذهب الحكومة البريطانية عزمها، فهي — كما علمنا — لم تأسر الإنكليز لتذلَّهم، وتنتقم منهم، ولا — كما تبين — طمعًا بالمال، بل لتمنعهم عن السفر إلى صنعاء؛ لأنها كانت تخشى اتفاقًا بينهم وبين الإمام. ولو قبلوا أن يرجعوا إلى الحديدة لأذنت بذلك.
أما الإمام يحيى، والسادة في صنعاء فقضوا العجب من هذه السياسة والانقلاب. أتغلب قبيلة عربية حكومة بريطانيا؟ بل الأرجح أنها انقلبت علينا، فإنها وايم الحق تستطيع أن تبيد القحراء، ولو شاءت أن يصل الوفد إلى صنعاء لما ترددت في الوسائل، ولا ادَّخرت من القوة في ذا السبيل.
وكانت النتيجة أن الإمام — وقد رجح انقلاب الإنكليز — بادرهم إلى المعاملة بالمثل، بل سبقهم إلى ذلك؛ فلجأ — بعد أن نفد ذرع السياسة — إلى السيف؛ إذ صدر أمره إلى جيش الجنوب بالزحف على النواحي التسع المحمية، تلك النواحي التي هي جزء من اليمن كما يثبت التاريخ، جزء لا ينفصل عنه كما يقول السادة، وأمراء الجيش. وكأن الإمام في هذه السياسة أو الخطة الحربية يقتدي بالإنكليز، فقد ضربهم في ناحية هي قريبة منه ليخرجهم من بلاد لا يصل سيفه إليها. ضربهم في نواحيهم المحمية ليخرجهم من الحديدة، أو يضطرهم أن يسلموها إليه.
استُؤنفت بعدئذ المفاوضات، وتبادل الإنكليز والإمام الهدايا عملًا بالكلمة العربية المأثورة: تهادوا وتحاربوا. حملت الجمال أجزاء سيارة إلى صنعاء، وسافر معها من يركبها هناك، ويعلم أحد الناس سياقتها، وأرسل حضرة الإمام هدية من البن والخيل، ثم عين القاضي عبد الله العرشي معتمدًا له في عدن.
كان قد مرَّ سنة على هذه الحال عندما كنا في صنعاء، ولم تأت المفاوضات المتوالية بنتيجة تذكر. وإني أذكر كلام أحد رجال الإمام في هذا الصدد. قال: ما كنا نهتدي في رسائل المعتمد المتسلسلة إلى الصريح الثابت من مقاصد الإنكليز. وهم لا يزالون حتى أثناء المفاوضات السلمية يساعدون الإدريسي علينا؛ لذلك أرسل حضرة الإمام إلى المعتمد كتابًا شديد اللهجة فيه صراحة وحق، وقد يؤمر معتمدنا بالرجوع إلى أن تصدر المراجع الإنكليزية العالية النبأ الثابت القاطع في الأمر … النواحي التسع لنا. هي حقنا. والحديدة كذلك لنا. ولا بد من أحد أمرين: إما البر بالوعد من قبل أصحابنا الإنكليز، وإما الحرب. أما إذا قالوا: إن حمايتهم في النواحي التسع مبنية على اتفاق بينهم وبين الترك، فالجواب بسيط: قد عقد ذاك الاتفاق مع دولة كانت متغلبة علينا فحاربناها وغلبناها، وأخرجناها من البلاد، ولا قيمة عندنا لأية معاهدة بينها وبين الإنكليز بهذا الشأن. وكما أخرجنا الأتراك من أرض أجدادنا بالحرب والجهاد نستطيع — بعون الله — أن نخرج منها كل من يشتهي اقتفاءَ آثارهم.
على أن الأتراك بذلوا في اليمن الأموال، ودفعوا المشاهرات للكثيرين من السادة ومشايخ العشائر، فلا بأس إذا اقتفى سواهم هذا الأثر الحميد. والسيد أحمد الكبسي نفسه، الواقف بالمرصاد للإنكليز، والناطق بلسان السادة الأعاويز، يردد أقوال الناس ولهفاتهم، ويتأسف على عهد كانت «الظلط» تكال فيه كالبر، وتبذل بلا حساب.
قد كنت أظن أن اليمن على ما فيه من أسباب التقهقر والخمول، أشرف الأقطار العربية اسمًا، وأنزهها خطة، وأمنعها جانبًا؛ لأنه وحده اليوم مستقل اقتصاديًّا عن الأجانب، أي عن الإنكليز، ويأبى التقيد بشيء من مالهم. وقد طالما سمعت من أفواه العرب المتأدبين المخلصين في وطنيتهم الجاهلين أشياء من أحوال الجزيرة السياسية والاجتماعية، أن اليمن هو تلك البقية الباقية، البقية الصالحة التي لا تنقاد بالسلاسل الذهبية إلى العبودية الاقتصادية. وقد طالما قلت قبل اطِّلاعي على الحقيقة كلها إن هذا اليمن بفضل الإمام الأبر، والاقتصادي الأكبر، غني مستغنٍ، وهي وايم الحق حسنة تشفع بكثير من السيئات. ولكني، عندما وصلنا إلى «بيت القصيد» قضية الحديدة، قلت في نفسي أسفًا: علمت شيئًا وقد فاتتك أشياء.
تلك نكبة نكبت بها آمالي العربية يوم علمت بأن السادة الكرام، ومشايخ حاشد وبكيل، وكل من كان يقبض مشاهرة من الترك ينتظر مثلها، بل ضعفيها من الإنكليز إذا تم الاتفاق بينهم وبين حضرة الإمام. وقد قبلت فيما تعهدت به أن أذكر المشاهرات لدى أولياء الأمر في عدن، على شريطة أن أبدي لهم رأيي الخاص بها. أما الرأي وقد صرحت به في دار المعتمد فهو: أن الذهب مفسد لأخلاق العرب، مفقرهم فوق ما هم فيه من فقر؛ لأنه يزيدهم خمولًا واتِّكالًا. ولا يجوز للإنكليز — وهم مدركون ذلك — أن يستمرُّوا في بذله مشاهرات ومسانهات، لا استغواءً، ولا استرضاءً، ولا استيلاءً.
إن الخطة المثلى التي تستقيم فيها مصلحتهم، ومصلحة العرب هي أن يعقدوا والأمراء عهودًا ودية تجارية، بدون مادة الحماية، مبنية على الثقة المتبادلة، والمصالح المشتركة، وألَّا يكون للسياسة، ولا لإدارة الاستعلامات دخل فيها. لا بأس مثلًا بقناصل إنكليز في جدة، والحديدة، وجيزان، والحساء، وغيرها من البلدان، فيقومون بوظيفتهم ضمن دائرتها المحدودة. ولكن الأمراء وعقلاء العرب لا يستحسنون، بل يستنكرون وجود الوكيل السياسي في بلادهم. إني أرى إلغاء هذه الوظيفة أمرًا لازمًا، اللهم إذا كنا نبغي تحسين العلائق وتثبيتها بين الحكومة البريطانية وملوك العرب؛ لأني عالم بما يؤسف له من أعمالها.
أجل، إنما هي الجاسوسية بعينها، هي هي سلاح السياسة الإنكليزية في البلاد العربية، هي خادمة الوكيل السياسي في تقاريره السرية التي تتناول كل موضوع، وتحيط بكل حال، وتجتاز حتى الحدود التي تقدِّسها التقاليد إلى ما وراءها من الأسرار الاجتماعية والبيتية. مثلًا واحدًا يخرجنا من التعميم. إذا كان أولياء الأمر، وأحد ملوك العرب في مأزق من المفاوضات أو العلائق ضاقت فيه عليهم الأبواب، وكانوا عالمين بأن لذاك الملك أو الأمير عدوًّا من أهله أو من رعيته في بلاده، فهم يسعون إليه بوساطة الوكيل السياسي، فيستغوونه بلقب أو بذهب، أو بالاثنين معًا، ويستخدمونه على خصمهم لتحقيق مقاصدهم فيه.
ولا تخلو مفاوضاتهم مع الإمام يحيى من شوائب هذه السياسة. فإنك تراهم، إذا حدثتهم في الموضوع، يبادرون إلى السؤال عن حاشد وبكيل. هو ذا موطن الضعف في حكم الإمام؛ لأن عرب هاتين القبيلتين في اليمن الأعلى نافرون من الحكومة، متمردون عليها. وليس إلى استرضائهم بوساطة مشايخهم غير المال سبيل. إن حاشدًا على الخصوص مقيمة بالقرب من حدود الإدريسي، والإدريسي صديق الإنكليز وحليفهم، وللإنكليز عنده وكيل سياسي، وكفى. أفلا تراهم ولسان حالهم يقول: إذا كان الإمام يحمل علينا في النواحي التسع المحمية، فنحن نحمل عليه في حاشد وبكيل. ولكن الإمام يحاربهم علنًا في الفلاة، وهم يحاربونه بالتجسس والإغراء.
أما الخلاف بين الفريقين، فمحوره كما ذكرت الحديدة. ولكن مطالب الإمام يحيى تجاوزتها إلى حدود رُفضت في دار الاعتماد، إن موقفه تجاه النواحي التسع، إذا كان مجردًا عن الغرض السياسي الخاص لموقفٌ وطنيٌّ شريف. ولكني أظن أن السياسة تتغلب فيه على القومية العربية، فقد قبل الإمام أن يخرج جنوده وعماله من الضالع والشعيب والأجعود، وبلاد القُطبي التي احتلها، على شرط أن تكون إدارتها، وإدارة اليافع والعوالق، ولحج وحضرموت بيد أمرائها، وليس لحكومة بريطانيا ولا لحضرة الإمام حق التدخل في شئونها، وعلى شرط آخر، هو الأول طبعًا، وهو أن يخلي الإنكليز والإدريسي الحديدة واللحيَّة والصليف، وأن تسلم هذه الأساكل البحرية، وكل ما كان بيد الترك في أثناء الحرب إلى الإمام تسليمًا مطلقًا، لا قيد ولا شرط فيه.
أما الإنكليز فالقصد الأول والأهم في تقربهم من الإمام، وابتغائهم عقد معاهدة معه هو — على ما أرى — أن يبقوه بعيدًا عنهم، وعن عدن، ويكون مع ذلك صديقًا لهم. ليست عدن كما هي ظاهرًا مستودع فحم فقط، ولا هي أسكلة تجارية بين الشرق والغرب، كما يودها بعض الإنكليز المنزهين عن السياسة الاستعمارية، والكرنل جاكوب منهم، بل هي في نظر الحكومة البريطانية أولًا وآخرًا قاعدة بحرية، ومركز حربي خطير. فإذا كانت كذلك فتأمينها أهم ما ترغب الحكومة فيه، وإذا استطاعت أن تؤمِّنها إلى حد تستغني فيه عما تضطر أن تقيم هناك من التحصينات الحديثة والجنود، فلا تقصر في ذا السبيل سعيًا.
ها قد بسطت مطالب الفريقين في أعلى درجة من درجات الوطنية والسياسة. أما ما قد يتنازل كل فريق عنه إلى درجة تقترن فيها المصلحة بالعدل والإنصاف، والوطنية — الإنكليزية أو اليمانية — بالمعقول، فهو لا يزال تحت البحث، ورهين المفاوضات.
(١٤) تتمة المفاوضات
لو كان الفرنسيون الذين غشوا صنعاء يوم كنا فيها يعرفون بعض الشيء من أصول الإسلام، وعادات المسلمين لما جاءوا في شهر رمضان يبغون من الإمام امتيازًا، ومعهم من الخمر أنواع يحتسونها في الطريق وأمام الخدم في عاصمة الزيود. فإن تمسكهم ببعض عاداتهم التي كان ينبغي أن يتنازلوا عنها إكرامًا لأهل البلاد، ولخير أنفسهم لو عقلوا، أثار عليهم ولا شك تعصب الخدم الزيود، فسقوهم وراء الخمر ماء الوضوء من بركة الشاذروان.
قد لا يهم الفرنسيين ذلك، وهم كما ادعوا تجار ينشدون المصلحة. لكن بعض العارفين قالوا: إنهم سياسيون جاءوا يبارون الإنكليز في خطب ود الإمام؛ لذلك لم تأمر الحضرة الإمامية استقبالهم رسميًّا، وعندما وصلوا إلى بوابة صنعاء أوقفهم الحرس هناك ليعلموا الإمام، فأذن لهم بالدخول. ثم بعد ثلاثة أيام حازوا شرف المثول بين يديه.
ولكنهم منحوا ما حُرمناه، وهو الإذن بزيارة «جرجي» مدير معمل الخرطوش. كأن لكل ما يأذن أو يأمر به الإمام معنى خاص يخفى أحيانًا على ضيوفه أصحاب الإنعام.
إن في اجتماع الفرنسيين بجرجي برهانًا واحدًا على أن مهمتهم تتجاوز حدود التجارة، هو ذا معمل الإمام، وهو ذا أحد رجالكم أيها الإفرنج في خدمته، فهو يستغني اليوم عنكم في الذخيرة، وسيستغني عنكم غدًا في السلاح. فإذا عاهدكم فكأقران يتبادلون المنفعة.
أما الفرنسيون فيغارون — كما هو معلوم — من الإنكليز، ويقتفون أثرهم حيثما ضربوا وحلوا. عقد الإنكليز أمس معاهدة مع أمير أفغانستان، فتقفَّاهم الفرنسيون، وأثبتوا أمرهم سياسيًّا وفنيًّا هناك. أحسَّ الفرنسيون أن الإنكليز يبغون عقد معاهدة مع إمام صنعاء، فسارعوا إلى منافستهم في اليمن، والإمام مطلق الإرادة يمنح امتيازاته من يشاء، ويعقد المعاهدات مع من يشاء.
على أن الفرنسيين سبَّاقون في اليمن، وفي تجارة البن، فقد تقدم ذكر البعثة التي جاءت عن طريق المخا في العقد الأول من القرن الثامن عشر، وعقدت معاهدة تجارية مع الإمام المهدي لدين الله، تدل شروطها على حكمة تتسع عندها لمصلحة البلاد حدود الدين، وتتفكك من أجلها قيود المذاهب. والإمام يحيى اليوم يقتفي أثر أجداده الكرام، يستعين كذلك في سياسته بحكومة إفرنجية على أخرى. هي خطة في السياسة تجوز، وقد تفيد إذا وقف صاحبها عند حد معقول.
أما إذا عاهد أمير عربي دولتين من دول الإفرنج، وأذن لهما بشيء من النفوذ داخل بلاده، فتكون الاثنتان بلية عليه وعلى بلاده. تقتتلان في سبيل المصلحة فتقتلانها، فضلًا عن الدسائس والتحزب. فإذا كان الأمير محبوبًا إلى رعيته جمعاء، لا يلبث أن يصير له فيها مناوئون وأعداء، وإذا كان له عدو واحد في رعيته لا يلبث أن يصير للعدو حزب سياسي، وإذا كان في البلاد حزب واحد على الأمير يصير فيها حزبان وثلاثة.
إننا نعلم حق العلم أن كل وكيل سياسي في بلاد تربيتها الوطنية ناقصة يتخذ له حزبًا من أهل البلاد الناقمين لأغراض خاصة على حكومتها، فيستخدمه لمصلحة حكومته.
أجل، إذا كان ثمة خير في مفاوضة طرفين بأمر واحد، فإن ذلك الخير يزول إذا أشرك به الاثنان، وحضرة الإمام يحيى يدرك ذلك، فهو يستخدم الفرنسيين اليوم، كما يستخدم الملك حسين الإيطاليين لينال من الإنكليز كل أو جل ما يبغيه، وأول بغياته وأهمها الآن ميناء اليمن الأعلى على البحر الأحمر. جاءت البعثة الفرنسية تطلب امتيازًا بإعادة بناء ميناء المخا المهدوم، وميناء آخر في الخوخه، وباحتكار تجارة البن، ولكن الإمام إذا استعاد الحديدة، فقلما يهتم للمخا والخوخه، إلا أنه يريد أن يفهم الإنكليز أنه يستطيع أن يستغني عن الحديدة إذا اقتضى الأمر، وأن يستغني عنهم كل استغناء في جميع الأمور.
قد قال لنا الإمام: إن هؤلاء الفرنسيين تجار جاءوا يبحثون عن أحوال التجارة عندنا، ويطلبون امتيازًا في المتاجرة عن طريق المخا. وقد علمنا أنهم لا ينالون الامتياز الكبير الذي طلبوه، وهو احتكار تجارة البن، فالإمام لا يسلم بذلك، ولكنه يعاهدهم على بيع حصته، أو بالحري الأعشار من البن التي تبلغ عشرة آلاف كيس في السنة، ويشتري منهم ما يوافقه من السلاح.
السلاح! لا شيء في البلاد العربية أكثر من السلاح، ولا رغبة لأمراء العرب أشد من رغبتهم فيه. فما الداعي إلى هذا الطلب الدائم، وخصوصًا في اليمن؟ تذكر أيها القارئ جواب الإمام عندما سألناه: كم يحكم من بلاد اليمن وأهله؟ فقال: اليسير، اليسير، وهو يطمع ببسط حكمه وسيادته على اليمن كله — اليمن القديم من عُمان حتى آخر بلاد عسير. وقد طالما سمعت في صنعاء أن الإمام في احترابه والإدريسي لا يريد أن يوقف عدوه عند حدوده المعلومة فقط، بل يريد أن يخرجه من بلاد اليمن وعسير كلها؛ لأنه — كما يدَّعون — دخيل فيها. كنت أسمع هذا الكلام ساكتًا؛ لأني لم أكن أعلم يومئذ غير اليسير من أمر السيد الإدريسي وبلاده.
ولكني بعد رحلتي في عسير، وزيارتي السيد في جيزان، ومحادثتي الناس من سادة وعامة في تهامة، بان لي الخطأ في سياسة حضرة الإمام، وتأكدت أنه من العسير بتلك السياسة أن يستولي على الحديدة، وأنَّى له ذلك والإنكليز لا يزالون أصدقاء الإدريسي، وهم أصحاب السيادة في البحر الأحمر؟ فهم إذا استحسنوا عقد معاهدة بين السيد في جيزان والملك حسين لا يستحسنون على ما أظن مثلها بين الملك والإمام. وقد يقبلون بعقد معاهدة أو اتفاق بين الثلاثة إذا كان ذلك برأيهم ومؤازرتهم.
إن القضية في أجلى بيان تتحلل إلى ثلاثة أجزاء: الأول والأهم: هو وجود الإنكليز بين الإمام والإدريسي. الثاني: هو وجود الشوافع عونًا للإنكليز اليوم، كما كانوا بالأمس عونًا للأتراك في سياستهم اليمانية. والثالث: هو وجود الحديدة، وهو محور النزاع بين الشوافع والزيود والإنكليز. وقد أمست بفضل السياسة والفوضى أليفة الخراب والبلاء.
قد كان الإدريسي يومئذ يميل إلى السلم إذا حُددت حدوده على حال مرضية. وكان الإنكليز قد قطعوا عنه المشاهرات والسلاح، وبدءوا يشعرون بفتور منه؛ فاستحسنوا ميل المسالمة والمفاوضة رغبة في صداقته وصداقة الإمام. أما الشوافع فكانوا قد قاسوا من الاحتراب الدائم عذابًا وأهوالًا، فكرهوا لذلك الإمامين، وغدوا في حال تحبب إليهم أصغر الشرين.
إذا كانت الحديدة باب النزاع إذن فهي كذلك باب السلم. وكان الأمر كما بدا يومئذٍ ناضجًا للسلم، فلم يبقَ غير الوسيلة إلى ذلك. فأرسلت إلى صنعاء برقية أعرض فيها عقد مؤتمر، فجاءني الجواب وليس فيه غير ما طالما سمعته هناك: لا حق للإدريسي في جميع اليمن. ولا حق للإنكليز لا قبل ولا بعد الدور العثماني في الحديدة، لا ثمرة في المؤتمر، الدواء كله في عدن.
إني متفائل مستبشر؛ لأني وجدت ارتياحًا إلى المسالمة، ورغبة في تحقيق مطالبكم بشروط لا بد منها. أي إنهم يرغبون في أن يسلموا الحديدة إلى الإمام، ولكنهم متعاهدون مع الإدريسي، ولا يرون لأنفسهم مخرجًا في غير التسوية السلمية بين الطرفين، أي بينكم وبينه. فهل تقبلون بذلك؟ هل يقبل حضرة الإمام بعقد مؤتمر في عدن يحضره ممثلون من قبله، وممثلون من قبل الإدريسي، وممثل من دار الاعتماد إذا وعده المعتمد رسميًّا بتسليم الحديدة على شرط أن يتم الاتفاق والسلم بينه وبين الإدريسي؟
قد قابلت السيد في جيزان فوجدته راغبًا وميالًا إلى الاتحاد، بشرط أن يُعترف به حاكمًا في لواء عسير. وأظن أن عقد الصلح ممكن بينكم وبينه على شرط تسلمكم الحديدة، وإرضائه في الحدود الشرقية أو الشمالية. ولا يتم الصلح إلا بحسن النية، وبالاجتماع والمداولة. عرِّفوني حالًا إذا كنتم تقبلون لأطلب لكم كلمة رسمية من الحكومة الإنكليزية بخصوص الحديدة.
بعد أسبوعين من هذا التاريخ، وأنا أنتظر في عدن أتحمل آلامي العصبية من حرها وسوء هواها حبًّا بخدمة البلاد العربية خدمة صافية، جاءني من صنعاء بالسلك إلى القاضي عبد الله العرشي في تعز، ومنه مع نجاب إلى لحج، ومنها مع رسول إلى عدن، الجواب التالي، وكان السلك كما أخبرني العرشي مقطوعًا من شدة الأمطار «فتحير»، أي تأخر وصول الجواب.
«كانت المراجعة مع صاحبنا قد عرفتم حسن نيته، ومحبته لكم. لكن الإدريسي لا حق له في اليمن بأي صورة من الصور المشروعة. وصاحبنا حقوقه واضحة معلومة عند الجميع. ونحن لا نحب إلا نجاح مسعاك، ونحب صون بقية بلادنا عن الذهاب. لا لزوم للمؤتمر مهما كانت الحكومة الإنكليزية تريد ذلك، فأنتم تقومون بكمال هذا الأمر. وكل الصلح بيد الحكومة الإنكليزية. وسنجد على صاحبنا بقبول ما أشرتم إليه من حاكمية الإدريسي على عسير، وتسليم الحديدة، وما كان بيد الأتراك عند تسليمهم إلى الإمام، وضحوا للمشير إليه الحقائق، واقبلوا فائق الاحترام.»
ما الحيلة بسادتنا العرب، أبناء عمنا، إخواننا؟ نريد لهم الخير الدائم، وهم لا يرغبون في غير مزيج من الخير الوقتي. إني على يقين أن لو قبل حضرة الإمام بعقد المؤتمر لكان السلم اليوم مخيِّمًا على البلدين، والولاء والتجارة صلتا العمران بينهما.
الأمر ميسر على شرط أن يتم السلم بينكم وبين الإدريسي. ومن العبث أن تحاولوا إخراج الرجل من البلاد. إن حجتكم في قضية الحديدة ظاهرة ثابتة، يحضركم فيها كل من اطلع على الحقائق، ولكن حجتكم في إخراج الإدريسي على وجه أنه دخيل لا يوافقكم عليها الناس، وإذا تمسكتم بها تضرون مصلحتكم، وتضعفون حجتكم في طلب الحديدة.
(١٥) المعاهدة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المقصد الوحيد من هذا الائتلاف والاتفاق هو الانتظام في سلك واعْتصِمُوا بِحبْلِ اللهِ جمِيعًا ولا تفرَّقُوا، وبه يكون التعاون والتعاضد على إنفاذ أحكام الله كما يجب في جميع البلاد؛ لعمرانها، وإصلاح شئونها، وكف أيدي المعارضين عن التدخل فيها، والإخلال بمصالحها وبراحة أهلها، وتأمين معاش سكانها، وتقوية صناعتها وتجارتها. فلذلك عقدت هذه المعاهدة بين حضرة الإمام المتوكل على الله يحيى بن المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين، وبين جلالة الملك الشريف حسين بن علي بن عون على ما تحويه المواد الآتية لتكون دستورًا للعمل بعد تقدم إصلاح النية، وجعل الأعمال مدارة على الشريعة الأحمدية في الإقدام والإحجام، والنقص والإبرام.
- أولًا: البلاد العربية أقصاها وأدناها بلاد إسلامية لا تقبل التفرقة والتجزئة، وانفكاك بعضها عن بعض من حيث الجامعة الدينية، والقومية، والوطنية، واتحاد اللسان. وليس المراد من عدم قبولها التفرقة تغيير أشكال إماراتها القديمة، وتحويل أمرائها المشهورين المعلومين الذين يجرون إدارة شئونها، وأعمالها، وسياسة داخليتها منذ قرون. وإنما المطلوب اجتماع الكلمة الدينية٦٦ وتوحيد السياسة على وجه يرضاه الله، وتصلح به أحوال البلاد من غير مداخلة أجنبية خارجية من أية الجهات تخل باستقلال البلاد العربية ووحدتها.٦٧
- ثانيًا: يعترف حضرة الإمام لجلالة الملك بالملك، ويعترف جلالة الملك لحضرة الإمام بالإمامة.٦٨
- ثالثًا: يختص حضرة الإمام بإدارة اليمن وسياسته الداخلية والخارجية، كما كان بيد أسلافه، ويختص جلالة الملك بسياسة ما تحت إدارته في الحجاز وغيره داخلية وخارجية. فليس لأحدهما أحداث مقاولة أجنبية فيما يتعلق بما تحت إدارة الثاني من البلاد، ولا يغير شيئًا مجعولًا من طرف صاحب إدارتها، ولا يتدخل في إدارة داخليتها لا خاصة ولا عامة إلا أن يكون بعد المشاورة بينهما٦٩ والاتفاق لمصلحة تطابق مراد الله سبحانه. وإذا فعل أحدهما شيئًا من ذلك، أو عند مقاولة أجنبية فيما يتعلق بمملكة الآخر منفردًا، فلا يعتبر ما فعله، ولا يكون معتمدًا. وليس لأحدهما نقض مقاولة سابقة لتاريخ هذا الاتفاق من الطرف الآخر فيما يتعلق بخاصة عاقدها ومملكته، ولا تعتبر نافذة فيما يتعلق بمملكة الثاني إذا اشتملت على شيء من خصوصياتها، ولا يعد هذا الاتفاق ناقضًا لما تقدمه من المعاهدات بين حضرة الإمام والحكومة العثمانية، أو بين الملك وإحدى الحكومات.
- رابعًا: بعد إمضاء هذه المعاهدة يكون كل من حضرة الإمام وجلالة الملك، ومن تجري عليهم أوامرهما الشريفة من الأمراء والتبعة عونًا للآخر، ونصرًا له في دفع كل عدو صائل من الخارج، أو معارض من الداخل. وهذا التعاون والتناصر يكون موقوفًا على الطلب من أي الجانبين عند الاحتياج واللزوم، وفي دائرة النصوص الشرعية.
- خامسًا: عند ظهور عدو مشاق للطرفين إذا لزم لأحدهما إمداد من الثاني، فعلى من تطلب منه الإعانة إعانة الطالب بمقدار ما يدخل تحت إمكانه من مال، أو رجال، أو سلاح، أو معدات حربية. وعلى الطالب للإمداد بالرجال لوازم المطلوبين مع التأمينات اللازمة.
- سادسًا: بما أن المقدم قبل كل شيء تأمين طرق المواصلة والمراسلة بين الحجاز واليمن من الطريق الأسهل والأقرب؛ لإمكان المفاوضة والمواصلة بسرعة في كل ما يلزم، ومن المعلوم وجود الحائل في تهامة التي هي جزء من أجزاء اليمن، فاللازم تقديم التعاون الحائل المانع من الحديدة، ونحوها بأي وجه كان، إما بسياسة يتفق عليها، أو بقوة يكون سوقها من الجانبين بعد تقديم المذكرات اللازمة في كلا الأمرين، وصفة المعاملات والحركات من الجانبين.٧٠
- سابعًا: السكة الفضية الخالية من الغش، وأنواع الربى التي تضرب في الحجاز باسم صاحبها معينة قيمة تداولها تكون مقبولة ومعتبرة في التداول في المملكتين بقيمتها المعينة بعد الإعلان كتابة من الجانب الذي يكون ضربها باسمه بكيفية للتداول، وكمية القيمة، والصفة المميزة للسكة.
- ثامنًا: تعيين مندوب من لدن جلالة الملك في صنعاء، ومندوب من لدن حضرة الإمام في مكة المكرمة لمداولة الأفكار، والتوسط في تعاطي المفاوضات والمذاكرات.
- تاسعًا: معلوم احتياج المملكتين لأنواع الأسلحة، والمهمات الحربية، وسائر أنواع الترقيات الفنية، واحتياجها إلى إيجاد معامل وآلات لعمل الأسلحة وغيرها تقوم بالمقاصد. وبعد إمضاء هذه المعاهدة من الجانبين تكون المراجعة، وتقرير ما يلزم من الأسباب، والوسائل، والمقدمات، والاستعدادات لإيجاد المحتاج إليه من المعامل، ومحل لتأسيسها، واستعمالها مناسب جامع لمقاصد الطرفين، وكيفية الأعمال، وكل ما يلزم لذلك من المصاريف، والمأمورين، والمحافظين، والعملة، وغير ذلك.
- عاشرًا: يكون تعيين مبالغ من الأموال معلومة مخصوصة لكل سنة، بمقدار يكون الاتفاق عليه لتصرف فيما ذكر في المادة التاسعة من الأعمال الضرورية، أو ما يتفق عليه من الإنشاءات، والاستعدادات العمومية المهمة. وهذه المبالغ تحفظ من كل جانب ما يتعين عليه في خزينته إلى وقت اللزوم، وتعقد تأمينات عليها بين الطرفين، ويتعاطاها الطرفان لتأمين تأدية كل ما يلزم منها في وقته وزمانه بحيث لا يتضرر أحد الجانبين، ولا يكون من أحد تأخر بحصول المقاصد.٧١
- إحدى عشرة: هذه المواد الأساسية يستمر حكمها إلى عشرين سنة، وإذا كان الاتفاق في خلال المدة على تعديل شيء منها أو تبديله أو طيه بحسب ما تقتضيه المصالح، وتداول الأفكار، فكل ما يستحبه بعد تقريره فحكمه حكم هذه المعاهدة. وبعد تمام العشرين سنة يكون تجديدها كما هي، أو تبديل ما يتفق على تبديله — إن شاء الله تعالى.
قد تفاوضنا في الأمر الذي جعلت إحدى غايات رحلتي في البلاد العربية الاهتمام به، والسعي في بسطه لدى أمراء العرب، وتقريبه من العقول في شكل عملي معقول؛ فلقينا في الإمام يحيى — أعزه الله — أذنًا صاغية، وهمة للعمل داعية. وهو في موقف الولاء، ولا شك ثابت القدم، مخلص القصد والنية. إلا أنه لا يحب أن يكبر في البدء خطواته، ولا أن يوسع كثيرًا صراطه. وإن التمتع باليسير الآن خير من الأمل بالكثير. قد كانت لنا جلسات طويلات، ومباحثات، ومناقشات، يسمعكم الصديق قسطنطين خبرها، ويعلمكم بما بذلته في سبيل المعاهدة المرغوب فيها، وفي توسيع بنودها بقدر الإمكان؛ لتعم ما ننشده من الوحدة العربية. وقد فزنا بجُلِّ المرغوب، وسلمنا ببعض الجزئيات التي لا تقدح بروح القضية، أو تمس بجوهرها.
ومن الحقائق التاريخية — يا مولاي — أن النهضات الخطيرة في الأمم لا تنشأ نشأة واحدة كاملة؛ فلا بد لها من خطوات إلى ذلك الكمال، وتطورات فيما يرغب فيه من وحدة الكلمة والحال. أما المعاهدة في صورتها الحالية، فهي خطوة أولى مهمة، فعسى أن تستحسنوا عملنا وتروا، وأنتم مصدر الحكمة، صواب رأينا. وفي المستقبل القريب، بعد أن يتم توقيع المعاهدة، تتوفقون ولا شك إلى إضافة بنود بخصوص توحيد الأمور الأجنبية، والنقود، والتمثيل الواحد في الخارج وغيرها؛ إذ حين تتم وسائل المواصلة بين جلالتكم وحضرة الإمام، ويكون له مندوب عندكم، ولكم مندوب في صنعاء تتبادلون مباشرة الآراء، وتتوفَّقون — إن شاء الله — إلى ما فيه تمام تعزيز المصلحة العربية، والاسم العربي داخل البلاد وخارجها.
جميع الناس في اليمن، من رجال ونساء وأولاد، ومن أغنياء وفقراء، يأكلون القات؛ يخزِّنون. والتخزين هو أن تمضغ الأوراق مضغًا بطيئًا طويلًا كما يمضغ بعض الأميركيين التبغ، ويحفظونها تخزينة (أيْ كتلة) في الفم يجترونها، ولكنهم لا يبصقون مثل الأميركيين إلا عندما تذوب التخزينة، فيبصقون إذ ذاك في إناء من النحاس ما تبقى منها، ويخزنون غيرها. إن مجلس القات لا يتم بغير أباريق الماء وكئوس النحاس الجميلة الشكل، الشبيهة بالكئوس الذهبية التي تُستعمل في الكنائس وقتَ القداس. أما الأغرب من ذلك، أهل اليمن لا يشربون قهوة البن، بل يكثرون من قهوة قشر البن يغلونه كالشاي، فتظنُّه البابونج لطعمه بدون سكر، وهو على ما أظن مفيد؛ لأنه يقاوم بعض المقاوَمة مفعول القات، ويخفِّف من أضراره. لا ريب في أن القات مُضِرٌّ بالصحة والنسل، فهو يُفقِد المرءَ شهوةَ الأكل، ويفسد أسباب الهضم، ويُحدِث مثل الأفيون شللًا في مجاري البول، ولا يقوي الباه بل يُضعِفه.
إن اسمه العلمي Catha edulis، وهو نبت شبيه بالبطن إلا أن شجرته صغيرة، وورقه مثل ورق العفص، يزرعه أهل اليمن في البساتين مثل أشجار الثمار، ويبيعونه بأسعار غالية إذا كان من النوع الجيد؛ أي الرخص الصغير الأوراق. هم يقطفونه أغصانًا ويرسلونه إلى المدن رزمًا ملفوفة بالحشيش الأخضر، ومربوطة بقشر الشجر، ثم يجيئون بالرزم إلى المجالس، مجالس القات، فيفكونها ويرمون بالقشر والحشيش والقضبان على الأرض، ثم يبدءون بالتخزين بعد أن يقفلوا الشبابيك ويشعلوا المداعات (النراجيل)، فتمسي الغرفة في تلك الساعة كمقهى الحشَّاشين في دخانها وكربونها، وكالإصطبل في فرشها.
-
١٠٠٠٥ جبل سمارة.
-
٩٥٠٠ جبل ذفار قبالة.
-
٦٧٥٠ مدينة إب.
-
٩٠٢٠ بريم.
-
٧٦٥٠ ذمار.
-
٧٥٤٤ صنعاء.
-
٩٠٠٠ بوعلن.
-
٨٠٠٠ مناخة.
-
٩٨٤٠ جبل شام.
- لحم الضأن: ثمن الرطل ٤ غروش.
- لحم البقر: ثمن الرطل ١٠ غروش.
- السمن: ثمن الرطل ٣٥ غرشًا.
- القمح: ثمن القدح ٦٠ غرشًا.
- البطاطس: ثمن القدح ٢٠ غرشًا.
حاشية ثانية: جاء في حاشية الطبعة الأولى أن هذه الكلمة: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله …» من القرآن. فكتب يصلح الخطأ عالمان فاضلان الواحد فرنسي باريسي والثاني عربي نجفي. ولكنت وقفت عند شكر العالمين لو لم يكن أسلوب كليهما في النقد يستحق بل يستوجب هذا التعليق. كتب العلامة المستشرق لويس ماسينيون كلمة عن «ملوك العرب» في مجلة العالم الإسلامي الفرنسي، وأردفها بهذه الحاشية: في الصفحة ١٦٨ من الجزء الأول نقل المؤلف كلمة قال إنها من القرآن، فيجب إصلاحها. وكتب العالم النجفي مقالًا طويلًا بليغًا في عمود كامل من الجريدة فوبَّخَني توبيخًا، وشتمني شتمًا، وذمَّني ذمًّا لا يليق من مثله بمثلي؛ لأني خلطت بين القرآن والحديث، ولم أميز بينهما. إني مذنب يا حضرة الجهبذ النقريس، ولكني أتعزى بأن لي في الذنب شريكًا كبيرًا من كبار العرب المسلمين، فقد قال العلامة ماسينيون في حاشيته: إن الملك حسينًا نفسه يغلط أحيانًا في الآيات، ويخلط بين القرآن الحديث. راجع العدد ١٤٥ من جريدة القبلة، والعدد ٤٧ صفحة ١١ من مجلة العالم الإسلامي.