السيد الإدريسي
(١) بلاد السيد أو ما يحكمه الإدريسي من عسير
- حدودها: غربًا البحر الأحمر، شمالًا أبو مَتْنه على البحر، جنوبًا الحديدة، شرقًا جبال اليمن (وقد كانت الحدود الشرقية في رمضان ١٣٤٠ كما يلي: آخر جبل ريمه جنوبًا للإمام يحيى، وجبل براع المجاور لريمه للسيد الإدريسي، وآخر جبل صعفان شمالًا للإمام، وأول جبال بني سعد المجاورة لصعفان للسيد).
- سكانها: نحو مليون نفس.
- مساحتها: تمتد ثلاثمائة وخمسين ميلًا شمالًا بجنوب، ومعدل عرضها غربًا بشرق سبعون ميلًا. السهل الذي يتصل بالعقبة وراء ميدي وجيزان عرضه أربعون ميلًا.
- أهم قبائلها: رجال المع والمسارِحة، وبنو مِروان، والقُحراء، وبنو هلال، وبنو عبس.
- أهم مدنها: صبيا، وجيزان، وميدي، واللحيَّة، والحديدة، وأبو عريش، وباجل.
- مذاهبها: السنيُّون: شوافع. الشيعة: جعفريون، وإسماعيليون. البارسيون واليهود والهندوس.
(٢) سطح اليمن
الكريم مَن لا يعلِّلك إذا عجز عن الإكرام والمساعدة، وإذا أكرمك فلا يمتنُّ عليك. والكريم إذا كان موظفًا لا يقول: لا، بعد أن يقول: نعم، وإذا قال: نعم، يشفع الإجازة مثلًا بالصنيعة، والصنيعة بالبشاشة. إن الإنكليزي في بلاده، وفي حكومة بلاده هو هذا الرجل. أما خارج إنكلترا، ولا سيما في الشرق، فهو مثل الواحة في الصحراء؛ لذلك هو أكبر قدرًا، وإن لم يكن أرفعَ مقامًا، من زميله في إنكلترا.
قد كان حَظِّي في رحلتي أني مررت ببعض الواحات، منها واحة في دار الاعتماد بعدن، استأنست بظلها وانتعشت. أقول «بعدن» على الرغم مما لقيت فيها من العقبات. فقد كانت خطتي في السفر أن أزور الإمامَ يحيى في صنعاء، ثم أسافر منها إلى الحديدة لأزور السيد الإدريسي في عسير. ولكن الإمامَ والسيدَ أعداء، والبلدَيْن في احتراب. أمَّا الإنكليز، فإذا كان لا حقَّ لهم في اليمن الأعلى، فهم يستطيعون أن يمنعوني من الدخول إلى بلادٍ صاحِبُها حليفهم، ومدينتها الكبرى الحديدة هي فعلًا في يدهم. سألت المعاوِن الفاضل في دار الاعتماد، بعد أن صدرت الإجازة بالسفر إلى صنعاء، أن يُعطِيَني كتابَ تعريفٍ إلى وكيلهم السياسي في الحديدة، فأجاب: هو اليوم في عدن، وسأقول له أن يزورك. وكان كذلك. فاجتمعت بوساطة المعاون بفاضلٍ من أفاضل الهند، روحه شرقية، وعقله شرقي غربي، هو الدكتور محمد فضل الدين؛ الوكيل السياسي في الحديدة لدولة بريطانيا.
وكنت وأنا في طريقي إلى صنعاء أشكر الاثنين دائمًا؛ لأني كرهتُ أن أعودَ من حيث أتيت لا لما قاسَيْنا من المشقَّات فقط، بل لرغبتنا في أن نحيط علمًا بالبلاد وأهلها، ولكني وأنا في صنعاء ظننتُ مرةً أن الإمام لا يأذن بالسفر إلى بلاد العدو، فتمثَّلتْ أمامي تلك الطريق إلى عدن، وآفاق الحياة فيها مُربدَّة كلها. ثم جاءنا أحد السادة يزيدنا كربًا وغمًّا فيما صوَّره من الأخطار في منطقة الحدود بين الحجيلة وباجل: إذا سلمتم فيها، فلا تسلمون من الأسر. الإدريسي لا يركن إلى أحدٍ قادم من عند الإمام.
ولكن حضرة الإمام عندما فاوَضْناه في الأمر حقَّق لنا أملًا في إرساله كتابًا مني إلى الدكتور فضل الدين بوساطة عامل حراز في مناخة، وأمير الجيوش الإدريسية في باجل. وقال تهدئةً لبالنا: إذا جاء الجواب بالإيجاب، فلا بأس بسفركم.
بسم الله
مولاي القاضي العلامة عبد الله بن الحسن العمْري — حفظه الله وتولاه — وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على محمد، وآل هداته، والله يحفظ ولي النعمة، ويديم بقاه، آمين.
وصلت إلى هذا الحد، وكدت من الغيظ أشتعل فصحت بالحاجب: يا رجل، هذه الرسائل ليست لي. فأجاب وهو يحلف برأس الإمام أنْ قد جاء بها رسولٌ من الديوان يقول: هي لأمين ريحاني، فاستأنفتُ القراءةَ حيث وقفت مغضبًا:
صدر السلام، وصدر جواب البوسطة المرسول إلينا. العنوان لنا، والمكتوب للريحاني كما تطَّلِعون، والله يحفظكم.
والله يجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم، ونعوذ بالله من النار.
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأجلِّ المحترم الشهم أمين الريحاني، سلَّمه الله
بعد السلام والإكرام، ورد كتابكم مع كتابٍ إلى حضرة الحكيم محمد فضل الدين، وبوقته أرسلناه تلغرافيًّا إليه، وورد جوابه، وها هو مقدم إليكم، إذا أشعرتمونا من مناخة بوصولكم نلزم القائم من طرفنا في الحجيلة ليرافقكم إلى باجل.
إلى صديقنا أمين الريحاني
حيَّاكم الله وعافاكم. سرَّنا عزمكم لطرفنا. أهلًا وسهلًا بكم. حين وصول تلغرافكم أشعرنا حضرة القائد الشيخ الهمام محمد طاهر رضوان قائد الجيوش الإدريسية بباجل ما يلزم. وقريبًا نراكم — إن شاء الله — بأحسن حال.
وأشفع القسم بخطبة وجَّهها إليه، وإلى رفاقه كلها وعيدٌ وتهديد. شيَّعنا السيد علي والسيد أحمد الكبسي من قِبَل الإمام إلى خارج السور، فودَّعناهما هناك شاكرين متأسفين، إذ كنا نجتمع بهذين الفاضلين أكثر من سواهما، وكان السيد أحمد خصوصًا أقرب الجلساء إلينا، وأكبر المؤنسين.
سِرْنا من صنعاء غربًا نبغي البحر، وما كنا لنتصوَّر ما وراءه من الجبال، وما بين جبل وآخَر من هول المسافات، حتى وصلنا ذاك اليوم إلى رأس بوعان. ولكننا أيها القارئ العزيز لم نصل وإياك إليه. إننا لا نزال بين صنعاء وجبل عصر في سهلٍ وَسِيع، فيه بقع صغيرة مزروعة تلوح بين فسحاته السمر البور «كباقي الوشم في ظاهر اليد»، إذا آثَرْنا استعارةً من شعراء الجاهلية، أو كالشامات في وجوه البدويات إذا شئنا التشبيب، أو كبعض الأوراق الخضرا — وهذا أقرب إلى ما كنَّا نشعر به ونحن نجتاز تلك الأراضي المهملة — في شجرة عرَّاها الخريف، ولكن للشجرة ربيعًا يعود إليها. وهذه البلاد في مكان من الأرض شاءت الطبيعة أن يكون ربيعه دائمًا، وما شاء الإنسان غير الكسل والخمول.
إن الهواء والسماء والماء تبسم كلها لأرض اليمن، ولكن اليماني لا يستخدمها إلا فيما يحتاج مباشَرةً إليه، فمما لا ريب فيه أن في السهول حول صنعاء ماءً حيثما بحثت؛ لأنه في قديم الزمان — كما يقول بعض العلماء — كان يجري نهرٌ هناك، ولا تزال المياه تتدفَّق من جبل لُقم في قُنِيِّ المدينة، ولكن الصنعائي يغنِّي طيلةَ نهاره لجمل الساقية، أو يقضي نصف نهاره في «تخزين» القات، ولا يسعى في إحياءِ أرضٍ فيها قيْدَ عشرةِ أَذرُع، وأقل من الماء والثراء. أجل، إن بين لقم وعُصر، وما يُدعى في الشمال الأرحاب من المياه ما يكفي لإشغال مئات من السواقي والجمال، فلو استُخدِمت لَكانتْ تلك السهول بساطًا واحدًا أخضرَ ناضرًا.
وهذه هي طريقُ العربات التي بناها الترك. إنه لَيَحزنك كذلك مَرْآها وذِكراها. بدأنا نصعد فيها إلى جبل عُصر، فحدَّثنا خرابها بفشل الدولة، وشكا إلينا إهمال الإمام. هي طريق الحديدة إلى عاصمة الأذواء، إلى قلاع الزيود، بُنيت لرُسل الخراب، لا لرُسل العمران، بُنِيت لجر المدافع ونقل الجيوش، لا للتجارة والمواصَلات المثمِرة خيرًا. تلفَّتْنا من آخِر منعطف فيها فإذا بصنعاء، وقد احتجبتْ بحجابِ ذهبٍ شفاف، نسجته لها الشمس الشارقة فوق لُقم العاري العقيم.
وما أجملَ ما لاح لنا في سفحه خلال الحجاب؛ مدينة عجيبة كان لها من أسباب العمران والمجد والشهرة ما لأكبر مدن العالم المتمدِّن اليوم. لها تاريخ غابر مجيد، لها مدنية قامت بين شمس المجوس، وكواكب الأوثان، وتعدَّدت فيها الأسرار والكهان، وعزَّت عندها آمالُ الإنسان، فكانت ملكة سباء، وكان حِمير، وكان قحطان، ثم التوحيد، وشوكة قريش وعدنان، وما تقدَّمه وتَبِعه من علماء وشعراء، ونوابغ في فن البناء. فضلًا عما خصَّتها الطبيعة مما لا يزول أبدًا ولا يَحُول؛ فهي على علوها لا تعرف الثلج، وهي على دُنوها من خط الاستواء لا تعرف من قيظه غير نزواتٍ واهنات. وفيها الغزير من الماء القراح، فلو عُبِّدت إليها الطرق الصالحة للعربات من الغرب ومن الشمال، واتصلت بها عدن والحديدة بسلك الحديد لَتَقاطَرَ إليها الناس صيفَ شتاءَ من كل النواحي حولها، ومن البلدان العربية والآسيوية والأفريقية كلها، ولَغَدَتْ في أقل من عشرين سنةً باريس البحر الأحمر.
أي صنعاء عاصمة الزيود والجمود، إننا نغار عليك من الاثنين، ونود أن يعود إليك مجْدُ الأجداد محمولًا على أكُفِّ العلوم الحديثة التي من شأنها أن تُصلِحَ أحوالَ الإنسان، فترقيه في جسمه وعقله وروحه، وفي بيته ومدينته وبلاده، وما سِواها من العلوم لا نبغي لك ولا لسواك من مدن الشرق والغرب.
أي صنعاء عاصمة الأذواء، إننا في حبنا أبناؤك، وهم مثلنا من الناس، ونحن وإياهم من سليلة واحدة، نفادي حتى بشيء من معالم الوطنية من أجلهم، فتصحُّ أجسادهم إذا اتَّقوا الأمراض، وتنجلي عقولهم إذا فتحوا المدارس، وتصفو روحيتهم إذا أدركوا من الدين حقيقته الأولى، وسِرَّه الأعلى. أما الذين أدركوا بعض تلك الحقيقة، وبعض ذلك السر، فهُم يشاركونك في صلاتك، في فاتحة كتابك وختمته، ويودُّون أن تُشارِكيهم في صلاتهم. نظرة أخرى يا صنعاء، ونستودعك الله … قد أكلنا من ثمارك، وشَرِبنا من مائك، ونمنا تحت سمائك، وانتعشنا بعليل هوائك، وكنَّا قبل ذلك نحبك، فكيف بنا بعد ذلك؟ فإذا جاء بعدنا مَن يصلِّي صلاتنا وصلاتك، ومَن يحبك حبَّنا، ويغار عليك غيرتَنا، ورأى فيك بعض ما تاقت إليه النفس منا، وما اشتهاه العقل والفؤاد — بعض العلم، بعض الفنون، بعض الطرب، بعض العمران — فسنغبطه، ونحن بعض السر الأكبر في الفضاء، وفي اللانهاية، وستغبطه منَّا العظام والتراب.
وهذه أقحوانةٌ في الطريق، وأقاحٍ في الحقل بيضاء صفراء تبشِّر بالربيع، ولكنه ربيع آبدٌ نحيل، يكاد يَطَأ الثَّرَى فتظهر مُنقطعة آثاره الناعمة، ومثله لا يحيا في مثل هذا العلو بأرض الشام، إنما نحن على ألفِ قدمٍ فوق صنعاء، وتسعة آلاف فوق البحر، وقد احتجبت عنَّا المدينة المحبوبة احتجابًا — أبديًّا؟ الله أعلم.
وهو ذا النبي شعيب قريب بعيد، هنالك على الأفق أمامنا يلوح كالطيف أسحم رائعًا هو أعلى الجبال في شمال اليمن بعد شُبام، فيرافقنا اليومَ وغدًا.
سِرنا أربع ساعات، فوصلنا إلى مَتْنه، وهي للقادم من مناخة أو من الحديدة آخِر مرحلة إلى صنعاء. مَتْنه! كانت في أيام الترك مربعًا لعرائس الحبور، ولرسل السلامة والسرور. فكَمْ من أبناء الدولة المجاهدين — المَسُوقين إلى الجهاد في اليمن — كانوا يخرجون من تهامة، فيموتون في قَيْظ السبخاء، وفي الشعاب، وفي «النقيل»، وفي مضايق الجبال، وفي مكامن الأودية، فيهتف مَن يصلون منهم إلى هذا المكان سالمين: أربع ساعات إلى صنعاء، بادشاهم جوق باشا، وكانوا يقضون يومًا أو يومين ها هنا ينتظرون المتخلِّفين من إخوانهم فيعيدون، ويهلِّلون، ويبذلون من «الظلط» ما لا يزال صاحب «السمسرة» يتلمَّظ بذِكره، فيهز رأسه اليومَ آسِفًا محزونًا، ويُرِيك البيت الذي كان قصرًا في تلك الأيام … وكَمْ من يهوديات صنعاء خفَّفن فيه من كرب المجاهدين وغمهم!
وقفنا في مَتْنه إكرامًا لعساكرنا، وقد اشتهوا القهوة، قهوة القشر. وجميعهم مسرورون؛ لأنهم مسافرون في رمضان فمَن كان مِنكُم مَرِيضًا أوْ علىٰ سفرٍ فعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر كلهم إلا واحدًا، هو رئيس القافلة، أبى التمتُّع بتحليل النبي، وكان الجائع النعسان على الدوام. فما نادَيْناه مرةً إلا كان ينعس فوق حماره، وهو يمشي الهوينا مشيةَ البقر، ولا يلذُّ له إلا مؤخر القافلة. اسمه — الدليل لا الحمار — حمدان، فسمَّيناه نعسان، فزاد ذلك في الطين بلة، وكأنَّ الإهانةَ لحقتْ به وبحماره فصار لا يُرى في مقدم القافلة ولا في مؤخرها. «يا حمدان النعسان، أنت الدليل، وما نحن بفقهاء لتدلَّنا إلى الوراء. رُحْ يا حسن فتِّش عن النعسان.» فيعثر الجندي به وهو يتسكَّع في منعطف الطريق، فينتهره ويَسُوق بالبندق حماره. فيجيئنا التقي النقي، الصائم النائم، وهو يتمتم: بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إن رأس بوعان لسطح اليمن، وعلى السطح صخور هي في شكلها ووضعها شبيهة بهيكل عظيم له بابان، الشرقي: أيْ باب صنعاء، والغربي: أيْ باب مناخة. دخلنا الهيكل من باب صنعاءَ، فمررنا برواقه بين أنصاب جليلة، وعُمُد رائعة، وصخور هي كالهياكل الصغيرة في الهيكل الأكبر. وما هي إلا بضع دقائق حتى وقفنا في الباب الغربي، باب المخاوف والأهوال. إن المسافر لَيجدُ نفسه في غير ما ألِفَه من الأرض، فيحس هنيهةً أن دورة الدم فيه قد وقفت تمامًا، فيشهق ولا يتنفس، ويهتف ولا يتكلم، هناك مشهد من الجبال والأودية رائع، مخوف، يهمس ربه في أذن الإنسان: لا تكن مُكابِرًا، ولا تكن فَخُورًا.
لا أظن أن في بلاد سويسرة مثل المشهد الذي ينبسط، بل يتراكم أمامك في اليمن عندما تقف على ذروة بوعان، فتشرف منها على بحرٍ تجمَّد تحتك، رءوس أمواجه قنن الجبال، وسطحه الأودية المتشعِّبة الملتفة بعضها على بعض، وهنالك وراء القنن الشاهقة، والصخور الشامخة المسنمة، والهضاب الهرمية، والأودية المدلهمَّة، والمنحدرات الهائلة، هنالك فوق شبه الغيوم التي هي الجبال يلوح في الغرب حراز، وفي الشمال سريح وكوكبان، هنالك الغيمة التي هي مناخة، وشكلها كسرج الفرس، دلَّني عليها حزام، فما صدقت أن سنكون فيها مساء الغد، وما هول المسافات والشواهق بشيء عند هول الوهاد والأعماق. لبنان! نعم ذكرت لبنان. ولكنه وإن فاق بوعان وشبام علوًّا، فهو يضيع في جبال اليمن وأوديته المترامية الأطراف، مناخة! سنكون غدًا هناك. إنك إذا وقفت في بوعان لا تصدِّق أن بشرًا يستطيع أن يقطع تلك المسافات في أقل من أسبوع.
وإن الطير نفسها لتتعثَّر بسنام الصخور والقنن، فلا تظن أن ما خلقه الإنسان على شكل الطير يستطيع أن يجتاز هذا الفضاء القائمة فيه الجبال كالجبابرة، والكامنة رءوسها كُمُونَ العدو في السحاب. أمَّا إذا حلَّقت الطائرة فوقها فهي ولا شك تضلُّ السبيلَ فيما يشبه تحتها أمواجَ البحار.
من سطح اليمن في بوعان شرعنا ننزل إلى قبوه في مفحق، وبين الاثنين درجات لا تُعَد، ووهاد لا قعْرَ لها ولا حد، ومُنحدَرات لا وطيدَ فيها غير صخور تظلِّل الجادات، وتُسَد فيها المنعطفات، فيزل عندها حتى الإنسان، فكيف بالحيوان؟! مشينا والعين تبغي من المشهد الزيادة، والرِّجْل تبغي السلامة، فكنا نضطر أن نقف لنحقِّق البغيتَيْن.
وكلَّما وقفنا لاح لنا في المشهد شيءٌ جديد جليل، في شِعبٍ هناك أو في نقيل. إن جبال اليمن كجبال سويسرة في وهادها، وأكبر منها في اتساعها، ولكنها غير مأهولة، وتقل فيها الأشجار والمياه.
في الطريق من صنعاء إلى مناخة لم نمر بمدينة واحدة، وأكبرُ قرية شاهَدْناها هي الحَيمة؛ قرية عجيبة في وضعها ومركزها، تراها إلى اليمين في الطريق من بوعان إلى سوق الخميس، وبيننا أودية متشعبة عميقة، وعلى كتف إحداها أرضٌ بدكات في شكل نصف دائرة ذكَّرتنا بلبنان، وما أكثر ما يذكِّرك في اليمن بلبنان! أرض الحيمة كلها مزروعة، وفيها العودان: البن، والقات. وفوق تلك الدكات البلدة، وهي عدة أقسام، عدة أحياء؛ كلُّ حي قرية بذاته، بيوته عالية ومتصلة ملزوزة كبيوت المدن بعضها ببعض. وبين كل حي وحي مسافةٌ يتخلَّلها شِعب أو نقيل. أما السبب في هذا التقسيم والتباعُد في قرية واحدة، فهو يتصل كما أُخبِرت بثارات توارَثَها الأهالي، وهم من عشائر مختلفة، فاتخذ كلُّ قوم حيًّا منفردًا بعيدًا عن الآخَر، وشادوا فيه بيوتهم، بل حصونهم ليكونوا في مأمنٍ من رصاص البنادق إذا شبَّتِ الحرب بينهم. إنك لَتراهم مع ذلك يحرثون الأرض ويستثمرونها. أجل، ليس في الطريق من صنعاء إلى مناخة أخصبُ وأجملُ من بساتين الحيمة الغضَّة، ودكاتها المستديرة الخضراء.
وصلنا عند الغروب إلى سوق الخميس، وهي قرية صغيرة قائمة وسط المنحدر بين بوعان ومفحق، تحتها الوهاد وفوقها الجبال، وفيها مركز للسلك الذي يصل مناخة بصنعاء. استقبلنا العامل ورجاله فأنزلونا في دار الحكومة، واستأذنونا بعد العشاء بأن يَعقدوا عندَنا جلسة القات، فقبِلْناهم مُكرَهين ضيوفًا؛ لأننا في مرحلةٍ استمرتْ إحدى عشرة ساعة، وفي أوعر طرق اليمن التي اجتزناها، كنا قد أشرفنا من شدة التعب على الهلاك. جاءوا برزم القات، وبالمداعات، فأقفلوا النوافذ، ونزعوا عن رءوسهم العمامات، وطفقوا يدخِّنون «ويخزِّنون» دون انقطاع، حتى أمست القاعة بعد نصف ساعة مثل مخنق الفالج. خرجت إلى الفلاة لأنجوَ من الاختناق، ولما عدت ألفيتُ القسطنطين — زاده الله قوةً وعافية — يفكه الجلوس بأخبار الطائرات، وقد تأسَّف عندما نهضوا بعد منتصف الليل يودِّعون ليستأنفوا الجلسةَ في غرفة أخرى. فتحنا النوافذ لنطهِّر البيت، وما كدنا ننام حتى استفقنا على صوت الطبل، طبل السحور.
قمنا، و«لا حول ولا» على الأسِنَّة نشدُّ للرحيل، فاستأنفنا السير في نور القمر الضئيل، نازلين من جبل إلى جبل، ومن وادٍ إلى واد — نازلين إلى جحيم اليمن، إلى القعر الذي لا قعرَ دونه في تلك الأرض، إلى مفحق. وما مفحق غير اسم لشِعب ضيِّق مدلهم، شاهدنا فيه لأول مرة الرباح، وهو سعدان كبير، وشاهدنا من الطير ما يشبه الهدهد، ومن النباتات الشوكية وأنواع الصبير ما لا نعرف له اسمًا غير الصبير وصبر أيوب.
من سطح اليمن في بوعان إلى قبوه في مفحق مسيرة ست ساعات، فيها منتهى الوحشة والوعورة. ثم من مفحق عدنا إلى التصعيد، ثم النزول مرارًا، فمررنا بمقهاية تُدعى العجز، استقبلتنا فيها امرأةٌ ذات وجه بشوش فتك الجدري بمَحاسِنه، فلم يُبْقِ على غير الشكل والعيون. سقت «القراش» بقربةٍ ملأتها من البئر بيدها، وكانت في عملها وحديثها سامريةَ بلاد الزيود. قد شاهَدْنا غيرها من أخواتها لابسات السراويل المعقودة فوق الخلخال يشتغلن في الحقول، وأكثرهن يحملْنَ في وجوههن نبأ حُسنٍ ذهَبَ فريسةَ الجهل والوباء، وكأنَّ الناس هناك ألِفُوا هذا التشويه، فلا ينفرون منه ولا يحزنون.
وصلنا بعد الظهر إلى سفح جبل حراز، فجلسنا هناك في مقهاية تحت خيمة من الغرف نستريح قبل تصعيدنا الأخير إلى مناخة، ففكهنا أحد الرفاق بقصةٍ أَنْسَتْنا بعض أتعاب الطريق. كان الحديث في النساء، والمحدِّث رجلًا خفيفَ الظل، حَسَن النكتة، رافَقْنا من متنة ورجلين آخَرين أحدهما شيخ شائب، والآخَر جمَّال حطاب. قدَّم لي المحدِّث نربيش المداعة قائلًا: لا يهمهم الجدري ما دام الفقيه بخير. لهذا الرجل — أشار إلى الشيخ الذي كان نائمًا — امرأة مثل مَن رأيت؛ وجه حَسَن، ولسان حلو، وله فتاة اشتهَتِ الأمُّ أن تعلِّمَها القراءة، فاستحضرت الفقيهَ إلى البيت، فقرأت المسكينة أسبوعًا فقط ثم — وضرب كفَّه الأيمن على قبضة اليسرى — وقعت في الشَّرَك، طلبها الفقيه من أمها فأبَتْ؛ فأفرَغَ البندق في بطنها. ورأس الإمام! فقلت: قتَلَ الأم؟ فأجاب: قتَلَ الفتاة! وهو ذا الحين في السجن بصنعاء. وهذا الشائب — مسكينٌ يحب أن يحملَ كفَنَه معه في السفر — هو زوجُ الأم، وأبو الفتاة، راح يطلب من الإمام دمَ الفقيه، وأهلُ الفقيه يشتهون دفع الدية.
– وهل تُقبَل الدية؟
فأجاب وعينه تغمز وتلمز: إذا كان الفقيه علَّمَ الأمَّ كذلك فلا خوفَ على حياته. تقبل الأمُّ الدية، ورأس الإمام، وتسترجعه لتستكمل القراءة. وما قولك وهذا زوجها، وهي كمَن رأيت، أَلَا تظنُّها تقبل؟
– وإذا أَبَتْ؟
– المأمور يا أفندي يرتشي برطل زبيب.
فهزَّ الجمَّال رأسَه إثباتًا، وقال: في أيام الدولة كنَّا نرشيهم بالظلط. الترك يأكلون الزبيب.
فهز الجمَّال رأسه إثباتًا وقال: وكنت أنا أشتغل للترك، أنقل لهم الحطب، مجيديان أجرةَ الجمل. وكان أبي وأخي وعمي يُحارِبونهم هناك، عند بوعان، كنا كلنا نأخذ الظلط من الترك.
رحمة الله عليهم، ما أفادتهم المدافع والحصون وطرق العربات، ولا نظن أن عسكرًا من عساكر الدول الفاتحة في الماضي أو في الحاضر يقوى على حصون الطبيعة، وأهل الحصون في هذه الجبال.
بعد أن صعدنا في نقيل مناخة، واستوينا إلى رأسه نظرنا إلى المسافات الهائلة التي قطعناها، فكان طيف بوعان وغيمة النبي شعيب في الآفاق البعيدة شرقًا وشمالًا يثبتان ما نقول. إنك إذا قطعتَ تلك المسافات راكبًا، خفيفَ الثياب، لَأَسيرُ هولها ووحشتها، فكيف بك إذا كنتَ جنديًّا تحمل عشرة أرطال على ظهرك، وقنطارًا من الهم في صدرك؟ أجل، إن اليمن ضريح الدولة، ولا يزال أهل اليمن يترحَّمون عليها.
(٣) إلى الحدود
إن مناخة قائمة على قنة جبل حراز التي تشبه صهوة الفرس، وهي قسمان: قسم في الصهوة، وقسم خارجها على ربوة في الجهة الشمالية، ولكنها في الحالين حصينة منيعة؛ فهي في عُلوِّها ٥٠٠ قدم فوق صنعاء، ونيف عن ثمانية آلاف قدم فوق البحر، مسرح للغيوم، وموطئ للنسور والعقبان. وقد كانت بالأمس موطئ قدم الدولة في اليمن الأعلى، ومركز جندها الأهم. فيها ثكنة هي في مقدم الصهوة عند سنامها، ثكنة كبيرة لا نسبة بينها وبين البلدة الصغيرة الحديثة البناء، التي لا يتجاوز عمرها خمسين سنة، ولا يربو سكانها على خمسة آلاف، منهم ألفان يحملون البنادق.
وفي مناخة اليومَ مركزُ قضاء حراز، ودائرةٌ للسلك والبريد، ومفرزة من الجنود، وهي محطة للتجارة بين الحديدة وصنعاء. أما الحصون فلا حاجةَ إليها؛ لأنك إذا وقفت على سطح من سطوح البلد تشرف من الجهات الأربع على الهائل البعيد الغور من الأودية والوهاد والشعاب. لا أظن أن عسكرًا من عساكر العالم يستطيع الاستيلاء عليها من الغرب، قادمًا من الحديدة، أو من الشرق قادمًا من صنعاء. أما إذا نفدت الذخيرة فيها، فيتخذ المحاصرون سلاحًا آخَر من الحجارة يقذفون بها على العدو، فتفعل ما لا تفعل البنادق، كما تيقَّن الترك في شهارة. لا عجبَ إذا كانت الرهائن، وقد عرفنا شيئًا من طباع أهل اليمن، أساسَ حكمِ الإمام، وحصنه الأحصن؛ إذ لو أعلن عاملُ حراز استقلالَه مثلًا، أو أبى أن يرسل أموال الزكاة، أو تصرَّف بقسم منها هو وجنوده في هذا الحصن الطبيعي الحصين، فلا أظن أن إمام صنعاء يستطيع تأديبه والتنكيل به بغير ما عنده رهينة من لحم ذاك العامل ودمه.
أُنزلنا في بيت كبير هندسته أوروبية بناه أحد ولاة الترك، ووكل أمرنا إلى خادمٍ عنده بخدمة المتمدنين بعض العلم والذوق، اقتبسهما ولا شك من سادته السابقين، فأقمنا يومًا هناك نستريح مما كابَدْناه من المشقَّات.
زرتُ العامل الشيخ علي الأكوع ليلًا في مجلسه، فاستقبلني وهو في قميص النوم، وأمر لي بمداعة ورزمة من القات. واجتمعت عنده ببعض العلماء، وفيهم سيد مُعجَب بعرب الأندلس، وبأحد أدبائها الشهيرين ابن زيدون صاحب الوزارتَيْن. أعجبني حديث الرجل، ومما قاله: لا يفلح العربُ إلا إذا بعدوا عن بلاد العرب.
تفضَّل حضرة العامل، فأرسل مع نجَّاب علمًا بوصولنا كتبتُه بيدي إلى قائد الجيوش الإدريسية في باجل. وكان قد أعلم بذلك ولي الأمر في الحدود، وأعدَّ لنا أكياسَ البن التي أمَرَ بها الإمام (هدية إمامية).
ولم يلحَّ الشيخ الأكوع علينا بالإقامة مثل سواه، ولا تحرك خارج بيته أو ديوانه ليقوم بغير ما وجب عليه من الإكرام كعامل الإمام لا، لم يكلف نفسه زيارتنا، ولا تذرَّع برمضان أو اعتذر. أعجبني الرجل في سلوكه الفريد. هو حرٌّ شاذ الطباع، لا يعمل غير الواجب عليه، بل يعمل بما يأمر الإمام عملًا تامًّا لا نقصَ فيه ولا زيادة.
أقمنا يومًا في مناخة نتمتع بمحاسنها ونستريح. صعدنا إلى السطح قبل أن أحاطت بها الغيوم، فكان أدهش ما شاهدناه قريبًا منا صخرة قائمة كمسلة فرعون وراء القشلاق، وحولها بعض البيوت من لونها، تدور إليها جادة ضيقة زلَّاء، فتصل إلى قرية وراء الصخرة تدعى كاهِل، ووراءها على مسافة منها قرية الهِجْرَة المعتصمة بقنة أخرى من جبل حراز، ثم سرحنا النظر بالآفاق البعيدة عن حراز، فإذا بوادي موسيه منبسط أمامنا شمالًا بغروب، ووراءه جبلا حِفاش ومَلحان، وبالأودية الشرقية التي اجتزناها أمس، ووراءها النبي شعيب، وتحته بوعان. وهناك قنن عديدة شيَّد فوقها ابن اليمن حصونه، فهو من هذا القبيل إنجيلي يبني بيته يقينًا على الصخرة. وقد ألفيناه في هذه الجهة الغربية أكبر همة، وأكثر نشاطًا من سواه في النواحي الأخرى. دليل ذلك الأرض المحروثة، والدكات، والمنحدرات الخضراء.
سررنا بيوم في مناخة سرورنا بيوم في إب، فحملنا ذلك ونحن شاكرون في الحالين على المقابلة بين العاملين. إن عامل مناخة عربي ذو فضل، وعامل إب عربي ذو فضل ونوافل. هذا حلو الشمائل دمث الأخلاق، وذاك على شيء من طباع البدو الذين لا يسيئك منهم لا الكلام ولا السكوت. لم يفاخرنا الشيخ الأكوع بحكم الإمام، ولا تبجَّح مثل أمراء الجيش وبعض السادة في ماوية وذمار. إنها لمن حسناته التي تسر، ولا سيما مَن كان مثلنا قادمًا من تلك النواحي الشرقية.
في صباح اليوم التالي جاءنا من قِبَله عدد من العساكر، ضِعفا ما صحبنا من صنعاء؛ ليرافقونا إلى حدود الإمام. فاستأنفنا باسم الله السير، وشرعنا ننزل ثانية من سطح اليمن من أعلى سطوحه إلى أوطأ أرض فيه، إلى وادي حجام في سفح جبل وسل، وهي أوطأ من وادي مفحق، ودونها عقبات كَئُودات، فيها النزول أصعب جدًّا من التصعيد. أما وسل فدونه جبال وقرى نعدُّ منها ولا نعددها، هذا جبل الطويلة، وهو خط طويل مستقيم على الأفق الشمالي يتصل ظله شرقًا بالحيمة. وهذه قنة سبام التي تظلل مناخة بعد الظهر، وهي أعلى قنن اليمن على الإطلاق. وهناك عندما نخرج من ظل شبام يتراءى لنا تجاه مغرب الشمس جبل رَيمة، وأعلى قنة فيه بِراع. وهذه على إحدى قنن مسار قرية تشاركه في الاسم، وبينها وبين شبام الهِجرة. تلك القرية العجيبة الرائعة، المزدحمة بيوتها في نتوء برأس الجبل، المتراكمة بعضها فوق بعض كأنها في لزِّها وشكلها وعلوها قطعة شاهقة من مدينة نيويورك.
عندما نجتاز الهجرة نطل على وادي حجام ومنحدراته كالدرج تحتنا، واحد تلو الآخر، كلها زاهية بأنواع النبات والزهر، خصبة غضة. وقد امتاز بين مزروعاتها شجر البن الذي يزرعه اليمانيون في الدكات، في أماكن تظللها الصخور والهضاب، أي في الشعاب التي لا يصل إليها غير نصف يوم، كل ما نحتاج إليه من الشمس.
إنك لتعجب من تلك البيوت، بل الحصون القائمة فوق الصخور كأنها جزء منها، في أماكن يكاد يستحيل على الإنسان والحيوان الوصول إليها.
ومما مررنا به حصن هو قرية بنفسه، بل القرية هي حصن تعتصم به فرقة من الباطنية الذين أبادهم الزيود بالسيف كما أخبرنا السيد محمد. ولكن الإبادة لم تكن — على ما يظهر — تامةً، فأقام مَن نجا منهم في هذا الحصن الذي يُدعى العتَّارة، وفي ضواحيه.
نودِّع الداودية في العتَّارة، ولا تزال وجهتنا مغرب الشمس، فنطل على اللكَمة، قرية من قرى جبل مسار الذي يمتدُّ شمالًا بغرب، وتحتها العريف، ووراءها جبل صِفعان، وفيه حصن مَتْوح. أما وراءنا فقنة شبام لا تزال تلوح فوق كل الجبال، ترافقنا أربع ساعات إلى أن نقرب من وسل.
وهم فوق ذلك يقفلون النوافذ كلها قبل أن يحتلوا الكيس. فما قول سادتنا الأطباء الذين يهدِّدوننا بالموت إذا أقفلنا النوافذ عند النوم. هل جرَّبوا حامض الكربون في أنفسهم؟ أَوَليس من الحكمة إذا اضطر عدة أناس أن يناموا في غرفة واحدة صغيرة أن يعتزل كلٌّ عن الآخر بهذه الطريقة، أن يحجر كلٌّ على نفسه في الكيس؟ أليس خيرًا له أن يأكل هواءه — حامض كربونه — من أن يأكل هواء غيره؟
إن في أحياء الفقراء بالمدن العظيمة كلندن ونيويورك، حيث تنام العائلة الواحدة في غرفة صغيرة مظلمة فاسدة الهواء، كثيرين ممَّن يحسبون الكيسَ نعمةً لو علموا به. فهو — والحق يقال — أحسنُ دواءٍ للقذارة، ما لازمت القذارة والفقر والشقاء، وما دام الأغنياء المالكون تلك البيوت أخدان الحكومة التي لا تُوجِب عليهم التحسين فيها. أدخِلْ رأسك في الكيس أيها الفقير العزيز، أنت الساكن في الطرف الشرقي بلندن أو في الحي الشرقي بنيويورك، أدخِلْ رأسك في الكيس تنجُ ليلًا في الأقل من أنفاس عيالك ومن أقذار بيتك.
أمَّا الكيس الأعظم فهو هذا الفضاء، ولعمري إن من كان هواء الجبل إرثه لا يُلقِي رأسه تحت سقفٍ ساعةً واحدة. إلا أن العربي عمومًا، واليماني خصوصًا، يخاف هواءَ الليل، ويتأثر من البرد أكثر من سواه. كأن شدة الحر تُضعِف الدم، أو تغيِّر في تركيبه فترق الكريات الحمر فيه، فيؤثر إذ ذاك البردُ في صاحبه تأثيرًا مُضرًّا. والذين ينقلون من الأقاليم الباردة ويقيمون زمنًا في إقليم حارٍّ يمسون مثل أهله.
هذا الرفيق قسطنطين، وهو مثلي من الشمال، إلا أنه أقام بضع سنين في جدة، فصار يخشى الهواء في الليل كأنه سُمٌّ زعاف. وكَمْ تناقَشْنا في الموضوع، وكنت في حجتي وفي غيظتي أسيء إليه! فلو سكتنا وعُدْنا إلى أجسامنا، إلى صحتنا تتكلَّم عنا؛ لَكنت — ولا ريب — مغلوبًا؛ لأن فيه من العافية — وهو الذي يقفل النوافذ كلها — ما لو وُزِّع على خمسة مثلي — أنا الذي لا أستطيع أن أنام دون أن أفتح النوافذ كلها — لأهَّلهم كلهم للجندية. وهذا مع صحة أهل اليمن إجمالًا؛ ما حملني على الشك في بعض قواعد الصحة التي أصبحتْ في الغرب آياتٍ مُنزلات، وهي لا تخلو من الخرافات. ليس الهواء الطلق وفوائده موضوعَ بحثنا الآن، إلا أني أقول، قبل أن نترك مقهاية وسل وبستان القات، قد تكون الرئة في الهواء المفعم بالأكسجين كالإسفنجة إذا امتلأت ماءً، والاكتفاء حد الفائدة في كل شيء.
أما وقد اكتفينا من هواء الجبال زادًا، فصرنا نتوق إلى هواءٍ فيه رائحة الملح، إلى هواء البحر، وهو لا يزال بعيدًا. لولا ذلك لَمَا كان الحر في وادي وجام شديد الوطأة، خصوصًا على مَن كانوا يرتعشون في ظل شبام منذ ست ساعات.
جلسنا للغداء عند بئر قديمة تحت شجرة من الإثب، وهي أكبر أشجار اليمن، فسمعنا أصواتَ السعادين في الحرج فوقنا وأطلقنا عليهم الرصاص، فبادَلونا الإكرام، ورجَمونا. نعم، رجمونا بالحجارة، فكانت الحجارةُ أشدَّ علينا من الرصاص عليهم، فارتحَلْنا من ذاك المكان، تقهقرنا مغلوبين، ولكن سالمين.
عبرنا الوادي، ووصلنا بعد ساعتين إلى حدود الإمام في قاع صعفان، وهناك محطة التجارة بين تهامة واليمن. هناك ضابط الاتصال بين بلاد السيد وبلاد الزيود، بين السيد الإدريسي والإمام يحيى. هناك في تلك البيوت والخيم مركز الشيخ حمزة، حيث ينبغي أن نصرف عساكرنا؛ لأنهم غير مأذونين باجتياز الحدود، ونستصحب حرسًا من رجاله.
ترجَّلنا خارج الخيام، ومشينا إلى بيت حقير بينها، فاستقبلنا عند الباب رجلٌ صغيرُ الجثة، برَّاق العين، عريض الصوت، ليس عليه من الثياب غير الفوطة يتَّزر بها والعمامة، فسألته عن الشيخ حمزة، فأجاب: ها هو كله. وقبل أن دعانا إلى الجلوس سلَّم، وقال: قد تحيرتم — أيْ تأخرتم — نحن هنا وعساكر السيد في عبال بانتظاركم منذ أيام، لكم الآن الخيار في أمرَيْن: تبيتون عندنا، أو تُكمِلون إلى عبال. كل شيء حاضر هنا وهناك. مَن هو أمين الريحاني فيكم؟ فأجبته كما أجاب سؤالي عنه: ها هو كله.
فلم يضحك، ولا غيَّر لهجتَه.
– نحن يا أمين تحت أمرِ مَن أوصانا بكم. نحن قدامكم ووراءكم. على الرأس أمر السيد، وعلى العين أمر الإمام. راحتكم علينا، وسلامتكم مطلوبة من الله ومنَّا. فإذا اشتهيتم السفر الآن كان السفر، وإذا اشتهيتم الإقامة فأهلًا وسهلًا.
طابت لنا كلمات هذا العربي فأحببناه. استقبلنا بقلب عارٍ مثل جسمه، فكان صريحًا مليحًا، وكان شريفًا أكثر منه لطيفًا. فوددنا المبيت عنده، لولا أننا خفنا أن نثقل عليه. ولما أعلمناه بما اخترنا من الأمرَين آسِفين قال: خذوا القهوة إذن، وامشوا لتصلوا قبل الغروب. فدخلنا البيتَ وجلسنا لأول مرة في اليمن على مجالس مصنوعة من الحبال، تُستخدَم كذلك للنوم، كالعنقريب السوداني.
من حمزة خادم الإمام — أطال الله بعمره — إلى عامل مناخة، حضرة الشيخ علي الأكوع. سلام. الجماعة وصلوا بخير، وسنوصلهم بخير إلى عبال.
أخذ الرسالة فلفَّها لفافة، ودفعها إلى العسكري، ثم خاطَبني قائلًا: هذا يقرأ ويكتب، هو فقيه. وابتسم الشيخ، فكانت أول ابتسامة أبرقت علينا من وجهه القاتم العبوس. ثم ركب معنا، وشيَّعنا إلى خارج حدوده بابتسامة أخرى.
كنا نقيس الأخطار في الطريق بعدد الحرس؛ ومن صنعاء إلى مناخة اثنان فقط، ومن مناخة إلى الشيخ حمزة أربعة. وها نحن نسير في موكب من رجال الشيخ راعنا عدده، فلو لم يكن الخطر قد ازداد لما كان هذا الأعرابي، وقد اطَّلعتُ على شيء من اقتصاده واختصاره في العمل، يصحبنا بعشرة من رجاله، ويوكل أمرهم وأمرنا إلى شيخ الحجيلة بنفسه — شيخ الحجيلة العظيم في الأمس. هو رجل صغير يابس مصفرُّ الأديم، ذو لحية محنَّاة، وشارب مقضوب، وعين غائرة. ركب حماره، وبندقيته بين يدَيْه مطروحة على السرج قدامه، وسار معتزلًا الجنود العُراة، بعيدًا كذلك عنا، غير مكترث بنا.
دنا مني أحد المكارين وقال: هذا شيخ الحجيلة أو كان. وكان في ذاك الحين أكبر قطَّاع الطرق في هذه النواحي. تحت أمره مائة بندق، يُوقِفون القوافل ويَسْلبونها، ويأتون بالغنيمة إليه. مَن منَّا في اليمن وفي تهامة كان يجرؤ أن يمرَّ بهذه البلاد في أيام الدولة؟ سألت: وهل كان يقطع الطريق يومَ كان شيخ الحجيلة؟ فأجاب بالإيجاب، ثم قال: كان يأخذ من الترك، ويأخذ من العرب. كلهم كانوا يخافونه، ولا أحدَ يعترضه بشيء.
سبحان الله! هو الآن رسول الأمن والسلام بين القُطْرَين، وصديق الشيخ حمزة الذي يُحسِن ولا شكَّ اختيارَ رجاله وأصدقائه لمقاصده التجارية والسِّلمية المفيدة. اجتذبني خبر الرجل إليه، فسقت بغلتي نحو حماره، وسلَّمتُ فردَّ السلام. ثم سألت سؤالًا أجابني عليه دون أن ينظر إليَّ: هذا قاع الحجيلة، وقريبًا نصل إلى البلد.
كنا وقتئذٍ نجتاز أرضًا لا سيادةَ فيها للإدريسي، ولا للإمام، يصح أن تُدعى بلاد الجن. ولولا تيقُّظ الشيخ حمزة وحزمه لما كان يأمن فيها إنسان، أو تسلم فيها قافلة. هي نقطة الحياد بين عبال آخِر حدود السيد، ومضارب الشيخ حمزة آخِر حدود الإمام. أما المسافة بينهما فلا تتجاوز العشرة الأميال، في وسطها الحجيلة، وهي اليوم أثرٌ من آثار الحرب المفجعة. شريط التلغراف فيها مُقطع، والعُمُد مكسَّرة، وما تبقَّى من مظاهر الحكم التركي — مناضد وكراسي ودواوين — رأيناها مُبعثَرة تحت سقوف متهدمة. أمَّا أهل البلد فلا يزالون مشتَّتين في تهامة، وفي الجبال. لا عجبَ إذا كان العرب يفضِّلون الخيام وبيوت القش على الحجارة والخشب. قد هيَّجَ هذا المشهد فيَّ الأشجان، وأثار في الشيخ كامنَ الغضب. وكنت لا أزال أستدرجه إلى الحديث فقال: ما الإدريسي وما الإمام؟ عندهم كل شيء، ما عدا الأخطار والفقر، وعندهم السادة يستمعون لهم ويستشيرونهم. بعيد عن الحرب، قريب من السادة، هذه بلية السيد وبلية الإمام. ولَكان الله يغفر ذنوبَهم لو بعدوا عن السادة وخاضوا المعمعةَ مع الجيوش. عندئذٍ تنتهي الحرب … كلنا والله نشتهي السِّلم. ولكن أين رجُل السِّلم؟ أين هو الرجُل الذي يستطيع أن يُصلِح بين السيد والإمام. لا في عسير ولا في اليمن موجود. لا يتم الصلح إلا بأحد الكبار، يجيء من وراء البحار … ثم تنهَّد وقال: مصيبتنا من الله. فقلت: من الله وحده؟ أَلَا دَخْل الإنسان فيها؟ فقال مستحسنًا سؤالي: ثُلثها من الله، ولكنه لم يشأ مُواصَلةَ الحديث فساق حماره، فلحقت به وسألته عن الثلثَين الآخَرَين. فأجاب وهو يستحثُّ حمارَه ليبعد عني: وثلث من السادة. فسقت بغلتي إليه وسألته معتذرًا أن يُعلِمني بالثلث الأخير، فأوقف الرجُل حمارَه ونظر إليَّ وقال: الثلث الأخير، لا والله بل الأول هو منكم.
ظنني الشيخ معتمد الإنكليز، ولكنه لم يخطئ برأيه في قضية اليمن وعسير. إنه أقربُ رأيٍ إلى الصواب سمعته. وهو ينطبق على العرب كلهم، وما يُكابِدون من السياسة الإنكليزية ومن السادة — حيث لا سادة ولا أشراف فقُل العلماء — ومن التقادير.
(٤) نساء تهامة
إن العرب على الرغم من المصيبة المثلثة التي تقدَّم ذِكْرها لَمبدعون مُدهِشون في عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. وهم على ما بينهم من روابط الدين والعنصر واللغة يختلفون بعضهم عن بعض ظاهرًا ومعنًى؛ فلا يختلط اليماني بابن عسير، ولا هذا بابن الحجاز. يخالطون ولا يختلطون. حتى إذا جرَّدتهم مناسك الحج مثلًا من الثياب، فالإحرام لا يساوي بين ذي القرون — الجدائل — وذي الشَّعر الطويل السبط، وذي الشَّعر الكَثِّ الجعد الذي يشبه شَعر النساء الأوروبيات في هذا الزمان.
إنك لتسافر في أميركا مثلًا من طرف البلاد الشرقي إلى طرفها الغربي، فلا ترى في اختلاف العادات والتقاليد والأزياء ما يستوقف النظرَ أو يستحقُّ الذِّكر، بل قَلَّما ترى اختلافًا ظاهرًا أو معنويًّا. أما في بلاد العرب، فكلما انتقلت من جهة فيها إلى أخرى تغيَّرت الثياب والأزياء والعادات، وتغيَّرت كذلك المساكن. فلو اجتمع الحجازي والتهامي واليماني واللحجي والحضرمي والنجدي والعراقي، لَكان في اجتماعهم معرضُ أزياء وثياب غريب مفيد.
من مناخة إلى عُبال! كأنك انتقلتَ من سويسرا إلى بلاد المكسيك. وإن جَمال عُبال في القاع الفسيح ساعةَ الشفق ليُضاهِي جَمال مناخة في رأس الجبال ساعة الغروب. عبال، قرية ساكنة مطمئنة، بيوتها الهرمية من القش شبيهة بخيام الهنود الحمر في المكسيك، وأبناؤها يشبهون العرب في سائر الأقطار بأمرَيْن: يتكحَّلون، ويتطيَّبون، وفيما سوى ذلك يختلفون. فالشبان في شعورهم الطويلة الجعدة المصففة المزيَّنة، هم أشبه بالبنات لولا الشوارب والعضلات. فهم يَدهنون شَعرهم بالأدهان، ويربطونه بشرائط من الحرير أو الجلد، ويزيِّنونه بالريش أو الزهر أو الرياحين، ويقصونه مثل البنات اليومَ ليساوي القذال، ولا يقصرونه كالرجال، وهم يتَّزِرُون بالفوطة مثل أهل لحج. وقد تكون طويلة ملوَّنة مخطَّطة، فيشدونها على الحقوَيْن، ويلبسون فوقها صدرة بيضاء بينها وبين الفوطة زنار من القطن أو الجلد للخنجر دائمًا، وغالبًا للخنجر والخرطوش. إن أول ما يُدهِشك من أولئك الشبان شعورُهم المزيَّنة كشعور النساء، وأرجُلهم المخضَّبة بالحناء.
وفي عبال نعود إلى السفور، إلى أول الإسلام. في عبال تعدَّدت المدهشات، وكان أشدها وأحبها إلينا النساء، وقد وقفْنَ في أبواب الخيام يتفرجن على الغرباء. ولا نظن أنهن كن أشد تعجبًا منا، ونحن نتفرج عليهن. الجمال الأسمر نشدناه في كل مكان، فما لقيناه حتى وصلنا إلى تهامة. والرعابيب، ها هن ذا في عبال. وسيبهجك منهن ما ستراه غدًا في باجل. نزلنا في بيت أخلتْه لنا إحدى النساء بأمر من الشيوخ، ثم جاءت تخدمنا، فسألنا مستطلعين حالها، فقيل لنا إنها متزوجة، مطلقة، وتكره الرجال، أي نعم تكره الرجال. فهل تختلف المرأة يا ترى في عبال عن أختها في عواصم التمدن والجمال؟
اجتمع في الباب وخارجه الأولاد والرجال متفرجين مستغربين. فجاءت العساكر تبدِّدهم لتفتح الطريق لشيخ القرية الذي بادر إلى زيارتنا. وهو رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، فخم اللباس، متطيِّب متكحِّل حافٍ، إلا أن رجلَيه المخضبتين تلمعان بالحناء. دخل يحمل بيده السيف، وبالأخرى أغصانًا من الحبق، قدَّمها لنا وهو يسلم ويتأهل بنا. هنَّأنا بوصولنا إلى بلاد السيد سالمين، ثم قال معتذرًا: لا يمكننا ونحن في رمضان أن نقوم بما يوجبه علينا الشرف والناموس. أنتم الآن في بيتكم، وإنْ كان لا يليق بكم. ولكنكم ستنامون والبال مطمئن. عندنا سلام وأمان. ولكنا نرجوكم ألَّا تحكموا علينا بما يظهر، نحن نفتخر والله بضيوفنا، ونود أن نُنزِلهم في بيوت من الرخام والمرمر. فاحمونا وأنتم أهل الفضل من العين واللسان.
بعد هذه الخطبة استأذن الشيخ وودَّع، ولم نسعد برؤيته مرة أخرى؛ لأن سفرنا من عبال كان ليلًا. ولكنه أرسل إلينا ابنه قائد الجيش، فأسمعنا خطبة شبيهة بخطبة أبيه، وأعطانا ريالَين قائلًا: رمضان يسوِّد الوجه. أنتم ضيوفنا اشتروا ما تشتهون؛ فقبلنا المال منه شاكرين؛ لأن رفضه رفض الضيافة، ويُعدُّ إهانة. وشربنا اللبن الرائب تلك الليلة في ضوء النجوم. ولكننا، على شدة شوقنا إليه، لم نسرَّ به سرورنا بلطف هؤلاء العرب وسذاجتهم الطيبة. إن أهل عبال من عرب المسارحة المشهورين في تهامة بشدة بأسهم، ومحارَبتهم الأتراك في مواقع متعددة.
أسرينا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وكان قمر رمضان كمنجل من فضة فوق قنة شبام. وكان قد نهض الهواء كذلك فأنعش فينا ما خدره الحر، وأزال ما تبقَّى في الأجفان من أثر النعاس. بيْدَ أنه لم يحرك في أحدٍ من الربع اللسان، إلا واحدًا كانت عقيرته تذكرنا بالشام ومصر فيما رددت من الأغاني القديمة، وقد أبحرت أنغامها، ثم أَتْهَمت، ثم أَنْجَدت، فأفسدتها الأسفار، وأكسبتها المسافات على رداءتها ذِكرًا من الأوطان عزيزًا. ولكنها لم تكن عندي ساعة غناء، بل ساعة تأمُّل وصلاة.
يا ذا الجلال الأزلي، ألحفني بشيء من جلالك، يا ذا النور الدائم، أمددني بقبس من نورك، يا ذا القوة غير المتناهية، ابعث منها في قواي.
فيا أيها المحسن المجهول، يا أيها العربي الكريم، ما اخترت لإكرام الضيف أحسن من يدٍ مَرِنة تسكن الآلام، ومن صوت يغني، مهما شذَّ والتوى، يذكر الغريب بالأوطان. وما كان أشبهك بعكرمة الفياض، فلم نعرفك مؤاسيًا منعمًا، ولم نعرفك مشيعًا مكرمًا. جئتنا من الغسق، وأنعشتنا في الليل، وشيَّعتنا في ضوء القمر، واختفيت دون أن تبوح باسمك كالطيف في الظلام. ومهما كان اسمك، وأينما كنت، فأنت أخو الإنسان، وأمير الذوق والإحسان.
كشف الفجر عن الوجوه فرأينا في الربع بدل شيخ الحجيلة ابن شيخ عبال، وبدل رجال الشيخ حمزة عساكر السيد ابن إدريس؛ وهم من العبيد صحيحو الأجسام، خفيفو الأقدام، قليلو الكلام. لا يختلف الواحد عن الآخر، وكلهم سود بغير لون السواد؛ فهذا كقهوة البن، وذاك كالشوكالات، والآخَر كالأبنوس المصقول. سألت «الأبنوسي» وهو يركض ويثير بحافريه الغبار: هل أنت دنقلي أو سوداني؟ فأجاب: أبي طلع من البحر، وأنا وُلِدت في البر، في هذا البر. لا أعرف غير ذلك. والمؤكَّد يا أفندي أني أسود. قال ذلك وراح يضحك ويهز عطفَيْه.
بعد أن اجتزنا قاع عبال، وصلنا في الساعة الأولى من النهار إلى البحاح، وهي قرية فيها مقهاية رحبة نظيفة، فدخلنا وكنا أول الزائرين، فخرجتْ من البيت صبية حسناء، ممشوقة القوام، في جلباب أنيق الشكل فوق دثار أزرق طويل الذيل، كأنها من بنات المدن، وقد تدثَّرت عند نهوضها فوق قميص النوم، هشت لنا وبشت، وأسرعت في عمل القهوة التي لا تزال حتى في تهامة من القشر، إلا أنهم يُضِيفون إليها بعض الأبازير، كالزنجبيل والهال — كثير من الأبازير — يسمونها حوائج. وكان حُسن الصبية يتجاوز قوامها ووجهها إلى الذوق والخلق، فسألتْ وهي تشبُّ النار: تبغونها بحوائج. فأجاب العبيد صوتًا واحدًا بالإيجاب، وشربوا هنيئًا وثلثوا. أما نحن، أنا والرفيق قسطنطين، فكنا نشتهي قهوة البن … حوائج وهذه الحسناء. امضِ يا أمين.
ومما زاد في كربة الرجال صباحَ ذاك اليوم أنْ لاحت لنا ونحن سائرون في القرية حسناء أخرى، رعبوبة في شعار شفاف، تنشر للشمس شعرها، كأنها خرجت من الحمام، أو من مسرح الأحلام. فحثثنا المطايا مُسرِعين إلى القاع، إلى الفلاة، معتصمين بحديث الشيخ علي بن شيخ عبال. قال وهو يحدِّثنا عن العرب والترك: ابن اليمن مثل الحجر صلب يابس، لا الشمس تحرق رأسه، ولا الرمل يحرق رجلَيْه. والترك، ما الترك؟ هناك — أشار بيده وهو ينتقص أصابعه — هناك، عند تلك القرية، تحت ذاك الجبل، حفرنا الخنادق، كنا تسعين، تسعين فقط، وأطلقنا البنادق على عساكر الدولة، على النظام، وهم خمسة آلاف ومعهم الأطواب، من الفجر إلى أن صارت الشمس فوق رءوسنا مثل كلة مدفع مشتعلة، كلة نار، ونحن نطعمهم الرصاص. وعند الظهر، والله، ونور هذا النهار، خرجنا من الخنادق تسعين لا ننقص واحدًا، ومشينا إلى القاع. كانت الأرض مغطاة بالقتلى، مئات من الترك أكلوا رصاصنا وسكتوا، سكتوا إلى آخر الدهر، والباقي تشتَّتوا وهربوا، فما لقيناهم، ولكننا لقينا من البنادق والذخائر والمدافع خيرات. يا له من يوم! كان الواحد من رجالي يأخذ البنادق ويخبيها وراء الخنادق ويعود يفتِّش عن غيرها … ابن اليمن مثل الحجر صلب يابس، لا الشمس تحرق رأسه، ولا الرمل يحرق رجليه … هؤلاء من رجالي. يمشون بل يركضون كما تراهم الآن، اثنتي عشرة ساعة كلَّ يوم، ولا يتعبون ولا يتذمَّرون. ولا يَشْكون غير حلم السيد، فهم يغلبون الزيود، ويأخذونهم أسرى، والسيد لا يأذن بتذبيحهم.
سرنا ساعة في قاع المطحلة، فخرجنا من ظل الجبل، ولاحت لنا على الأفق غيمة سوداء هي باجل. كنا نمر في طريقنا بنساء لابسات البرانيط، وهنَّ يشتغلن مع الرجال في الحقول. إن البرنيطة أو الشبقة لَقديمة العهد في تهامة، وبعض نواحي اليمن الأخرى، وهي صنع أهلها، يلبسها الرجال والنساء، وكلهم عرب، وكلهم مسلمون. لكن الشمس لا تعرف حدودًا في العنصر والدين، والإنسان في مقاوَمته العناصر الطبيعية لا يراعي التقاليد.
وبأي سلاح تحارب هذه الشمس، شمس تهامة، إذا اضطرك رزقك أن تشتغل أو تسافر نهارًا. أبالكوفية، وهي إذا تلثَّمتَ بها تدفع ثائر الغبار والرمال فقط؟! قد تقي العيون من وهج الشمس، ولكنها لا تقي الرأس من سهام أشعتها الكاوية. أما العمامة فلا بأس بها لأصحاب التجلة والكرامة، للسادة والعلماء الذين لا يضطرون إلى السعي في سبيل الرزق. قد برهن اليماني التهامي في لبسه الشبقة على أن الغريزة في الإنسان، شرقيًّا كان أو غربيًّا، مثلها في الحيوان واحدة لا تتغير. ومن عواملها الأولى حفظ الحياة والدفاع عنها. وقد أحسن أيما إحسان في صنع شبقة من القش متراخية النسج، فلا تمنع الهواء، واسعة الأطراف تظلل الوجه والقذال، عالية القبع، تحفظ الرأس من سهام الشمس.
ويا لها من شمس لا تحجب ظلمها ساعةٌ من النهار. كانت لا تزال في صهوة الأفق عندما دخلنا باجل، فعرفناها من ساعتها، وما وددنا الإقامة في بلدة هي وحدها الحاكمة بأمرها فيها. ولكن باجل تُنسي السائح لأول وهلة حتى الشمس، خصوصًا إذا دخلها مثلنا يوم سوقها. هي قرية كبيرة، بيوتها من القش، وبعضها من الآجرِّ الأحمر، يقام فيها سوقان في الأسبوع، فيؤمها الناس من القرى والمضارب المجاورة، وينزلون ومواشيهم ودوابهم في الساحة العمومية، فيبيعون ويشترون طيلة النهار.
مشينا بين صناديق من الكاز، وأثواب من الخام، بين المواعين المصفوفة على الأرض والأكياس، بين الأبازير والحبوب، وإلى جنب كل «فرش» رجل أو ولد أو امرأة. والناس في الساحة رائحون جاءون، والنساء وبأيديهن السلال أكثر ما هناك يكثرْنَ البيع والشراء. أعجبنا من هذا المشهد مظهره النسوي؛ لأننا لم نَرَ في بلاد اليمن، في البلاد العربية كلها خلا العراق، من النساء بقدر ما كان في ساحة باجل ساعة دخولنا إليها.
وكلهن سافرات، يلبسن الشبقات، وأكثرهن حسان الوجوه والقدود. أما البنات فما رأيت منهن غير الممشوقة الهيفاء، وهي لولا لونها أشبه بالإنكليزية قوامًا ونحولًا، وخفةً ومشيًا. لكن لبسها قد يُنسب لولا السذاجة والفقر إلى التهتُّك. هي تلف ذراعًا من القماش حول وسطها فيصل إلى الخلخال ولا يخفيه، وتلبس فوقه صدرة ضيقة قصيرة لا يتصل طرفها بطرفه، فيبدو شيء من الكشح بينهما. ولها مشية ينكشف بها الساق، وإذا ساعدها الهواء، تنكشف الركبة كذلك. ولها لسان لا أثر فيه لما في قدِّها ومشيها من حسن وبراعة. سمعناها تشتم الصبيان، فاستعذنا بالله، وأسفنا لبذاءةٍ تشينها.
استقبلَنا بعضُ رجال القائد العام، فأنزلونا بيتًا رأس محاسنه النظافة، ورأس الضيافة فيه ذوق جميل ظهَرَ في الحديث، وفي الخدمة، وكذلك في الطبخ، فضلًا عن شيء في أخلاق الشوافع، عن شيء من الكياسة بل الإخاء، يمتازون به عن سواهم. تركونا بعد الفطور وشأننا، ثم جاءنا منهم صندوق من العنب الأسود، وآخَر من الموز، فأبهجنا الأول؛ لأننا لم نكن نتوقَّع العنب في هذا الشهر من السنة. ولكننا في تهامة؛ فلا عجب إذا نضج في أيار، وهو لا يزال حامضًا في صنعاء، وزهرًا في لبنان.
وبعد الظهر جاء يزورنا الشيخ محمد طاهر رضوان عامل باجل، وقائد العساكر الإدريسية فيها، فسلَّم واعتذر. هو يشتغل في الليل، ويصعد صباحًا إلى ربوة خارج البلدة لينام. سألنا عن السياسة الأوروبية، وعن الإنكليز، وعن مصر والهند، سؤالات دلت على عقل وعلم فيه لا يفتقران — بخلاف المألوف — إلى شيء من الحكمة والذوق، فقد كان يسأل مستخبرًا مستفيدًا، دون رأي خاص يبديه. ولكنه فيما يختص ببلاده كان مفيدًا مفضلًا. فعلمنا من حديثه أن القُحراء يسكنون تلك الجهات بين وادي سردود ووادي سهام، وأنهم على العموم من أفضل قبائل اليمن وأشجعها، ومن أشد الشوافع بأسًا، وأكرمهم خُلقًا. وعلمنا كذلك أن السيد الإدريسي يسير في بعض أموره على خطة الإمام في الرهائن. فها هم في البيت تحتنا عشرون رجلًا، وفيهم العبيد، من الزرانيق. سمعناهم في الليل يجوِّدون، وينقرون الدفَّ وينشدون، وما سمعنا من فمِ أسيرٍ أجملَ من سورة يوسف إنشادًا. سمعنا كذلك «الزامل» في البلد لأول وهلة، وسألنا عما إذا كان عسكر السيد ينشد أناشيد عسكر الإمام. فقيل لنا: بل هم عساكر الإمام. فما صدقت حتى عايَنت. وقد تأكدت أن بعض الزيود يجيئون تهامة و«يتعسكرون» عند السيد؛ لأنه يُحسِن معاملتهم، ويدفع راتبًا أكثر من «ابن حميد الدين»، ولكنه ساءني في رجال السيد أنهم إذا ذكروا الإمام يدعونه احتقارًا «ابن حميد الدين»، وما سمعنا في صنعاء واحدًا من رجال الإمام يقول مرةً في السيد ما يُشتمُّ منه المقت والتحقير.
أقمنا في باجل، وسافرنا مساء اليوم التالي. لا سفر في تهامة نهارًا لمثلنا في الأقل. وكانت ليلةً ليلاء، ما خفنا في طرق الجبال الوعرة الموحشة خوفنا فيها؛ لأن الراكب لم يكن يرى حتى رأس مطيته. وكنت كل مرة تطأ الدابة حجرًا فتعثر أرى وهدة انفتحت أمامي، وآية الوهاد أشد هولًا من وهدة الظلام؟ ومع أن إسراءنا كان من قاع بسيط فسيح، بعيد عن الجبال والربى، فما اطمأن ولا يطمئن قلب الغريب إليه. كانت تمر بنا القوافل كالأطياف، فتسلِّم على أطياف تمر بها، والأمن والظلام رفيقان ملازمان. إنه ليطمئنك مثل هذا الأمن نهارًا في اليمن وعسير، فكيف به ليلًا؟ وكيف به في بلدين متحاربين؟ مهما قيل في العرب، إنهم في حروبهم متمدنون، يحترمون حقوق الناس، ويحافظون على أرواح العباد. قد صحبتنا أيها القارئ في طريق التجارة بين البلدين، فتيقَّنت ولا شك أن في هذا الشعب الماجد الباسل من الحكمة والشرف وكرم الخلق والذوق ما لا يظن مثله في مثله.
وصلنا الساعة الثانية بعد نصف الليل إلى مقهاية الطم، فاسترحنا فيها ساعة، ثم استأنفنا السير، وكان قد هلَّ الهلال فاستأنسنا حتى بنوره الضئيل. وبعد ساعة من سيرنا في أرض رملية تتخللها السبخة بين أحراج من الشَّورى، ذاك الشجر الذي لا ينبت إلا بالقرب من البحر في تهامة، أطلت علينا ربة النور والنار. ولكننا عندما دنونا من البحر شممنا رائحة الملح، وأحسسنا بالرطوبة في الهواء؛ فاستعذبنا الاثنين.
البحر! ذاك الخط الأزرق على الأفق أمامنا، ذاك العلم الأزرق على ساحل العزلة العربية، ذلك الطريق إلى الأهل، إلى الأوطان، إلى المدنية، وفيه الأمل الكبير بالعود إلى الحياة والجهاد. البحر! إن ألطف ما لقيناه بعد صنعاء وتهامة وأبهج ما شاهدتْه آنئذ العينُ إنما هو البحر.
(٥) الحديدة
هو ذا شبح الحرب! من مدافن الآرغون، من خرائب فرنسا في الشمال جاء يلاقينا في الحديدة. هو أول من حيَّا صامتًا عند دخولنا البلد، أول من وقف في الطريق يلفت إلى حاله نظر الغرباء، ثم تبعنا كالظل، وما توارى عن الأبصار إلا في جوار السلطة والمدنية. فلا عجب، ونحن ضيوف الأولى، وصبيان في بهجة العيد في فناء الثانية، إذا نسينا كما ينسى العابر شحاذًا في الطريق. نسيناه ساعة دخلنا القصر الذي يقيم فيه الدكتور محمد فضل الدين وكيل بريطانيا العظمى في الحديدة وسفيرها إلى السيد الإدريسي.
صعدنا إلى الطابق الأول فإذا فيه صناديق من حديد، صناديق كبيرة ذات أقفال ضخمة، كانت مملوءة في الماضي بالصكوك والأوراق، وبالذهب والفضة. هو ذا شبح آخر يحيِّينا صامتًا، شبح القوة وراء العروش، وفي الحروب والجيوش، شبح المال. إنما نحن في دائرة البنك العثماني، ولم يبقَ منه غير هذه الصناديق الفارغة، وبعض المواعين المكسرة.
صعدنا إلى الطابق الأعلى، إلى مكتب الوكيل وبيته، ففُتِح لنا باب من خشب الهند فخم كبير، نقشه يبهر الأبصار، ويؤهله لأعلى مقام في دور الآثار، فدخلنا إلى ردهة كبيرة مستطيلة تشرف على البحر مفروشة بالدواوين الهندية، والطنافس العجمية، ومزيَّنة جدرانها بالرسوم الهندسية، والآيات القرآنية. وفي سقفها العالي من صناعة النقش بالدهان ما يحيِّر شكلًا ولونًا ودقةً غواةَ الفن. وإلى أحد طرفَيها، بين السقف والأرض، ردهة خاصة تحجبها شعرية من الخشب الهندي، كانت مُعَدة للحريم، يطللن منها على القاعة تحتهن في أيام العيد، وفي ليالي الأنس والطرب، وهو ذا شبح آخر يستقبلنا صامتًا، شبح الثراء والجاه، شبح القصف والترف، شبح السرور واللذات.
كان القصر الذي دخلناه لأكبر الأغنياء في الحديدة، بناه لعينه وقلبه، وبذل في سبيل ذلك نصف ثروته. فصار بعد موته إجارًا للبنك العثماني، ثم بعد الحرب فتحًا للوكالة الإنكليزية. وها نحن اقتداءً بالإنكليز نحتلُّ قسمًا منه. فإن حضرة الوكيل الذي استقبلنا مرحِّبًا خيَّرنا في أمرين: إما أن ننزل في البيت الذي أعدَّه لنا، وإما أن نقيم وإياه في القصر. ومَن ساح مثلنا في اليمن قلَّما يسيء الاختيار، وقلَّما يستحي بذلك. قلنا نحدث أنفسنا: من المؤكد أنْ ليس في الحديدة كلها مثل هذا القصر. ثم خاطبنا صاحبه قائلين: ما يصلح لحضرة الوكيل يصلح لنا. فرحَّبَ ثانيةً بنا، وأصبحنا من تلك الساعة شركاءه بما يحسبه نعيمًا ليس من جاء من الجبال فقط، بل من يجيء من وراء البحار.
عجبنا لسماحة الوكيل، وكرم أخلاقه عندما عدنا إلى المرآة بعد غيبة طويلة. فإننا كنا بعد شهرين فطمنا عن الشعر المشط والمقراض، كأبناء عسير في رءوسنا، وكالروس البلشفيك في لِحَانا.
ولكنه أمر أولًا بإعداد الحمام، ثم استحضر المزيِّن الهندي ليعيد إلينا شيئًا من الرونق في الأقل.
وكانت باسم الله بداءة احتلال دام شهرًا فقط، وبداءة صداقة لا تقاس بمقياس السياسة، ولا تُقيَّد بعوامل الاحتلال وأسبابه. أما الأشباح فكنا محاطين دائمًا بها. شبح الحرب الذي لقيناه في الطريق شاهدناه من السطح في كل مكان. وشبح المال كنا نمر به كل مرة نخرج من القصر ونعود إليه. وشبح اللذات كان يحفُّ بنا ويرفُّ فوق رءوسنا ليل نهار، ويؤلمنا في ساعات يسودنا فيها ما يسود الرجال. إلا أنه لم يكن يُحزِننا حزنًا شديدًا غير الأول. قد هربنا من دمار الحرب وويلاتها، من ظلماتها في العقول، من فسادها في النفوس والقلوب، من سمومها في الأمم المتمدنة، وها هو شبحها في الحديدة يذكِّرنا بها، ويرينا شيئًا منها.
ضُرِبت هذه البلدة من البحر مرتين: الأولى سنة ١٩١٢ في الحرب التركية الإيطالية، والثانية سنة ١٩١٨ في الحرب العظمى عندما حمل الجنرال آلنبي على الترك في فلسطين، فكان ضرب الحديدة جزءًا من الهجوم العام. وكان قنصل الإنكليز يومئذ على ظهر البارجة التي كانت تَصدر منها الأوامر بإطلاق المدافع، وكانت دار القنصلية بأمر القنصل، الهدفَ الأول لقنابل الأسطول؛ لأن فيها حسب ادِّعائه أوراقًا سرية، ولكن الإشاعات لا تثبت الادِّعاء. قيل إن القنصل دمَّر بيته، أمر بتدميره؛ لأن فرشًا شاء حرقه طمعًا بالتعويض. وقد دفعت له الحكومة بعدئذٍ أضعاف قيمته تعويضًا. هذا شبح الحرب، وأثر من إفسادها في الأخلاق.
وفي الحديدة وأهلها غيره من الآثار المحزنة مما كنا نشاهده، ونسمع به كل يوم. ميل في الناس ولا حجة، أمل ولا يقين، شكوى ولا عمل، تحزُّب ولا قوة، قوة ولا قصد ولا حُسْن نية، وبنايات في المدنية ولا سقوف، وسقوف ولا نوافذ، ونوافذ ولا خشب ولا زجاج، وجدران نصفها في الجو ونصفها ردم تحتها، وأخشاب تحت الردم وآمال، وبينٌ في بيوت ذهبت القنابل بحياة أهلها، وحزن تحت سقوف هجرها الناس إما خوفًا وإما فقرًا، ووحشة في أسواق كانت يومًا عامرة بالتجارة. أضِفْ إلى هذا كله ما قد يكون السبب في ذلك كله؛ أيْ صورة حكم أو «لا حكم» لا نرضاه لمولانا السيد، ولا لأصحابنا الإنكليز.
الحديدة التي كانت من أجمل البلدان العربية على البحر، وأكبرها تجارة، هي اليوم مجردة عن الاثنين. فريسة الحرب هي وفريسة السياسة، ترى نفسها بين عوامل سياسية ودينية تتجاذبها وتتقاسم ما تبقَّى فيها من حياة ومن أمل. أجل، هي بين الإنكليز والسيد والإمام مثل فتاة بين ثلاثة يخطبون ودَّها، ولكن التحاسد بينهم يفوق الحب والإخلاص، فلا تركن إلى أحد منهم، بل هي تخشى إذا ما أظهرت ميلها أن تفقد الثلاثة، وهناك الشر الأكبر، وهناك الفوضى.
أما الشوافع فيها فهم لا يميلون إلى الإمام، ولكنهم لا يرون في حكم السيد ما يعيد إلى البلد شيئًا من تجارتها وبهائها. وحضرة السيد لا يقدم على عمل سياسي أو اقتصادي يحسن فيها التجارة والحياة؛ لأنه لا يتأكد أنها ستكون دائمًا في حوزته. والإنكليز لا يتدخلون في غير ما فيه حفظ الأمن والنظام؛ لأن موقفهم فيها إنما هو موقف المقامر. فهي بيدهم الورقة المجهولة في الصفقة الأخيرة، وبكلمة أخرى هي الفكرة المكنونة في سياستهم مع الإمامين.
وهناك فئة من التجار يبغون إمام الزيود، فهم لا يرضون لا بالسيد ولا بالإنكليز؛ لأنهم لم ينالوا من أحدهما غرشًا واحدًا تعويض ما خرَّبته مدافع الأسطول. وتراهم، إذا ذكروا التعويضات، يعودون دائمًا إلى قصة القنصل الذي هدم بيته حبًّا بها، على أن الإنكليز يتملَّصون من دفعها إلى الأهالي بقولهم: إن ذلك متوجِّب على صاحب الحديدة، وقد أهدوه المدينة؛ حبًّا به، أو نكاية بالإمام على السواء. ولكن صاحب الحديدة يبغي مع الهدية شيئًا من أسباب الحكم الأولى، شيئًا من المال. فمن أين يجيء به ليدفع بعض التعويضات عن الإنكليز، وهو لا يجمع من أهلها زكاة ما يكفي لإدارة شئونها.
إن البلايا مثل المال يجذب بعضها بعضًا. فإن إدارة الحديدة في يد خمسة من الحكام أولهم اسمًا عامل السيد، وآخرهم رسمًا الوكيل السياسي، وبين الاثنين مدير الجمرك ومدير الشرطة ورئيس المينا يشاركونهما المسئولية ووجع الرأس. إلا أن الوجع الأشد هو في العاصمة في جيزان؛ لذلك فوجئت الحديدة ذات يوم بإرادة إدريسية محورها قرض قيمته ثلاثون ألف ليرة، تُعطى به صكوك على الجمرك. فجس العامل والوكيل نبض البلد، وأشار بنصف القيمة، فتردد التجار، وتأوَّهوا، واعتذروا. وما كان السبب في ذلك غير الخوف وعدم الثقة. فإنهم إذا اشتركوا بالقرض اليوم، وانتقلت المدينة غدًا من يد السيد إلى يد الإمام، فمن يدفع الدين يا ترى؟ لا لوم عليهم إذن، ولا لوم على حاكم البلاد، وليت شعري من الملوم؟ الحالة السياسية وحدها؟ لا ريب عندي أن وجع الرأس في دار الاعتماد بعدن أشد منه في الحديدة وفي جيزان.
وبين جيزان وعدن وصنعاء قلب مدينة يحترق وكيس مدينة يئن. قلت: إن الحديدة تخشى أن تُظهر ميلها، وهي في هذا المثلث السياسي. فقد أقدمت على ذلك مرة، وكانت منها الأولى والأخيرة، عندما ضرب الإنكليز البلد، وأنزلوا فيها عساكرهم الهندية ظن الناس أنها بداية الاحتلال، فسُرَّ التجار بذلك خصوصًا الهنود منهم. وبعد ذلك، بعد أن غيرت الحكومة الإنكليزية في سنة واحدة ثلاثة قناصل في الحديدة، ومنهم صاحب التعويضات الذي مرَّ ذكره، وكلهم في الحمق والتصلُّف واحد، غيَّر التجار والأهالي رأيهم بالإنكليز. فلما سئلوا رسميًّا كما سئل السوريون مرة: من تريدون أن يحكمكم؟ أجابوا بصوت واحد: الترك. فقال القنصل: هذا مستحيل. فقالوا: نبغي إذن الحكومة المصرية، نبغي الانضمام إلى مصر.
ثم جاء أحد أعوان المعتمد في عدن يمثِّل آخِر فصل من رواية الاستفتاء، فجلس في القصر ودعا إليه تجار المدينة وأعيانها، وسألهم ثانية فأجابوا كما أجابوا سابقًا؛ فأُفهِموا أن رجوع الترك إلى الحديدة أمر مستحيل، وكذلك حكم المصريين فيها. في تلك الأثناء، أي قبل انتهاء الفصل الأخير دخل المدينة معتمد السيد على رأس طابور من العساكر الإدريسية، فخُتِمت الرواية في الشهر الأول من سنة ١٩٢١ بالاحتلال الإدريسي الذي استمر منذ ذاك الحين. ليست هذه النتيجة الواحدة لذاك الاستفتاء، إن له نتيجة أخرى ظهرت خصوصًا في التجار الذين جهروا بميلهم إلى الأتراك وإلى المصريين.
عندما تأسست الحكومة الإدريسية في المدينة، استدعى العامل إليه التجار الخمسة الذين تولَّوا الزعامة فتكلموا باسم الأهالي، وأشار عليهم أن يزوروا حضرة السيد في جيزان، فاعتذروا وترددوا. ثم استدعاهم ثانية، وبينا هم ينتظرون في دار الحكومة أحاطت بهم العساكر، وكانت الركائب حاضرة، فأركبوهم وساقوهم إلى العاصمة التي هي على مسيرة أربعة أيام من الحديدة، فأُنزِلوا في القلعة، وظلوا سبعة أشهر أُسَراء فيها، ثم أُعلِموا بذنبهم وبالجزاء، فدفع مَن يستطيع الجزاء مالًا، وقدَّم الآخرون أبناءهم رهائن «المحسوبية» والإخلاص. أَمَا حان لأمراء العرب أن يعدلوا فيما يمسُّ بكرامتهم الشخصية عدْلَهم في غيرها من الشئون؟
لا عجب إذا كانت الحديدة تخشى الاستفتاء إذن، وتخشى إظهار ميلها إلا سرًّا وهمسًا في بعض الأحايين، وإذا فعلت تقع على ما أظن في شَرَك الفوضى، وما يتبعها من الغزوات، من السلب والنهب والتدمير. أمَّا الإنكليز فالعرب لا يبغونهم محتلِّين، لا يبغونهم على الإطلاق. ولو لم يكن الوكيل السياسي مسلمًا لما كانوا يقبلون به مهما كانت وظيفته ومسئولياتها. أمَّا إذا قاموا يطلبون الإمام، قبل أن يقرر الإنكليز أن يعيدوا الحديدة إليه، فيضربهم السيد، ويستنفر عليهم القحراء، وقد يغري بهم الزرانيق. وإذا قاموا يثبتون حكم السيد فيها، ويعلنون رغبتهم رسميًّا، فقد يحرك الإمام عليهم إما زيوده، وإما مَن يستطيع استنفارهم واستغواءهم كذلك من الزرانيق.
الزرانيق أكثر القبائل التهامية عدًّا، وأشدهم بأسًا، وأقلها صدقًا ووفاءً. هم لا يطيعون الإمام، ولا يطيعون السيد، ولا يأبهون بالإنكليز. هم مستقلون من كل حكم، وكل نظام، وكل سيادة غير ما لشيوخهم منها. بل هم مثل أشراف ذي الحسن في الحجاز، قطَّاعو طرق وقرصان بحر، يهرِّبون السلاح، ويتاجرون بالرقيق، وبما عندهم من قوة حربية. بلادهم في سفح جبال اليمن بين الحديدة وزبيد في طرف تهامة الجنوبي، وميناؤهم الأول الطائف في خور غُليْفقه. إنهم يُقسمون قسمين: زرانيق الشام، أي القسم الشمالي، وزرانيق اليمن، أي القسم الجنوبي. أما قوتهم الحربية فتدنو من عشرة آلاف بندق، ثلثاها في زرانيق اليمن.
كان الزرانيق أيام الترك كما هم اليوم عُصاةً عُتاة، يأخذون المشاهرات من الدولة، ويقطعون مع ذلك أسلاك التلغراف، وينهبون في البر القوافل، وفي البحر السنابيك. أما شيوخهم فلا ينقصهم في السياسة ختل ودهاء؛ هم دائمًا يمثِّلون في رواية تهامة السياسة دورين وثلاثة أدوار في وقت واحد، ثم يميلون في النهاية إلى مَن يزيد في المال أو في السلاح. كان أحد شيوخهم يفاوض مرةً الإنكليز ليستنصرهم على الترك، ويطلب سلاحًا منهم وذخيرة. ثم قبِلَ وظيفة من والي اليمن، فصار قائمقام زبيد. ثم نصر قبيلة القحراء عندما أسرت البعثة الإنكليزية في باجل، ثم ساعد مَن سعى في إخلاء سبيلها. فلا عجب إذا مال قسم من الزرانيق إلى الإمام يحيى اليوم، وقسم إلى السيد الإدريسي.
أنت تذكر ما قيل لنا في باجل بخصوصهم، وتذكر أنهم أرونا الرهائن، أما الحقيقة فغير ما سمعت، وإليك الخبر اليقين: جاء عدد من الزرانيق، خمسة وعشرون، إلى الشيخ محمد طاهر رضوان يقولون للسيد: القبيلة كلها، ونحن الكافلون، بشرط واحد. فانخدع القائد، وأعطاهم ما يبغون من المال. ثم عادوا: الرسالة لا تتم إلا بدفعة أخرى. فلم ينخدع القائد ثانية، فقبض عليهم، وأسرهم، وقيَّدهم بالحديد، وادَّعى لغرض سياسي أن الزرانيق كلهم مع السيد — وهذه رهائنهم.
قلت: إن في الزرانيق سياسيين دُهاةً، كما أن فيهم لصوصًا عُتاة. لما أسر قائد باجل رجالهم قالوا: هؤلاء لصوص تتبرأ القبيلة منهم، وأنكروا أنهم من الزرانيق. ولو كان من مصلحتهم يومئذٍ أن يحاربوا الإدريسي لَكان أولئك الرهائن من سراة القبيلة، فيتذرَّعون بهم، ويعلنون من أجلهم الحربَ على إمام صبيا وجيزان. إن عند الزرانيق شيئًا كذلك من الشرف، شرف اللصوص، ولهم الجواسيس في الحديدة، وفي باجل، وفي بلاد الإمام يحيى مثل ما للحكومات المتمدنة. جاءهم الخبر ذات يوم، كانوا ناقمين فيه على السيد، وعلى الإنكليز، إن سنبوكين من السلاح أقلعا من الحديدة، ووجهتهما جيزان، فأسرع قرصان الزرانيق شمالًا، فلحقوا بالسنبوكين. قطعوا عليهما البحر، أطلقوا عليهما الرصاص، فقتلوا عسكرهما، وعادوا بالسنبوكين غنيمة. ولما أفرغوهما علموا أن أحدهما ملك نوتي في الحديدة، لا ملك الحكومة، فأعادوه إليه! إن لهم حتى في اللصوصية قواعد يحافظون عليها، وحقوقًا يحترمونها. وأغرب من كل ذلك ما نراه في بلادهم من الأدلة على ما في البلاد العربية من التفكك في عرى الأحكام، والتفرد المضعف المهلك في السيادة.
إن في قلب تلك البقعة من تهامة مدينة كانت قديمًا مشهورة بالعلم والصناعة، هي بيت الفقيه الكائنة بين زرانيق الشام، وزرانيق اليمن، وبيت الفقيه حرة مستقلة ذات سيادة مطلقة، لا تعترف بأحد من الأئمة، ولا بأحد من الأجانب، ولا بأحد من الزرانيق سيدًا عليها، بل هي نفسها مقسومة خمسة أقسام، خمسة أحياء. لا يزيد سكان الحي الواحد على الألف، وكل حي هو مدينة حرة مستقلة، يحكمه باسم الله وباسم الألف حرٍّ مستقل شيخٌ لا صلةَ بينه وبين زملائه، إنه لا عجب ما كان وما يكون في الأحكام الحرة المستقلة. وبيت الفقيه مشهورة اليوم بتعصُّب ساداتها، وبفسق نسائها، وليست في منسوجاتها كما كانت في الماضي.
لا عذر لحضرة الإمام يحيى بهذا التفكك في حكمه الشريف. لا يمكننا أن نعزو ذلك إلى النفوذ الأجنبي والدسائس الخارجية؛ إذ لا أثر لذلك في بيت الفقيه وفي الزرانيق. إن مثل هذه القبائل العاصية العاتية، المتاجرة بقوتها، ومثل هذه المدن المنحطة في حريتها واستقلالها لأكبر العقبات في سبيل القومية الناهضة والوحدة العربية. إن البلية كل البلية في هذا الجهل المسلح، هذا الإجرام باسم القومية، هذه اللصوصية باسم الاستقلال. ليبدأ كل أمير في بيته، فيحكمه باسم الله حكمًا قاسيًا عادلًا، ليحكمه بعدل لا يعرف الرحمة والحنان، ليحكمه بيد من حديد وبقلب لا يرى غير الحق، كما يفعل اليوم ابن سعود السلطان عبد العزيز. فلا يهم إذ ذاك من يستولي على الحديدة، وعندي أن من يستطيع من الإمامين — إمام صنعاء، وإمام صبيا وجيزان — أن يغلب الزرانيق ويؤدبهم، ويُدخِلهم في حكمه يستحق أن يكون صاحب الحديدة.
(٦) أديان وأشجان
العيد! وحق لنا أن نعيد؛ لأننا اشتركنا في رمضان مع الزيود ومع الشوافع، فقلَّ نومنا وأكلنا، وحُرِمنا طيبات الحياة فقلَّت ذنوبنا، وطالت مثل النسَّاك شعورُنا، وكثرت تقشفاتنا وأوساخنا. العيد! نهضت صباح اليوم المبارك، فارتديت أفخر ما عندي، قميصًا حجازية بدوية، و«قدمية» مكية، وكوفية مزركشة هندية، وعقالًا مقصبًا شريفيًّا، ونزلت أهنئ مضيفي وصديقي محمد فضل الدين.
في ردهة الاستقبال نافذة كبيرة واسعة عالية تشرف على البحر، فُرِشت بسجادة ووسائد، فأصبحت ديوانًا يجلس فيه الوكيل المحترم؛ هو عرشه ساعة الاستقبال، ومكتبه في غير الأمور السياسية، والمرصاد الذي يرصد منه ما حام على الأفق من المراكب والبواخر والقرصان وتجار الرقيق. وجدته صباح العيد جالسًا على العرش معتمًّا بعمامة هندية وافرة، طويلة الذؤابة، باهرة الألوان، وبيده سِفْر إنكليزي في الفطريات كان يترجمه إلى اللغة الهندستانية.
سلَّمت وهنأته باسم الله، فأُعجِب بقيافتي، وأشركني في عرشه، ثم دخلنا في موضوع لا صلةَ له ظاهرًا بالعروش والعمائم، أو برمضان المبارك والنوافل الروحية، ولكنه يتَّصل باطنًا بها كلها. الدكتور محمد فضل الدين رَجُلان مثل كل ذي فكر وعلم وحجى؛ رجل يعرفه الناس والحكومة البريطانية، وهو الملازم فضل الدين من أطباء الحكومة الهندية، ورجل لا يعرفه غير الخاصة من الناس، وهو محمد فضل الدين من لاهور في الهند، ومن كل مكان في الفلسفة الروحية.
أما الرجل الأول، أي طبيب العيون، ووكيل بريطانيا السياسي فنتركه للناس، ليس فيه ما يميزه عن زملائه الأطباء والوكلاء السياسيين. ولكن الغريب الجميل هو في الرجل الثاني، الرجل الهندي الذي لم يفقد في معاهد الغرب العلمية وفي الدوائر السياسية جمال إرثه الشرقي. إن لفضل الدين قلبَ شاعرٍ، وروحَ صوفيٍّ. أضِف إلى ذلك أنه جبلي، هو من قرية صغيرة في جبال اﻟ «بنجاب» التي تضاهي بجمالها جبال لبنان.
تعددت الشعوب في الحديدة، بل في تهامة، وامتزج دم السوداني بدم العربي، ودم الصومالي بدم الهندي، ودم الجاوي بدم الإيراني، فكانت النتيجة مستهجنة مستنكرة. إن صفاء الدم في النسل لَأعز ما في الأمم، وإن حفظ العنصر والنسب مع الرقي العقلي والأدبي لَأجمل ما في الشعوب. أفلا تتقزز من هذا الشريف الغائر العين؟ الضخم الشفة الذي يجري في عروقه الدم السوداني، وهو من أبناء بنت الرسول؟ أوَتروقك طلعة ذاك السيد صاحب العين اللوزية (جاوية صينية)، والأنف المفلطح (تكروني دنقلي)، واليد العربية الجميلة؟ وهل تسرك رؤية ذاك، هندي الأم، صومالي الأب، عربي اللسان، إسلامي الدين، ولا شيء فيه من صدق العقيدة، ومن الفصاحة والحسن والبراعة؟ فلا هو مسلم، ولا هو عربي، ولا هو صومالي، ولا هو هندي، لا في أخلاقه، ولا في وجهه، ولا في ملابسه.
إن مَن يعتقد من العلماء بأن امتزاج الشعوب بالتزاوج يحسِّن النسل ليغير عقيدته، لينبذها إذا جاء الحديدة. ولو كان ذا الامتزاج يقرِّب أصحاب الأديان والمذاهب بعضها من بعض لَكانت تشفع هذه الفضيلة الواحدة، خصوصًا في الشرق، بسيئاته كلها. ولكن الهندي يظل هنديًّا، والبارسي يظل بارسيًّا، والمسلم يظل مسلمًا، ولو امتزجت في سليلة كل واحد منهم دماء الشعوب كلها.
كنت جالسًا أنا وفضل الدين نشرب الشاي ذات يوم فجاءه زائرًا أحدُ الهندوس، أصحاب السراويل الشفافة التي تهف حول الجنبين، وتبوح بكل أسرارهما، فسألني أن أقدِّم له بيدي فنجانًا من الشاي، ففعلت، فرفض. ثم قدَّمه له فضل الدين فرفضه كذلك باسمًا. والسبب في رفضه فنجان الشاي أن هذا الهندوسي يتنجَّس منَّا؛ من المسيحي ومن المسلم، بل من كل مَن لا يعبد البقرة مثله. ولا خجل في فعلته ولا حياء.
وهناك مَن يلبس دينه كما يلبس ثيابه، وهي قديمة ولكنها نظيفة، باليد اليسرى دون اعتناء. إن للمعلم الكبير زرادشت رعيَّة في الحديدة لا يتجاوز عددها الواحد الفرد، وقد كان يزورنا كل يوم فيزيدنا علمًا بدينه الجميل وبحاله. هو خان باهادور الفارسي أصلًا، الهندي بلدًا، الزرادشتي دينًا، الإنكليزي لسانًا، خان باهادور، وحديثه كزقزقة العصفور، فيه تكسير وفيه تنغيم. على رأسه عمارة أبناء قومه شارةُ مذهبِه، وعلى قامته الطويلة اﻟ «فراك» الإسلامبولي مزرورًا تحت الذقن، وتحته بنطلون إفرنجي أبيض عريض، وعندما يجلس يظهر خلال اﻟ «فراك» طرف قميص بيضاء تدعى في دينهم «سُدْرا»، أي الصراط المستقيم، وفيها جيب صغير يدعى «كيس صواب»، أي كيس الأفكار والأعمال الصالحة.
– ولكن الكيس فارغ يا مستر أمين. لا شيء في «كيس صواب».
كنا أنا وفضل الدين نقضي ساعات في المساء على السطح تحت النجوم، وحديثنا الحياة والآخرة، وسر الوجود والخلود. وما أحلاها ساعة أنستنا السياسات والمذاهب كلها. إن في شخصية فضل الدين الروحية والعقلية من الأدب الشرقي ما هو مزيج من الإسلام والصوفية، بل في عقيدته الإسلامية شيء من الأسرار البوذية والغوامض الهندية، ولا عجب إذا ظل هذا الأساس الهندي، وهذا الظل الآري في عقيدة الهندي المسلم المستنير. كنت أشعر وهو يتكلم عما يفهمه بالإسلام، دين التوحيد، أني مثله مسلم، وكنا عندما نصل إلى ذروة الوحدة الكلية نشعر بما حولها من الفيوضات الكونية الإلهية؛ فنتأكَّد أننا واحد في الشك وفي اليقين.
– أتعتقد يا فضل الدين بتكرار التجسد؟
– لا أحب أن أعود إلى هذا العالم وهذه الحياة. أمَّا إذا كان في تلك النجوم حياة أخرى بشرية أو روحية محضة، فلا شك أنها تكون أسمى من الحياة التي نحن فيها.
– يروعني التأمل بحدود الإدراك في الإنسان، بل يملؤني حزنًا وغمًّا. خذ العقل واركن إليه فيخونك في النور أحيانًا وفي الظلام. وراء ذاك الأفق يهجرك أو تحت هذه المياه. لكن أليس من المحزنات أن يضمحلَّ هذا العقل بالرغم عن حدوده وشذوذه؟ وهو الذي يقيس المسافات بين تلك الكواكب وبيننا، ويعرف أجزاءها، وألوانها، وسرعة دورانها.
– لا يدهشني ذلك ولا يحزنني. في اضمحلال العقل — على ما أظن — تتحرر الروح. العقل للروح مثل السجن للجسد. وأظن أن الحياة مجردة عن الهيولية، الروح مجردة عن العقل البشري المحدود، بل عن الإدراك البشري الذي يدور على محوره لا يعرف غير اﻟ «أنا» فيه، هذه الروح خالدة، وتحيا ما وراء الحدود التي تحزنك، وأظن كذلك أنها تكون مقرونة بإدراك يوافق طبيعتها، ويوازي قوتها، فتكشف حقائق في الكون جديدة، وتتغلب تدريجًا على العناصر المادية كلها، وأدواره البشرية والروحية جميعها. نعم يا عزيزي الريحاني، إن العقل في الحياة سجن الروح، وكثيرًا ما أشعر بظلمه، وأتألم من قيوده.
– وما برهانك أن الروح تحيا حياة مستقلة مجرَّدة خالدة بالرغم من انفصالها عن العقل الذي تدعوه سجنًا؟
– إنها تحيا بسبب هذا الانفصال، وليس بالرغم عنه. برهاني؟ لا برهان عندي غير تلك الأنوار، أنوار النجوم والكواكب. إن فيها، في أشعتها، وفي فلكها عقلًا يديرها، وقد يكون ذلك العقل مكونًا من أرواح مَن تقدَّمَنا مِن الناس، وهي منفصلة كلها من روح الله ومتصلة بها، منفصلة في الفردية، متصلة في الجوهر الكلي. قد تكون تلك الأرواح كنه الجاذبية في الأفلاك.
– أرواحنا إذن تحوم حول تلك الأنوار كالفراشة، ولا تحترق؟
– فراشة النفس، نعم، وهي من نور، فتجذبها نار الحب، نار الألوهية إليها ولا تحرقها. وعلى ذكر الفراشة قرأت مرةً قصةَ حكيمٍ صيني حلم في نومه أنه فراشة في بستان الحبور، تنتقل من زهرة زكية إلى أخرى، وعندما استفاق حزن لما شاهد من حقيقة حاله، فسأل نفسه حائرًا بائرًا: هل أنا رجل يحلم بأنه فراشة؟ أم فراشة تحلم بأنها رجل؟
– جميل، جميل. ومَن يزيل الحيرة من قلب الحكيم؟ يُخيَّل إليَّ يا فضل الدين أننا في هذا العالم رموز زائلة لحقائق خالدة، وكل حقيقة تتكون تكوُّنًا روحيًّا جديدًا كلما طوي رمزها. وفي كل تكوُّن تزداد انتشارًا وقوَّة وحبًّا؛ فيكون رمزها في هذا العالم شبيهًا بها، ممثلًا لها، عظيمًا في الناس. ويستمر هذا الطيُّ والنشْر، هذا التجسد في الرمز والنمو في الحقيقة، إلى أن تجتمع بالفيض الأوليِّ، الفيض الإلهيِّ الباهر؛ فيكون في ذلك أوج مجدها، النهاية في اللانهاية، ويكون آخر التجسُّدات لرمزها المادي البشري. هذا ما تراه عين البداهة في التجسُّد والخلود، وهذا ما أفهمه بجمع الجمع في اصطلاح الصوفي.
– ولكن عقلك لا يثبت ذلك، العقل عدو البصيرة، العقل — أعود إلى ما قلت — سجن الروح.
– وما دمنا في السجن لا أرى أصلح من البصيرة غذاءً وهواءً. وفي البصيرة كذلك شيء من الخيال هو خير التعزية إذا نكب البرهان.
– وما الفرق بين الخيال والأوهام الدينية؟
– الفرق بين اعتقادك بالخلود واعتقاد الخادم العبد بالجنة.
– وهل تسميها جنة العبيد — عبيد الأوهام؟
– إني أفضِّل أن أكون فراشة.
– فراشة من النور تجذبها إليها نار الألوهية، ولا تحرقها؟ إني أشاركك في التفضيل.
في صباح اليوم التالي أهداني صديقي كتابًا صغيرًا ما عرفت من عنوانه شيئًا من أغراضه، ولكن مؤلفه السيد أحمد بن إدريس مؤسس الحكم الإدريسي في عسير، هو من أولئك الروحيين الذين يرفعهم محمد فضل الدين إلى مقام ابن العربي وجلال الدين الرومي. أمر عجيب يتلوه في تهامة أمر أعجب. كيف لا وهذا الصوفي يؤسس فيها ملكًا عالميًّا، الطريقة فيه أساس الحكم، والحكم أساس الطريقة. ولكن الطرق تُفسِد التصوُّف، فكيف بها في الأحكام؟
لعمري إن أجمل الكمالات التي نتمنَّاها محققة في الحياة هي تلك التي تقترن فيها روحية الصوفي الحقيقي بالأعمال السياسية والاجتماعية والأدبية كلها؛ فتصفو مجاري العقل في مواردها، وتدقُّ خيوط النفس في منسوجها، يقل الجشع والخداع والوهم في نواحي الحياة. ولكن التصوف اجتهاد شخصي، ونعمة فردية، لا تُورَّث، ولا تُعلَّم، ولا تُنشَر بالإجازات. ومن الأسف أنه لا يبقى منها بعد موت صاحبها غير الطريقة، أو الحلقة وخزعبلاتها، والمشايخ وشعوذاتهم.
قال فضل الدين عندما أهداني الكتاب: الجهل المخيم في هذه البلاد يفسد أغراض هذا الرجل الكبير. تجيء المرأة إليَّ وهي تشكو من مرض أو ألم، فأعالجها فتشفى بفضل «الشيخ أحمد». يجيء البدوي وهو يصرخ من أوجاعه، ويصيح: جِرني يا شيخ أحمد، يا شيخ أحمد لا تنسني! يغيظني هذا الإشراك، بل هذا الكفر. أكاد أجن منه. قلت مرة لأحد المرضى: رُحْ إلى الشيخ أحمد يداويك. ورفضت مرةً أن أعالج امرأة حتى انتقلت في استغاثتها من الشيخ أحمد إلى النبي، فصحت بها: لا أحمد ولا محمد يا كافرة، استغيثي بالله، اتَّكِلِي على الله وحده. أما حلقة الذكر فسنشاهدها في الحديدة.
إن المناقب شبيهة بسير القديسين في الكنيسة الكاثوليكية، فهم يعدِّدون فيها فضائل الفقيد، فيجيئون بنبذة من سيرة حياته، ويذكرون بعض كراماته. استمرت مناقب الشيخ المرغني ساعة، وعندما وقف القارئ الوقفة الأخيرة فيها هتف المصلون: آمين. ثم ارتفع صوت شجي ينشد قصيدة يرثي فيها الفقيد الأبرَّ، فكانت مثل المناقب طويلة، وما كنت وحدي متضجِّرًا. قال مدير الشرطة وهو يمسح العرق عن جبينه: طويلة، والله طويلة. الشيخ يحتاج إلى الصلاة لا إلى الأشعار.
ولكن الشعراء لا يملون إسماع قوافيهم، هو ذا آخر لا حسنة حتى في صوته، ولاحقٌ جعلنا نترحم على السابق. ثم هتفنا مع المصلين: آمين، آمين. وكان الحرُّ شديدًا، والهواء ساكتًا عنيدًا، لا يحرك منه لسانًا فينعش قُوَانا، والرطوبة أثقل ما فيه، واللزوجة أفجع قوافيه؛ فاستجرنا منه بروح الشيخ الطاهرة، ورفعنا الأدعية والطلبات إلى سدتها الجليلة الباهرة: يا لطيفة، يا شريفة، يا كليمة أبي حنيفة، يا مسكتة الشعراء، ومنطقة الأولياء، يا مسكِّنة النهقات، ومحرِّكة الحلقات، اسمعينا، ارحمينا، آمين.
استُجِيبت في الحال طلبتنا، فوقفت الحلقة أربعة صفوف، الواحد وراء الآخر، ووقف الشيخ أحد أبناء الفقيد في وسطها فحرَّكها باسم الله. بدأ بصوت هادئ وإشارة لطيفة، بدأ ﺑ «لا إله إلا الله»، فمالت الحلقات إلى الأمام، ومالت إلى الوراء، وراحت تكررها، وتردد الشهادة. وكان صوت الأربعمائة مصلٍّ، وكأنه صوت واحد، وحركة الأربعمائة مجلٍّ، وكأنها حركة واحدة، يتدرجان سرعة وهياجًا عملًا بلهجة الشيخ وبإشارة يمناه، وهو يجول في الحلقة مستحِثًّا محرِّضًا.
ثم نهض فتى لا يتجاوز الثانية عشرة سنًّا، هو أصغر أولاد الفقيد، فبدأ حيث انتهى أخوه. وكان يتلوى كالسكران، ويرقص تارة، ويثب طورًا كالمجنون. مثَّل الفتى دوره تمثيلًا أدهش حتى الذين ألفوا الحلقات ومدهشاتها، وأضحكهم كذلك. كهرب الفتى الحلقة. أضرم فيها النار. قبض على ما تبقى من رشدها، ورماه خارجًا. صاح بها فرددت الصيحات، وصرنا لا نفهم ما يراد. إلا أنها أشبه بالأنين، كأن الأربعمائة رجل أصيبوا بألم شديد، فأنُّوا أَنَّةً واحدة. وبدأت تظهر كرامات الشيخ الفقيد. هو ذا عبد أمسى جمادًا، فرفعه اثنان فوق رءوسهم وأخرجوه، وذاك وقد خرج من الحلقة، فراح يدق رأسه بالحائط؛ فسقط صريعًا مغمًى عليه، وهاك من يبغي الاجتماع بالله بواسطة عمود من أعمدة المسجد فأمسكه رفيقاه، فتفلت منهما وضربهما، ووثب وثبة هائلة كان العمود ورأسه خاتمتها المفجعة، حملوه مضرجًا بدمه إلى خارج المسجد.
بدأت تظهر كرامات الشيخ. سقط أمام الفتى الزعيم في وسط الحلقة شيخ لحيته بيضاء طويلة، والزبد يسيل عليها من فمه، فوثب فوقه، ولم يأبه له، وهذا آخر يخلع ثيابه:
رمى بعمامته وبجبَّته وبدثاره إلى الأرض، فأوقفوه عند هذا الحد، وأخرجوه في شعاره من الحضرة الروحانية. استجرنا من ذا المشهد بروح الشيخ الطاهرة: يا لطيفة، يا شريفة، يا كليمة أبي حنيفة، يا مسكنة العباد، ومنطقة الجماد، يا ربة الحال، وسراج الترحال، قفي، والطفي، لا تقتلينا بالكرامات، ولا تُسْكِرينا بالشعوذات، ولا تؤاخذي شيوخ الطرق والحلقات، آمين، آمين.
(٧) أحمد بن إدريس والتصوف
كتبت عند وصولي إلى الحديدة كتابًا إلى السيد محمد إمام صبيا وجيزان أستأذنه بزيارته، وبتُّ أنتظر الجواب، وأنتظر كذلك سيارة استشرقت في الشرق، فصارت تعمل يومًا في الأسبوع، وتعيِّد ستة أيام فعيدت معها. وكان سروري مزدوجًا؛ لأني اجتمعت أيام العيد بقطب دائرة التقديس، السيد أحمد بن إدريس، كبير بيت الأدارسة، ومؤسس ملكهم في عسير، وفزت بطرفة من ترجمة حياته، وبنفحة من قدسياته، فجئت أمتع القارئ بها عله إذا كان ماديًّا يستفيد، وإذا كان روحيًّا يستزيد.
إن في العالم الإسلامي قطبين للصوفية وموردين هما: إيران، وبلاد المغرب، والسيد أحمد، نور من أنوار الثاني، فقد كان شروقه عكس الكواكب من الغرب، وغروبه الظاهري في الشرق في بلاد العرب. وُلد في بلدة العرائش على ساحل البحر من أعمال فاس في السنة الثانية والسبعين والمائة بعد الألف (١٧٥٨م)، وهو شريف حسني من السادات الأدارسة المشهورين في بلاد المغرب. درس العلوم في مدينة فاس، ثم شرع يعلم هناك في «ما شاء الله»، أي في المواضيع التي شاءت العزة السرمدية تلقينه إياها بالوسائط وبدونها.
كان السيد أحمد وهو في الدور الأول من استشراقه على الأسرار الإلهية والكونية يكثر الترداد على المشايخ العارفين الأبرار الذين أصبح قطبهم بعدئذ في العلوم والسلوك.
أما الشيخ عبد الوهاب التازي الذي كان يحضر دروس السيد أحمد في فاس، فقد صار بعدئذ شيخه الأكبر، ونور طريقه الأنور، ولا أهمية للسِّنِّ في الموحيات، ولا للشيخوخة في الربانيات. فمن جمال هذه الأرواح القدسية وكمالاتها أن المعلم الطالب الحقيقة لا يأنف أن يأخذها، وهو شيخ طاعن في السن عن تلميذه، بل عن أحقر الناس، وأصغرهم لديه.
قد اجتمع السيد أحمد بشيخه التازي بوساطة عالم من علماء شنقيط يدعى المُجَيدري، وكانت في الاجتماع الأول فاتحة الألطاف والأشراف. ولا عجب إذا كان الصوفي يهتم لكل حادث في حياته يفتح له بابًا، أو يشير إلى باب من أبواب الحقيقة الكلية الأزلية. إني أتصور المُجَيدري يقول للتازي: هذا الشاب الإدريسي مجدٌّ مجتهد، وهو على سنه طويل الباع في أسرار الكتاب والسنة. فيقول التازي: قد علمت بذلك قبلك. سمعته في بادئ أمره يدرِّس فقلت في نفسي: لا بد أن يشرق على كلماته نور الإذن الرباني. وها دنت الساعة يا مجيدري، ايتِني به فأجمعه برسول الله.
والشيخ التازي على كرامته لم يكن للسيد أحمد غير الوساطة الأولى. أما الثانية وهي بشرية كذلك، فتجمعه بالخضر أبي العباس. إلا أنه قبل أن نصل إلى الخضر لا بد من الدخول في الباب الثاني، أي شيخ الشيخ التازي. نعم، قد كان للتازي كذلك شيخ هو عبد العزيز بن مسعود الدباغ من فاس. وما كان لعبد العزيز من الحياة الدنيا غير ست وثلاثين سنة لزمه التازي مدة سبع عشرة سنة منها.
قد أخبرتك كيف اجتمع الإدريسي بالتازي، فأخبرك الآن كيف اهتدى التازي بالشيخ الشاب عبد العزيز الدباغ.
يظهر أن شيخ سيدي أحمد كان تاجرًا أول أمره، أو أنه كان يتَّجِر في بعض الأحايين ارتزاقًا. فمر يومًا بالدباغ وهو يريد أن يتجر في الحنطة، فدنا الدباغ منه، وهمس في أذنه: لا تتَّجر في الحب، واتجر في السمن. اشتره من يوم كذا، وبعه في يوم كذا، ولا تبقه بعده. فعمل التازي بما قال؛ فربح ربحًا كثيرًا. فجاء إليه شاكرًا، فقال الدباغ: ليس المقصود هذا، وإنما المقصود أن تتجر تجارة لن تبور أبدًا. فقال التازي: كيف ذلك؟ فأجاب الدباغ: أخرج مما ملكت يدك فتصدق به. فعمل بأمره ولزمه منذ ذلك الحين، واطلع على أسرار في العلوم والتفسير تلقنها بوساطته من الخضر أبي العباس. وقد عاش التازي ستين سنة بعد وفاة شيخه الدباغ، وكان هو وتلميذه الإدريسي يزوران ضريحه، وينشدان هناك الأشعار:
•••
من كرامات التازي أنه غاب عن بلده مرة يذكر إخوانه في الله فمات ولده، فأخبر بذلك، فأرسل إلى أهله يقول: لا تدفنوه حتى أحضر. فحضر بعد ثلاثة أيام، فخاطب ابنه قائلًا: من قال لك تموت؟ قم بإذن الله. فقام الولد حيًّا. إن كاتب الترجمة التي أعتمد عليها يذكر هذه الكرامة كأنها حادث عادي مألوف. وإني ناقل الخبر حبًّا بنشر ما أظنه إلهيًّا لحقيقة كلية، لا بد في مستقبل الإنسان والإيمان أن تصبح قوة من القوى البشرية العامة يستخدمها صاحبها لخير الناس. يستخدمها في الشفاء من الأمراض على الأقل. فإذا مرض أحد في بيتك تقول له: من قال لك تمرض، اشفَ بإذن الله تعالى. فيشفى في الحال.
وكان التازي يهذر أحيانًا بين أصحابه امتحانًا لهم، فيقول مثلًا: وددنا لو جاءنا أحد بثمر من القوقاس، أو بعنب من البحر. فيقول بعض أصحابه: كبر سن الشيخ. ولكن السيد أحمد، وقد كان أطوع له من بنانه، كان ينهض فيتهيأ ويتزود للسفر، ويجيء إلى شيخه، فيقبل يده مودعًا، ويقول: سأجيء لك بعنب من البحر. فيقول له التازي سرًّا في أذنه: يا أحمد، أمرنا كله جد، من يُعطِ الجد يُعط الجد.
ما أكبرها، وما أجملها كلمة! أخذها السيد أحمد عن شيخه التازي، وجاء بها إلى مصر. من يعطِ الجد يُعط الجد. كان يومئذ في العقد الرابع من العمر، فأقام في أرض الكنانة قليلًا، ثم سافر إلى مكة، فأقام فيها ثلاثين سنة يجادل ويناقش العلماء، ويشرح ويعلم العلوم الروحية. وكان يقول دائمًا: لكل نبي دعوة مجابة، ولكل ولي عند نبيه طلبة مقبولة. هذه هي نقطة الخلاف بين السالكين من سنيين وشيعيين، وأهل التوحيد الوهابيين الذين كانوا قد استولوا في ذاك الحين على الحرمين.
أما إذا قبلت قاعدة السيد أحمد، فينبغي لك أن تقبل كذلك نتائجها، فتقول، والمنطق أساس المعقول: ولكل شيخِ طريقةٍ عند وليه طلبة مقبولة، ولكل سالكٍ عند شيخه شفاعة، ولكل امرئ عند السالك مثلها … إلخ. هذا نظام في العقيدة والإيمان يفسد غالبًا الغرض السامي منهما. قد رأينا مثالًا منه في حلقة الذكر، وهناك أمثلة أخرى عديدة فيمن يلجئون إلى الأولياء وإلى المشايخ، بل إلى الأشجار والأحجار عند ضريح من كان من الأبرار. ليس المقام مقام جدال في الدين، وتفضيل بين السالكين والموحدين، ولكني أقول: إن السالك الحقيقي يصل في نهاية أمره — اللهم إذا كان مجدًّا مخلصًا — إلى أسمى درجات التوحيد.
قد تدرج السيد أحمد في الوسائط كذلك؛ فقد كان بينه وبين النبي — كما تبين — وساطتان بشريتان، هما التازي والدبَّاغ، وثالثة روحية هي الخضر أبو العباس. والخضر الذي كان يجتمع بالنبي في حياته هو الوساطة بينه ﷺ، وبين الدباغ عبد العزيز الذي كان يجتمع به ويأخذ عنه في اليقظة وفي المنام، وكذلك السيد أحمد، فقد استغنى رويدًا رويدًا عن الوسائط كلها، كما استغنى بالقرآن عن العلماء أجمعين، وصار في آخر أمره — ويصح أن نقول في بداءته — يجتمع بالنبي مباشرة مثل الدباغ في اليقظة وفي المنام.
لعمري إن من يتجه بكل قواه العقلية والقلبية والروحية إلى كتاب، أو إلى أمر أو إلى عقيدة أو إلى طريقة، صوفية كانت أو تجارية، يرى منها ومن نفسه العجب. فكيف لا يجتمع بالنبي من قضى ستين سنة يفكر بالنبي، ويقرأ ويردد كلمات النبي، ويتوسل ﺑ «الصلاة العظيمية» إلى النبي في اليقظة وفي المنام؟ إن صورة أصورها في قلبي كل يوم لتنعكس أمامي من حين إلى حين، فأراها بالعين المجردة كما أراها بعين الروح، وإن شئت فقل بعين الخيال، يقظة ومنامًا، فضلًا عن أن السيد أحمد الذي ابتدأ بالتازي معلمًا وانتهى بمحمد، أصبح والنبي شيخه الأكبر ونوره الأنور. وهو — أي السيد أحمد — القائل: الاستفادة من شيخك أكثرها يكون بالتوجيه القلبي. اسأله بقلبك فيجيبك بقلبه. هو ذا الصوفي الحقيقي يتكلم، وهذه فيه صورة من صور الجمع العديدة.
على أن هناك أمرًا يختص بعلوم السيد أحمد، قد يُظن في ظاهره الشعوذة التي أجله عنها. ولكنه استحال عليَّ فهم السر في يده، فقد كانت كما قيل لوح العلم المكنون، ينظر إليها فيرى ويسمع ما وراء المحسوس والمظنون، بل كان إذا سئل عن شيء في القرآن ينظر إلى باطن كفه، ثم يشرع يفسر بما شاء من العلوم الدينية، وإذا سئل عن حديث شريف ينظر إلى ظاهر كفه، ثم يتكلم بما يبهر العقول. فما الصلة يا ترى بين كفه وتلك العلوم والأسرار؟ حبذا لو أذن الشيخ السنوسي بشرح «أحزابه وأوراده». فقد يكون تمكَّن من إماطة النقاب عن هذا السر في طريقة السيد أحمد وفي يده. ولكنه لم يأذن للسنوسي بشرح الأحزاب خوفًا من أن تُفسِدها الشروح. فقد قال له: لا تخربها يا ولد السنوسي، إنما شرحها في جنة عدن.
أما السيد أحمد السنوسي الذي اجتمع عندما جاء مكة للحج بالسيد أحمد الإدريسي، فهو من علماء المغرب الكبار. وقد أعجب جدًّا بالسيد أحمد، ولزمه مدة إقامته في مكة، فأخذ عنه، وأذعن له الإذعان التام. لذلك ترى الطريقة السنوسية في كفرة اليوم جامعة بين الإدريسية والشاذلية، ولكنها تُدعَى محمدية لاتصالها بوساطة الإدريسي، فالتازي، فالدباغ، فالخضر بالنبي. وقد عادت إلى المغرب بوساطة السنوسي، وسارت إلى أفريقيا بوساطة محمد المجذوبي السواكني، أحد أولياء السودان «الشهير في وقته بين الخلائق، بالكشف الصادق، والكرامات الخوارق». فقد صحب السيد أحمد مدة طويلة وأخذ الطريق عنه.
ثم اتجه القلب إلى اليمين، فبعث الله منها أحد السادة، جاء مثل السنوسي للحج. وليس خيرًا من مكة لمن يروم الصيد، صيد القلوب، التي تحوم كلها هناك. جاء السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل مفتي زبيد في عصره، فألفى فيها السيد «كالعافية للسقيم، وكالشفاء للجرح الأليم»، ولما عاد إلى وطنه حدَّث في زبيد عن شيخه الإدريسي، وأثنى عليه كثيرًا. ثم كتب ترجمته في كتاب دعاه «النفس اليماني، والروح الريحاني»، وبينما هو وبعض العلماء يومًا في ذكر كراماته — بذكر الصالحين تتنزل الرحمات — هزَّهُم الشوق إليه، ومثلهم الوجد بين يديه، فقال السيد الأهدل: هذه ساعة الإجابة إن شاء الله. ارفعوا أيديكم بالدعاء أن يأتي الله به إلينا. فلما تم المجلس قال: أرِّخوا اليوم وهذه الساعة. وكان في مكة يومئذ أن حرك الله داعي السفر في قلب السيد أحمد، ثم أمر به فخرج يبغي مريديه يوم هاجهم الشوق إليه. وعندما وصل إلى تهامة كان أول نزوله في زبيد عند السيد الأهدل عبد الرحمن.
جاء الإدريسي اليمن مبشرًا بعقيدته، داعيًا إلى طريقته، ناشرًا ما منحه الله من أسرار الكتاب والسُّنة. وكان حيثما نزل محترمًا مبجَّلًا، فنُظمت في مدحه القصائد، وتبارى في ذي الحلبة شعراء زبيد، وبيت الفقيه، وتعز، ووصاب، وتهافت عليه الناس خاصةً وعامةً يستنيرون بمشكاته، وينتفعون ببركاته. بل كان العلماء والمشايخ له سامعين، وعنه آخذين، وكانت زبيد نقطة دائرة آماله. أقام أول مرة فيها عشرين يومًا، وعاد بعد أن طاف في تهامة إليها، فأقام فيها بضعة أشهر، فأخذ الناس يتسابقون إلى اقتبال دعوته، ونشر طريقته، التي أجازها للسيد عبد الرحمن بن سلميان الأهدل هو وأولاده إجازة عامة «في جميع العلوم المقربة من الله تعالى»، ولا تزال زعامتها في بيت الأهدل إلى اليوم.
مما يحزن في أخبار رحلة السيد في اليمن أن تلك البلاد كانت منذ مائة سنة أرقى مما هي اليوم. فقد كان أهلها متيقظين، وفي العلم راغبين. فكان الشعراء والعلماء يومئذ في المدن والقرى، واليوم لا تجد في تهامة كلها شاعرًا واحدًا ينظم باللغة الفصحى. أنلوم الترك الذين حكموا بعدئذ البلاد، أم نلوم التصوف الذي ينفع الفرد ولا ينفع عامة الناس؟ إني متيقن أن لا تصوف في الجماعات، وقد استحال عندهم طرقًا وحلقات.
عاد السيد أحمد شمالًا في رحلته فزار الحديدة، ومُراوَغه، وباجل، ثم صبيا البلدة المشهورة القريبة من أبي عريش، فاستقرَّ فيها واستوطنها، فكانت هناك خاتمة الرسالة الصوفية وفاتحة الطريقة الأحمدية.
إن آخر من أخذ عنه أثناء إقامته هناك هو الشيخ إبراهيم الرشيد صاحب الطريقة الرشيدية؛ فقد صحبه في صبيا مدة السبع السنوات الأخيرة من حياته، فاغتنم فيوض بركاته حتى النفحة الأخيرة منها التي فاضت من نفس السيد أحمد، ورأسه الشريف على ركبة تلميذه، وذلك في تسعة بقين من رجب هي السنة الثالثة والخمسون والمائتان وألف (١٨٣٧م).
قد قيل إن الرشيد كان أقرب الناس إلى شيخ صبيا ووليها، وأرسخهم قدمًا في علومه وأسراره. ولكننا سمعنا وشاهدنا في طريقته ما ينفي ذلك. حلقة حضرناها في عدن فيها ولدان ينغمون، ورجال يطيبون ويتصابون، وصفوف من الحسن والشوق تميل بعضها إلى بعض، وعيون ترنو إلى القمر في السماء، ثم إلى الأقمار أمامها، وشيخ الحلقة جالس على منصة يراقب منها العمل، بل التمثيل. إنه في تعليم الولدان لَأستاذ بارع يعلِّمهم الغناء، والحداء، والسجود، فيستصبي في أذكارهم الجلمود، ويغرس في الحلقة سرَّ الوجود؛ خاتمة المحامد والورود. إن مثل هذا التطور في التصوف ليحزن جدًّا. وإني أجلُّ السيد أحمد عما يجري باسمه اليوم في تهامة وعسير وفي السودان، وأعتصم بروحه الشريفة الطاهرة منها.
حققني يا إلهي بإنسانيتي حتى أكون إنسان العين الكلية الإلهية التي لا يحصرها شيء، ولا يقدر قدرها سواك.
واسمعني غاية لذيذ خطابك ومحادثتك في كل حال من أحوالي بجميع كلياتي؛ حتى لا تخلو ذرة من ذرات أجزاء ذاتي من ذاك السماع الإلهي لحظة، ولا أقل من ذلك.
واجعلني يا إلهي لك عبدًا محضًا عبودية خالصة لا رائحة ربوبية فيها على أحد من خلقك.
وتجلَّ لي يا إلهي بمقام الاستواء الجامع للمراتب الخفية الإلهية كلها حتى أعطي كل مرتبة إلهية حقها في نفسي.
وتجلَّ لي يا إلهي بسر توحيد الذات المطَلسم في آية الأنانية المرسومة: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني.
من أين للعامة الذين يصيحون في الحلقات ويرقصون، أن يدركوا مثل هذه الروحيات، ويتذوقوا مثل هذه الإلهيات؟ بل من أين لمشايخ الطرق والسادات المتصوفين أن يتفهموا معاني شيخهم الأكبر في «الاستواء الجامع لمراتب الحقيقة الإلهية»، وفي «آية الأنانية الموسوية»، و«بسبر توحيد الذات»، و«بإنسان العين الكلية الإلهية»؟ إنهم لو أدركوا مقدار ذرة من مقاصده ومعانيه في هذه الحقائق والتشوُّقات لفروا من الحلقات هاربين، وراحوا أفرادًا ساكتين قانتين سالكين. إن بشرًا يصبو إلى قلب الإلهيات، بل إلى ذروتها، ويبتغي أن يكون إنسان عين الله لتستوي عنده مراتب الحق كلها، فيرى في كل مرتبة، في كل دين، في كل مذهب، صلة إلهية فيعطيها حقها من نفسه؛ إن مثل هذا البشر العظيم لينفع في حياته الناس، لكنه قد يضرُّ كثيرًا فيما يقام له بعد موته من التكيَّات، وما يسوَّد باسمه من الجربزات.
أجل، وقد يضر أشد الضرر بفلسفةٍ في الزهد والفقر تصلح للزاهدين، ولا تصلح للأمم والشعوب إلا إذا عمَّتهم أجمعين. ولعمري إنها حتى في كليتها وشمولها تخالف الناموس الطبيعي الذي جعل في العمل خلاصًا للإنسان، ونعمة ويمنًا، بعرق جبينك تأكل خبزك. إنها لحقيقة اقتصادية وإلهية معًا، ولكني أنا الكسلان أتفلسف في الزهد، وقد أكون صادقًا في زهدي مقتديًا بالنبي القائل: لكل نبي حرفة، وحرفتي الفقر والجهاد. وقد أكون كذلك فصيحًا بليغًا، فأكتب رسالة «كيمياء اليقين»، كما فعل سيدي الأبر أحمد بن إدريس، فأبرهن فيها أن طلب الرزق حرام، وأجيء بالشواهد الدينية، والأحاديث النبوية، والنوادر والملح، أثبت ما أقول، وأستغوي به الناس، فأظلم أمة كاملة بحديث من الأحاديث النبوية: لو ركب الإنسان الريح، وهرب من رزقه لركب الرزق البرق وأدركه حتى يدخل فمه.
ما أجمله وألطفه حديثًا، وما أقرب الموت من حقيقته. قد ينجو بها امرؤ وتهلك بها أمة جمعاء. إني إذا اخترت لنفسي الفقر والزهد أخطئ إذا استخلصت منها قاعدة ليسلك بموجبها الناس، أو مثلًا يتمثلون به، فكيف بي إذا قصصت تعزيزًا لطريقتي مثل هذه القصص اللطيفة. كان امرؤ يصلي في المسجد، ويلزمه دائمًا ليل نهار، فسأله الإمام: من أين تأكل؟ فقال له: من ملك السماوات. فقال: وهل يدلي لك بالقفة؟ فأجاب: نعم. فأخذه الإمام إلى بيته ودلاه في البئر، وذهب إلى السوق، وكانت امرأة الإمام وخادمتها وأمامهما أكلة طيبة همتا بأكلها، فطرق الباب طارق، فخبأت الأكل في البئر، دلته بسلة فوقعت على الزاهد فتناولها، وأكل هنيئًا. دلى له الأكل ملك السماوات. أجل، رزقك يتبعك كالظل. كنز المؤمن ربه، قد وعد الله العباد برزقهم، والله صادق بوعده … إن الاهتمام بالرزق إذن تكذيب لله. ها هنا قلب الجمود فيما التوى من الإسلام، وموطن الضعف والخمول في معظم المسلمين.
ولكن في هذا الكتاب الصغير الكبير، كتاب «الأحزاب والأوراد»، غير رسالة «كيمياء اليقين» العجيبة التي يستوقف عنوانها المبتكر الأنظار، ويفكه فحواها الأبرار والتجار، ويساعد كذلك من يبغي في الصوفية والزهد مسلكًا صالحًا قويمًا — إن فيه كذلك «الحزب السيفي»، وقصته أغرب ما فيه.
قد عرَّفتك تعريفًا سطحيًّا بالمجيدري العالم الشنقيطي الذي جمع «سيدنا أحمد بمولانا عبد الوهاب التازي»، وأزيدك الآن به علمًا. يظهر أن روحية المجيدري كانت مزدوجة، أي مركبة من روحيتي الأنس والجن. ويظهر أنه كان يباري الدباغ بالأسفار في عالم الغيب يقظةً ومنامًا، فاجتمع هناك بكبير من كبار الجن الذي كان رفيقًا لسيدنا علي رضي الله عنه. من المعلوم في التاريخ أن عليًّا حارب الجن وغلبهم، ثم اصطحب بعض المؤمنين منهم في جهاده إخوانهم الكفار. ومن أولئك الصحابة قطب الجان الققائي الذي كان لعلي كالخضر أبي العباس للنبي. هو الققائي الشهير الذي اجتمع به المجيدري فلقَّنه «الحزب السيفي» عن الإمام علي، ثم تلقاه السيد أحمد عن المجيدري بروايته التامة وحرفه الواحد. اللهم افتح لنا.
إن الفرق بين هذا الحزب وغيره من الأحزاب يحملنا على تفضيل الخضر في الرواية والحديث، بل فيه ما يحط من قدر الإنس والجن وساطة، ولا يزيد الإمام عليًّا والسيد الإدريسي رفعةً وفضلًا. فيه من مرادفات الأدعية والمحامد، والطلبات والاستغاثات، ما تجده في غيره من الصلوات. وفيه من التسخط والغضب على الأعداء، والاستغاثة بالله عليهم ما يروعك، ويزعزع فيك لأول وهلة الإيمان بالصالحين الأبرار، ولكنك إذا تبصرت قليلًا يطمئن بالك، وترى في دعوات السيد الساخط عين الصواب. خذني بحلمك فيما ستسمع. إن من يستحسن شيئًا ليرغب فيه، فلو كان السياسي أو التاجر أو الجندي أو الكاهن أو الطبيب أو المحامي يدعو على أعدائه دعوات سيدي أحمد، لقلت: كفر بالله. ولكن المجنون بالحقيقة الكلية، المجذوب إليها بجمعيته، ومن صحَّ إيمانه، وصدق يقينه، وكرمت أخلاقه، وسمت أشواقه، وتنزهت عن اللؤم والجشع والأنانية والكبرياء والنفاق أعماله، وكان مجاهدًا في سبيل الفضائل الروحانية، والخلقية كلها، إن هذا الرجل يشتهي أن يطهر العالم والناس من أضدادها.
هذا في كتاب الأحزاب، ويتلوه من المحامد ما لا يضاهي ورعًا وإنسانية ما جاء في أوله، أخص منها المحمدة الثانية، وهي جامعة مستوفية وجيزة بليغة. هي روح المحامد كلها.
الحمد لله بجميع محامده كلها، ما علمت منها وما لم أعلم، على جميع نعمه كلها، ما علمت منها وما لم أعلم، عدد خلقه كلهم، ما علمت منهم وما لم أعلم.
ولكن السيد أحمد بشر كريم صادق اللهجة في حالاته كلها، فقد كانت له فترات من الحياة فيها الظلام أكثر من النور، والبؤس أشد من الحبور، فخرج لذلك من التعميم إلى التخصيص، ومن الحمد على ما لا يعلم إلى الشكوى مما هو معلوم محسوس. أجل، وقف مرة في «كنف الله وجواره» يعدد مثْل أيوب الصديق المصائب والآفات والأمراض والمفاسد كلها، ولم ينسَ الفالج والباسور، ولا استثنى وحشة القبور.
هذا ما في «الحزب السيفي» الذي تلقَّاه الإدريسي عن المجيدري عن قطب الجان الققائي عن الإمام الأكبر — رضي الله عنهم أجمعين.
أسألك اللهم بنور عظمة ذاتك الذي لا يحتمل ظهوره أحد غيرك.
لولا لطفك بحجبك النورانية لاحترقت صور الكون كلها.
إن دون الله — عز وجل — سبعين حجابًا من نور وظلمة، وما تسمع نفس شيئًا من حس تلك الحجب إلا زهقت.
ما قرأت في الاستعارات الصوفية، وما سمعت من أنغامها، وما شاهدت في صورها، أجمل من «حس تلك الحجب»، وقد حركتها النسام الربانية، فهمست أسرارها همسًا في الأكوان.
وأسألك بسر ذاتك الذي اضمحلت فيه حقائق أنبيائك والمرسلين، وطاشت بجماله ألباب ملائكته الكروبيين، وانعدمت فيه معارف أوليائك وأصفيائك المقرَّبين، حتى تاه الكل في الكل، وتحير الكل في الكل … أن تخرجني من شهود كل شيء سواك … فتتفجر أرض طبعي كلها عيونًا عشيقة … هنا وهناك … وراء الوراء بلا وراء، ودون الدون بلا دون.
وهذه في نظري أجمل الأزهار الروحية في روضة الصلوات الصوفية إذا فاز بها السالك المالك، هنا وهنالك.
(٨) الأدارسة في عسير
واجعلني يا إلهي لك عبدًا محضًا عبودية خالصة لا رائحة ربوبية فيها على أحد من خلقك.
إن الرجل الذي تُوفي سنة ١٨٣٧م في صبيا، فكُفِّن بكفن التقديس، وشُيع إلى القبر وليًّا، لم يبغ السيادة على أحد من الناس، ولم يحلم على ما أظن وأعتقد بملك عالمي إدريسي. ولكن من ضريحه، وقد أمسى مقامًا ومزارًا، مُدت يد السيادة، وهي تحمل رسالة طالما سمعها العرب: خصوصًا البدو منهم، وأذعنوا لها. ولا غرو والدين عندهم أساس الملك في الدنيا، والسبب الأول في خرابه لو أنهم يفطنون، يموت الرجل الصالح الأبر الذي لم يرغب في غير العبودية لله الخالصة، المجردة من الربوبية على أحد من خلق الله، فيُرفع إلى مقام الأولياء، ويُؤخذ من ضريحه حجر الزاوية لملك عربي جديد.
كانت تهامة وعسير يوم تُوفي السيد أحمد بن إدريس في حكم مضطرب لا تركيًّا يُعرف ولا مصريًّا. ومع أن البلاد، من القنفذة حتى المخا، كانت في حوزة إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير الذي احتلَّها بجنوده سنة ١٨٢٦م باسم الباب العالي، فالأهالي على الرغم من الإحدى عشرة حملة التي حملها عليهم من الطائف ومن البحر، نافرون منه ثائرون عليه.
ومن أسباب ثورتهم على المصريين والحجازيين أن كثيرين منهم، اقتداءً بزعيمهم أبي نقطة، انتحلوا المذهب الوهَّابي، وكانوا من أنصار الأمير سعود الكبير الذي استولى على الأقطار العربية كلها. وقد كان انتشار الوهَّابية في تهامة أحد الأسباب في نجاح الطريقة الأحمدية، بالمقاومة التي تظهر القوى الكامنة في المذاهب وفي الجماعات. وقد فازت السيادة الروحية المغربية نهائيًّا على السيادة الوهَّابية، ولا سيما لأن «توهيب» الناس يومئذ في تهامة لم يكن غالبًا عن اعتقاد، بل كرهًا للحكم الشريفي الذي كان يومًا تركيًّا، ويومًا مصريًّا، ويومًا عربيًّا، ودائمًا حكمًا ظالمًا جائرًا.
استمرت هذه الحال عشرين سنة، وعندما قررت الدولة أن تسحب جنودها من تهامة وعسير سنة ١٨٤٠م كان يطمع بالسيادة فيها ثلاثة من أمراء العرب، هم: الشريف محمد بن عون في مكة، الذي كان يساعد المصريين في حملاتهم على تلك البلاد، والشريف حسين بن علي من أشراف أبي عريش الذين كانوا يحكمونها، والإمام الزيدي في صنعاء الذي كانت تهامة سابقًا في حوزته وجزءًا من بلاده. فاتفق محمد علي باشا يومئذٍ مع أقدر الثلاثة وأدهاهم، وهو الشريف حسين، فسلَّمه زمام الحكم في تهامة، على أن يدفع سنويًّا إلى الدولة قيمة من المال.
كان الشريف حسين في حكمه ظالمًا، وفي سياسته مراوغًا مستبدًّا، يطمع بالاستيلاء على اليمن كله، وبإخراج الإنكليز من عدن؛ فنشبت بينه وبين إمام صنعاء حرب استمرت بضع سنين، تناوبته فيها الهزيمة والنصر، فوقع مرة في يد الزيود أسيرًا، وبسط بعدئذ سيادته على أساكل تهامة كلها حتى المخا؛ فأنَّ من جوره ومظالمه الناس.
ثم عادت الدولة سنة ١٨٤٩م تحاول الاستيلاء على اليمن وعسير، فنزلت جيوشها بقيادة توفيق باشا في الحديدة، واسترجعت الحكم من الشريف حسين الذي عاد إلى مقره في أبي عريش.
ومن غريب ما يعيده التاريخ من حوادثه أن إمام صنعاء كان يحارب يومئذ ليسترجع الحديدة من الشريف حسين، وكان الإنكليز يومئذ كما هم اليوم متذبذبين بين الاثنين، أي بين حاكم الأساكل وحاكم الجبال.
نزل توفيق باشا في الحديدة، وبسط شيئًا من حكمه في تهامة، وتقدم بجيوشه إلى صنعاء — كما أسلفت القول في فصل سابق. وقد كان اليمن الأعلى أهم ما ينبغي في خطة الاستيلاء، فعادت تهامة إلى ما كانت فيه من الاضطراب، لا يحكمها فعلًا الأتراك، ولا أشراف أبي عريش، فجاء ابن إدريس يشيد بين ظلال السيادتين المتداعيتين حكمًا روحيًّا، بل حكمًا حقيقيًّا، انتشرت كلمته وتعددت رسله شمالًا وجنوبًا في البلاد.
جاء الناس من تهامة وعسير، ومن اليمن يزورون المقام في صبيا ويتبركون، وكان السيد محمد بن الولي الجديد مقيمًا هناك، تتنازعه عوامل الدنيا ونوافل الدين. ولكن المقام صار عرشًا، وصار سيد المقام تدريجًا سيد الأقوام، فسرت في مجاري القدسيات السياسة، وشرع أبناء إدريس يناهضون سرًّا وعلنًا أشراف أبي عريش حتى تغلبوا عليهم. ثم حاولوا بوساطة العشائر، أبناء الطريقة الأحمدية الجديدة، أن يتغلَّبوا على الأتراك، فلم يفلحوا في بادئ الأمر. ولكنهم استمروا يستثمرون تلك السيادة الإرثية التي أصبحوا بسببها أثبت قدمًا، وأبعد نفوذًا، وأوسع جاهًا من سائر أعدائهم في البلاد. وقد تجاوز ذاك الجاه عسيرًا، فوصل بالمهاجرة إلى مصر، وبلاد المغرب.
جاء ابن إدريس مهاجرًا من الغرب، وراح ابن إدريس مهاجرًا من بلاد العرب. ولد للسيد محمد ولد دعاه عبد المتعال، فلما شب سافر إلى مصر وتزوج، وأقام هناك في قرية الزينية قرب الأقصر، وولد للسيد عبد المتعال عدة أولاد سافر بعضهم إلى المغرب، فتزوجوا من بيت السنوسي هنالك، وأقاموا في القيروان. إن لهم كذلك بيوتًا في الزينية، وفي أرجو بالسودان. أما في عسير فمنهم اليوم ثلاثة هم: السيد مصطفى، والسيد السنوسي، والسيد العربي، أبناء عبد المتعال. وقد حافظ هذا الفرع من بيت السيد الأكبر على مقامهم وسليلتهم، فلم يتزوجوا من غير بيوت الأكفاء والأقران.
أما جدهم السيد محمد، فقد استرسل إلى أهوائه، فأساء إلى شريف إرثه، بل إن فعلته التي أضرت ولا شك بسليلته لتتجاوز الإساءة؛ لأنها حدثت وهو لا يزال في ظل أبيه الأبر، قريبًا من آثاره القدسية. قلت في فصل سابق كلمة في اختلاط الشعوب عنصرًا ولونًا بالمزاوجة، وقدمت شهودًا أحياء على بعض نتائجه. إن من يحب بيت إدريس، ويغار على خيره واسمه، ليأسف جدًّا لما بدا من السيد محمد الأول — رحمه الله — وما كان عمله ليستوقف الأنظار، ويحزن الأنصار، لولا مقامه الديني والمدني؛ لأن من يقتنون الجواري في الحجاز وعسير، ويتزوجون بهن حتى من الأشراف كثيرون. إلا أن من كان بعيد النظر حكيمًا يدرك أن البيت الشريف السالب السيادة والملك لا يسلم بين شريفين كبيرين: شريف مكة، وشريف صنعاء، إذا كان لا يحافظ على شرفه في دمه ونسله.
اقتدى السيد محمد بالسادة زملائه، فتزوج بجارية سودانية ولدت له ابنًا دعاه عليًّا، فكان بداءَة الدم الأسود في سليلة بني إدريس بعسير، ثم تزوج السيد علي بفتاة هندية هي أم السيد محمد الثاني، فلم يصلح في خطأ أبيه شيئًا ظاهرًا. ومع أن هذا الولد الهندي الأم، السوداني الأب أنجب ونبغ في بيته، فلا النجابة ولا النبوغ يُصلِحان ما تفسده السياسة بسبب النخاسة في ملكه.
عاد السيد محمد من دنقله إلى عسير، إلى مسقط رأسه، إلى قاعدة ملكٍ جله في ذاك الحين صوري متزعزع، فكانت الفوضى ضاربة في البلاد أطنابها، وكان الترك جنوبًا يحكمون حيثما يستطيعون، ويستغوون رؤساء العشائر بمشاهرات لا يدفعون غير اليسير منها؛ فانقلب عليهم الطامعون، واستمالهم الإدريسي إليه. وقد شاهد غيرهم من المشايخ يتشاغبون ويتفانون، فاستفاد بما هم فيه، واستعان بزعيم على أخيه، حتى ساد أكثرهم فثبت كل كبير في قومه، واقتدى بإمام صنعاء، فأخذ منهم الرهائن ليأمن منهم الردة والخيانة، ثم مد سيادته شمالًا وشرقًا إلى الجبال، فجمع عدة أفخاذ وبطون من العشائر تحت لوائه الذي رُفع برهة عند حصن أبها، وعلى حدود حاشد وبكيل.
ولكن نجم السيد محمد لم يعلُ ويتلألأ في سماء آل إدريس إلا خلال حربين بين الدولة العثمانية ودول الإفرنج، أي حربها سنة ١٩١٢ مع إيطاليا، ثم اشتراكها في الحرب العظمى على الأحلاف؛ فقد كان في الحربين خصم الترك اللدود، والحلف الذي لا ينقض العهود. أخذ من الإيطاليين سلاحًا، فأشهرها نارًا وسياسة على عدوهم وعدوه. وأخذ من الإنكليز مالًا وسلاحًا، فخدم الأحلاف في الجزيرة خدمة، وإن صغرت، لا تشوبها الأطماع، ولا يفسدها الخداع. وقد كان لا يزال له غير الأتراك عدوًّا، فحارب هذا العدو كذلك بما جاء من الحليفتين، ولكن انتصاره على الزيود في ذاك الحين كان يعد انتصارًا على الأتراك.
إن من فضائل السيد محمد ثباته منذ بداءة أمره على مبدأ واحد؛ فقد كان عربيًّا صميمًا، جسورًا في سبيل ما يبغيه، يحالف أية دولة كانت على أعدائه الترك، ومن كان حلفهم من أمراء العرب عليه. فما تذبذب في مبدئه، ولا تحول عن عزمه، حارب الأتراك وحليفهم الشريف، وصديقهم الإمام، فكان في الغالب منتصرًا، ودائمًا عزيزًا. لا أنكر أن الأحوال كانت حليفته، ولكنه سلَّحها من لدنه بالعزم والمضاء.
ومما يجهل الإفرنج والعرب أن السيد محمدًا كان أول مَن انضم إلى الأحلاف من أمراء العرب، وأول مَن حمل في البلاد العربية على دولة الترك حليفة الألمان. فقد عقد معه الإنكليز بوساطة حكومتهم في عدن المعاهدة الأولى في نيسان سنة ١٩١٥ التي بموجبها تعهَّدوا أن يمدُّوه بالسلاح والمال، ويحموا أساكل بلاده من التعديات الخارجية؛ فباشر في الشهر التالي القتال. خرج ابن عمه السيد مصطفى في اثني عشر ألف مقاتل على الأتراك، فدحرهم دحرات متواليات، ووصلت جنوده شرقًا إلى قرب صَعْدة، وشمالًا في تهامة إلى القنفُذة. ولكن الإدريسي بعد أن استولى عليها في ١٠ تموز سنة ١٩١٦ أخلاها للملك حسين إكرامًا لأصدقائه الإنكليز الذين عقدوا معه معاهدة ثانية في كانون الثاني سنة ١٩١٧ تتعلَّق بجزيرة فرَسان، وكان قد أخرج الحامية التركية منها واستولى عليها.
كان السيد محمد حصيفًا ذكيًّا ذا دهاء، يستعين على عدوه بكل ما حوله من شقاقات وزعامات، بالزرانيق مثلًا على الأتراك، وبالشوافع على الزيود، وبالعشائر على الأشراف، وبالإنكليز على الجميع، وكان له عون كبير في إرثه الروحي ضاعَف نفوذه الشخصي، وزاد ذكاءه الفطري لمعانًا.
إن مثل هذه السياسة الروحية المدنية المتوكلة في معظم شأنها على الإنكليز لا تُستغرب من أميرٍ يُعد في البلاد دخيلًا، وهو في الدفاع عن نفسه وفي تجهيز العساكر يحتاج دائمًا إلى المال والسلاح.
ولكن الإدريسي يستنفر في الحرب القبائل بوساطة المشايخ والمقدمين فيلبيه ثلاثون ألف مقاتل ويزيد، وهم يحاربون على الطريقة الأولى حرب البدو. يجيء رجال كل قبيلة أو بطن أو فخذ بزادهم وركائبهم وما عندهم من السلاح، فيعطيهم الإدريسي ما يحتاجون إليه زيادة، ويمدُّهم بالذخيرة، ويدفع فوق ذلك رواتب مُرْضِية. ولكن الغنائم هي الجاذب الأكبر في حروب العرب كلها، لولاها لما كان جند في تلك البلاد يذكر. أما الأمير الكريم الذي يُغدِق على المشايخ والزعماء فهو الفائز على أقرانه في السياسة، المنتصر على أعدائه في الحروب، ولم يكن في سلاح السيد محمد الإدريسي وقواته في حروبه كلها أمضى من هذا السلاح، أي الكرم. فقد كان يحسن كذلك إلى الكثيرين من السباهلة والمشايخ الذين يؤمُّون صبيا من بلاد المغرب، ومن مصر.
دعوته بالكبير، وهو لا مشاحة أكبر مَن حكم في عسير من بني إدريس، بل هو مدنيًّا سيدهم، كما أن جده السيد أحمد أميرهم الأكبر روحيًّا. وفي الاثنين، الصوفي والسياسي، مصدر القوة والضَّعف في الحكم الإدريسي. إن في الأساس الديني لهذا الحكم قوة تعزِّزه في البداءة، وتضعفه في النهاية، تعزِّزه في دور التأسيس والنشوء، وتخذله في دور التوسع والاستيلاء. ولا بد في الدورَين من التطور، ولا بد في التطور من التفكُّك في العناصر المذهبية؛ أيْ إن حكمًا مثل حكم الإدريسي يضعف في التوسيع، يرق في الامتداد؛ لأن أساسه المذهب، وأساس المذاهب الطريقة، والطريقة لها مقام قد تصفو في جواره، ولكنها تفسد وتعقم كلما بعدت عنه، وها هنا لعمري فشل الصوفي.
أما السياسي فمصدر الضعف فيه، وقد ذكرت مصادر القوة في السيد محمد، إنما هو في الدم الذي تخلَّل صفاء النسل، وسلامة النسب في بيته. وليس نبوغه وسمو أخلاقه بحجةٍ على ما أقول. فلو كان المرء شاعرًا أو صوفيًّا أو فلَّاحًا أو تاجرًا لما هم لونه، ولما أثَّر الدم في حياته ومقاصدها، ولكن في الملك وفي السياسة ترى ذلك في يد أعدائه من الحجج القاطعة عليه. خدمت الحروب الأجنبية مقاصد السيد محمد، فاتسع ملكه، وما ازدادت شوكته؛ فقد كانت قبل الحرب حدوده جنوبًا بين ميدي واللُّحيَّة عند سيل يُدعى وادي العين، فامتدت بعد الحرب حتى دخلت في ملكه الحديدة، ومعها اللحيَّة، والصليف، وباجل، وعُبال، والزيدية، ولكني لم أشاهد عندما كنت هناك، لا في الحكم المدني، ولا في السيادة الروحية، ما يساعد على عمرانها، ويثبت قدم السيد فيها.
فهل تتغير الأحوال فتخدم خلفه فيما ضنَّت به عليه؟ إن ابنه البكر عليًّا في التاسعة عشرة من سنه، وقد بايعه الناس بعد أن عرضوا البيعة على عمه السيد حسن شقيق المرحوم السيد محمد، فرفضها متعللًا بصحته وعزلته. والسيد حسن في العقد الرابع من العمر، وهو يتحدى في سلوكه وزهده وجده السيد الأكبر.
(٩) على ظهر الباخرة
جاء الجواب من الإمام مرحبًا بنا، ورست في مياه الحديدة ذاك اليوم باخرة وجهتها جيزان، فآثرناها على السيارة التي استمرت معيَّدة، وقمنا نتأهب للسفر بحرًا إلى العاصمة. لكن التأهب لا يشغل كثيرًا من أصبح في ملابسه وحاجاته أخفَّ من الجندي في تهامة. إن قصة ثيابي محزنة، نثرتها في الطريق برًّا وبحرًا، تركت الرسمية منها في مصر — ومن غير الإنكليز من عباد الله يحمل ثوبه الرسمي إلى البادية؟ ثم تركت الشتوية منها في جدة، والصيفية في عدن، وها أنا في الحديدة أفاخر الدراويش، والسالكين بما ارتقيت إليه من القناعة، والبساطة، والحكمة. أجل، وما فضل المسافر إذا كان لا ينتفع بشيء من عادات البلاد وأهلها؟ خرجت من القصر في قيافتي الحجازية أحمل عصاي، وفوطة فيها ما لا يستطيع حتى السالك أن يستغني عنه.
أما رفيقي الجديد — وقد يسأل القارئ عن الرفيق الأول، عن القسطنطين، فالجواب واجب قبل أن أستأنف السفر. فجعت في الحديدة بفراق قسطنطين، فقد وصله كتاب من جدة فيه أن الوزير الشاعر في الديوان الهاشمي لم ينظم بيتًا في غيابه، وأن الفارس الفيلسوف في القشلاق لم يسحب السيف مرة من نصابه، وأن نظارة الطيران المكسَّرة الأجنحة، والطيارين يائسون، وأن مدير الميناء هجر الشراع، وراح يرعى الإبل، وأن الشريف الإيطالي الذي استودعه ماله فرَّ هاربًا، وأن «توتو» كلبته المعبودة، وقد أضناها الشوق والنوى، مشرفة على الموت: فلو لم يكن من نكبة جدة في غيابه ما حل بتوتو لكفى بها نكبة تستوجب رجوع الرفيق الزعيم في الحال.
جاءني صباح يومٍ، والكتاب بيده، والدمعة تترقرق في زاوية عينه، وهو يقول: اعذرني يا أمين، أود أن أرافقك في الرحلة كلها، ولكن توتو — اقرأ — اقرأ ما يقوله الطبيب، توتو في حالة الخطر، ولا عزيز في الدنيا — كما تعلم — أعز عندي منها، هو ذا المركب في الميناء، سأركب اليوم فأراها بعد يومين، اعذرني يا أمين.
ثم نادى خادمه، وبدأ يجمع ثيابه. فقلت أَوَلا يبقى المدني معي؟ فقال الولد وهو يثب من رأس الدرج إلى أسفله وثبة واحدة: وأمي، أنا مشتاق إلى أمي! مبالغًا على عاداته في الضم والتشديد. أطال الله بعمر أمك يا مدني، وحرس الله توتوك يا قسطنطين، يا من لا يبالي بما يفعل، ويقول يا عدو نفسه في بعض ما يراه ويهواه. رأيتك ذات يوم عائدًا من الباخرة تحمل رزمة كبيرة، كل ما وجدت في خزانة القيم من الدخان، ما قد يكفي عشرة رجال شهرًا، فظننت أنك تنوي المتاجرة في الحديدة بالسكاير، ولكني سمعتك تقول: قد لا يرسو في المينا باخرة أخرى هذا الأسبوع.
كنت أشفق عليك منها، أيها الرفيق العزيز، وكنت أرى لك الخير الجم في نجد. أجل، كنت أبغي تأديبك هناك، وفطمك عن هواك، فيا ليتك دمت رفيقًا لأراك «تُبسَط» في بلاد الوهابيين إذا داومت التدخين. فما شأنك الآن، وتلك اللفائف التي كانت تتلو الواحدة الأخرى في فمك؟ وكنت تدخن في أول الرحلة المعطرة الذهبية الفم، فصرت تدخن، لهفي عليك، ما لو شمت رائحتها «توتو» لأغمي عليها. وأنت الشاعر الذي لا يسر بغير الجميل من منظور، وملموس، ومشروب، ومشموم. فأسأل الله أن يعصمك دائمًا من كل مكروه، ومن كل هوس يشوه النفس، وأن يمكنك دائمًا من تلك المعطرة الذهبية الفم، ويعلمك فوق تلك الحكمة والاعتدال، دمت محروسًا في كل حال، رفيق الحقيقة، شقيق الخيال.
أما الرفيق الجديد فيحمل في أسفاره بدل الدخان سجادة الصلاة، ولا يقتدي ظاهرًا بالسالكين في سواها؛ فقد كان معه كذلك من الأمتعة والحقائب ما لا يليق بالفلاسفة، وخادم هو من السادة؛ ليفرش له السجادة. وكنت أنا في ذي الأبهة جزءًا منها أفتش عن رفيقي الصوفي، فلا أجد غير الوكيل السياسي، وأغرب ما في حاجاته، ومواعينه سجادة الصلاة.
خرجنا من القصر، فإذا بثُلَّة من الجنود العارية في الباب رافقتنا إلى الرصيف، وكان هناك وجهاء المدينة، والمتوظفون في انتظارنا للوداع، لوداع الوكيل المحترم، وأنا في معيته عباءة وعقال ليس غير، فما سرني ذلك؛ لأن البشرية آنئذ تغلبت فيَّ على الصوفية. ثم سمعت فضل الدين يزجر العساكر والمودعين. لم يشأ أن يرافقوه في السنبوك إلى الباخرة، فاستأنست بذلك، وحمدت الله.
لا بد أن يظهر التصوف في صاحبه في كلمته أو إشارته، ولو في الدقيقة الأخيرة من ساعة الرسميات والترهات.
وكان الهواء ساكنًا، والحرُّ من شمس النهار كامنًا فيه، والبحر رهوًا، وضوء القمر عليه كالكفن يكفن الأمواج، فأشغل النوتيون المجاذيف، ووصلنا بعد ساعة إلى جانب بويخرة لا صوت فيها، ولا حركة، ولا نور غير ذاك الأحمر الضئيل في رأس الدقَل، فنادى أحد رجالنا الربان فلم يجبه، ثم نادى وكرر النداء، فنهض أحد النوتيين يفرك عينيه، ثم نهض آخرون، وبادروا إلينا يسبون ويزجرون — «لسنا بلصوص يا كلاب أنزلوا السلم لحضرة الوكيل.» فأنزلوا السلم، واعتذروا، فصعدنا إلى ما هو أشبه بمركب فحم منه بباخرة.
مشينا بين جثث بشرية عارية هامدة، قضى الحر والليل اللزج عليها، فلصقت بعضها ببعض، ونامت نوم الأموات بين البضائع وفوقها، تحت الألغام وعلى الصناديق، في الأقذار، في كل مكان. صعدنا سلمًا آخر إلى ما يسمى الدرجة الأولى، فرأينا في الغرف المفتوحة أبوابها أناسًا نائمين نوم الأطفال. ما أيقظَ نداؤُنا أحدًا منهم، ثم نزل الربان وهو إنكليزي حليق في ثوب النوم، فسلَّم على الوكيل واعتذر؛ فاستأنست بصوته المومئ إلى ما في نفسه من التهذيب والكياسة، ثم نادى أحد الخدم، فكفَّر عن إهماله بأن أمر لنا بزجاجة من السودا باردة، وبكأس من الوسكي؛ فشربنا وشكرناه، ورغب في الحديث فحدثناه، فكان انتقالنا في ساعة إلى شيء من المدنية مستحب، وأدب في ربان باخرة مستغرَب.
وكأنه أحسَّ بما تسلل إلى الأجفان، فنهض يتقدمنا إلى ظهر الباخرة، إلى كنفه الخاص، حيث الأسرَّة العسكرية، فنمنا كلنا تحت القبة الزرقاء، وليس بيننا وبينها غير حجاب واحد هو الشراع. ساعة فقط، ثم ضجات وقرقعات، وأصوات تزعج الأموات، وسلاسل تُشد، وأبواب تُسد، وحبال تئن، وجرس يطنُّ، وصوت الربان فوقها يحرك العبيد والحديد. سرت الباخرة، وهدأت الأصوات والضجات، فعدنا إلى ما يشبه النوم، وانبلج الفجر بعد قليل على وجوه صفراء، وعيون فيها الذبول والعياء.
كشف الفجر عن البويخرة وركبها؛ فكان فضاحًا. هاك رهطًا كرهط الحجاج في أشكالهم وألوانهم قومياتهم، وقيافاتهم، وعدم اكتراثهم بما هم فيه من ضيق وحريق وقذارة. كل يهتم بأمره، لما يلزم المؤمن، ويتحتم عليه ساعة الفجر. هذا يصلي، وذاك يدق البن. هنا امرأة تنفخ النار، وهناك شيخ يغسل فناجين القهوة، وآخر يدخن المداعة. هذا يعد أكياسه، وذاك يلبس ثيابه، وهناك فوق زنابيل التمر شاب أحكم بين رجليه مرآة صغيرة، وهو يلف عمامة على رأسه لفًّا هنديًّا بتأني الفتاة التي تجلس إلى المرآة تزين شعرها، وإلى جانبي سابر الغور يرمي بحديدته إلى القعر، ويسحبها مناديًا بالإنكليزية: سبعة، ثمانية، عشرة ونصف! فلا نزال قريبين من الشاطئ شاطئ تهامة الموحش العقيم، ولا يزال رفاقي نائمين إلا فضل الدين، فقد كان تلك الساعة من المصلين.
إن الباخرة التي نحن فيها مسافرون، وقد صنعت في بلاد الإنكليز، هي من بواخر القهوجي المشهور في عدن والبحر الأحمر، صاحب صديقنا خان باهادور، الفيلسوف الحديدي. والقهوجي اسم لشركة من «عبدة النار» نوتيوها كما ذكرت من اﻟ «غوا» نصف المسيحيين، وربانها، ومعاونه، والمهندس من الكفار الذين صنعت الباخرة في بلادهم. هذه شركة ملاحة شرقية هندية، ولكنها لا تستغني عن الإنكليز مديرين لبواخرها. وهذا الإنكليزي، وقد اعتاد أن يأمر في الشرق، لا يمتعض من حال توجب عليه الائتمار بأوامر الهنود سادته.
قال الربان هاي: كنت قبل الحرب أسيِّر باخرة في المحيط الأطلنطي محمولها خمسة وعشرون ألف طن. وتراني الآن على رأس هذا المركب العجيب أخدم القهوجي البارسي بخمس ما كنت أتقاضاه من شركة إنكليزية. وما العمل؟ حامض القهوجي خير من مر البطالة في بلادي … ولكني أحب العرب وأحترمهم. ما رأيت شعبًا هادئًا في السفر كريمًا، على ما تراهم فيه، مخلدًا إلى السكينة، جليدًا قنوعًا سكوتًا مثل العرب.
نزلنا إلى المائدة في ثيابنا الرسمية، أنا في قميص البدوية، وأرداني مربوطة حول وسطي، وفضل الدين في سرواله الهندي، وتكَّته تصل إلى ركبته. وجاءنا الربان هاي — بارك الله فيه وفي ذوقه — حافيًا يلبس «البيجاما»، ثوب النوم. جلسنا إلى المائدة وهو يقول: خلعت نعلَيَّ إكرامًا لكم أيها الأفاضل. أهلًا وسهلًا بكم إلى بيت القهوجي، بل إلى بيتكم. الباخرة لكم، تأمرون فيها بما تشاءون.
كنا نسير في مضايق خفية وظاهرة قرب الشاطئ بين جزر صغيرة لا أسماء لها، إلا قمران وهي أكبرها. ولها في جنوبي البحر الأحمر من الأهمية ما للطور في الشمال؛ لأن فيها محجرًا صحيًّا للحجاج القادمين بحرًا من الشرق، من الهند وجاوَه، ومن العراق وإيران، فيعرجون عليها للتطهر في رواحهم ومجيئهم، قبل الحج وبعده، فتتقاضاهم السلطة الإنكليزية رسمًا مدة الثلاثة الأيام التي يقيمون فيها. وجلالة الملك حسين يحتجُّ على الرسم، وعلى الثلاثة الأيام، وعلى محجر قمران، وعلى الجزيرة كلها بحذافيرها. لا لزوم لها، وعندنا جزيرة أبي سعد. هذا صحيح، ولكنَّ في قمران مركزًا لاسلكيًّا أفادنا، ومعمل ثلج أنعشنا ونحن في الحديدة، وهما يفيدان وينعشان كثيرين غيرنا، فلا نشارك جلالة الملك إذن إلا في قسم من احتجاجه. لا تظلموا الحجاج بدفع الرسوم.
وها هي الجزيرة إلى شمالنا، ونحن نسير بينها وبين الشاطئ. وها هي الخارطة على منضدة الربان تنبئ بالأعماق المختلفة تحتنا وحولنا. من هو يا ترى أول من سبر هذا البحر العربي، البحر الأحمر، وغيره من بحار الشرق؟ من ذا الذي ركب الأمواج والأهوال، ومد يده إلى مكامن اليم يستطلع أسراره، ويكشف للنوتي أخطاره؟ من ذا الذي قاس المد فيه والجزر، وحدد الطرق بين الصخور الكامنة تحت المياه؟ من ذا الذي فتح سبل البواخر، وأمَّنها في الليل بالأنوار؟ هو الإنكليزي ابن البحار وسيدها. ليعترف بفضله كل من سيَّر باخرة في البحار الشرقية، ولجأ إلى علومه ليسلم من الأخطار.
أجل، قد تستغني البواخر الشرقية عن الربان الإنكليزي، ولكنها لا تستغني مهما كانت عظيمة عن خرائط الإنكليز البحرية. هبْ أن دولة بريطانيا تفككت غدًا وتقسمت، وعادت إنكلترا كما كانت عهد السكون الأولين، حكومة صغيرة، وأمة مثل جزائرها حقيرة، فهي تظل غنية بعلومها ورجالها. ولا خوف — وايم الحق — على أمة عندها العلم وعندها الرجال. لا تَرْتَبْ أيها القارئ العزيز بما أقول، إن الإنكليزي الأصيل هو مثل هذا الربان الذي يسقط من عرشه، ويظل مليكًا بأخلاقه في أحط الحالات الاجتماعية وأحقرها، مليكًا يعمل ليومه، ولا يأنف ولا يشمخ ولا يكابر. بل يعمل العمل المفروض عليه مجدًّا مخلصًا نزيهًا.
كان معنا في الدرجة الأولى رجل من حضرموت ينام في الغرفة لا على ظهر الباخرة، ولا يؤاكلنا، رجل طويل القامة، حسن الطلعة، قوي البنية، مفتول الساق، وهو من سادات صَيوون، مدينة العلم في ذاك القطر، ومن أدبائها، حادُّ الذهن، فصيح اللسان. حدثته فحدثني متنازلًا متكلفًا، وما كان فيما باح به ليخرج من دائرة التكتم والتأدب. إلا أني علمت من تلويحاته أنه عالم من العلماء، وخطيب من خطباء حضرموت المشهورين. وهو ينظم كذلك الشعر. قرأ شوقي، وحافظ إبراهيم، والمنفلوطي، والبستاني، وغيرهم من شعراء وأدباء مصر وسوريا، ولم يسمع بالريحاني إلا مؤخرًا في عدن.
– سمعت أن الأستاذ جاسوس للإنكليز.
– قد يكون ذلك.
– وكيف ينخدع به أمراؤنا يا ترى؟
– العصمة لله.
– صحيح، ولكني سمعت كذلك أنه رسول الملك حسين وفي خدمته، وأنه مع ذلك يحسن اللغة العربية.
– كثيرون حتى في الحجاز من لا يحسنون اللغة العربية.
– صحيح، وفي حضرموت كذلك.
– وهل أنت مسافر إلى جيزان؟
– إن وفق الله.
وكان قد أخبرنا الربان أن السيد من تجار حضرموت، حسب ادعائه، وأنه مسافر إلى ميدي، ولكن رفيقًا من عدن أخبرني أنه رآه في دار الاعتماد هناك يبغي مقابلة المعاون. ثم علمت أنه من زعماء الحزب الكثيري في حضرموت القائم على الحزب القُعَيطي وسلطانه، وأنه جاء ليرفع قضيته إلى الإنكليز في عدن، وإلى السيد في جيزان، أما فضل الدين الذي يعرف السادة من رائحتهم، فقال إذ رأى الرجل: هو ذا سيد شحاذ، كثيرون مثله يجيئون إلى جيزان؛ ليمدحوا السيد ويستجْدوه. وعندما نزل مساء ذاك اليوم في ميدي ظننت فضل الدين متحاملًا، فقلت: بل هو تاجر كما قال الربان. فأجابني: هو شحاذ كما أقول، وسيرجع وسترى. قد قدر الله أن يكون الرجل رفيقنا إلى جيزان ومنها، فسيسمع القارئ عنه ومنه فيما بعد.
ميدي بنت الحرب، أي إنها نشأت في أثنائها، وهي أكبر مدينة تجارية اليوم بين الحديدة وجيزان. بيد أنه لا وكالة لشركة القهوجي فيها، فيضطر الربان أن يقاول العمال الذين يجيئون لنقل البضاعة من الباخرة إلى الميناء، ويدفع أجورهم، وأكثر هؤلاء من العبيد والمولدين. هذه كلمة تمهيد لما أقص عليك. نمت تلك الليلة على عادتي، فاستفقت منتصف الليل لأصوات تلج وتضج، وقد اختلط اللسانان فيها الإنكليزي والعربي، وتناكرا.
– يا أولاد الزنى، تجيئون في هذه الساعة من الليل تساوموني؟
عرفت من الصوت أن الربان يتكلم. ثم — وهي الكلمة العربية الوحيدة التي يحسنها — امش، امش.
وكان الربان الثاني، وهو رجل ضخم الجثة، عريض الصوت قد استفاق مثلي، وسمع زميله يتسخط ويسب، فخاطبه بصوت عريض ناعس مطاط: دعهم يا قبطان، وعد إلى سريرك. أولاد الزنى غدارون، ثم الربان. يا نتانة العبيد، يجيئكم رزقكم فلا تقبلونه إلا بشروط. امش، امش! وإلا أكسِّر رءوسكم. إذا كان القهوجي يعبد النار، فهل يحق لكم أن تسرقوه، يا نتانة العبيد يا أولاد الزنى؟! إذا كنتم لا تشتغلون بروبية واحدة مثل العادة — امشِ.
ثم الربان الثاني، وهو يقلب في سريره من جنب إلى جنب ويئن: دعهم يا قبطان وعد إلى سريرك؛ أولاد الزنى أنا أعرفهم، غدارون.
الربان: ما في شغل لكم، امش. الباخرة تسافر هذه الساعة، امش.
زعيم العمال — على ما ظننت — باللسان الإنكليزي المفجع: يشتغلون يا قبطان كما تريد. يشتغلون بروبية واحدة. أنا الكفيل.
ثم سمعت الربان وهو عائد إلى سريره يقول: إذا كان الإنسان يعبد النار فهل يحق لهؤلاء العبيد أن يسرقوه.
ولكن العبيد قبلوا — شكرًا لغضبه وأمانته — أن يشتغلوا بروبية واحدة، فباشروا عملهم في الليل، وأتموه قبل الفجر. هذه هي الحادثة التي أيقظتني تلك الليلة؛ فسلبني العبيد بعد ذلك في ضجيج العمل والقرقعة الراحة والنوم. ومع ذلك قد كنت مسرورًا بما علمت. لا أظن أن شركة القهوجي التي لا يزعج يقظتها الدائمة شيء في البر والبحر تعرف أن ربان إحدى بواخرها يدافع عن مصلحتها هذا الدفاع. ولا أظن أن الربان هاي — وأنا أعرف شيئًا من طباع أمثاله الإنكليز — يخبرها ويمنُّ عليها. فهو يعمل ما يعتقده واجبًا عليه ويسكت.
(١٠) جيزان
وصلنا إلى جيزان بعد الظهر ساعة الجزر، فانكشفت أمامنا ونحن في السنبوك بقعة من الأرض سوداء بين الشاطئ والماء، لا يمكن للمرء اجتيازها إلا حافيًا مشمِّرًا، فلاقانا إلى حد الجزر رجال يحملون الكراسي، أو بالحري الأسرة التي تشبه العنقريب، فأنزلونا وأجلسونا فيها، وحملونا على مناكبهم إلى البر في شبه السبخة التي كانوا يغرقون فيها إلى الركبة، وهناك استقبلنا بعض الجنود والمتوظفين يتقدمهم السيد العابد ابن السيد السنوسي الإدريسي الذي رحب بنا باسم حضرة الإمام، ومضى وإيانا إلى القلعة القائمة على ربوة خارج البلدة قريبة منها ومن البحر. والقلعة هذه نصفها قديم هندسته يمانية، أي إنه ضخم البناء رفيعه، صغير النوافذ قليلها، والنصف الآخر جديد بناه السيد مصطفى الإدريسي، وأعده للضيافة التي يليق بها. فهو يشتمل على عدة غرف كبيرة ترقص فيها الشمس، ويلعب فيها الهواء والغبار، وعلى حرشين الواحد ضمن الآخر، وحمام ومائدة إفرنجية، وسطح مسوَّر جميل.
كنت مما سمعته عن جيزان أمثل لنفسي بيتًا من النقش نقيم فيه، وجواري حبشيات يخدمننا، وولدانًا يقفون فوق رءوسنا، وبأيديهم المراوح يروِّحون. أما الجواري فما رأينا غير أثر من آثار أيديهن في الدواوين البيضاء الشريفة، والوسائد الوثيرة اللطيفة، وأغطية الفرش النظيفة. وأما الولدان فكانوا واقفين في الحوش يحملون بدل المراوح البنادق والجنبيات.
جيزان بلدة قديمة في تهامة، تكاد تبعد عن أبي عريش شرقًا بعدها عن صبيا شمالًا. فهي من البلدتين رأس المثلث على البحر الذي يحيطها كالهلال من ثلاث جهات. بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها الستة آلاف نفس، ولكنها كانت في الماضي على ما يقال أكبر مما هي اليوم وأوسع عمرانًا. بناها أحد المحسنين إلى الإنسانية؛ ليقرِّب أبناء الجبال من البحر والرزق، أحد المحسنين المدفونة أسماؤهم في آثارهم.
نظرنا إليها وهي من القلعة شمالًا، فإذا هناك مجموعة أكواخ من القش هرمية الشكل، تتخللها بيوت من الحجارة شبيهة بمعابد الأقدمين، مربع أعلاها أصغر من مربع أدناها، وبينها مفردات وثريات من النخيل، وحولها ذاك الخط الذي يحيط بها كنعلة الفرس، وهو أزرق ساعة المد، أسود ساعة الجزر، أصفر في ساعات الشفق والغروب. وفي الساحة الكبيرة بينها وبيننا قفص من القش يأوي إليه أحد الحرس في النهار. وفي الجهة الغربية من الساحة المسجد الجامع، وهو بناء صغير ذو مئذنة متواضعة، وإيوان تحتله الشمس طول النهار. ووراء القلعة، أو بالحري القصر شرقًا بجنوب، قلعة أخرى تشرف على البلد والبحر، فيها بعض المدافع، وحولها المتاريس.
سررنا ببيتنا الجديد، وهو أحسن ما في جيزان مركزًا وبناءً، واستأنسنا بمشاهد من نوافذه لا أبهة فيها ولا جلال، ولكنها تومئ كلها إلى حياة بشرية بسيطة، أجمل ما فيها، من وجهة فلسفية، القناعة والصبر والسكينة والاطمئنان. على أني من وجهة اقتصادية، حرت في أمر أصحاب هذه الفضائل القدسية، حرت في أمر أهل هذه البلدة، وموارد رزقهم.
عندما رسونا في مياه جيزان كان أول ما دنا من الباخرة سنبوك يحمل صاحبه بعض الرسائل وأكياسًا صغيرة ثقيلة، أكياسًا عديدة فيها الذهب والفضة. فسألت الربان هاي عما إذا كان لمصرف عدن فرع في جيزان؛ فضحك، ثم قال: إني أعجب لهذا الأمر. من أين يجيء الذهب إلى هذه البلدة؟ وفي كل سفرة نحمل منه أكياسًا إلى عدن.
أجل، إن في جيزان ذهبًا وفضة، وإن كنت لا ترى فيها سوقًا أو أثرًا ظاهرًا للتجارة. وإن في جيزان ستة آلاف نفس تحيا وتحمد الله، وإن كنت لا ترى حولها بقعة أرض خضراء. فمن أين يجيئهم الرزق، وكيف يتاجرون، ويثرون، ويتمكنون من تخزين أموالهم ذهبًا وفضة في المصارف بعدن؟ سؤال بدهي حري بالجواب.
كانت جيزان في سنتي الحرب الأوليين المدينة الوحيدة في تهامة المفتوحة للتجارة، وكان القسم الغربي من شبه الجزيرة أو جله يستقي من مواردها، فكان ميناؤها ميناء البلاد كلها، ثم انتقلت التجارة إلى ميدي. أما اليوم فجيزان هي إحدى عاصمتي الإدريسي. وهذا أول مصادر الخير فيها. هي نقطة دائرة خصبة أنحاؤها، غضة حواشيها، يؤمها الناس من المغرب الأقصى، ومن مصر، ومن أعالي عسير، ومن المدن في تهامة جنوبًا وشمالًا، فيجيء معهم الرزق، التجارة، والكسب، والخيرات. يحمل الحنطة إليها تجار ميدي، وأبناء الجبال، ويحملون من معادنها الملح، ومن شواطئها البضاعة التي تجيء بها بواخر القهوجي والسنابيك. جيزان مركز استيراد وتوزيع، جيزان مورد تجري إليه الأموال من هذه الجهة ومن تلك، فتتوزع منه إلى الجهات كلها، وهكذا تعيش جيزان من لا شيء يُرى، وتضيف فوق ذلك السادات والعربان، وتغدق على كل محترم كسلان. أما سيد هذه الحركة الخفية، وقطب تلك الأريحية، فهو السيد الإدريسي.
جاء رسوله بعد ساعتين من وصولنا يدعونا إليه، فركبنا اﻟ «موتر» (السيارة)، وسرنا في أسواق البلدة الضيقة والصبيان يركضون وراءنا، ويصيحون حتى وصلنا في المنحنى الغربي منها إلى ربوة تشرف على البحر، يحيط بها سور كبير. استقبلنا خارج السور فرقة من الجنود الإدريسية أصحاب الشعور المنفوشة، والصدور المكشوفة، والبنادق المشوفة، لا ضباط من الترك ها هنا، ولا صوت الزامل ولا البرزان. نزلنا من السيارة، ومشينا به صفين من الجنود إلى بوابة حارسها مولد عمليق، سلَّم ويده على رأسه، وأدخلنا آمنين، فإذا نحن في حوش كبير، وبين آخرين من الجنود. مشى فريق منهم إلى باب دخلناه، فإذا بقَيِّم مولانا وأعوانه يسلِّمون ويرحِّبون. حلُّوا محل الجنود، فتقدمونا إلى حوش ثالث، واستقبلنا عند بابه وزيرا حضرة الإمام والحاشية، فدخلنا وإياهم إلى رواق صغير، وقفنا فيه عند باب كبير فخلعنا نعالنا هناك، ودخلنا إلى المقام الشريف المنيف، إلى قدس الأقداس والتقديس، إلى مجلس مولانا الإمام ابن إدريس.
وما المكان غير بضعة أبواع من أرض الله، وسقفه القبة الزرقاء، وهو محاط بأربعة جدران عالية في أحدها باب يُفضي إلى بيت الحريم، وفي الثاني باب يدخل الإمام ويخرج منه، وفي الثالث باب المسجد الخاص. أما الساحة، ففي وسطها منصة تعلو قدمًا واحدة عن حاشيتها مفروشة بالسجاد والدواوين المرتفعة والمساند. هو ذا المجلس الشريف والمقام المنيف، وفي صدره حضرة الإمام جالسًا، ووراءه عبد يروح له بمروحة كبيرة من الخوص.
وقف لنا ورحب بنا ترحيبًا جميلًا. فسلم على الدكتور فضل الدين سلام الإمامة على أحد المقربين منها، قبَّله في وجهه، وسلَّم عليَّ مصافحًا، ثم أمر لنا بالجلوس على ديوان قربه. وكان في المجلس ساعتئذ السيد السنوسي، والمفتي، وقاضي القضاة، وغيرهم من أصحاب الوجاهة والعلم.
رأيتني لأول مرة أمام سيد من السود، إمام زنجي يسود مليونًا من العرب، وفيهم ألوف من السليلة النبوية، فسادني لأول وهلة الصمت، ولكنه ما كاد يتكلم مسترسلًا حتى ارتحت إلى حديثه، وملت إليه، فرأيتني رويدًا رويدًا مُكْبِرًا الرجل معجبًا به. كان السيد محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس — رحمهم الله أجمعين — جاحظ العين صغيرها، رفيع الجبين، دقيق الأنف، ضخم الشفة والرقبة، مستدير الوجه، نحيف اليدين، عريض المنكبين، طويل القامة، شديد البأس واللهجة والغضب. لم يكن فيه من ملامح الزنوج البارزة غير فمه، وشكل وجهه، ولونه الشديد السواد. وكان فيه من أثر العنصر السامي الآري — أسلفت القول إن أمه هندية — ما ذكرت، أي الأنف والجبين واليدين. وكان يلبس النظارات الملونة لضعف في عينيه، ويجلس متربعًا على الديوان، ويتكلم بصوتٍ عالٍ فيه بعض الغنة، وله في الوقفات إشارة تمكين خاصة به كأنه يجر الألف والهاء، ثم الهاء والألف؛ ليثبت ما يقول.
شكرته على ما لقيناه في الطريق منذ دخولنا بلاده من الحفاوة والضيافة والإكرام، فقال: هذا ما نبغيه، وهو قليل في جانب ما تسعون إليه. أنتم تسيحون في البلاد العربية لخيرها وخير أهلها، وتقاسون المشقَّات من أجلهم ومن أجلنا نحن حكامها؛ فتستحقون أضعاف الإكرام الذي تشكروننا عليه. ولا شكر يا حضرة الأديب على الواجب.
فقلت: وأنا كذلك أقوم في رحلتي بما أعتقده واجبًا عليَّ. إني أشعر بأن في عروقي من الدم الذي يجري في عروق العرب. أظن ذلك، بل أعتقده. نعم، وإن كثيرًا في برِّ الشام من قحطان، من بني غسان مثلي.
فقال السيد وهو يرفع النظارات عن عينيه: ونعم النسب. غسان ريحانة العرب، ونحن نحترم كل عربي صميم يعرف الواجب عليه ويقوم به من قحطان كان أو من عدنان. نحن يا حضرة الأديب عرب قبل كل شيء، ونغار على أصغر صغائر الأمور الوطنية من المطامع الأجنبية والسياسية الأوروبية.
ثم انتقل فورًا إلى أميركا. كأنه لم يشأ أن يكون الحديث ساعتئذ في الموضوع الذي لمس حاشية من حواشيه. وكانت سؤالاته تدل على أنه عالم ببعض شئون تلك البلاد، إلا أنه لم يطالع تاريخها. قصصت عليه قصة نيويورك وأصحابها الهنود الأولين، وبيعهم المدينة إلى الأوروبيين بشيء من الودع، لا تتجاوز قيمته الخمسة وعشرين ريالًا؛ فسر جدًّا بها، وسألني قائلًا: وهل ملك أميركا اليوم من الهنود؟
حدثته عن الجمهورية الأميركية ورئيسها.
فقال: وهل للأميركيين دين؟ فأجبته قائلًا: شيء من الدين، نعم. ثم سألني وكأنه كان يستدرجني إلى أمرٍ أراده؛ لأنه كان عالمًا بما في أميركا من الأديان.
– وهل الكاثوليك هناك أكثر من البروتستانت؟ وكم عددهم؟
– لا يقل عن عشرة ملايين.
– كثير، وما تأثيرهم في السياسة؟
– يزداد نفوذهم يومًا فيومًا.
– وهل يكون رئيس البلاد منهم؟
– ليس ما يمنع ذلك دستوريًّا، ولكن الحكم في البلاد للأكثرية، وبالانتخاب.
فاستزادني إيضاحًا في طريقة الانتخاب، وكان يعي الكلام ويتأمَّله، ويهز رأسه من حين إلى حين استحسانًا.
– ولكنهم يبذلون أموالًا كثيرة في انتخاب الرئيس، أفما كان خيرًا بأن يعطوه ربعها راتبًا، ويقيموه ملكًا عليهم؟ فيوفروا ملايين من الريالات.
– كان جورج وشنطون يا مولاي رئيسًا أولًا وثانيًا — هي القصة التي كنت أقصها على أمراء العرب وفي مجالسهم، وصرت أخجل أن أرددها: «ما هربنا من الملوك لنقيم ملكًا علينا.» كلمة قالها جورج وشنطون — أبو الجمهورية — أعجب بها كل من سمعها في الجزيرة.
أما السيد محمد فقال: أمرنا نحن العرب غير أمر الأميركيين. إذا رفض أميرنا الإمارة فعشرون حوله يطلبونها، ويتنازعونها، ويحتربون من أجلها. على الأمير الحاكم إذن — وهذه حالنا، مهما تعددت تكاليف الملك، واشتدت صعوباته — أن يقف مكانه كالجندي، ويقوم بواجبه دفعًا للفوضى، وحقنًا للدماء.
ثم انتقل مرة أخرى فورًا، وما كان أسرعه انتقالًا وأبعده، فسألني سؤالًا جغرافيًّا: وهل أميركا بعيدة عن خط الاستواء؟
– أميركا الشمالية من حدودها الجنوبية تبعد عن خط الاستواء يا مولاي خمسة عشر يومًا في البحر. وأميركا كلها، أي قارة العالم الجديد، هي شطران: الشطر الأكبر شمالًا، والشطر الأصغر جنوبًا من خط الاستواء.
– وهل يمكن الوصول إلى روسيا عن طريق أميركا؟
– بحرًا من سان فرنسيسكو إلى اليابان، ثم إلى سيبيريا فروسيا، نعم.
– نعلم هذا، ولكن هناك طريق أقصر، بين آخر برِّ أميركا، وآخر بر روسيا مضيق، أتذكر اسمه؟
– مضيق بيرنغ.
– نعم، مضيق بيرنغ ما هي المسافة بين البرين؟
وها هنا رأيت نفسي في مضيق من البحث. ما جال قط في ذهني أني سأسأل مسائل جغرافية في مجلس الإمام، لا أستطيع الجواب عليها، ولا تأهبت لمثل هذه المبادهة المزعجة. فقلت: لا أدري. ولكني أظن … وكان ظني بعيدًا عن الحقيقة، ولا عجب. إن آخر عهدي بمضيق بيرنغ يوم كنت أدرس الجغرافية في مدرسة ليلية بنيويورك، وكان أستاذنا يقول بين المزح والجد: من يجيد السباحة يمكنه أن يسبح من أميركا إلى روسيا.
لكني لم أتذكر القصة إلا بعد خروجنا من مجلس الإمام، فتأسفت جدًّا. ولمت ذاكرتي ووبختها؛ لأنها لا تلبيني ساعة يلزم ويليق، فتنسيني قصة أفكِّه حضرة الإمام بها، وتعيدها إلى الذهن ساعة لا تفيد، ثم قلت في نفسي: سأقصها في المقابلة الثانية — إن شاء الله. ولكن الإمام لم يدن بعدئذٍ من الموضوع، ولا أنا، والحق يقال، تذكرت القصة إلا مرة واحدة؛ وذلك لما كنا نتباحث في المعاهدة بينه وبين الملك حسين، فكيف يجوز أن أوقف البحث لأقص قصة مهما كانت مضحكة؟ هل أقول له: على ذكر بني عائض يا مولاي، أو على ذكر القنفذة أقص عليك قصة مضيق بيرنغ؟ حالت السياسة والذاكرة دون القصة ورغبتي في قصها.
خرجت من مجلسه، وفيَّ من الرجل تذكارات كلها حب وإعجاب، وهي اليوم، وأنا بعد سنتين أعيد ذكرها، لا تحرِّك فيَّ غير الإعجاب والحب، فيصح إذن أن أنقل إلى القارئ كلمة من مذكراتي في جيزان.
أول ما يروقك ويطربك من السيد محمد لسانه العربي الفصيح، المجرد عن الاصطلاحات واللهجات المحلية، ثم وقفاته في الحديث، وكلمته — إها — في التمكين والتثبيت. وأول نظرة في مواهبه وأخلاقه تريك أنه ذكي الفؤاد، شديد العارضة، حصيف حكيم، وهو ساذج، كريم الأخلاق. لا أثر للروحانيات في وجهه، ولكن قياس الفراسة الذي يصح في البِيض قلما يصح في السُّود. إن في الولايات المتحدة سودًا يسرقون الدجاج، وسودًا لا يحيون بغير الكتاب المقدس والسيد المسيح — جاء في المزمور الواحد والخمسين: طهرني بالزوفى فأطهر. اغسلني فأبيض أكثر من الثلج. وهم يؤمنون بكل الأنبياء، وبكل شيء. إذا خيرت أحدًا منهم في رئاسة الجمهورية، وقيثارة داود يفضل القيثارة، ولا غرو … قد تكون روحانية السيد محمد إذن كامنة لا تظهرها كلمات اللغة وسيماء الوجوه، لا تظهرها غير الأعمال. وإني متيقن أنه لو كان في الولايات المتحدة لساد الملايين من السود هناك.
نظرة ثانية. أضف إلى ما تقدم أن السيد محمد الإدريسي صريح في حديثه، صادق فيما يقول، ساذج فيما هو دون معقوله ومعلومه. كبير الخلق والقلب. يميل إلى السلم والائتلاف … أحسن ما في العبد قلبه إذا حسنت أخلاقه، وأكبر ما في السيد محمد قلبه ولا غرو …
تعددت الجلسات والأحاديث التي كان قطب دائرتها: أولًا: الملك حسين، والوحدة العربية، وثانيًا: الإمام يحيى والصلح. وكان اجتماعنا دائمًا ليلًا؛ لأن الحر في جيزان لا يأذن بالتجوال، أو بالأعمال نهارًا. فكنا بحكم الشمس والبحر، والميزان دائمًا فوق المائة (فارنهيْت) في الظل، نستسلم إلى ما تبطل فيه الحركات كلها، إلا حركة التنفس. وهذه تضعف أحيانًا فنقف نستغيث. ولكننا كنا نحمد الله مرتين في النهار على حمامين باردين بكرة وأصيلًا، ونفكر ليلًا عما نهمله عمدًا أو في حالات الإغماء من المحامد.
خبرت الحر في أماكن كثيرة، من المكسيك إلى عدن والعراق، فما وجدت حرًّا جامعًا محاسن الحر كلها، وفي أعلى درجة منها مثل جيزان. إن الشمس هنا قريبة جدًّا منك، كأنها على الأرض تشتعل فترسل أشعتها عكسًا إلى كبد السماء. بل كأنها حبيبتك تشاركك في الحياة، فتجلس على ركبتك تقبلك في فمك قبلة تدوم دون انقطاع اثنتي عشرة ساعة. وإذا نظرت إليها وأنت تلجأ إلى الماء منها تراها ترقص في هواء كأنه حجاب من الشاش الهندي الأبيض، فتبدو أشعتها فيه كخيوط الفضة ساعة الظهر، وكالوهج الأصفر ساعة الأصيل، فترفع يديك إلى عينيك لتقيهما سهامها الذهبية.
أما الرطوبة، وها هنا يشترك البحر والشمس عليك، فلها لون يجيئها من يدي المد والجزر، ولها جسم يجيئها من كرم العناصر في تهامة، ورائحة هي رائحة الطحلب والسبخة والملح، ولها فوق ذلك خاصة في الهيام، تلصقها بك إذا دنت منك، فهي كورق الغراء الحلو تجذب الذبابة إليها فتعلق بها، بل هي كثوب يُلبسكه البحر وقد رآك تنزع كل ثيابك من أجل معبودتك الشمس، فتلبسه كرهًا، وأنت تشتهي فوقه ثوبًا من الأمواج. لله موجة تعيد إليك الحياة، ولكنك في القلعة، في القصر، ضيف محترم، والأمواج تحتك للفتيان والفتيات يلاعبونها، فلا يليق بك، في ذي البلاد العربية التي يرم فيها الاحترام فيؤلم، ما يجوز للصبيان.
(١١) بين الإمامين
كنا في القلعة نحوم على الظل حوم الفراش على النور، فننتقل من غرفة إلى غرفة، ومن رواق إلى رواق؛ اتقاء وجه الشمس. وما كنا نخشى مثل ساعة الظهر خطبًا، ساعة يجيء الخدم من بيت السيد السنوسي، وعلى رءوسهم الأطباق، وفي مقدمتهم طبق عليه غطاء، وتحت الغطاء الرأس المقطوع. فنجلس إلى مائدة شيخها هذا الذي كان منذ ساعة حيًّا، وقد حُشي بالأرز والبيض والزبيب، وفي الوسط الرأس ينظر عطفًا إليك. أخجلني والله وحبب إليَّ التنحس في مذهب الهندوس.
والحق يقال: إنني مللت اللحم، خصوصًا في مثل ذلك القيظ، وكنت أشتهي بعد سف شيء من الأرز بقعة خضراء أرعى فيها. وأشتهي قبل كل شيء الماء فأجده في النعارة فاترًا، فأصبه في الكأس، فإذا هو أصفر اللون، فأغمض عيني وأشرب باسم الله. أما كرم الأدارسة فما كان ليخلَّ قطعًا بقاعدة الضيافة عندهم — «قوزي» كل يوم. أغدق الله عليكم أيها الأفاضل، وبارك الله فيك يا جيزان، بركة تشمل من أجل سادتنا بني إدريس آلة لتصفية الماء ومعملًا للثلج.
– هات المروحة يا أَبْكر.
يدخل السيد أبكر، وبيده عدة مراوح، وعلى لسانه خبر ما سر فضل الدين.
– قل له الحكيم نائم. ليجئني منتصف الليل.
ثم يدخل الحاجب: الشيخ الشنقيطي يبغي التسليم على الأستاذ.
– صلِّ على النبي: هات القميص والعباءة يا أبكر.
وكان فضل الدين يدفع عني أحيانًا مئونة المقابلات في النهار.
– قل للشيخ: إن الأستاذ لا يستقبل إلا ليلًا — بعد منتصف الليل.
كذلك تنعكس الحياة في تهامة، تُقعدنا الشمس، تنهكنا، فيجيئنا الليل منجدًا، ويوقظنا القمر، ساعة من الفرج — إلا أننا والحق يقال لم نكن لنسرَّ بشيء سرورنا بكلمة الحاجب: جاءت الخيل. والخيل من حضرة الإمام، ومعها رسول يدعونا إليه، فنركب ونسير في ضوء القمر فننتعش، ونحضر مجلس الإمام فنستأنس، ونواصل السعي في سبيل السلم، فالتضامن من بين ثلاثة من ملوك العرب.
اغتنمت الفرصة عند ذكره ابن سعود، فقلت: إذا أصلحتم بين جلالة الملك وسلطان نجد فهو ولا شك يسعى ليصلح بين سيادتكم والإمام يحيى. فيتم إذ ذاك الاتفاق الرباعي، أو المحالفة الرباعية، وهي — كما أظن — حجر الزاوية في الوحدة العربية.
– وليس على الله يا مولانا أمر عسير.
– نعم، صدقت، وما نحن يا حضرة الأديب بعيدين مما تروم. ولكن ذاك الرجل أضر بنا واللهِ ضررًا جسيمًا. ونحن نفعناه. وكان نفعنا مجردًا عن كل ضرر وغش، أما نحن والملك حسين فقد كان الضرر والنفع بيننا منا ومنه؛ لذلك ترى الأمر قريبًا بيننا … العرب خداعون غدارون.
كان يردد — رحمه الله — هذه الكلمة كل مرة يجيء فيها على ذكر هذا الرجل، أي الإمام يحيى، في المقابلات الأولى. ولكنه عندما تحقق مقاصدي غيَّر لهجته.
– نحن أول من حمل على الأتراك في الحرب الكبرى، أول من انضم إلى الأحلاف. أما هو فاتفق والترك، وانسحب إلى شهارة، وأقام هناك بعيدًا عن ساحة القتال. أيُّ خير جاءنا نحن العرب من الترك؟ أية منفعة نفعونا بها؟ نحن حاربناهم قبل الحرب، وحاربناهم أثناء الحرب، وسنحاربهم إذا عادوا إلى بلادنا. نحن كنا نحاربهم في تهامة؛ لنردهم عن ابن حميد الدين. أوقفناهم مرارًا في زحفهم عليه، دفعناهم عنه فراح يعقد وإياهم صلحًا وراء ظهرنا، هذا في أثناء الحرب، أما قبلها فكنا وإياه متعاهدين، عقدنا محالفة لمحاربة الأتراك وطردهم من اليمن. ولما جاءوا يمرون في بلادنا ليضربوه من جهة الشمال أوقفناهم، وقلنا لهم: كيف نقبل وبيننا وبينه عهد الله. وصل الترك بعدئذ إلى صنعاء فهموا بضربنا من وراء، من الجبال، فلم يمنعهم ابن حميد الدين، حليفنا صنو عهدنا؛ كأن العهد عنده قصاصة من ورق.
وختام الكتاب انتحاب مجد الإسلام الغابر، واستنهاض المسلمين على جهاد الكفار الذين «تسلطوا بأنواع التسلطات الخبيثة على المسلمين، فصاروا لا يملكون مستقلين قياد أنفسهم، ولكنها الأهواء عمت فأعمت، ولو عقل المسلمون، وعملوا بما أمر الله به … إلخ».
إن الله — تبارك وتعالى — إذا فتح بابًا للخير فلا راد لفضله. وأما ما طلبتم البيان فيه عن اليمن، وما ترمي إليه السياسة الأجنبية، فمن المعلوم أنها لما قامت الحرب الأوروبية أعلنت دولة بريطانيا مساعدة العرب إذا أرادوا الاستقلال دون أن تتدخل في شيء من شئونهم.
ولكن من الأسف أنهم على آراء متفرقة، وأهواء مختلفة. ومرت هذه الفرصة وكادت تمر، ولم يرفعوا إليها رأسًا … على ما نشهده الآن في الاختلاف وعدم الانتباه، لما يرفع شأنهم دينًا وسياسة. أثبتوا على أنفسهم عدم الرشد فاحتقرتهم أعين العالم، وصاروا عرضة لانحطاط قوميتهم من بين سائر الأمم. فلا حول ولا … ومثلكم على وفورٍ من العلم والسياسة، وبمحلٍّ من المعالي والرئاسة، فلا يخفى عليكم كيف يكون لَمُّ شعث هذه الأمة، وما هو الأقوم عند الله طريقة في زوال هذه الغمة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
- الأول: أن دعوة الإمام يحيى دينية ظاهرًا، وسياسية ضمنًا، ودعوة السيد الإدريسي دينية أساسًا، وسياسية قومية عملًا.
- الثاني: في كتاب إمام صنعاء غموض مقصود، وعموميات قلما تفيد، وفي كتاب إمام جيزان صراحة مبرورة وتخصيص ليس فيه إبهام.
(١٢) المعاهدة
من طبع الضعيف وإن كان مستقلًا أن يوالي الغني، ويستنصر في أموره القوي. ومن مظاهر القوة أن الضعيف في مكانه وبيئته هو غالبًا أقوى منها في غير مكانها وبيئتها، فالقوة وفيها الحكمة تستعين بمثل هذا الضعيف، فيقوى بها، وتنتفع به. وما دام الانتفاع متبادلًا متساويًا، وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان في الفريقين شيء من الوجدان، فالولاء بينهما أمر طبيعي. أما إذا اختل التوازن في المنفعة، ومالت كفة الميزان، فهناك السيادة الفاسدة، أجنبية كانت أم وطنية، من القوي كانت أم من الضعيف. هناك الاستيلاء، والاغتصاب، والظلم، والاستبداد، فالقوي القليل الوجدان يستخدم الضعيف لمنفعته الخاصة فقط، يضمه إليه فيبتلعه أو يستعبده. والضعيف — الضعيف الوجدان — يخادع القوي وينافق؛ فيكسب بعض القوة التي يسيء استخدامها، فلا ينفع نفسه نفعًا يذكر، ولا ينفع أحدًا من الناس. هذه حقائق في الحياة تنطبق على ما تماثلها في السياسة، وفي الملك.
كان السيد الإدريسي يدرك أمرين في حياته جوهريين: أولهما: أنه قوي في ذاته، وثانيهما: أن ملك الإدريسي ضعيف بين أقوياء هم أعداؤه. بديهي إذن أنه — وهو الطموح الحكيم — إذا عَرَفَ قويًّا يروم الولاء والاه، واستنصره على الأعداء. وكذلك كان. جاء القوي عدو الأتراك — إيطاليا ثم بريطانيا — والمرء في أيام الحرب أبعد عن المخاتلة والخداع منه في أيام السلم، فنفع الإدريسي، وانتفع به. ها هنا قوة وضعت فيها حكمة ووجدان، وفي اتحادهما نفع سوي متبادل.
أما بعد الحرب فانقلبت الحال، وساءت الأعمال. أمست حليفة السيد، ولا قصد لها ظاهرًا في بلاد العرب غير نفوذ تمده إلى مقامات السيادة؛ لغرض مجهول كثر المتكهنون به، وقل المدركون، دون أن تبذل شيئًا مما كانت تبذله أثناء الحرب. زد على ذلك أنه كان لها في الحرب عدو حقيقي معروف، وليس لها الآن غير أعداء سياسيين؛ فاستمرت على سياسة الغموض توالي هذا الأمير علنًا، وتفاوض عدوه سرًّا حتى ساء حالها، وساءت أعمال رجالها.
وبودي أن يعود الفريقان — البريطانيون وأصدقاؤهم العرب — إلى شيء طبيعي عادل في العلائق السياسية والولائية، تكون الفائدة فيه متبادلة متساوية. إلا أن ذلك لا يكون إلا بالسياسة العربية القومية الصريحة من قبل الإنكليز، وبالصدق والنزاهة، والإقبال على الحسن من التمدن الأوروبي من قبل العرب. كانت بريطانيا تقدم في الماضي السلاح والذخيرة، وتدفع الأموال فتسيطر بوساطتها على الرجال، فانتفعت منفعة محلية وقتية، وما كسبت بوجه الإجمال من العرب غير المقت والاحتقار. ولعمري إنها فيما كسبت غير مظلومة؛ فقد أفسدت أموالها الأمراء، وأهلكت بسلاحها العشائر، وهي لا تزال تسعى في نفوذها، وتثبيت سيادتها في البلاد العربية على تلك الطريقة القديمة. وهذا لا يكون بعد كل ما تغير وساء من الأحوال. فالسيد الإدريسي نفسه لم يذعن لممثلها الإذعان التام حتى يوم كان يقبض مالها، ويسلح العشائر بسلاحها. وكثيرًا ما كان يردهم فيما يقترحون خائبين «لم يربط الإنكليز أحد مثلي، أنا رقَّصت الإنكليز». سمعته يردد هذه الكلمات مرارًا في حضور وكيل بريطانيا السياسي صديقي محمد فضل الدين. ومهما كان من زعمه فلا أحد ينكر أن السيد كان عربيًّا حرًّا صميمًا، يأبى التسيطر الأجنبي كما يأباه غيره من ملوك العرب الكبار، إلا أنه لا يرى الضرر والكفر في موالاة أجنبي ينتفع به. أما الانتفاع أثناء الحرب فعرفناه، فماذا عسى أن يكون في أيام السلم؟
حبذا دوام العلائق الودية بين أمراء العرب وبريطانيا. ولكنها لا تدوم — كما قلت — على الطريقة القديمة. لا ولاء متبادل، ولا إكرام حقيقي مع التذبذب والتجسس، والدسائس والإرهاب. إن الحكمة كل الحكمة، والخير كل الخير للفريقين في خطة جديدة مجردة عن السياسة، وحب السيادة التي لا طائل تحتها. وإذا كان لا بد من السياسة إلى حين، فحبذا فيها تلك الصراحة البعيدة عن اﻟ «لا»، واﻟ «نعم» معًا، وعن الختل والخداع.
هذا ما أشرت به شفاهًا، وأشير به كتابة على الدوام، وقد كان السيد الإدريسي من رأيي، فلما وصلنا ونحن نبحث ذات ليلة في المعاهدة بينه وبين الملك حسين إلى بند يحدد علاقة الأمير العربي بدولة أجنبية قال: ولا بأس من ذكر بريطانيا في المعاهدة، بل يجب ذكرها. فقلت: وإن كنت من رأي سيادتكم في تفضيل بريطانيا على سواها من الدول الأوروبية، فلا أستحسن ذكر اسمها في المعاهدة بينكم وبين جلالة الملك حسين. ولم أكتم السبب فيما دعاني إلى مخالفته، بل صرحت برأيي، وكان فضل الدين حاضرًا الجلسات كلها؛ دفاعًا عن القضية العربية، والقصد الأكبر فيها، وهو تآلف ملوك العرب، وتحالفهم في سبيلها. فقد كان الملك حسين ناقمًا يومئذٍ على بريطانيا، وكان الإمام يحيى حربًا عليها، وأنا أبغي عقد معاهدة بينهما وبين الإدريسي، فكيف السبيل إلى ذلك وأحد الثلاثة يقيد نفسه ببريطانيا، ويسجل في بند من بنود المعاهدة تفضيله إياها على سواها من الدول الأوروبية؟! فقلت مصرًّا: خير لكم يا مولاي ولبريطانيا ألَّا نذكرها في المعاهدة. وإني لا أرى ما يوجب ذكرها هنا خصوصًا في معاهدة بينكم وبين أمير عربي آخر.
كنت أفكر بالملك حسين الذي رغبت في خدمته خدمة تقرب أمراء العرب منه، وتربطهم بالمعاهدات وإياه، خدمة تفيده أكثر من إرساله الوفود إلى لندن وجنيف. وكانت هذه الرغبة تشير مما أفعل وأقول. ولم يكن الإمام يحيى ولا الإدريسي مغبونًا في عمل مجرد عن الأغراض السياسية والذاتية كلها؛ فخفت أن يفسده ذكر بريطانيا، فيرفض الملك أن يوقع المعاهدة بسببها، وينكر الإمام كذلك مساعي الملك في سبيل الصلح بينه وبين الإدريسي؛ لذلك دافعت عن نظريتي بحجة ويقين، ودافع السيد عن نظريته لا اعتقادًا فقط على ما أظن، بل رغبة بالمحافظة على صداقة الإنكليز. فلما خرجنا من المجلس تلك الليلة هنأني فضل الدين وقال: قد نلت من السيد ما لم ينله أحد قبلك.
جاءت المعاهدة وليس فيها ذكر لبريطانيا، ولا كلمة تشير إليها. وكان البريطانيون مع ذلك راضين بها. مما دل على أن بريطانيا لا تعارض في عقد معاهدات ودية اقتصادية — دفاعية كذلك — بين أمراء العرب إذا وُفِّق الأمراء إلى من يسعى في هذا السبيل سعيًا فيه نزاهة ووطنية حقة، ثم شيء من الاعتدال والإنصاف.
وها إني أثبت من هذه المعاهدة ما يختلف في موادها عن المعاهدة بين الملك حسين والإمام يحيى.
التمهيد واحد في المعاهدتين.
- المادة الأولى: البلاد العربية أقصاها وأدناها بلاد إسلامية، لا تقبل التفرقة والتجزئة وانفكاك بعضها عن بعض من حيث الجامعة الدينية والقومية والوطنية، واتحاد اللسان. وليس المراد من عدم قبولها التفرقة تغيير أشكال إماراتها الموجودة، وتحويل أمرائها وحكامها المشهورين المعلومين الذين يتولون إدارة شئونها، وأعمالها، وسياسة داخليتها. وإنما المطلوب اجتماع الكلمة القومية٤٣ وتوحيد السياسة على وجه يرضاه الله، وتصلح به أحوال البلاد من غير تدخل أجنبي يخلُّ باستقلال البلاد العربية٤٤ على ما سيعرف من المواد الآتية:
- المادة الثانية: يعترف جلالة الملك للسيد الإمام الإدريسي بالإمامة، ويعترف سيادة الإمام لجلالة الملك بالملك.٤٥
- المادة الثالثة: يختص جلالة الملك بسياسة ما تحت إدارته في الحجاز وغيره داخلية وخارجية. ويختص سيادة الإمام الإدريسي بإدارة بلاده الداخلية والخارجية. وليس لأحدهما أن يعقد معاهدة أجنبية فيما يتعلق بإدارة الثاني من البلاد، ولا أن يغير شيئًا جاريًا من طرف صاحب إدارتها، ولا أن يتدخل بإدارة داخليتها لا خاصة ولا عامة٤٦ إلا بعد المشاورة والاتفاق بينهما. وإذا فعل أحدهما شيئًا من ذلك، أو عقد مقاولة أجنبية فيما يتعلق ببلاد الآخر منفردًا فلا يعتبر ما فعله، ولا يعتمد عليه. وليس لأحدهما نقض مقاولة سابقة لتاريخ هذا الاتفاق من الطرف الآخر فيما يتعلق بخاصية عاقدها وبلاده، ولا تعتبر في بلاد الثاني إلا إذا تم الاتفاق على ذلك. ويلزم على هذه المادة فصل الحدود بين الفريقين على الوجه المعتدل، حتى يصلح كل فريق الجهة التي إليه، ويعد بها المعدات اللازمة وقت الحاجة للطرفين،٤٧ ولو كانت جرت المذاكرات بالوفاق مثل ما جرت الآن قبل سنة تقريبًا؛ لتمكن الجميع من اجتياز الحدود المعتدلة، وما يترتب عليها من الفوائد المشروحة أعلاه؛ حيث كان لا حائل بين الجوارين، ولا منازع آخر بينهما. أما الآن بالنسبة للحدود فيكفي حصول التزام ثابت من جلالة الملك حسين بعدم الاعتراض في مسألة لواء عسير على فرض ارتفاع المنازع الآخر منه بالكلية٤٨ أو إرضائه بجزء لا يحول بيننا وبين جلالة الملك حسين في الجوار. وهذا يقتضي أن نقوم بسعي الإصلاح بينه وبين السلطان عبد العزيز بن سعود؛٤٩ لأجل تمييز حدود معتدلة بين الأطراف الثلاثة.
- المادة الرابعة: الاتفاق على مدافعة من أراد الاعتداء على أحد الطرفين. وهذا حق المسلم على المسلم. والكل منا يبحث في تلك الحادثة، والسعي فيها بما أمكن من الإصلاح، سواء كان مما يرجع إلى الخارج، أو المعارض في الداخل. فإذا لم يكن إلا مجرد الاعتداء والبغي، فيلزم كل من الفريقين المناصرة لصاحبه. ويلزم الإمداد بقدر ما أمكن من مال أو رجال أو سلاح أو معدات حربية، وعلى طالب المدد أن يقوم بلوازم المطلوبين.٥٠
- المادة الخامسة: إذا وقع تشاجر بين رعايا الفريقين يرد إلى حكم الشرع، فينصب قاضيان من الجهتين، أو قاضٍ من إحداهما حسب التراضي لفصل المادة.
- المادة السادسة: الاتفاق في العمل الذي يحفظ القطرين من أي تدخل أجنبي. فإذا حدثت مسألة مهمة كالعقود والمعاهدات يلزم كلًّا من الطرفين أخذ رأي الطرف الآخر؛ حتى يؤمن الالتباس في الموضوع، ويكون العمل بقوله تعالى: وأمْرُهُمْ شُورىٰ بيْنهُمْ. وقوله — عز وجل: وشاوِرْهُمْ فِي الْأمْرِ.
- المادة السابعة: تبادل المنافع التجارية من الطرفين مع تسهيل أمور الصادر والوارد، والمحافظة على اطمئنانها.
- المادة الثامنة: التي تختص بصندوق توفير مال الزكاة، هي مثل المادة العاشرة في معاهدة الإمام يحيى، والمادة التاسعة التي تختص بتعيين مندوبين من قبل الفريقين هي مثل المادة الثامنة، والمادة العاشرة، أي الأخيرة، هي مثل المادة الأخيرة كذلك في معاهدة الإمام.
(١٣) جوار وسادات
وقف الحاجب في الباب يقول: الحاج محمد؛ فنهض فضل الدين واستوى جالسًا على الديوان. ومن هو الحاج محمد؟ هو في عاصمة ابن إدريس نائب إبليس. درويش وجريدة اخبار وحجَّام، وطبيب يطبِّب العيون، ويتاجر بالدر المكنون، ويمارس كل الفنون. هو من مراكش، جاء مثل كثيرين من إخوانه إلى بلاد السيد حاجًّا، وبقي فيها ينتقل مع الإمام فيعيش في ظله المغذي الروح والجسد معًا، والحاج محمد جبار يكسِّر بيده الحجارة. صافحته مرة واحدة، وصرت بعدئذ أكتفي بالسلام من بعد عشرة أقدام. أعجب بتلك اليد، يد ولا مخالب البهبوت، كل أصبع منها نبوت، وهي مع ذلك يد ساحر، يمدها إلى أدق أعضاء الجسم البشري إلى العين فيشفيها — بشهادة الدكتور فضل الدين — من الآلام. يقبض السكين، وبغيرها وغير الله لا يستعين، وما فشل مرة في عملية من العمليات، ولا عصته العيون والحدقات.
لكن ذلك لا يؤهله لإكرام فضل الدين الذي كان يستقبله ولا يستقبل غيره في النهار. دخل يلهث والعرق يتصبَّب من جبينه، فجلس على الأرض، طوى نفسه على السجادة أمامنا، وبدأ باسم الله.
سار اﻟ «مَوْتِر» إلى صبيا منذ أيام، وعاد اليوم كاملًا بكل أجزائه والحمد لله، وحضرة القاضي فيه سالمًا متعافيًا — بإذن الله. وقد وفق بين السيد … وجارية من جواريه جاءت تشكوه إلى مولانا. ولدت هذه الجارية ابنة فلم تعش يومًا كاملًا، فعول السيد على بيع الجارية، فاحتجَّت معتصمة بالشرع والحق في جانبها؛ لأنها — وقد ولدت له ولدًا — أصبحت زوجة شرعية. ولكن السيد يقول: هي جارية نحس، جارية جانية، لو أنها ولدت ابنة حية لما استحقت أن أرفعها إلى مقام الزوجة، فكيف وهي تجيئني بالأموات. جانية تستحق فوق البيع الذبح. ولكني أرحمها وأبيعها فقط. فقال القاضي، وقد نبتت في قلبه ريحانة الرحمة: بمثلك وأنت من أهل البيت يليق العدل ويليق الحنان. فقد قال ﷺ. قال: نسيت يا دقتور الحديث. ولكن القاضي أقنع السيد؛ فدخلت التقوى والحنان إلى قلبه، فقاطعه فضل الدين قائلًا: نار الجحيم في قلبه. فقال الحاج: ولكنه رحمها يا دقتور. قال لها: سأشرفك ببذرتي مرة أخرى، فإذا جئتِني بولد ذكر حي كان لك ما تريدين، وإلا أتبعتك بابنتك، قبِّلي يد القاضي، وركبته، ورجله، واشكري الله على مجيئه. وجيزان تشكر الله على عودته سالمًا في اﻟ «موْتِر».
رفع الحاج محمد رأسه، ومسح بطرف قميصه العرق من جبينه، ثم طوى نفسه ثلاث طيات — إليتيه على كعبيه، وصدره على ركبتيه — ومد عنقه نحو فضل الدين، وهمس قائلًا: سيدخل عم مولانا الإمام على فتاة أخرى. أبو فراخ يبغي شراء فرخة سوداء، وراح أمس يستأذن صهره. وراحت المسكينة إلى الإمام تبكي وتستغيث. فقال الإمام إلى عمه الشائب: لا أسمح لك بها إلا إذا كتبت كتابك عليها؛ أخذتُ ابنتك بالكتاب والسنة فكيف أحل لك ما لا أحله لنفسي؛ فقبل أبو فراخ بذلك، وسيدخل هذه الليلة على الفرخة الدنقلية … لا والله ما أريتها، ولكني سمعتهم يقولون إنها أجمل ما جاء من وراء البحر؛ درة سوداء.
ورفع الحاج رأسه، وصعَّد الزفرات، ثم قال: والسيد — عافاه الله وحجب عليه — جاءته إحدى جواريه بولد … أبعد الله الدنقليات عن بيت سادتنا. فرخة سوداء، رأس البلاء، في كنف إدريس. الأدارسة يا دقتور يذبحون أنفسهم، ولا يذبحون سود الفراخ.
ضحك الدكتور، وأمر له بالقهوة فشرب الحاج، ومسح بقميصه العرق من جبينه ووجهه، واستأنف الحديث: سيرجع غدًا وفد ابن سعود. أعطى مولانا كل واحد منهم كيسًا وكسوة، وقد كانوا ليلة البارحة في المجلس الشريف، فتناقشوا وعلماء شنقيط في التوحيد والأولياء. خفت والله على الشناقطة من هؤلاء الوهابيين. تذكر الرجل الذي ذبح ابنه في أبها؛ لأنه افترى على زوجة أبيه، وفَرَّ هاربًا إلى صبيا، فقبض عليه فيها، وسجن بأمر من الإمام. جاء كتاب من عامل أبها يقول فيه: أرسلوا الجاني إلينا؛ أنتم لا تحسنون القصاص، شرائعكم لا تنفع؛ عندكم محاكم وتأجيلات وتعويضات ورشوات. أحيلوه علينا عندنا السيف. وأمس قال أحد هؤلاء الوهابيين: لا يطهر الإسلام من الشرك إلا السيف، وهو حجتهم الوحيدة. من يصلي إلى العظام في القبور، ويستغيث بالأشجار والحجارة يشرك بالله، يكفر بالله، والكافر يقتل. فرد عليه أحد علمائنا بقوله: وأنتم تستغيثون بالنبي، أنتم كذلك مشركون. فقال الوهابي: نذكر النبي إجلالًا، ولا نستغيث به أبدًا. فقال عالمنا: الذكر والإجلال يتضمَّنان الاقتداء، والاقتداء هو ضمنًا النداء، وفي النداء الاستغاثة. فقال الوهابي: هذا إبهام وكفر الإبهام أشد من الكفر الصريح. دامت المناقشة ساعتين، فدخل إذ ذاك مولانا فقال: لا تشعلوها يا أبناء نجد، وجادِلْهُم بِالَّتِي هِي أحْسنُ، ثم قال: والإنكليز مشركون ليس علينا أن نهديكم إلى الدين الحنيف … منْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (الآية)، ونحن أصدقاء الإنكليز. نخلص لهم ما داموا مخلصين لنا، وأنتم في نجد كذلك، إن الله يهدي من يشاء. هذا ما قاله مولانا الإمام. وقف الحاج محمد هنيهة وقد عمد إلى طرف قميصه فأمرَّها أولًا وثانيًا على جبينه، ثم دنا من فضل الدين هامسًا: سنبوك جوارٍ يصل إلى ميدي بعد يومين. ثم مال بوجهه إليَّ وقال: السيد الحضرمي يسلم عليك.
كنت قد نسيت رفيقنا في الباخرة، وها إن الحاج محمدًا يثبت ما قاله فضل الدين — قرأ السيد قصيدة في مجلس الإمام يمدحه فيها، فأمر له مولانا بمائة ليرة، وهو عائد معكم في اﻟ «موتر» إلى الحديدة.
ولكننا علمنا بعدئذ أن حضرة السيد سبقنا إلى ميدي، وسيرافقنا من هناك، فقال فضل الدين: الحمد لله الذي دفع عنا بعض البلية. ركبنا السيارة صباحًا يصحبنا جندي من جنود الإمام، وهو سيد من سادات اليمن الأعلى يناهز الستين عمرًا، دقيق الأنف والفم واليدين، حليق الشارب، أبيض اللحية، بهيُّ الطلعة، لطيف المحيَّا. جلس بعد أن سلم إلى جنب السائق، وبندقيته بين يديه، فسرنا نبغي ميدي التي هي على مسيرة ستين ميلًا من جيزان. وكان السهل الذي رحنا «نموتر» فيه كبلاد حرب كله درب. مررنا بملاحة هي للحكومة قرب قرية تدعى مضايه. ولم يكن في الأرض حولنا ما يريح النظر من السبخات غير شجر الشورى الذي كانت صفوفه تمتد أميالًا إلى جانب الشاطئ؛ كأنها جدار أخضر قائم بين البحر والسهل. أما عود هذا الشجر فأبيض، والمتكسر منه شبيه بالعظام، يجمعه العرب حطبًا. وأما الورق الشبيه بورق الغار، فيرعاه الغزلان. كنا نرى أسرابًا منها عادِيَة، شاردة، نافرة من كل ما تحرك في تلك الأرض سواها.
وفي تهامة مظهر من مظاهر المد غريب. إن مياه البحر تجري تحت الأرض، خلال شقوق في التربة رملية، فتتسرب إلى مسافة خمسة أميال في بعض الأماكن، وتظهر فورًا في السهل بحيرات مالحة، تجف في الصيف مياهها، فتبدو سبخات موحلة لزجة إذا علقت السيارة فيها استحال على غير الجمال جرُّها منها.
عجبت لسكوت السيد قدامي وتأدُّبه. سألته سؤالًا فأدار بوجهه، وأجاب بصوت لطيف ولغة فصيحة إنه من عرب حاشد، من الحوارث فيهم، وإن جبال حاشد هي كالحلقة حولهم. نعم، هو زيدي، ولكنه منذ عشر سنين «في خدمة الإمام»، أي الإدريسي. بعد أن أجاب سؤالي أمال وجهه وسكت. أعجبني من الرجل محاسن ثلاث فيه ظاهرة: حسن طلعته، وحسن منطقه، وحسن أدبه. وهو سيد زيدي، بل هو سيد من الأماجد، شريف حتى أطراف أنامله كما يقول الإنكليز. وفيه برهان جلي على أن في التعميم ضلالًا. أجل، إن في السادة كما في طبقات الناس كلها ثلاثة رجال: الشريف طبعًا، والشريف وراثة، والذي لا شرف له.
وصلنا إلى ميدي التي هي على مسيرة ساعتين في السيارة من جيزان قبل أن يشتد حر الشمس، فأقمنا فيها يومًا نستطلع أحوالها، ونستكشف أسرارها. أما الأسرار فهي والحريم في بيوت القش الهرمية، وأما الأحوال، فأول ما يظهر منها أناس أكثرهم من السود والمولدين يزدحمون في أسواق تباريهم فيها الروائح والأقذار.
ولكن للأشغال، للصناعة والتجارة أثرًا باهرًا فيها لا تجد مثله حتى في الحديدة؛ ذلك لأن ميدي اليوم هي كجيزان في أثناء الحرب العظمى، وقد كانت المدينة الوحيدة على شاطئ البحر الأحمر الغربي المفتوحة للبواخر والتجارة، فتسير منها إلى العقبة، عقبة اليمن، فجبال عسير، وفي السهول شمالًا إلى جدة. أما تجارة ميدي، فأكثرها بالسلاح وبالرقيق وبالتهريب. إذا احتاج إمام صنعاء مثلًا إلى الذخيرة والبنادق يشتريها في ميدي، أو يطلبها لترسل عن طريق ميدي. وإذا أراد أحد تجار الحجاز أن يهرب بضاعته فلا يدفع عليها رسوم الجمرك، يستجلبها إلى ميدي، ومنها برًّا إلى جدة. وإذا أراد أحد السادة شراء جارية حسناء يجيء إلى ميدي، فلا تضل خطاه ومناه. وإنك لتجد فيها اللؤلؤ، ودهن السمسم الذي يعصرونه بين حجارة تديرها الجمال، والبنيَّات السافرات اللواتي ينفرن من آلة التصوير نفور الغزلان. ولا غرو وشهرة ميدي هي في المحرم الممنوع، أي في الرقيق والسلاح، وسهام الملاح.
إن الدكتور فضل الدين بصفته الرسمية والخصوصية هو رقيب المتاجرين بالرقيق، وعدوهم الألدُّ، أخبره الحاج محمد المغربي بأن سنبوكًا عن الجواري يصل قريبًا إلى ميدي؛ فباشر عند وصوله البحث والاستقراء. جاء أحد «أصدقائه» من تجار الرقيق مسلِّمًا. فسأله كيف السوق؟ فقال: واقفة يا حكيم.
– يلزمنا جارية للأستاذ.
– غرضك يا حكيم على الرأس والعين. ولكن لا يوجد اليوم.
لا والله ولا واحدة.
– ولا عند أصحابك؟
– لا والله السوق واقفة. لم يدخل ميدي سنبوك واحد منذ شهرين.
– غرض الأستاذ عزيز لدينا. فتش ولو على دنقلية. والثمن يرضيك.
– سنبذل الجهد، غرضكم يا حكيم وغرض الأستاذ على الرأس والعين.
راح ولم يرجع. وجاء آخر فكانت أجوبته تومئ إلى ريب في نفسه بحسن نية الوكيل. فأنكر بتاتًا.
– لا جواري في ميدي، ولا أحد يتاجر بالرقيق اليوم. لا والنبي، ولا أحد يشتري.
– وها من يشتري ويدفع ما تشاء. هات لنا ولو سودانية.
– توكل على الله، غرض الحكيم نشتريه بعيوننا.
– وراح كذلك ولم يرجع. ثم جاء رجل طويل القامة، طويل الشارب، أجشُّ الصوت، جاحظ العين. فسلم سلام الأحباب، وتربع على الديوان.
– سترى قريبًا ما يسرك يا حكيم. والله ما نبغي إلا خدمتكم وخدمة مولانا السيد. لا يوجد جارية واحدة اليوم في ميدي. نظفنا البلد. والتجار كلهم يلعنوننا. لا يهم والله إذا كنتم راضين. أول سنبوك يدخل ميدي نحن ورجالنا نحجزه باسم مولانا، ونعلمكم بذلك.
وقد علمت بعدئذ أن الرجل من أكبر تجار الرقيق في تهامة. له قصر كبير بين ميدي واللحيَّة يستخدمه لتهريب الجواري والسلاح. والرجل عالم بقصد الحكيم، ويظن أنه يخادعه. على أنه ينجح أحيانًا فيما يحتال به. فإذا حجز سنبوكًا مرة في السنة، وسلم من فيه إلى الحكومة يشتريهن بعدئذ بوساطة أحد رجاله ويأخذهن إلى القصر.
سأله فضل الدين عن السنبوك المنتظر وصوله فقال: بعد شهر في الأقل. صاحبه سافر البارح إلى جيبوتي عيننا عليه، كن مطمئنَّ البال.
وقد يكون «صاحبه» أحد رجاله. عرفنا بعدئذ أنه كان صادقًا في بعض ما قال. ولكن الرجل لم يسافر إلى جيبوتي. إن في هذا الخبر بداءة حادثة يجيء ذكرها في حينه.
نزلنا الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى الساحة لنركب السيارة، فلقينا هناك رفيقنا السابق السيد الحضرمي ينتظرنا.
وضع الخادم أبكر أمتعة سيده في السيارة عند أرجلنا وأحكم بيننا حقيبة جاءت شبه مسند استندنا إليه، ثم أشار فضل الدين إلى السيد أن يجلس جنب السائق فأبى، وقال: ارفعوا هذه الحقيبة فأجلس معكم.
فضل الدين: يد الأستاذ تؤلمه، وهو يحتاج إلى شيء يسندها إليه.
تفضل اجلس قدامنا.
السيد مثلي لا يجلس جنب السائق.
فضل الدين يتلو الفاتحة، والسيد يحوقل، ثم: اجلس أو نمشي.
فهز السيد رأسه، فأمر فضل الدين السائق بالسير، فرفع السيد أمتعته إلى السيارة، وصعد إلى جنب السائق وهو يتلو الفاتحة. فقلت أنا مع الاثنين: اهدنا السراط المستقيم.
والظاهر أنه لم يكن فينا أحد ممن «أنعم الله عليهم»، أو أن السيد هو سيد برج النحوس، فجذبنا كلنا إليه في تلك الساعة وحجب عنا سواه. بل أعمانا فبتنا لا نعرف في السماء نجمًا نهتدي به. ضللنا الطريق، وبقينا ساعة ندور في سهل كله درب، ولا أثر فيه يُرى لدواليب هذه السيارة المباركة التي لم تزل طفلة في البلاد. بعدنا في الدوران ثم عدنا فدنونا من ميدي، فمنَّ الله علينا برجل هدانا الصراط المستقيم. ثم ضللنا ثانية وثالثة قبل أن نصل إلى حبْل، وهي القرية التي فيها قصر التاجر بالرقيق، وعدنا اتفاقًا أو إلهامًا إلى أثر الدواليب المتقطع الذي كان يبدو ويخفَى في نور القمر الضئيل.
وصلنا إلى اللحيَّة عند شروق الشمس، فألفيناها كالحديدة حافلة بآثار القنابل الإيطالية والبريطانية؛ لأنها ضربت مرات من البحر في الحرب الإيطالية التركية، وفي الحرب العظمى الأولى. إلا أنها لا تزال على شيء من العمران في أبنيتها الكبيرة، وفي أسواقها التي لا تشبه أسواق ميدي بالروائح والأقذار، ولا بالناس، وحركة الأشغال. هي قريبة من البحر، ولا تزال الكياسة التركية بادية في بعض أرجائها، ولا سيما في دائرة الحكومة، حيث استقبلنا بعض الأفاضل من عسير ومن الحجاز كانوا سابقًا في خدمة الدولة، منهم رجل له ابن في الرويس كان حاضرًا ليلة الوليمة والرقص التي أحياها جلالة الملك حسين إكرامًا لي، فكتب إلى أبيه يصفها. ومما قال: وكنا ساعة الفجر لا نزال نرقص حول النار. هذا أجمل ما سمعت في وصف تلك الليلة التي وصلت أخبارها إلى اليمن.
وأما سكان اللحيَّة، وفيهم السوداني والصومالي والمولد، فلا يتجاوز عددهم اليوم الخمسة آلاف، وهو خمس سكانها قبل الحرب. وفيها ثكنة مهجورة، وقلعة متهدِّمة، وأخربة — كما قلت — كثيرة. فقد كانت في آخر الحرب العظمى هدف الرصاص والنار من البحر ومن البر؛ لأن عساكر الإدريسي بقيادة ضابط بريطاني كانوا مخندقين خارج المدينة، وكانت أبو حلق على مسيرة ساعة منها جنوبًا، في يدهم. فتجيئهم الذخيرة والمئونة والماء كذلك من المراكب الحربية. وما عتم أن تغلب الأسطول البريطاني، فخرج الترك من المدينة، ودخلت عساكر الإدريسي إليها. وبعد قليل وصل إلى تلك البلاد خبر الهدنة، فأرَّخه الإنكليز هكذا: ١١-١١-١١، أي إن الخبر وصل إلى اللحية في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من سنة ١٩١٨. كان السيد مصطفى يومئذ نائبًا عن ابن عمه الإمام، والدكتور فضل الدين طبيبًا في الجيش الإدريسي؛ فنزل بعض الضباط البريطانيون إلى البر يعيدون معهما للخبر السعيد. احتفلوا بالنصر، وبانتهاء الحرب في بلاد لم تنته — وا أسفاه — فيها الحروب.
استأنفنا السير صباح ذلك اليوم، فمررنا ونحن قريبون من الشاطئ بالتُّمْنيَّة، وهي قرية صيادين، وكذلك بالخوْبَة التي لم يكن فيها ساعتئذ غير الأولاد، فخرجوا جميعًا يلاقوننا ويركضون ليسابقوا السيارة. وظل بعضهم وهم يثبون كالغزلان سائرين معنا بضع دقائق، فتقهقروا إلا واحدًا ظل في ثباته وعَدْوه، ثم سمعناه يقول للسائق: دَلهْ دَلهْ، أي على مهل. كأنه أراد أن يرافقنا، بل يسابقنا إلى الحديدة.
سمعت السموات والأرض طلبة الولد، فوقفنا فجأة، وقفنا تمامًا. غرقت دواليب السيارة في الرمل، فخرجنا كلنا إلا السيد الذي ظل جالسًا، وجاء الولد يساعدنا، فدفعناها إلى الأمام. أخرجناها مع من فيها من الرمل، وعدنا إلى مجالسنا، وفضل الدين يقول: والحمد لله يا سيد. فأجاب بلا خجل ولا اعتذار: والحمد لله.
دع السيد يا دكتور واستقبل السراب. هو ذا السراب، وقد تراءى لنا بعيدًا فظنناه لأول وهلة إحدى تلك البحيرات المالحة التي تتسرب إليها مياه البحر، أو لسانًا من البر امتد إليه. وكانت أكواخ القرية تنعكس في السراب، فيشبه ظلها ظل الأشجار — ظلال في المياه، ولا مياه ولا ظلال. أما لون السراب فكان أشبه بلون السماء منه بلون البحر؛ لذلك كنا نرى قرية ابن عباس كأنها واحة في وسط البحيرة، أو بستان معلق في الفضاء، تحته وفوقه السماء. ولما دنونا منها بدت أكواخًا لا ريب فيها، وكانت المياه، أي السراب المحيط بها يتقهقر ويصغر كلما تقدمنا، حتى غاب رويدًا رويدًا عن الأبصار.
بعد أن اجتزنا ابن عباس غرقنا ثانية في الرمل، فخرجنا ندفع ونجرُّ، والسيد في مكانه لا يتزحزح. فرجوناه أن يتفضل فينزل في الأقل؛ فتخف علينا المصيبة، ففعل متردِّدًا، وما كادت رجله الشريفة تطأ الأرض حتى تحركت الدواليب، وجرت السيارة باسم الله، فركض السيد وراءها وهو يظن أنها ستستمر جارية.
وصلنا إلى الصليف المشهورة بملحها. وقد كانت قبل الحرب عامرة بشركة بريطانية منحتها الدولة امتيازًا لاستخراج الملح من أرضها. إنها لقرية جميلة قائمة على طرف هلال من البر في البحر، والهلال ذيل ضلعٍ، أي جبل يمتد شرقًا إلى الزيديَّة في سفح جبال اليمن. خطر لي ونحن نجتاز هذا الجبل الضيق الطويل، هذا الضلع في الأرض، خاطرٌ قد يهمُّ البريطانيين والإمامين فيما يريدون من تحقيق الصلح. ها هنا الحدود الطبيعية في تهامة بين اليمن وعسير، بين إمام صنعاء، وإمام جيزان، فتكون الزيديَّة وما دونها جنوبًا للزيود، وتكون الصليف وما دونها شمالًا للأدارسة. والجبل فاصل بين الاثنين.
تغيَّرت التربة دون ذاك الجبل جنوبًا، فقلَّت فيها السبخة، وكثرت الرمال، وقلَّت كذلك المياه المالحة، وبدت هنا وهناك — في النبات والأشجار — دلائل الماء القراح. فهاك السلم والألب والعشر والنخيل. وهاك دلائل الاجتهاد في بقعة من القطن، شاهدنا غيرها في الطريق بين دير البحري وعجلانه. تبارك الماء العذب ولكن الرمال … كنا قد علقنا ثلاث مرات أخرى فيها، وما كان السيد يشرف الأرض برجله إلا بعد أن ندعوه رسميًّا.
انتصف النهار، واشتد القيظ إلى درجة يكاد لا يحتملها حتى أبناء البلاد، فكنا ونحن نساعد السيارة على عدوِّها الرمال نحس بالنار تخترق نعالنا فتحرق أرجلنا. وكان السيد الحضرمي يزيد بالطين بلة في سلوك يغيظ حتى الأولياء.
فضل الدين، ويده على السيارة، ورجلاه مثل دواليبها في الرمل المحرق: يا سيد يا ابن النبي، تعالَ ساعدنا، وإلا تبقى هنا. فنزل هذه المرة السيد، ولبس نعله، وجاء على مهل يعيننا، فوضع يده على السيارة، وهو يقرأ الفاتحة كأنه يريد تسييرها باللمس والصلاة؛ فازدادت السيارة تمردًا، وفضل الدين غيظًا، فقال: سيادتك مثل السراب، بل السراب أحسن لأنه يسرُّ العين.
كنا ساعتئذ في أشد حالنا، أصيب السائق بدوار؛ فوقع مغمى عليه، وكدت أنا أقع كذلك من شدة القيظ والعياء، وفضل الدين وحده يعالج السيارة، ويستعيذ بالله من برج النحوس. فأرسلنا السيد الصالح أبكر إلى تربة أقرب قرية منا يستنجد رجالها، فعاد بعد ساعة، ومعه بعض الأقوياء من العرب والسود يرأسهم قزم جبار سلَّم علينا فأضحكنا، وحرك السيارة فأدهشنا وملأ قلوبنا ابتهاجًا.
– السلام عليكم وعلى بنت الجن. هل تبغون تكسيرها أو تسييرها. إذا تبتم إلى الله نكسرها، وننزلكم عندنا، وتركبون غدًا الهجين مثل المؤمنين.
خلصونا مما كنا فيه — بارك الله فيهم — وأخذ الصغير البخشيش فتقاسمه ورجاله، وودعنا قائلًا: احمدوا الله وتوبوا إليه، ولا تقطعوا الحمد ما دمتم في بنت الجن هائمين.
ما كدنا ننتهي من الحمدلات حتى بدأنا بالحوقلة، وكان السائق لا يزال متأثرًا مما أصابه، فغاصت السيارة للمرة العاشرة، وعلقت الدواليب وقم يا سيد.
فقال السيد المحترم: لا أقوم ولا أنزل حتى نصل إلى الحديدة. فقلت، وكانت شعلة الغيظ قد اضطرمت فيَّ أيضًا: ستنزل هنا، وتبقى هنا: إن من يراك يظنك قويًّا نشيطًا، ولكن لا قوة فيك لا جسدية ولا روحية، يا لضيعة النسب!
لم يجب الرجل بكلمة. وظل ساكتًا حتى وصلنا إلى الحديدة، فودعنا هناك، واعتذر عما بدا منه.
وبعد يومين جاء الخادم يقول: رأيت السيد الحضرمي في السوق والتجار الحضارمة يمشون وراءه بعيدين عنه، وهو يمشي ويهز كتفيه كأنه حاكم البلد.
(١٤) تجارة الرقيق
أيما رجل كانت له جارية فأدبها، وأعتقها، وتزوجها فله أجران.
كنت أنكر وجود النخاسة في العالم اليوم، فجئت هذه البلاد ورأيتها بعيني. كنت أظن أن التجارة بالرقيق محرمة وممنوعة شرعًا في هذا الزمان، فخاب في البلاد العربية ظني. كنت أؤمل — على فرض وجود الرقيق والنخاسة — أن تكون الحكومة ناهضة للأمر، متعقبة المجرمين، ساعية في محق هذه التجارة المستنكرة الأثيمة، فوجدتها في الحجاز، وفي عسير نائمة وا أسفاه أو متناومة، أو عاجزة. بل وجدت الحكومة أحيانًا حليفة الرعاع.
أما الحكومة البريطانية بعدن فلها بعض الفضل في المراقبة في البحر الأحمر، وفيما تحجز بواخرها الحربية أحيانًا من السنابيك حاملة الرقيق. ولكنها لا تكمل عملها؛ فهي بعد أن تحجز السنبوك تطلق سراح العبيد والمستعبدين معًا. أو بالحري تعيد العبيد إذا شاءوا إلى بلادهم، وتبعث الناخوذاه، والنوتيين إلى جيبوتي؛ لتحاكمهم الحكومة الفرنسية.
إن لسموه في الحبشة رجالًا يجيئونه دائمًا بمن يبتاعون، أو يخطفون، أو يستغوون من البنات والصبيان، وهو يبيعهم إلى تجار الحجاز وعسير. إلى تاجورا إذن لا إلى جيبوتي يجيء تاجر الرقيق، فيرحب به السلطان الإسكاف، ويفتح له الكيس؛ فيملأه التاجر ذهبًا وفضة، ويعود بسنبوك إلى بلاد العرب ملؤه الجواري والعبيد. قد قيل لي: إن الحكومة الجيبوتية الفرنسية تقاسم السلطان الدنقلي أرباحه في هذه التجارة المستنكرة. ومما لا ريب فيه أنها تحسن معاملته، وتكرمه، وتجامله. دعاه مرة الحاكم الفرنسي لينزل بضعة أيام ضيفًا عليه في جيبوتي، فقبل السلطان الدعوة.
جاء إلى جيبوتي يزور الحاكم فاستقبل استقبالًا يليق بمقامه، وأنزل في قصر فخم جيء بفرشه ورياشه من باريس. فحدثت السلطان نفسه أن هؤلاء الفرنسيين تجار مثله، ويربحون من بلاده أرباحًا كثيرة. فلماذا لا يقتدي بهم؟ اغتنم السلطان هذه الفرصة الثمينة، فدعا تجار المدينة إلى القصر، وباعهم كل ما فيه من فرش ورياش، ووضع المال في كيسه، وعاد إلى قاعدة ملكه.
إن تاجورا إذن مصدر التجارة بالرقيق، وإن سلطانها — وهو تحت الحماية الفرنسية — سلطان تلك التجارة. أفتعجب بعد ذلك من فساد المدنية الغربية في الشرق، ونفور الشرقيين منها؟
حدثت وكيل المعتمد في عدن بالأمر، فقال أنْ لا حق لهم من وجهة شرعية بمعاقبة النخاسين؛ لأنهم غالبًا من بلاد لا سيادة لهم — أي للإنكليز — فيها. فقلت: ومن وجهة خلقية، ومن وجهة دينية، ومن وجهة محض إنسانية، إذا جردنا المدنية الغربية من الخلق والتهذيب والحب الإنساني فلا يبقى فيها ما يؤهلها لسيادة الشرق يومًا. وإذا المعتمد مثل بنخاس من تهامة، أو من الحجاز، أو من اليمن، فأمر بشنقه في ساحة عدن، أيظن أن السيد الإدريسي أو الملك حسين يحتجُّ عليه؟ وإذا احتج ملوك العرب كلهم أتظن أيها القارئ أن العالم المتمدِّن ينصرهم في هذا الأمر على البريطانيين مهما كان حقهم الشرعي؟ أينصرهم العالم، والنبي نفسه يأمرهم بإعتاق الرقيق؟ إني أبصر كل من يسعى في محق النخاسة، وإن تجاوز حدوده الشرعية على من يحميها، أو يتغاضى عنها، وإن كانت حكومته مقدسة.
إن في الحجاز من يحللون ويحبذون النخاسة، ومنهم من يأسف أنها غير مستمرة، ويلعن المراقبة البريطانية، إلا أني سمعت أن الملك حسينًا يستنكرها، وينهى عنها. لا ريب أن جلالة الملك حسين يستنكر العبودية، وهو أعلم الناس بما جاء في القرآن وفي الحديث بشأن الرقيق والإعتاق. ولكن حكومته — وا أسفاه — هي يومًا نائمة، ويومًا متناومة. وقد تأكدت أنها تشارك النخاسين فيما تفرضه ضريبة على كل رقيق يدخل جدة.
حدث أنها حجرت ذات يوم أحد سنابيك الإثم والعار بما فيه من جوارٍ وعبيد، فآوتهم وأحسنت معاملتهم، ثم — ماذا؟ قد أطلعت على نسخة من تقرير الوكيل البريطاني في جدة، وفيه ما يلي: قيل إن الحكومة باعت الأرقَّاء على حسابها، والحقيقة أنها إذا أذنت ببيعهم على حساب أصحابهم، واكتفت بتحصيل الضريبة المفروضة، أي خمسة وعشرين ريالًا على كل رقيق … يجيء النخاسون بالعبيد إما بحرًا في السنابيك، وإما برًّا من ميدي. وقد أطلعت القارئ على شيء من حال النخاسة في تلك البلدة، وما قاله بعض النخاسين وهم يخادعون البريطانيين والحكومة الإدريسية. على أن أحد السادة قال لي — وأثبت قوله بعض الموظفين — إن الحكومة واقفة للنخاسين بالمرصاد، بالمرصاد؟
دخل على الوكيل مأمور الميناء يقول: سنبوك جوارٍ رسا في الميناء، وناخوذاه ورجاله دخلوا البلد. وقد علمنا أيضًا أنهم سائرون إلى ميدي، وأنهم لم يرسوا في الحديدة إلا ليبتاعوا بعض الزاد.
(بعد عشر دقائق حضر المدير.)
هل علمت بسنبوك الجواري الذي في الميناء؟أمر الوكيل مدير الشرطة أن يحضرهم أمامه. فأحضرهم بعد نصف ساعة وكان يتقدمهم رجل طويل القامة، شديد الوطأة، حادُّ النظر، دخل المكان كأنه سيده، وتقدم إلى الوكيل فصافحه مصافحة الأقران، وجلس على الديوان. مَن الرجل؟ هو من كبار الموظفين في الحكومة الإدريسية بميدي الذي أشار إليه تاجر الرقيق هناك، جاء الحديدة خصوصًا ليلاقي السنبوك المذكور ويرافقه محافظًا إلى مقره.
بعد استنطاق الناخوذاه، علمنا أنه جاء من تاجورا، وأن معه أربعة وعشرين رقيقًا منهم عشرة صبيان، والبقية بنات، يتراوح عمرهنَّ بين الثامنة والثالثة عشرة، وأن صاحب «المال» — البضاعة — سبقهم إلى ميدي. وما هم إلا مأجورون مأمورون. أما إذن الحكومة فها هو المحافظ بنفسه.
ها هنا انتهت صلاحية الوكيل السياسية، ولكنه طبيب، وله كذلك صلاحية طبية، فسأل الناخوذاه أن يحضر الأرقَّاء ليفحصهم قبل أن يدخلوا المدينة، فوعد أن يجيء بهم بعد الظهر.
تكاد تكون الحديدة اليوم منقطعة عن العالم، والسبيل الوحيد إلى المراسلات البرقية هو بوساطة سنبوك إلى جزيرة قمران، أي ست ساعات في الريح الموالية، ومنها باللاسلكي إلى عدن. صدر الأمر بإعداد السنبوك للسفر، وولى الأصيل، ودنا الغروب، ولم يبرَّ الناخوذاه بوعده. على أنه جاء في المساء يعتذر، فلم يتمكن من شدة النوء والريح من إنزال العبيد إلى البر، ولكنه سيحضرهم صباح الغد — «والله بالله»، وأشار بيده إلى السماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قد بلغني أن بالقرب من ميناء الحديدة اليوم سنبوكًا يحمل عددًا من الجواري والعبيد، قيل خمسة وعشرين، جاء بعض تجار الرقيق بهم من الشاطئ الإفريقي. وهم متوجهون إلى ميدي إلى قصد التجارة. وقد سمعت أيضًا أن الحكومة الإدريسية أباحت لهم ذلك، الأمر الذي استغربتُه جدًّا، فجئت ألفت إليه نظر سيادتكم، وأُعيد ما قلته مرارًا أن التجارة بالرقيق — فضلًا عن أنها مذمومة في الكتاب الكريم — منهي عنها ضمنًا، وفضلًا عن أن الدول المتمدنة، وفي مقدمتها بريطانيا العظمى تمنعها منعًا باتًّا، فهي تشين الاسم الإدريسي، وتضرُّ بالحكومة الإدريسية أدبيًّا وسياسيًّا ضررًا جسيمًا. وإني في طلبي من سيادتكم أن تحلوا المسألة محل الاعتبار والاهتمام أُفصح عن عقيدتي، وعواطفي كمسلم، وعن رغبة الحكومة البريطانية التي أمثلها. أما السنبوك المذكور فأملي أن تتخذ الحكومة الطريقة السريعة الفعالة لحجزه، ومعاقبة ناخوذاه وبحريته، وتجار الرقيق فيه، ثم تعتق أولئك البنات والصبيان من الأسر. فإن في مثل هذا العمل تزيد الحكومة الإدريسية اسمها شرفًا، وعدلها عدلًا، وتبرهن على رغبتها وقوتها في تنفيذ أحكامها المبنية على الشرع الكريم. وفقكم الله إلى ما فيه خير الجزاء.
جاء مأمور الميناء هذا الصباح وفي وجهه خبر مفجع، ثم جاء مدير الشرطة وفي وجهه ما يثبت الخبر. نعم، أنزلوا الجواري والعبيد ليلًا خارج المدينة، وجاء … «أحد موظفي الحكومة في الحديدة»، فاختار من الجواري واحدة واشتراها، ثم ساقوا الباقين وهم حفاة عراة برًّا إلى ميدي.
سألت وسذاجة الجاهل في سؤالي: وهل أعدوا لهم الركائب للسفر؟
فأجاب المدير: أعدوا لهم يا سيدي السياط.
امش … امشوا. وهم يمشون حفاة عراة من الحديدة إلى ميدي، مائتي ميل في شمس تهامة وقيظها. وإنك إذا وقفت دقيقة في تلك الطريق في النهار تخترق النار نعلك، وتحرق رجليك.
رحماكم أيها السادة؛ أنتم أعيان الحجاز، ووجوه اليمن، أنتم حياة التجارة بالرقيق، أنتم أمل النخاس الأكبر ومورد رزقه، أنتم الطالبون، أنتم الراغبون في الاستعباد. فإذا كنتم حقًّا مسلمين، فعودوا إلى كتابكم واقرءوا — عفا الله عنكم — ما جاء في سورة النساء وسورة المائدة من النصح بالإعتاق الجزئي المتدرج، ثم في سورة البلد وسورة التوبة، وفيهما الأمر بالإعتاق التام.
قال الرسول: أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها وتزوجها فله أجران (حديث شريف).
ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاتي وفتاي (حديث شريف).
فهل من يأمر بالإعتاق التام يقرُّ دوام العبودية؟ وهل من يدعو إلى المساواة يحلل الاستعباد والنخاسة؟ إنه لمن العار أيها السادة أن تنادوا بالحرية والاستقلال، وتدَّعوا البِرَّ والإحسان، وتفاخروا بالعلم وحب الإنسان، ثم لطمع بالخدمة مجانًا، أو لغرض في النفس تستعبدون في هذا الزمان من هم مثلكم من طينة واحدة، ولا عذر لكم في ذلك، ولا ما يحلله أو يجيزه لا خلقًا ولا شرعًا ولا دينًا. وإذا اتخذتم الآية: وما ملكتْ أيْمانُكُمْ حجة وسلاحًا، فإنكم تحتجُّون وتتسلحون بالحرف على المعنى، وبالعرض على الجوهر، وبالحال — وقد زال — على الحقيقة. تتسلحون بظاهر الأمور، وكل ما فيها من جوهر وقصد شريف هو ضدكم، يشهد على جهل فيكم، أو على علم أفسده حب الذات.
أجل، إن أكثر الذين يقتنون العبيد اليوم لمن الأشراف والسادة والأعيان، فلا أظنهم يجهلون أن النبي أراد محق العبودية تمامًا بالطرق الممكنة في زمانه؛ فنهى عن ظلم العبيد، وأمر بتعليمهم، وبالإحسان إليهم، بل أمر بإعتاقهم.
هلا ذكرتم — وأنتم تفاخرون بأنكم من السليلة النبوية المباركة — ما جاء في الكتاب، هلا أنصتُّم إلى الحديث الشريف، هلا اقتديتم ولو في هذه بالنبي، إليكم صحيح البخاري، اقرءوا فيه الفصل في الإعتاق وفضله.
دخلت جارية على عائشة فقالت: اشتريني وأعتقيني. فقالت عائشة: نعم. فقالت الجارية: ولكن لا يبيعونني حتى يشترطوا ولائي. فرفضت عائشة. ولما علم النبي بذلك غضب وجاء إلى عائشة يقول: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا.
فهل من يقول هذا القول، ويعمل هذا العمل يحلل العبودية والنخاسة؟ إن من يستعبد الناس لا يستحق الحرية. إن من يتاجر بالرقيق في هذا الزمان لا يستحق لقب إنسان. وإن من يشتري الرقيق يفادي بشرفه، ويفقد كرامة نفسه. أجل، وإن أمة لا تستنكر النخاسة، ولا تنهض عليها فتمحقها لأذلُّ في عين الله ممن لا يعرفون الله، وأحط في نظر العالم المتمدن ممن يعبدون الحجارة، ويأكلون لحم الإنسان.
(١٥) خطوات إلى الوحدة
ودَّعت الحكومة بعد حادثة الرقيق التي ذكرت. بل ودعت تهامة آسفًا لما كان من ختام رحلتي فيها. على أنه لو حدثت قبل سفري إلى جيزان، وكانت فاتحة الأشجان، لما أظنني كنت فزت بما أبغيه من عقد معاهدة بين السيد والملك. وكيف أفوز ومثل هذه الحوادث، بل هذه المآثم التي تقترف تحت عين الحكومة، تثير السخط والغيظ، وتضعف فوق ذلك العزم واليقين في من يسعون في سبيل الأمة وعمرانها.
بيد أن لنا فيمَن يشعرون شعورنا في البلاد العربية، ويرون رأينا أملًا بمحق تلك التجارة المعيبة، واستئصال شأفتها. أقرب السبل إلى ذلك إنما هو العزم في الحكومة، والوجدان في السادة والأعيان، ثم اتفاق بين الملوك والأمراء الحاكمين على المؤازرة في مكافحتها. ولكنت سعيت في إضافة مادة في هذا الموضوع إلى المعاهدة لو كان لي سابق علم به. فعسى أن ما فاتني لا يفوت غيري ممن سيقتفون الأثر، ويسعون في إنجاح العمل.
صاحب الجلالة العظمى، أيده الله
حيَّا الله مولاي الملك بالخير والسعادة. أما بعد، قد أرسلت كتابًا مع الصديق قسطنطين في الشهر الماضي، فعسى أن يكون حاز موضوعه استحسان جلالتكم. والآن، وقد عدت من جيزان، أسارع إلى الكتابة بخصوص المعاهدة التي تباحثنا فيها، وتم الاتفاق عليها.
إن في سيادة السيد الإدريسي قلبًا كبيرًا، وله نظر في الأمور غالبًا ثاقب، وعنده لجلالتكم من الإخلاص ما لا غبار عليه. من حديثه الذي علق في ذهني: المسألة بيننا وبين الشريف قريبة سهلة … وقد أطلعني سيادته على نسختين من معاهدة أو تمهيد لمعاهدة كان النظر فيهما سابقًا مع السيد السقاف. فأضفنا بعض ما جاء فيهما إلى المعاهدة التي كتبتها وعرضتها على سيادته، ثم أضاف سيادته إليها — بعد تكرار البحث والمداولة — المادة الخامسة، وما جاء في المادة الرابعة ابتداءً ﺑ «وكل منا يبحث في تلك الحادثة ويسعى فيها بما أمكن من الإصلاح»، إلى حد «مجرد الاعتداء والبغي»، وما جاء في المادة الثالثة بخصوص الحدود ابتداءً ﺑ «ويلزم على هذه المادة فصل الحدود بين الفريقين» إلى آخرها. وقد استصوبت رأي سيادته بخصوص إصلاح ذات البين قبل العداء، وبالنص في مسألة الحدود على هذا الشكل، أي التعهد من جلالتكم بعدم الاعتراض في لواء عسير إلى أن يتم بينكم «تمييز حدود معتدلة فاصلة بين الأطراف الثلاثة»، وعسى أن يكون الأربعة كذلك. فإني أعتقد أن لحضرة الإمام يحيى رغبة بالتسوية أيضًا، اللهم إذا جئناه من باب يأمن إليه. وإن مفتاح هذا الباب بيد جلالتكم الآن. أما ما أضيف إلى المادة الثالثة بخصوص الحدود فما هو إلا الأساس للعمل.
بقيت مسألة أخرى. كان قد أضاف سيادته بندًا بخصوص بريطانيا العظمى، وحاجة أمراء العرب إلى موالاتها وصداقتها. فبحثت وسيادته في الموضوع، وصرحت برأيي الذي يختلف مبدئيًّا عن رأيه، وقد تضمن في المادة الأولى من المعاهدة في قولنا: «وتصلح به أحوال البلاد من غير مداخلة أجنبية تخلُّ باستقلال البلاد العربية»، وقد اقتنع سيادته بقولي أن ينبغي أن يكون الولاء والاعتماد من الأمور المعروفة والمتفاهم فيها بيننا، لا من الأمور المسجَّلة في المعاهدات الرسمية. فتنازل عن تلك المادة. إني مقدم المعاهدة لجلالتكم يصحبها كتاب من سيادة الإمام، وآخر من السيد السنوسي، فعسى أن تنال استحسانكم، فتوقعوها قريبًا، وتعيدوها مع الوفد إلى جيزان. لست أرى غير هذه الطريقة إلى تحقيق آمالنا في الوحدة العربية؛ لأن الحقيقة الثابتة التي لا يماري فيها من كان عارفًا بأحوال الجزيرة هي أن أمراءنا اليوم، وإن كانوا يميلون إلى الاتفاق، لا يزالون متنافرين متشاقِّين. وقل كذلك متحاربين، فينبغي إذن أن تكون الخطوة الأولى خطوة سلم وولاء بين الأقران والأكفاء، يتبعها خطوات فيها ما ننشده من وحدة سياسية قومية عربية. وإني لأسعى طاقتي في هذا السبيل. ولكن لا نجاح لعمل لا يشارك فيه ذو الأمر ذوي الآراء. فالأمر الآن لجلالتكم، ولا شك أنكم ستسعون، وسيكلَّل سعيكم بالنجاح في إصلاح ذات البين بين السيد الإدريسي والإمام يحيى، كما أنه سيسعى هو في الإصلاح بينكم وبين ابن سعود. وفقنا الله إلى عقد محالفة رباعية في الجزيرة قريبًا. أيدكم الله في المساعي الوطنية الشريفة.
عزيزي الشيخ فؤاد
السلام عليك، عسى أن تكون بخير، وأن يكون وصلك كتابي السابق الذي أرسلته مع العزيز قسطنطين، وها أنا ذا أكتب إليك الآن بخصوص معاهدة أخرى تباحثنا والسيد الإدريسي فيها، وتم الاتفاق عليها. وقد أرسلتها إلى جلالة الملك حسين مصحوبة بكلمة صريحة يشفع بها علمي وإخلاصي. لا بد من الصراحة في الأمر. إن الاتفاق بين أمراء العرب مقدمة لازمة للوحدة السياسية. والاتفاق لا يكون إلا إذا تنازل كل أمير عن بعض خصوصياته. أنتم في الحجاز تبغون الوحدة العربية، ونحن نبغيها، والأمراء الذين حدثتهم يبغونها، ولكنهم حراصٌ على استقلالهم، وهم يخشون نفوذًا يظنونه سرى إليكم وتمكن منكم. قد أزلت هذا الظن من صدورهم، ودافعت في مواقف عديدة عن جلالة الملك، أظن أن قسطنطين أخبركم بذلك، وبما أصلحته من سوء الظن في القنصلية الأميركية بعدن.
بقي أن أقول هذه الكلمة: لا تطالبوا الآن بتوحيد العَلَم، وتوحيد النظام العسكري، وتوحيد السياسة الخارجية. لا. ولا بالاعتراف بأن جلالة مولانا الحسين هو ملك العرب؛ لأن ذلك مبتسر، وقد يفسد ما هو ألزم في البداءة. إن الوحدات هذه درجات في سلم الرقيِّ القوميِّ السياسي، ولا بد أن تصلوا إليها وتصعدوها. الحكيم يا شيخ فؤاد لا يكره صاحبه. عليك إذن وعلى الأمير زيد أن تُنْعما النظر في المسألة، وتبذلا الجهد في إقناع جلالة الملك حسين إذا كان لم يقتنع بما كتبته إليه.
قد يكون عقد هاتين المعاهدتين أمرًا بسيطًا، ولكنه مهم إذا اعتبرناه مقدمة لخطير الأعمال. ومن ألزم الأشياء التي ينبغي أن تصحب هذه المعاهدات التلغرافات اللاسلكية. فقد تباحثت والسيد الإدريسي خصوصًا بذلك، وهم مستعدون أن يقوموا بنفقات آلة تُركب في جيزان أو في صبيا. إني أفضل صبيا. وستبحثون مليًّا في الأمر عندما تؤمُّون جيزان، والمعاهدة بيدكم، وقد وقعها جلالة الملك حسين. أما إنكلترا فهي على ما علمت راضية بمثل هذه المعاهدات، راغبة فيها. وأما ما قد يتبعها من عهود قومية فذلك من شأن أمراء العرب لا من شأنها. فمتى تمت وسائل المواصلة بوجود ممثلين للإمامين في مكة، ووجود التلغراف اللاسلكي بينكم كلكم تتوفقون — إن شاء الله — إلى تقرير أمور أخرى مهمة في التوحيد السياسي العربي.
وعندي أن من أهم المواد في هذه المعاهدات المادة التي تختص بادِّخار قيمات معلومة من المال كل سنة لتصرف في المستقبل في الإنشاءات العمومية المشتركة أسبابها ومنافعها. في هذه المادة إذا عمل بها بداءة الاستقلال الاقتصادي الذي بدونه لا يتم استقلال سياسي في هذا الزمان. وإني رسول هذه الفكرة أبثها في ديوان كل أمير وكل سلطان عربي. صندوق توفير من مال الزكاة، هو ذا استقلال العرب ومفتاحه إذ كانوا يفقهون. صندوق مشترك يصرف منه بعد عشر سنين مثلًا في مد سكة حديد بين الحجاز وعسير واليمن. وإذا احتاج حكام البلاد إلى أخصائيين من الأجانب يستأجرونهم ويدفعون أجورهم من أموال عربية، ويشترون ما يحتاجون من موارد وأدوات بأموال عربية. فلو كانت المعاهدة بين الملك والإمام، وبين السيد والملك محصورة في هذه المادة، ومادة الدفاع والمناصرة فقط لكفى بها الآن خيرًا ونفعًا للجميع، وقعوها إذن. وفقكم الله، وأطال بقاءكم.
ها هنا تنتهي مهمتي السياسية في اليمن وعسير.
رغبت في خدمة الإمام بتقريب قضيته من فهم البريطانيين ومصلحتهم، وبتقريب البريطانيين من عقلية الإمام، وبتمهيد السبيل إلى الصلح بينه وبين الإدريسي، فاقترحت أن يُعقد مؤتمر يتبادل هو وخصومه فيه الآراء، ويتعارفون ويتفقون، فأبى حضرته لأسباب أدركها، ولا سبيل إلى تداركها. إن الإمام طامع بالاستيلاء على اليمن كله، وهو طامع كذلك — على ما أظن — باللقب الذي لا يعترف به للملك حسين.