السلطان عبد العزيز آل فيصل آل سعود
(١) سلطنة نجد وملحقاتها١
-
حدودها: شرقًا خليج فارس من الجافورة وقطر إلى رأس المشعاب، ثم منطقة الحياد بنجد
والكويت من رأس المشعاب إلى رأس القليَّة.
جنوبًا خط يمتد من أبها في عسير إلى ملتقى الخطين الثامن عشر من العرض الشمالي والسادس والأربعين من الطول الشرقي، ثم يدور شمالًا إلى السليل، ومنها حول الربع الخالي شرقًا إلى الأحقاف فحدود قطر فالجافورة حتى الخليج.
شمالًا منطقة الحياد بين نجد والعراق، وهي في شكل قطعة بقلاوة بين الخطوط ٢٨ و٢٩ و٣٠ من العرض الشمالي، والخطوط ٤٦ و٤٧ و٤٨ من الطول الشرقي، ثم خط يمتد من قرب شعب الأعوج شمالًا إلى بير ليفة، ثم شمالًا بغرب إلى بير مُنيا فجديدة فجبل عنيز الكائن بين الخطين ٣٢ و٣٣ من العرض الشمالي والخطين ٣٩ و٤٠ من الطول الشرقي.
أما غربًا فمن جبل عنيز إلى شرقي الأردن، ومن شرقي الأردن إلى آخر الحجاز الجنوبي الغربي، فلا تزال الحدود مُختلَفًا عليها. إلا أن الجوف وحرَّة خيبر هما اليوم في حوزة سلطان نجد.
- عدد سكانها: نحو مليونَيْ نفس.
- مساحتها: نحو خمسمائة ألف ميل مربع.
- أهم قبائلها: مطير، وحرب، وعتيبة، وسبيع، والدواسر، والعجمان، والعوازم، والسهول، وبنو مرة، وقحطان.
- أهم مدنها: الرياض، وبريدة، وعنيزة، وحايل، وثرمدة، وشقرا، والمجمعة، وحريملا، والهفوف، والقطيف.
- مذاهبها: الوهابية، والشيعة، وبعض السُّنَّة.
(٢) شئنا حرَيملا فشاء الله ضرمى٢
كنت في لحج يوم كتبت إلى السلطان عبد العزيز أُطلِعه على الغرض من رحلتي في البلاد العربية وأستأذنه بزيارته والسياحة في بلاده. وكان بيني وبينه بحر الهند، ثم النفود، ثم الدهناء، ثم الإنكليز. أما العقبات الثلاث الأولى، فقد كانت — والحق يقال — سهلة بالنظر إلى الأخيرة. كتبت كتابي قبل أن سافرت إلى صنعاء، وأرسلته بوساطة تاجر معروف في عدن؛ ليرسله إلى وكيل ابن سعود في البحرين، وفي الكتاب رجوتُ من عظمة السلطان الإسراع في الجواب عن يد وكيله القصيبي حتى إذا مررت بالبحرين في سفري إلى العراق أتشرَّف بعلم تتوقَّف عليه خطتي في الرحيل. وكان في نيتي إذا جاء الجواب بالإيجاب أن أسوح في نجد قبل أن أزور العراق.
عدت بعد ثلاثة أشهر من صنعاء إلى عدن، وأقمت فيها تحت سرادق القيظ، في فم البركان، بين أشباح الجدري والحمى، ستة أسابيع أنتظر من أصحابي الإنكليز إذنًا بالسفر إلى … إلى نجد؟ كلا، بل إلى العراق. فإن ابن سعود عند هؤلاء الأماجد شخصٌ مقدس لا يدنو منه غير المقرَّبين من قدس الأقداس على شاطئ التيمس. وإنك إذا جهرتَ لأحد الوكلاء أو المندوبين السياسيين في السواحل العربية برغبتك، تجد الرجل واحدًا من ثلاثة: فإما أنه يُرجِئ ويسوِّف سياسةً، أو يبتسم هزءًا، أو يرفض بتاتًا. وقد لقيت الثلاثة في أولياء الأمر بعدن. قلت: نجد. فقالوا: العراق. قلت: ابن سعود. فابتسموا ثم رفضوا: لا علاقةَ لنا بالرجل وأموره. ثم جاءني كتاب من الحاكم يقول فيه: قد وصلنا نبأ برقي من المندوب السامي في العراق يأذن لك فيه بالسفر إلى بغداد. ومن كتاب آخَر تلاه علمت أنْ لا بأس بمروري بالبحرين، وإني بعد مقابلة أولياء الأمر في بغداد أسافر إلى نجد إذا كان جواب ابن سعود يأذن بذلك.
كان قد مرَّ أربعة أشهر ونيف على كتابي إلى السلطان عبد العزيز، فسافرتُ من عدن إلى بمباي قاصدًا من هناك البصرة، وفي قلبي تشوُّق إلى الجواب شديد. ولا أكتم القارئ أن رغبتي بزيارةِ رجلِ نجد الكبير كانت تزداد شدةً كلما تعدَّدت وحالت دونها العقبات.
وصلت إلى بمباي فوجدتُ أن أمري موكل برجال الشرطة هناك، ولكنهم أكرموا وفادتي فزرت الدائرة ولم يكلِّفوني زيارة السجن. وقد أظهر المدير رغبتَه في التعرف إلى هذا السائح العربي الأميركي الذي تُفتَح له أبوابٌ قفلت مرارًا دون سواه؛ إذ إن السفر في تلك الأيام حتى إلى العراق كان محظورًا على غير البريطانيين. وقد علمت أن بعض التجار الأميركيين انتظروا شهرَيْن في بمباي ليجيئهم الإذنُ بالسفر إلى العراق، وكانوا بعد ذلك من الخائبين. فلا عجب إذا أكبر أمري. وقد ظهر لي، بعد أن أقمتُ أسبوعًا في بمباي وتحدَّثت وبعض رجالها من تجار وكتاب وسياسيين، أني من المغبوطين في سفري إلى بغداد. ولكن ذلك لم يسرني كثيرًا.
شئنا حريملا فشاء الله ضرمى. قال المدير: أُمِرنا بأن نسهِّلَ طريقك إلى العراق. وأظنهم — أيْ «أولياء الأمر» — فيما كتبوا إلينا يقولون أنْ لم يصلهم الجواب من ابن سعود. سأبحث عن الجواب وأرسل نسخةً إليك إذا شئت. شكرتُ للمدير هذا التلطُّف وعدت إلى الفندق، فإذا بعض التجار والأدباء من المسلمين ينتظرونني هناك. وقد أخبرني أحدهم — وما كان حديثي في تلك الأيام ليخلو من سؤالٍ عن نجد وسلطان نجد — أن عبد الله القصيبي وكيلَ ابن سعود في البحرين وصلَ صباحَ ذاك اليوم إلى بمباي، فبادَرتُ في اليوم التالي إليه يصحبني الحاج علي رضا زَينل؛ أحدُ كبار التجار في الهند وفي الحجاز.
الدائرة السياسية مكتب كاتب الأسرار. بمباي في ٢٢ آب سنة ١٩٢٢ من آي. ف. كندرزلي كاتب أسرار حاكم بمباي في الأمور السياسية إلى مدير الشرطة.
الموضوع سفر المستر أمين الريحاني إلى البحرين ونجد.
سيدي
جوابًا على كتابكم رقم ف-٢٠٧١، المؤرخ ٢١ آب سنة ١٩٢٢، أقول أنْ قد أمَرَني الحاكم أن أخبركم لكي تبلغوا المستر أمين ريحاني أن الإذن بسفره إلى نجد لم يصلنا حتى الآن، ولكنه منتظر في البحرين. أما سفره إلى العراق فلا اعتراضَ عليه. وفي كل حال يجب أن يسافر أولًا إلى بغداد. أتشرف يا سيدي بأن أكون خادمكم المطيع.
أما التناقض بين كلامِ الوكيل؛ وكيل ابن سعود في البحرين، وأمرِ الحكومة؛ حكومة بريطانيا في الهند، فسوف تنجلي الحقيقة فيه.
(٣) في بغداد
لم يؤذن لي بالسفر إلى البحرين.
شئنا حُريملا فشاء الله ضرمى. وصلت إلى العراق وقلبي يحدِّثني بنجد، وفِكري يُبعِدني عن حُسْن الظن بالإنكليز. وقد وجدتهم في بغداد، كما هم في بمباي؛ السادة المُطاعين برغم النهضات الوطنية والحركات السياسية. ثم بَدَتْ لي حقيقتان جوهريتان استنرت بهما قولًا وعملًا في عاصمة العباسيين. الحقيقة الأولى هي أن مفتاح نجد للأجانب الذين يبغون الدخول إلى تلك البلاد من الجهة الشرقية، إنما هو بيد المندوب السامي. أما الثانية فهي أن الباب قَلَّما يُفتَح لغير الإنكليز، بل لأولئك القلائل منهم المنتدَبين لأمور سياسية أو المقرَّبين من النظارة الخارجية. وقد رفض الوكيل السياسي في خليج العجم غيرَ مرةٍ أن يأذن لبعض الأطباء الأميركيين في البحرين بالسفر إلى نجد. هذه هي الحقائق الراهنة التي جُبهت بها في الدوائر السياسية وغير السياسية. بسموا لجسارتي بل لجهالتي في الحديدة، وأحالوني في عدن على المندوب السامي، وسوَّفوني في بمباي. فما عسى أن يكون من أمرهم في بغداد؟
بعد أن زرت جلالةَ الملك فيصل على شاطئ دجلة الشرقي، جئت إلى دار الوكالة في الشاطئ الغربي، لأقابل السيدة جرترود بل كاتبة أسرار المندوب السامي في الأمور الشرقية. والعراقيون يدعونها الخاتون. إلا أنها في قوامها ونُحولها وتيقُّظها إنكليزيةٌ لا غبارَ عليها. كانت المقابلة الأولى في مكتبها، وكانت، وهي القابضة على زمام الحديث، تدخِّن السيكارة تلو السيكارة، ثم تنهض عن المقعد فتتخطر في القاعة، ثم تجلس وترفع رجلًا على رجل وهي تتكلم، ثم تتكلم بدون انقطاع. فقلت في نفسي: لا تزال الخاتون امرأةً والحمد لله. عرضتْ أمامي عقلَها في الجلسة الأولى فأُعجِبت به، وكشفَتِ الحجابَ عن زاوية من قلبها فدُهِشت، بل كادت ترفع الستار السياسي كله لتريني أنها أخلصت العمل لفيصل وللعراقيين، وأن الإنكليز لا يزالون أصدقاءَ العرب وأقربَ الناس إليهم. ثم قالت: لا شكَّ أنك تيقَّنتَ ذلك في رحلتك يا أمين أفندي.
كنتُ شاكرًا لأنها لم تقف لتسمع جوابي، بل استمرت في الحديث.
وأطلعَتْني على أمور تتعلق برحلتي لم أستغربْ عِلمَها بها؛ لأني أعلم أن وكلاء إنكلترا السياسيين ومندوبيها في البلاد العربية يتبادَلون التقاريرَ السرية من حين إلى حين، ومنهم مَن يكتب تقريره كلَّ أسبوع، فيُرسِل نسخًا منه لزملائه في مصر والسودان والعراق والهند.
عادت السيدة جرترود إلى الملك فيصل الذي كان في تلك الأيام غاضبًا على المندوب السامي وعليها، فلا يوقِّع المعاهدةَ المشهورة بين الإنكليز والعراق، فقالت: قد سعيتُ سعيًا متواصلًا من أجل الملك فيصل، فأقنعتُ رؤساءَ العشائر واستملتُهم إليه. كانوا يقولون لي يا أمين أفندي: هذا حجازي أجنبي. وكنت أقول لهم: أنا أكفله، أنا الكفيل. صدِّقني يا أمين أفندي إني أحب العراق أكثرَ من حبي بلادي. أنا عراقية.
تفكَّهتُ في مجلس الخاتون وتفكَّهتْ، على أن إعجابي بها وهي امرأة كان أقل من ارتيابي بشأنها وهي وليةُ الأمر أو وليةُ العشائر في العراق. ولا يظنن القارئ أن كاتبة المندوب السامي باحَتْ بكل أسرارها العربية في الجلسة الأولى. لا، ولا في الجلسات العديدة التالية.
ما جئت على ذكر السيدة جرترود هنا إلا لأنها كانت في عهد السر برسي كوكس تقبض على مفاتيح الأمور السياسية في العراق، وفي البلدان العربية والعجمية على الخليج، يتولى المندوب السامي البتَّ في شئونها. ومفتاح نجد من هاته المفاتيح، فهل تأذن به يا ترى؟
سألتها سؤالًا دون أن أكشف عما جال في صدري من الريب بحُسن نية زملائها، ودونَ أن أشيرَ إلى التناقُض فيما قاله لي وكيل ابن سعود وما كتبه حاكم بمباي، فتغيَّرت عندئذٍ لهجتُها وتغيَّر أسلوبها، فلم تُجِبْني بالصراحة التي عرضتْ أمامي مثالًا منها في حديثها عن العراق؛ ذلك لأنها كانت لا تزال في ريبٍ مما قد يكون من أمري وسلوكي في بغداد. أجئتُ مبشِّرًا بالوَحْدة العربية، أم جئتُ أضرم نارَ الثورة على الإنكليز؟ أجئتُ أنصر الحزب الوطني أو الحزب الحر أو أصحاب الانتداب، أم جئت من أميركا رسولًا سريًّا لشركةٍ من شركات النفط؟
هي بعض الإشاعات التي انتشرت في بغداد وحامت على مكتب الخاتون، ولكنها لم تتنازل أنْ تسألَني سؤالًا واحدًا صريحًا بخصوصها، بل كانت في حديثها تشير إشارةً إلى ما فيه الحجة الراهنة — بحسب ظنها — على عِلمها الوافر الشامل بكل ما يختصُّ بالسياسة البريطانية في البلاد العربية. أظنها اتخذت سكوتي دليلًا على الاقتناع، أو أنها قرأت فيه شيئًا من الميل إلى التصديق. واللومُ أو بعضُه عليَّ؛ فقد كنت حتى في ابتسامي أول مرة قابلتُ الخاتون غير الرجل الذي أعرفه ويعرفه الناس. وما ذلك إلا لخوفي أنْ تَحُولَ دون رغبتي، فدارَيْتُها في دارها. على أني لم أُخاتِل، ولم أداجِ، ولا جمجمت الكلام في كل ما ألقيته من الخطب في بغداد. خرجت من مكتب المس بل ونفسي يتنازَعُها الريب والأمل. هي الحاملة المفتاح، مفتاح نجد، فهل تفتح لي الباب؟
بعد ذلك قابلتُ المندوب السامي السر برسي كوكس، فكان نقيضَ كاتبةِ أسراره الخاتون في أنه أَوْلى جليسه أولًا الحديث. سألني سؤالاتٍ تتعلَّق برحلتي، فأجبتُه عليها بصراحةٍ زمامها التحفُّظ. ثم ذكر حادثةَ القصر عندما راح يهنِّئ الملك بعيدِ جلوسه، فتكلَّم بما يبرئ نفسَه من العسف والاستبداد في نفيه زعماء الحزب الوطني وإقفال جرائده وناديه. ثم انتقلنا في الحديث، فأخبرني أن في نيته زيارةَ السلطان عبد العزيز قريبًا، علَّه يتوفَّق إلى رتْقِ الأمر بينه وبين العراق، وهناك معاهدة يريد استئنافَ المفاوَضات بخصوصها.
قلت: زيارتكم إذن في سبيل السلم والولاء بين اثنين من ملوك العرب. فقال: بل أكثر من اثنين، وإن أقصى تمنياتي أن أمهِّد سبيل الاتفاق والولاء ما استطعت. فقلت: هو كذلك قصدي وسعيي. خذني معك إلى ابن سعود فأخدمك فيما تأذن به ولا أتقاضاك والحكومة البريطانية أجرة على ذلك. فضحك وفاه بكلمة لم أسمعها؛ لأن الخادم دخل يقول: الغداء حاضر. فاستأذنت وانصرفت.
خرجتُ من مكتب المندوب كما خرجت من مكتب الخاتون متيقنًا أن محجتي لا تزال بعيدة، بل إن العقبة الأخيرة بيني وبين نجد هي كما قلتُ في أول الفصل أشدُّ العقبات كلها. وليس الذنب في ذلك ذنب ابن سعود؛ فقد أجاب على كتابي كما تقدَّم بالإيجاب والترحاب. بيْدَ أن للإنكليزي في سياسته عواملَ يتساهل أحيانًا بالعرضي منها ليتمكَّن من مقاوَمة ما هو جوهري خطير.
جلستُ أسأل نفسي وأناقشها: هل يمنعونك وأنت تحمل الجنسية الأميركية؟ قد منعوا غيرك من هذه التبعة، وهم يكرهونها في العراق. ألا يستطيع قنصل أميركا السعي من أجلك كما فعل زميله في عدن؟ هو لا يعترف بالعجز ولا يتيقن الفوز إذا سعى. ألا يقدِّرون خدماتك في اليمن وعسير فيجازوك عليها ولو بإجازة سفر إلى نجد؟ الإنكليز لا يعترفون رسميًّا بخدمات تُقدَّم لهم مجانًا؛ قد يشكرون وبعد ذلك لا يذكرون. وإذا رغب ابن سعود بزيارتك له ورغبوا هم عنها فأية رغبة تُحقَّق يا ترى؟ لا رغبتك ولا رغبة ابن سعود، فسلطان نجد صديقُ الإنكليز كما أعلم ويرعى العهود.
هذا ما كنت أعتقده بسياسة ابن سعود في تلك الأيام، ولا أزال على شيء من الظن أنها الخطة المثلى — وإن كانت عليَّ فلستُ ألوم — فيما لا يضر بمصلحته ولا يجحف بحقوقه. فهل يُعقل أن يعادي سلطان نجد الإنكليز من أجل الريحاني؟! عييت عن الجواب، ولكني لم أفقد الأمل ولا يئست، بل سررت جدًّا برغم معقولي عندما قال المندوب السامي: سأزور قريبًا ابن سعود. فرأيت نفسي — وما الفائدة من الخيال ومن الأحلام إذا كانت لا تشركك بنعيمها؟ — رأيت نفسي مسافرًا وإياه إلى الحسا. ولم يهمني أني في عملي هذا أثبت التهمة على نفسي. فيقول المخدوعون من الأصدقاء والأعداء: أَلَا ترونه مسافرًا والمندوب السامي؟ فكيف لا يكون في خدمة الإنكليز؟ كنت أعود، ساعةَ يستحوذ عليَّ اليأس، إلى هذه الرؤيا فأُنعِش بها أملًا بزيارة نجد كاد يتلاشى، فينعشني الأمل وأسمع همسَ صوتٍ يقول: ولتغلبن الإنكليز.
أقيمت الحفلات الأدبية في بغداد، الأولى والثانية … والعاشرة، وكانت الحكومة، حكومة الانتداب، تبعث مَن يسمع فيخبرها أو يخبر بالأحرى المس بل بما أقول. وأظنني هدمت جانبًا من معقل الريب في أول خطبة فهْتُ بها. تباركت في مثل هذه المواقف المرأة، فإنها أسرع إلى التصديق وحسن الظن من الرجل. دعتني المس بل إلى بيتها بعد ذلك مرارًا، وأقامت في مكتبة السلام التي هي رئيستها حفلة دعَتْ إليها كبار العراقيين والبريطانيين، وافتتحتْ هي الحفلة بخطبةٍ ما أثَّر فيَّ ثناء مثل الثناء فيها، ليس لأنه من امرأة عالمة فهيمة؛ بل لأنه من نفسٍ أحسنتْ بعد أن أساءت الظن، وأخلصتْ بعد أن أظهرَتِ الوداد.
ومع ذلك كنت عندما أقول: نجد. تقول هي: العراق. وعندما أقول: ابن سعود. تعللني بالوعود. ولَّى الشهر الأول وتلاه أسبوعان من الشهر الثاني في بغداد، وأنا رهين مكارم الأدباء العراقيين ومعهم — كما أشرت — بعض أفاضل البريطانيين. وقد تسنَّى لي أن أزور أثناء ذلك الأماكنَ التاريخية والآثار القديمة في العراق.
متى اتَّخَمَ السائح من بلادٍ ما، تُقفَل أبواب عقله دون الاستفادة منها مهما كان من أسبابها ومظاهرها، شبعت من العراق، وسَئِمت الإقامةَ خصوصًا في بغداد؛ لأني مرضت فيها ثلاث مرات بالحمى. زِدْ على ذلك أني كنت مشتاقًا إلى بلادي وأهلي، فحدَّثتني نفسي مرارًا بالسفر إلى لبنان. إلا أني كتمت ذلك عن المندوب وعن الخاتون، وما أظهرت غير تلك الرغبة الشديدة في زيارة ابن سعود، بل أشعت في مجالس رسمية أني لن أتحرَّك من بغداد حتى يجيئني الإذن بالسفر إلى نجد. الحرب خدعة، وحرب الإرادات لا تخلو من الخداع. إني على يقين أنْ لو علم المندوب السامي آنئذٍ بما جال في خاطري، لو علم أني سئمت الإقامة في بغداد وكنت على وشك السفر إلى لبنان، لَسوَّفني أسبوعًا آخر، ولَأفلحتْ سياسةُ الملاطَفة والتأجيل؛ فأكون قد حُرِمت علم أهم ما في البلاد العربية اليوم.
ولكن المس بل أخذت الأمر بناصيته عندما حان وقت السفر للمندوب السامي، ووالتني معروفًا أسجِّله لها، شاكرًا سعيها وحُسْن ظنها. كلَّمتني يومًا بالهاتف وقالت: ستسافر مع المندوب السامي. بيْدَ أن سقوط وزارة لويد جورج في ذاك الحين اضطر المندوب إلى تأجيل سفره. وبما أني كنت وعدتُ أدباء البصرة بزيارة، سافرت من بغداد قبله، وفي نيتي حسب الاتفاق أن أنتظره هناك، فنترافق إلى البحرين ثم إلى العقير.
أشرت فيما تقدَّم إلى مظهر في سلوكي هو ثمرة الأسفار في البلاد العربية، بل ثمرة الحكمة العملية، فلولا تلك الحكمة كنت فشلت في أولى المراحل وعدت خائب الأمل. أجل، قد داريت في بعض الأمور، وأكثرها سطحية، لأفوز بكل ما أروم من العلوم والأخبار، أو بالأحرى كنت صريحًا على عادتي عندما كانت الصراحة تفيد. وقد كنت أشد تحفظًا واتقاءً في الأسفار حبًّا بالرجوع سالمًا أولًا إلى أهلي، وثانيًا إلى مهنتي؛ إذ ما الفائدة لمثلي من رحلة عربية إذا كنتُ لا أسلم فيها لأخبر عنها ولو في كتاب واحد؟
كانت الحكمة العملية شرعتي إذن ودليلي؛ فهي التي حملتني على السفر وحدي إلى ابن سعود، وأظنها أوحت للسر برسي كوكس كذلك في الموضوع فانتصح مثلي بنصيحتها، فأبرق يخبرني بأنه سيتأخر أسبوعًا ثانيًا، وأنَّ لي أنْ أسافر قبله إذا شئت. حسنًا فعل المندوب السامي، وحسنًا فعلتُ أنا كما سترى في سياق هذا الكتاب.
(٤) في البحرين
وقد حاوَل بعض أصحابي في البصرة أن يحوِّلوني عن عزمي وقصدي. قالوا: إني لا أقوى على مشقَّات الأسفار في البلاد النجدية، في تلك البلاد الغنية بالمفاوز والرمال. جسَّموا في عيني المخاطرَ في ركوب البعير، وفي الدهناء، وفي بلاد البدو والإخوان. كنت ذاتَ ليلةٍ أضيف حضرة الفاضل أحمد الصانع متصرف البصرة، وهو نجدي لا يزال يلبس العباءة والعقال، فقلت خلال الحديث عن اليمن: عندما دخلت إلى صنعاء أحسستُ أني رجعت بغتةً إلى الجيل العاشر. فقال أحمد باشا: وسترجع إلى الجيل الخامس في نجد. ما لك وهذه السياحة وكلها مشقَّات وأخطار! يمكنك أن تزور ابن سعود في الحسا وترجع. هو ذا نجدي يحذِّرني من السياحة في نجد. فهلا انتصحت وارعويت! لا أنكر أنه اعتراني آنئذٍ شيءٌ من الخوف.
على أنه زارني في اليوم التالي أديبٌ من الأدباء، شاءت الأقدار أن يكون بعدئذٍ رفيقي في السفر وعشيري في الرياض. فعرفتُ فيه العربيَّ الحرَّ ابنَ القفار والبحار الذي يسرُّك ويسيء إليك عفوًا دون تكلُّف في أحد الأمرين. وسيجتمع القارئ، من حين إلى حين، بالسيد هاشم بن السيد أحمد الرفاعي من الكويت؛ كان يومئذٍ في خدمة سلطان نجد كاتبًا من كتَّاب ديوانه، قد جاء البصرةَ في مهمة رسمية، فزارني يوم كنت — والحق يقال — في حاجةٍ شديدة إلى زيارةِ مثله. حدَّثني السيد هاشم، فأزال ما كان يُخامِرني من الخوف في السفر إلى نجد، ومن الريب برغبة ابن سعود الحقيقية في زيارتي، ثم قال: عظمة السلطان يعرفكم مما يُطالِعه عنكم في الجرائد التي تصل إليه كلَّ أسبوع، وهو متشوِّق إلى مشاهدتكم وينتظركم في الحسا … نعم، السلطان عبد العزيز يحب الاجتماع بكل أديب عربي مخلص لبلاده. وقعت هذه الكلمات في أذني وقع الأنغام المطربة، ولكنتُ قبَّلت السيد هاشم بين عينَيْه لو أن الرسميات التي ألفتُها في البلاد العربية تسمح بذلك، إلا أن القلب رقصَ طربًا دون أن يشينَ أدبي، أو يحطَّ من كرامتي أمام الزائر الكريم. سافرتُ وأنا في هذه الحال إلى البحرين، ومن حسن الاتفاق أن السيد هاشم كان رفيقي في الباخرة.
البحرين، جزيرة اللؤلؤ، هي بعد الكويت أهم محطة في الجهة الغربية من خليج العجم لبواخر الهند وللتجارة بين الهند ونجد. وهي كذلك درجة أمام الباب — باب نجد الشرقي — لا بدَّ للمسافر أن يقف عندها، فيستبدل فيها بالبخار الشراعَ إذا كانت وجهته العقير أو القطيف. وفي البحرين وكالةٌ لابن سعود يرأسها عبد الله القصيبي أحد أعضاء البيت التجاري المشهور هناك.
نزلنا من الباخرة بعيدين عن الجزيرة، وسرنا في شراع فوق منازل اللؤلؤ الراقد تحت الأمواج، والبحر ساعتئذ رهوٌ، والهواء عليل، وشمس الصباح تتهادى على الاثنين، فبدت المنامة خلالها مشرقة بيضاء كأنها أبراجٌ شيدت من اللؤلؤ، بل هي أميرة اللآلئ وقد صعدت من أماكن الغوص واستوت على عرش الخليج. وكان الشراع يهمس سلامًا كلما مرَّ بشراعٍ آخَر، وكلها مثل أجنحة الحمام تميس وتتهادى على بساطٍ من الزمرد، كأنها تتلو القصائدَ في مديح ربة الدُّر ودُرة البحار.
عند دخولي البحرين فقدتُ حريتي فيما يتعلق بالأسفار، أو بالأحرى تنازَلتُ للسيد هاشم عنها. وكان من فضل الرجل أنه وقف نفسه على خدمتي قبل أن ينتدبَه السلطان لذلك؛ فمنذ اليوم الأول في الجزيرة إلى آخِر يوم في الرياض تواصَلْنا وتآخَيْنا فيما يشمل العقبات وشيئًا من الروحيات. بيْدَ أنه لا بد في مثل هذه الحال من فترات تنقبض فيها النفس فتضيق الطريق، ويُسِيء الرفيق إلى الرفيق.
سافر السيد هاشم وحده إلى الحسا ليجيب عن المهمة التي انتُدِب لها في البصرة، فأرسلت معه كتابًا إلى عظمة السلطان أخبره بوصولي إلى البحرين، وعدت بعد أن خلوت بنفسي إلى النظر فيما اجتمع لديَّ من الآراء المتضاربة بابن سعود. عندما قربت منه سكن الشوق قليلًا، واستيقظ الفكر وما يلازمه من الهواجس والظنون؛ فقد كان شوقي قبل وصولي إلى البحرين كنارِ الغضا تأجُّجًا، فأصبح وقد قربت محجتي، وزالت — وذُلِّلت — العقبات الكبرى، كلهيب العَرْفَج صامتًا هادئًا.
ذكرت ما قيل في الحجاز وفي العراق: ابن سعود بدوي جاهل. ابن سعود جلف، لا قلب ولا دين له. هو من الخوارج، بل من الذين يخدعون وينافقون باسم الدين. والإخوان رجاله ذئاب تعصب ضارية يذبحون ويحمدون الله، يسلبون وينهبون، ويكفِّرون مَن لا يقتدي بهم. يشنعون بالقتلى في الحرب ويرتكبون من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان … إن دعوة ابن سعود مذهبية لذلك لا تنجح خارج نجد. لا أمن في الجزيرة ولا راحة للعرب ومطامع ابن سعود تزداد يومًا فيومًا. هذا ما يسمعه الناس دائمًا في الحجاز وفي العراق، وقد ردَّدت الشام ومصر صدى القُطْرين.
وذكرت ما قيل لي في الحديدة وفي عدن وفي دار الوكالة البريطانية ببغداد: ابن سعود رجل كبير. هو نابغةُ بلاده، هو السياسي المحنَّك، والقائد الباسل، والحاكم العادل. هو أكبر أمراء العرب اليوم وأقواهم … رجل عظيم رجل نجد. هو ابن البادية التي ينبغ فيها من حين إلى حين كبارُ الرجال، فيظهرون فجأةً ويسودون الناس بالعقل قبل أن يسودوهم بالسيف. هذا ما كان يقوله الإنكليز وبعض العرب خارج الحجاز والعراق.
أما الرأي الأول فمصدره مكة والأشراف، بل هو ثمرة ذاك العداء القديم الذي لا يزال مستحكمًا بينهم وبين الوهابيين. ومصدر الرأي الثاني هو المشاهَدة والمنقول عمَّن شاهدوا. وقد يكون مصدره السياسة أو المصلحة السياسية. كنت أعجب عندما أغربل هذه الآراء المتناقضة في سلطان نجد لما تبقى في الغربال فأقول: وشهادة الصديق مثل شهادة العدو، أساسها الميل والغرض؛ فلا تصدِّق الأشراف ولا تصدِّق الإنكليز. الرجل حليف هؤلاء وصديقهم، وهو عدو أولئك الأكبر.
ثم اجتمعت في البحرين برجلٍ يرى غير ما يراه الفريقان، وهو أديب نجدي وهابي مُعجَب بابن سعود، إلا أنه قليل الكلام فيه. سألته رأيه فقال: أنت ذاهب إليه، والراغب مثلك في الحقيقة يصمُّ أذنيه ويفتح عينَيه. ثم قال: أسألك يا حضرة الأستاذ، بل أرجو منك أن تشير على عبد العزيز وتلحَّ عليه أن يفتح المدارس في بلاده. رسخت هذه الكلمة في ذهني؛ لأن قائلها مجرد عن الأهواء السياسية والمذهبية. هي مصباحٌ بيدِ صديقٍ لابن سعود أضاء موطنًا من مواطن الضَّعْف في بلاده، وقد ذكَّرتني بكلمة متصرف البصرة: ستنتقل وأنت في نجد إلى القرن الخامس.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، إلى حضرة الوطني الغَيُور والمصلِح الكبير أمين أفندي الريحاني المحترم دامت أفضاله، آمين.
سلامًا وشوقًا وبعدُ، فبأشرف طالع ورَدَني كتابكم الكريم المنبئ بوصولكم إلى البحرين، وإنكم مُزمِعون التوجُّه إلى طرفنا. أهلًا وسهلًا على الرحب والسعة. بالله لقد سررتُ جدًّا بذلك؛ فطالما كنت مشتاقًا للُقْياكم، وقد حقَّقت الأيام شوقي والحمد لله، إلا أنه لا يسعني إلا أن أُظهِرَ شديدَ أسفي لعدم إشعاركم لنا تلغرافيًّا في حين توجُّهكم من البصرة، ذلك الأمر الذي أوجب فتورًا قليلًا في إخبارنا وكيلَنا في البحرين لملاقاتكم؛ لأني سألت الخبيرين بمعرفة أوقات وصول المراكب إلى البحرين، وعلمت منهم أن المركب القادم من البصرة ربما يتأخر؛ ولهذا وحده حصل تأخيرٌ منَّا، فأرجوكم المسامَحة. نحن بانتظاركم، وقد أمرنا وكيلنا القصيبي أن يهيئ لكم سفينةً تُقِلُّكم إلى العقير، وبوصولكم إليها تجدون السيد هاشم بانتظاركم. وبالختام تفضَّلوا بقبول الاحترام، ودمتم.
هذا أول كتاب جاءني من السلطان عبد العزيز، نشرتُه لتظهر حقيقةٌ فيه أثبَتَ الخبرُ خبرها، فيظهر أن الرجل لا يتكلَّف اللطف والتواضع؛ لأنهما من خلاله الفطرية. ولَكان اللطف والتواضع أجمل ما في الكتاب لولا درة الإخلاص، ومع ذلك فلا بد من التحليل والتعليل توصُّلًا إلى الحقيقة كلها. قد تقترن عفوًا رقة الشعور بالشدة حتى في البدوي؛ فهو إذ ذاك رجل كبير الخلق، وقد تقترن كرهًا؛ أي صناعة، فهو إذ ذاك سياسي يُحسِن التلبيس والمجامَلة. وقد لا تقترن قطعًا، فهو أَسَواء كان شديد البأس أم دَمِث الأخلاق، رجل عادي له من يومه ما لعامة الناس. فهل الرجل الذي أنا زائره ممَّن طُبِعوا على شيمة اللطف والرقة، وكانت القوة فيهم أو في أعمالهم بنتَ الحوادث والأحوال؟ أم هو سياسي محنَّك يغلب خصومه بالمكارم، ويسود أمته بالدهاء؟ هل ابن سعود من أولئك الأفراد القليل عددهم في البلاد العربية بل في العالم أجمع، أولئك الذين يبقون على شيءٍ من الفطرة مهما عظموا أو تعاظمت شئونهم، أولئك الذين يسيرون إلى محجَّتهم في الصراط المستقيم فيأخذون الحكمة من لوح الوجود لا من الكتب، ينبغون ولا يتفوَّقون، ويكرهون ولا يخاتِلون، ويحبون ولا يملقون، ويسودون ولا يظلمون، ويَعدلون ولا يخافون غير الله؟ إننا في الطريق وستنكشف لنا الحقيقةُ التي تخبِّئها الصحراء دون ذلك الأفق اللازوردي وراء تلك الآكام الذهبية.
(٥) في ظل الشراع
من حسنات الأسفار تنوُّع أسبابها وطرقها، وإن البطءَ في القديم منها أحبُّ إلى السائح من البطءِ في الحديث الذي اختُرِع ليطارد الريح فينهب — كما يُقال — المسافات. ما الفائدة من بخارٍ لا يُحسِن النهب؟ أبحرتُ من عدن ووجهتي ابن سعود، فاجتزت أولًا بحر الهند في باخرة كبيرة فخمة الرياش معتدلة في سَيْرها، ثم خليج العجم، فصغرت الباخرة وبخست العدة، وطالت علينا المسافة والأيام، ثم قطعت فيافي العراق بين البصرة وبغداد في قطار مخلع مرجرج — هو أثرٌ من آثار الحرب — لا شكَّ أن قطار الشحن في أميركا أسرعُ منه، ثم عدت من بغداد في مركبٍ من مراكب دجلة، وقد آليتُ على نفسي ألَّا أكون غير شرقي كسول، فلا أعدُّ الساعات ولا أحاسب البخار والآلات، فكانت السَّفْرة لذلك جميلة، قصرت وإنْ تعدَّدت أيامها. ثم في رجوعي من البصرة إلى جزيرة البحرين خبرت في البواخر أبطأها سيرًا، فقلت: تباركت الأقدار في الأسفار؛ هي تبدل في الأسباب التي تزداد بطئًا كلما قربنا من محجتنا، فنتمرَّن أثناء ذلك على الصبر وعلى التأمُّل والتفكير، وسنصل إلى تلك المحجة برغم طول المسافات وبطء المطايا البخارية والحيوانية، اللهم إذا ثبتنا في السير والترحال.
كنا في الهجيع الثاني من الليل قريبين من برٍّ ظننته الأحساء فما صدق الظن. وشدَّ ما كانت دهشتي وخيبتي لما علمت أننا لا نزال عند بر الجزيرة. على أن الرياح تجاري إذا شاءت البخار، وتسبق الحديد الدوَّار. ولا أظنك إذا كنتَ ملَّاحًا تماريني في ذلك. أجل، عندما ينتفض فيمتلئ الشراع، فقُلْ للمسافات: الوداع. إنْ هي إلا ساعة حتى اجتزنا رأس البر، وكان الهواء قد أثقل جفني فنمت قليلًا، ثم أيقَظَني صوتُ الملَّاحين يشتغلون في قلب الشراع طوعًا للريح ويردِّدون: صلِّ على النبي (صلِّ عالا النابي!) ما سمعت في أنغام الليل على المياه أطرب منها، إلا أن يكون صوت المؤذن في الخليج وهو يؤذِّن الفجر. ليس في صلوات الأمم كلها أدعى منه إلى الوَرَع والخشوع، وقلَّ فيها ما هو أجملُ وقعًا في النفس من صلاة الملَّاح في ظل الشراع.
صلَّى إخواني الفجر عندما دخلنا ميناء العقير، ورفعوا العلم؛ علم ابن سعود، وهو أخضر ذو حاشية بيضاء مكتوب عليه: لا إله إلا الله. وقد كان ينتظرنا هناك على الرصيف السيد هاشم وأمير القصر، فمشينا معهما إلى البيت المُعَد للضيوف، وفيه سرير أبهجني مَرْآه، وأعجبت كذلك بذوق رفيقي الذي علم السبب في إبطاء السفينة، وقرأ في وجهي قصةَ الليلتين، فتركني والسرير وانصرف.
ذكرت الأمير والقصر؛ فلا يظننَّ القارئ أن القصر قصر وأن الأمير أمير، بل هي أسماء اصطلح أهل نجد عليها؛ فهم لا يرغبون في الألقاب بل يزدرونها، ولا يرون غير المساواة وقد ساوى بينهم دين التوحيد شرعًا وسنة. أما إذا شاء إمامهم أن يسمِّي عمَّاله أمراء، فهم لا يعترضون، وإذا شاء النجدي أن يسمي خربة له في الصحراء قصرًا، فلا الإمام يعترض ولا الرعية. أما الأمير الحقيقي عندهم فهو مَن يعبد الله وحده، ولا يشرك به أحدًا، ولا يخاف ولا يرتجي سواه. وأما القصر الحقيقي فهو المسجد.
ليست العقير بمدينة أو قرية، ولا هي حتى مضربًا من مضارب البدو، إنما العقير اسم لقصر من القصور التي ذكرتُ، ولجمرك من جمارك نجد في الأحساء على ساحل الخليج. العقير هي أحد موانئ السلطان الثلاثة يتبعها القطيف والجبيل شمالًا منها، ولكنها موانئ قلَّما يُرى فيها غير المراكب الشراعية. ومن العقير تبدأ الطريق الشرقية إلى نجد.
أما القصر، فهو بناء كبير مستطيل يُقِيم في جناحٍ منه الأميرُ والضيوف، ويُستخدَم الجناح الآخَر للجمرك وللحامية التي لا تتجاوز العشرة الأنفار. وأمام القصر على الساحل ساحةٌ كبيرة تمرح فيها الإبل وتُنزل إليها البضاعة، فتتبادل سفن الصحراء وسفن اليم أحمالها: الخام والأرز والسكر من بمباي، والنفط من عبَّادان (احملها يا بعير إلى ما وراء الدهناء). والتمر من الحسا، والجلود والصوف من سدير، والوشم والسمن من الخرج والأفلاج (خذها يا جلبوت إلى البحرين لتُنقَل من هناك إلى ما وراء الخليج والبحار).
(٦) الملتقى في النفود
يوم سفري من البحرين أخبرني الميجر دكسون بأن المندوب السامي السر برسي كوكس يسافر من بغداد في القريب العاجل، وقد يصل إلى الجزيرة بعد بضعة أيام. وعندما وصلت إلى العقير أخبرني السيد هاشم بأن عظمة السلطان يخرج قريبًا من «الحسا» ليلاقي المندوب السامي في المكان الذي نحن فيه، فأخرجتُ خارطتي وقستُ المسافة بين الحسا والعقير — ٤٠ ميلًا — وقابلت بين اثنتَيْ عشرة ساعة على الذلول ذهابًا ومثلها إيابًا؛ إذ لا بد من الرجوع مع السلطان، وبين يوم على الشاطئ أستعيد فيه قواي وأستعد، أتمرَّن على ركوب البعير، للسفر في البادية، فكان الحكم والحكمة في جانب الثاني. وكتبتُ إلى السلطان أُطلِعه على حقيقة حالي وأستشيره في الأمر: إذا أمرتم بالقدوم إليكم أو بانتظاركم في العقير، فسمعًا وطاعةً في الحالَيْن.
حمل كتابي نجاب الأمير صباحَ الثلاثاء، وعاد صباح الأربعاء بجواب فيه ما تنامى من لطفِ الأسلوب ورِقَّة الشعور: الأمر راجع لرغبة حضرتكم وتبعًا لراحتكم. وقد أخبرني السلطان أنهم سيخرجون يومَ الخميس من الحسا ويسيرون الهوينا ليصلوا صباح السبت إلى العقير. كنت قد عزمت على مُلاقاته في منتصف الطريق إذا قويت على ذلك، وعندما علمتُ من السيد هاشم بأن سموَّه قد يرغب في الاجتماع بي قبل أن يجتمع بالمندوب السامي شدَدْتُ حقوي وقلت: إلى البادية.
ملأنا القِرَب واستأنفنا السير، وكان معنا حمَّار مجَّان، كثير الأسفار والهذيان، يحمل حماره بعض المواعين والحطب، وهو يعدو وراءه كالسعدان، فيرقص رجلَيْه ويدَيْه، ويُسمِعنا نكات أهل الأمصار — البصرة والبحرين والكويت — ويمثِّل لنا رقص البطن، ويردِّد كلمات ما سمعتها لا في الشرق ولا في الغرب. حمَّار مجَّان! ما رأيت أصقع منه حينما كان يجثو على ركبتَيْه كل مرة يظن نفسه أجاد، وما أجاد بغير البذاءة لفظًا وإيماءً. على أنه أنساني بعض ما كنت أقاسي من ركوب الذلول. وكانت ضحكتي تضيع في قهقهة الربع، وكلمتي تتلاشى عند أمواج ثرثرتهم.
– الموتر يا أفندي تجري، وتغزل، وتدور. الله، الله! الدمشوقة، الخفيفة، السريعة الحركة هي الموتر.
دخلتُ الخيمة والخدم لا يزالون في السمر، فاستلقيت على السرير وأنا في بهجة مَن حقَّقتِ الأيامُ حلمًا من أحلامه. فها هي الصحراء، وهو ذا الهجين، وهؤلاء العبيد عبيدي، وها أنا ذا جار لأمير من أمراء العرب، لسلطان نجد. ما كاد هذا الحلم الذهبي يغمض جفني حتى سمعت صوتًا يسأل: من الربع؟ أناخ عند نارنا رجلان عرفهما السيد هاشم، رجلان من رجال السلطان، جاءا يُنبِئاننا بأن رسولنا وصل، وأن سموه … نهض السيد هاشم مدهوشًا وبادر إليَّ يقول: قم يا أستاذ، قم حالًا. السلطان قادم إلينا.
نهضت مسرعًا فارتديت ثيابي. وما أحسن الثياب العربية خصوصًا في مثل هذه الحال! حسبك عباءة تغطي بها قميص النوم، ثم كوفية وعقال ثم … حي الله الجاي، مرحبًا بالضيف.
راح الربع يجمعون الحطب للنار، وفرشنا أنا والسيد هاشم البيت! مددنا السجادة ثم وضعنا الكور في الصدر مسندًا على عادة العرب. وهذا كل ما هنالك تأهُّبًا لاستقبال مليكٍ من ملوك العرب.
وبعد هنيهة ضجَّ المكان بموكب السلطان، فأناخ عندنا، على أكمتنا، حول شراعنا الصغير، مائتان من الركائب، وهي تزبد وترغي: إخ، إخ. وصوت الخيزران على رقاب البعارين كصوت المطر على النخيل، ثم نُصبت الخيام، وشُبَّت عشرات من النيران، وسُمِعت على الفور المداق في الأجران.
خرجنا نبادِر إلى استقبال الزائر الكبير، فإذا هو قد خفَّ إلينا، وفي معيته اثنان فقط من حاشيته. قلت الزائر وهو الذي شاء تلطُّفًا وتنازلًا أن يعكس الآية! وكانت المشاهدة الأولى على الرمل، تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المتقدة حولنا، ألفيته رجلًا لا يمتاز ظاهرًا بغير طوله، وكان يلبس ثوبًا أبيض، وعباءة بنية، وعقالًا مقصبًا فوق كوفية من القطن حمراء.
وما أضعنا وقتًا في تبادل المألوف من السلام والتحية. اعتذرت عن الإبطاء في الوصول إليه وقلتُ أنْ سأطلعه على حقيقة الأمر فيعلم أن الذنب ليس ذنبي، فقال: علمنا بذلك واستغربناه، أمَّا نحن فما ترددنا ولا أبطأنا في الجواب، وكيف نردُّ مَن يبغي زيارتنا وهو من صميم العرب؟! قالوا لنا: إنك أميركي وجئتَ تبشِّر بالدين المسيحي في البلاد العربية، وقالوا إنك تمثِّل بعض الشركات وجئتَ تبغي الامتيازات، وقالوا إنك قادم من الحجاز وإنك شريفي تسعى لتحقيق دعوة الشريف، وقالوا غير ذلك، فقلنا: إذا كان في الرجل ما يضر فنحن نعرف كيف نتَّقِيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنعرف أيضًا كيف ننتفع. ونحن أعلم يا حضرة الأستاذ بمهمتك، بارَكَ الله فيك!
فاستأذنت أن أخبره بالمقاصد الثلاثة في رحلتي، فقلت: وقد تم الأول بمشاهدتكم، وسيتم الثاني بما سأكتب إن شاء الله فيما شاهدت، أما الثالث فلا يتم إلا بمساعدة ابن سعود. وإني متيقِّن يا مولاي أن الوَحْدة العربية لا تتحقَّق إلا باجتماع أمراء العرب كلهم للتعارف أولًا والتفاهم، فهُم اليومَ في معزل بعضهم عن بعض إذا لم نقل في احتراب دائم، ولا يعرف الواحد منهم الآخَر معرفةً حقيقية.
من غريب الأمور أننا في الجلسة الأولى تناقشنا في الموضوع، وما كان ذلك نقصًا في تأدُّبي، فلم أكن لأُقدِم على مُساجَلته في تلك الساعة لو لم يتقدَّمني بصراحةٍ علمتُ بعدئذٍ أنها من سجاياه الكبيرة، وأنه قَلَّما يقف فيها عند حدٍّ من التحفظ. أجل، قد هدم السلطان بكلمةٍ من كلماته حواجز الرسميات، فجعل نفسه، تنازلًا، في مقام الصنو والرفيق.
– لك الحرية يا حضرة الأستاذ أن تتكلَّم معي بكل حرية، ولا أقبل منك غير ذلك، وأنا أكلِّمك بكل حرية، ولا تتوقَّع مني غير ذلك. أنت تقول: أمراء العرب. اسمع أنا أعلِّمك. أنا أعرفهم، وقد خبرتهم، وعجنت عودهم. العرب يا حضرة الأستاذ لا يعرفون إلا مصلحتهم، وغالبًا لا يعرفونها فنُعلِمهم بها ونُكرِههم عليها، وقد قاسَيْنا كثيرًا في سبيلهم، وكانت الخيانة في أقرب الناس منهم إلينا.
دخل عبد من العبيد يحمل بيده اليسرى إبريقَ القهوة وباليمين الفناجين، فصبَّ للسلطان أولًا، ثم لي، ثم للحضور.
– أتعرف يا أستاذ أننا أول مَن دعا أمراء العرب إلى الاجتماع والائتلاف؟ وسنُطلِعك إن شاء الله على ما يُثبت ذلك، فتتأكَّد أننا أقربهم إلى الألفة والاتحاد. حنَّا أهل نجد لا نبغي المحافَظةَ إلا على أمرَيْن: ديننا وشرفنا … ثم قال: ولا نُثقِل عليك الليلةَ وفيك تعبٌ يدعو إلى النوم.
ها قد قابلتُ أمراء العرب كلهم فما وجدتُ فيهم أكبر من هذا الرجل. لستُ مجازفًا أو مُبالِغًا فيما أقول، فهو حقًّا كبير؛ كبير في مصافَحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته، وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحدًا من الناس، بل يُفشِي سِرَّه، وما أشرف السر! سِرَّ رجل يعرف نفسَه، ويثق بعد الله بنفسه. «حنَّا العرب!» إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومَه ولا شكَّ بالمكارم لا بالألقاب …! جئت ابن سعود والقلبُ فارغٌ من البُغْض ومن الحب كما قلتُ له؛ فلا رَأْي الإنكليز، ولا رَأْي الحجاز، ولا الثناء ولا المطاعن أثَّرت فيَّ، وها قد ملأ القلب؛ ملأه حبًّا في أول جلسة جلسناها، على أن الحب قد لا يكون مقرونًا دائمًا بالإعجاب. سنرى. قد عاهَدْتُه على أن أكلِّمَه بصراحة وحرية، وسأكون فيما أكتبُ كذلك حرًّا صريحًا … ولكنني أُحسِن شيئًا من الفَراسة، وصِرتُ أركنُ إلى ما تشعر به النفس في المقابَلة الأولى، فضلًا عما عندي الآن من أخبار الملوك للمقابَلة والتفضيل … إني سعيد لأني زرت ابن سعود بعد أن زرتهم كلهم. هو حقًّا مِسك الختام.
كانت الساعة الأولى بعد منتصف الليل عندما نمتُ، والساعة الرابعة عندما أيقَظَني رفيقي السيد هاشم قائلًا: قام السلطان. وكانت ضجَّة التأهُّب للرحيل. سمعت الإبل ترغو وتعج، وقد بادَر العبيد والخدم إليها بالرحال والأحمال، ورأيت النارَ تشبُّ في كل جانب، وسمعتُ المداق في الأجران تدقُّ البن، ثم صوتًا يؤذِّن الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم! لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! وما هي إلا فترة حتى صلى السلطان ورجاله وشربوا القهوة وارتحلوا. رفع العربُ الخيامَ كما يقول الشاعر، وسرحوا ساكتين.
(٧) في موكب السلطان
من عادات العرب في السَّفر، خصوصًا عرب نجد، أنهم يتنادَون ويسرون باكرًا. والسلطان عبد العزيز أبكرُ المبكرين دائمًا وأعجلهم تأهُّبًا للرحيل، حتى إنه ليصلي الفجر أحيانًا أول وقت الصلاة كي لا يضطر إلى الإناخة بعد ذلك قبل الضحى. هو نظامٌ عسكري يتمشَّى عليه، ولا بدع، فالرجل قويُّ البنية، شديدُ العصب، يَكفِيه من النوم ساعتان، ثم ربع ساعة للرحيل.
السلطان عبد العزيز فصيحُ اللسان، سريعُ الخاطر، لطيفُ الجواب، وهو مثل أمراء العرب كلهم يقدِّم السياسة في الحديث، وتهمُّه على الخصوص منها سياسةُ أوروبا في الشرق الأدنى. على أنه شاء صباحَ ذاك اليومِ أن يكون الموضوعُ أميركا وسياستها مع الأحلاف.
سألني السبب في سقوط الرئيس ولسون، فأعلمتُه بطُرقِ الانتخابات هناك، وبما للأحزاب السياسية من السيطرة على الحكومة وعلى البلاد.
– عجيب! أَلَا يَسُوقهم الشقاقُ إلى الحروب!
– يَحلُّون مشاكلَهم السياسية بالاقتراع.
– زين. وكم حزبًا عندهم؟
– الرئيسية اثنان، والثانوية كثيرة.
– زين. وكيف يُرضِي الحزبُ المنتصِر بقيةَ الأحزاب؟
– الأقليةُ تخضع يا مولاي لحُكْم الأكثرية.
– وكيف سقط ولسون إذن وهو الحاكم، والأكثرية مع الحاكم؟
– لم تكن معه في الانتخاب الأخير؛ فقد هجَرَه من أنصارِه كثيرون، انقلبوا واقترعوا عليه.
فهزَّ السلطان عصاه يُربِّت بها رقبة الذلول وقال: لا أظنهم أحْسَنوا؛ لأن ولسون رجلٌ عظيم، وله الفضلُ الأكبر في تنبيه الشعوب الصغيرة المظلومة. استنهَضَهم ولسون إلى الحرية والاستقلال، وهو أيضًا عرَّفنا بأميركا، ما كنَّا نعرفها قبل ولسون، أما اليومَ وقد تكلَّمَ بلسانها، فله فضلٌ عليها كما أن فضلها على العالَم … أنا أحترم أميركا، يا حضرة الأستاذ، وإنْ كانتْ سياستُها الآن مع الأحلاف غيرَ سياسةِ ولسون … أميركا أم الشعوب الضعيفة، ونحن العرب منهم، والعاقل يَكفِيه التنبيه والإشارة … أنا أحسن إليك — ومالَ بوجهه إلى مَن كان في الجانب الآخَر منه — أفتبغي كذلك أنْ أُطعِمَك بيدي، أن أضع اللقمة في فمك؟ يكفي ما عملته أميركا، ما قالته للشعوب الصغيرة المظلومة، ما قاله ولسون عنها، والعاقل مَن سعى وانتفع.
أما أوروبا، فللسطان عبد العزيز رأيٌ فيها أفصَحَ عنه بكلمةٍ بليغةٍ وجيزة؛ إذ قال: أشبه أوروبا اليومَ بباب حديد كبير، ولكن لا شيءَ داخل الباب. وهو لذلك لا يلوم أميركا على اعتزالها الأحلافَ وانسحابها من السياسة الأوروبية. ثم قال مخاطبًا أحد رجاله: إن مشاركة أميركا وأوروبا اليومَ مثل مشاركتي أنا ابن سعود وبادية الشام. ترى الصحيح.
فهزَّ الرجل رأسَه استحسانًا.
يقينًا هي كذلك؛ فأيُّ فرش أنعم من رمل النفود وأنظف؟ وأيةُ سجادة أجملُ لونًا وأعجبُ صنعًا؟ جلسنا متربعين على أفخر الطنافس في مجلس الله، وكان السلطان فينا أجملَنا اتضاعًا وأفصحَنا في لغة الحكمة والورع لسانًا: «حنَّا» أهل نجد نبغي المحافَظة قبل كل شيء على أمرَيْن: ديننا وشرفنا.
عدت إلى خيمتي وبي شيءٌ من التعب والنعاس، فوجدت فيها جيشًا من الذباب استحال عليَّ طرده والتغلب عليه. ما رأيت حياتي أثقل وأقبح من الذباب في البادية، في صحراء الرمل، في تلك الجنَّة التي جرَّدها الله من كل شيء سوى السكينة والهواء الطيب، فجاء الذباب يُفسِدهما عليك، ومن أين يجيء؟ هو يركب الذلول وإياك؛ على ظهرها، وعلى ظهرك، وعلى رأسك، يرافقك مُؤاخِيًا، فيسبقك إلى الخيمة ويذبح فيك ما تبقَّى من أمل في الحياة.
في صباح اليوم التالي جاء نجَّاب من العقير يحمل البريد الذي يتبع السلطان إلى حيث يكون، وفيه خبر من البحرين بسَفر المندوب السامي إليها، فدفع الكتاب إلى أخيه، ثم إلى بعض حاشيته، فتناوَبوا قراءته وكلٌّ يهمس أن الخبر أغضب السلطان.
سار الموكب والسكوت يظلِّله والمهابة تماشيه، فما كنتَ تسمع غيرَ صريرِ الرحال وطق الخيزران على رقاب الركائب، ثم رفع أحدُ الرَّكْب صوتَه يتلو شيئًا من القرآن، وكلنا نحدو في وجه الشمس ساكتين خاشعين، وتحدو تحتنا الإبل على نغم الآيات. وبعد قليل ساد السكوت ثانيةً وقد تجسَّم فيه غضب الشيوخ، ثم تكلم فأعلمنا بما أغضبه صباح ذاك اليوم.
فرفع رجل نجد صوته في تلك الأرجاء الرملية، وهو على ذلوله، والخيزران بيده، يسير في رأس الموكب، بين اثنين من رجاله:
– لا لا، هذا ما يصير. لا نتنازل عن شيء من حقوق أجدادنا. أما إذا قال الإنكليز نبغي هذا منك، وجاءوني بأمر محتوم، فأنا ابن سعود أسلِّم لهم، ولكن في أول فرصة تسنح أسعى لاسترجاع حقوقي المهضومة. ترى الصحيح. وماذا يبغون لابن الهذال؟ وماذا يبغي ابن الهذال منَّا؟ دعهم يغزلون فإننا لا نتحوَّل عن جادة الحق، ولا نعمل عملًا فيه ظلمة أو غموض. ووجه هذا الضحى، لا نعمل عملًا ولا نقول كلمة فيها ظلمة أو غموض، ولا نطلب غير حقوقنا، ولا نخاف غير الله … ومَن هو ابن الهذال ليجرأ علينا؟ ابن الهذال الغزال، ليغزل وعشائره ما شاءوا، وليغزل … «الإنكلايز» … من أجلهم — قال ذلك وهو يرفق الاستعارة بحركةٍ من سبابته لطيفة — أنا ابن السعود لا أعرف غير الجادة القويمة، ولا أقول غير الحق. لست من الغزَّالين. أما «الإنكلايز» فهم أصدقائي وأنا صديقهم؛ إذا قالوا: نبغي هذا منك. قلت: لكم ما تشاءون. ولكن … ولكن الصبر له حدود. ويظهر أننا قربنا منها ذا الحين. ترى الصحيح.
(٨) السلطان عبد العزيز
إن في الرجل ضميرًا حيًّا كحلمه، وسرعة خاطر تقارن التيقُّظ في ذهنه، يبدِّد بكلمة غيومَ الانقباض في مجلسه، ويجلو أفقًا قد يكون الاضطراب فيه من كلامه. وهو خفيف الروح، حلو النكتة، لطيف التهكُّم. كان يحضر مجلسَه أحدُ الثقلاء المتعجرفين، وهو من بيتٍ معروف في نجد، فقال السلطان يَصِفه يومًا: هو رُبع الدنيا، ثم أردف كلمته ﺑ «الخالي» — وقد أشار بذلك إلى الربع الخالي في بلاد العرب — الخالي من كل شيء غير الرمال.
عندما نُصِبت الخيام للمؤتمر في العقير، كان نصفها مُعدًّا للمندوب السامي ووفد العراق، وهي من الخيام الكبيرة الجميلة، وكانت في معزل عن خيامنا، بيننا وبينها قُربَ مائة باع، وفيها فسطاط للاستقبال، وآخَر للأكل تناوَلْنا فيه الشاي يومَ وصولنا. فقال سموه: هذا شاي متمدن — وكان قد صُبَّ مع الحليب في فناجين كبيرة بدل أن يكون صرفًا في الأقداح كما هي العادة في نجد والحجاز — شاي متمدن!
وسلطان يتهكَّم ويسر. كان عندما ينتقل من الجهة العربية إلى تلك الجبهة الأوروبية يقول لي: تعالَ يا أستاذ نسافر إلى البلاد المتمدنة، لا تظننا بعيدين كثيرًا عنها، عشر خطوات فقط … وها نحن في المدينة — مدينة العقير — هاتِ الشاي يا غلام! ثم يجلس على الكرسي قائلًا: لِنتمدَّنْ قليلًا. تفضَّلْ يا أستاذ شارِكْنا في التمدُّن. وهو يشير إلى كرسي آخر.
نُصِبت خيام تلك المدينة وخيامنا على تل مشرف على الخليج وفي معزل عن القصر، وكانت خيمتنا، أنا والسيد هاشم، عند رأس التل قربَ الفسطاط السلطاني الكبير ذي الأبواب الأربعة التي يُفتح ويُقفل بعضُها وفقًا لمهب الريح ولرغبة سموه في الهواء. كان الفسطاط مفروشًا بالطنافس وفي الصدر فراش فوقه سجادة فخمة ورَحْلٌ يقسِّمه إلى مجلسين، مجلس السلطان — عَرْشه — ومجلس آخَر لمن يُكرم إكرامًا خاصًّا من الضيوف.
لكل عربي، من هذا القبيل، بيتُه وعرشه؛ أي: المِضرَب، والسجادة، والرَّحْل. والسلطان عبد العزيز مثل كل أعرابي ينام على الفراش والسجادة في الليل، ويضعهما تحتَه على الكور في السفر. وهو لا يحمل شيئًا في جيبه؛ لا ساعة، ولا قَلمًا ولا ذهبًا، ولا فضة. ربما لا يكون في ثيابه جيوبٌ البتة، إلا أنه يحمل ساعةً في خُرْج عند السفر ويضعها تحت الوسادة عندما يقيم في مكان. يحملها في الصندوق المخملي الذي جاءت فيه من المعمل. ويحمل كذلك ناظورًا كبيرًا لا غنى له عنه؛ فهو دائمًا يراقب من مجلسه حركات رجاله وخدامه، حتى إنه لا تمرُّ غيمة في الأفق إلا رفع إليها الناظور متيقنًا متثبِّتًا — أمْرُنا مُشكِل يا حضرة الأستاذ؛ علينا الكبيرة والصغيرة، فإذا كنا لا نداوِم المراقَبة لا نكون عالمين بكل ما يتعلق بشئوننا … العبد والأمير، عيننا على الاثنين حتى نُنصِفَ دائمًا الاثنين ونعدل بينهما.
ثم عاد إلى حيث وقف في الحديث، فاستأنفه قائلًا: العدل عندنا يبدأ بالبل — الإبل — ومَن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس.
كثيرًا ما يقف السلطان عبد العزيز في حديثٍ مهم لينظر في أمرٍ ظاهرُه طفيف، ثم يدخل عليه أحد الخدم أو الكتَّاب فيقطع عليه الحديث ثانيةً فينظر في الأمر الآخَر، ثم يعود — وهذا ما كان يدهشني — إلى الكلمة الأخيرة من حديثه الأول دون أن يسأل كما هي العادة في مثل هذه الحال عند أكثر الناس: ماذا كنت أقول؟ لا. ما سمعته مرة — وكانت أحاديثنا معرَّضة دائمًا للتقطيع — يسأل هذا السؤال؛ فهو شديد الحافظة ومتيقظ دائمًا، عليه الصغيرة والكبيرة يقينًا، وله اليد الصالحة المُصلِحة في الاثنتين.
أقمنا في العقير ثلاثةَ أيام قبل وصول المندوب السامي، وكان الخدم في أثنائها — البدو — يشتغلون في تشييد المدنية الجديدة، مدنية العقير! نصبوا الخيام، وفرشوها بالطنافس، والكراسي، والمنضدات، وأواني الشرب، والغسل، ومعدات الكتابة. لم ينقص حتى في فسطاط المائدة شيء من أسباب المدنيَّة ونوافلها؛ فقد جِيء لإخواننا المتمدنين بالماء ليس من وراء الحسا، بل من وراء البحار؛ من أوروبا في القناني المختومة. وما فات الإنكليز شيء مما ألفوه، أما نحن في مضارب البدو فما كان فينا على ما أظن مَن يحسدهم على ذلك.
أعجب لهؤلاء الإنكليز الذين لا يتنازلون عن شيء من «إنكليزياتهم» حتى في البادية. رأيت أحدَهم في رحلتي يسير وفي قافلته حمار يحمل صندوقَيْن كبيرَيْن من قناني الصودا. وأظن أن الوسكي كانت مخبَّأة في الأحمال الأخرى. ولما دُعِيت إلى تناوُل الطعام على مائدة المندوب السامي كان سعادته وسعادة حاشيته وصاحب الإقبال مندوب العراق في الثياب الرسمية السموكنغ بالعقير! وأنا مع السلطان في الثياب العربية، فسُرَّ سموُّه بذلك، ولكنه لم ينتقد «الإنكليز» حتى ولا مندوب العراق العربي الذي لم يتنازل فيلبس العباءة والعقال.
أكلنا تلك الليلة بالأسباب؛ أي: الشوكة والملعقة والسكين، وشربنا من ماء «بزبير» المبارك، وقدِّم لنا الطعام بانتظام وترتيب، وكانت الحلويات تزيد على ما تعودناه، وفوق ذلك الثمار من موز وتفاح وبرتقال. ولكننا لم نشعر في تلك الليلة بأن سعادتنا قد تمت على الأرض وكللت في زاوية من الجنة تدعى العقير.
(٩) بين العراق والحجاز
أول مرة قابلتُ المندوب السامي في بغداد قال لي — كما يذكر القارئ — إن القصد من زيارته لابن سعود هو إبرام المعاهَدة بين نجد والعراق، تلك المعاهدة التي عُقِدت في مؤتمر المحمَّرة، ولم يوقِّعها السلطان عبد العزيز لأن مندوبه تساهَل يومئذٍ في أمر القبيلتين، العمارات والضفير، اللتين يدَّعيهما وتدَّعيهما كذلك حكومة العراق. وقد قال لي الملك فيصل آنئذٍ: إن خير حل لهذه القضية هو أن تُعيَّن لجنة من الخبراء بالعشائر والحدود للنظر فيها، وأن تقبل الحكومتان حكمها. فجاء السر برسي كوكس إلى العقير ليقنع صديقَه ابن سعود في وجوب عَقْد المعاهَدة، وقبول حكم الخبراء في العمارات والضفير.
-
عندما سقطت دولة آل سعود انقسمت إلى قسمين، كان أحدهما بيد الترك، والآخَر بيد ابن الرشيد، ثم ظهر السلطان الحالي، الذي أحيا تلك الدولة واستعاد ملكَ آبائه وأجداده، فاستولى على نجد، وأخذ القصيم من يد ابن الرشيد، وهزم الترك وطردهم من الأحساء والقطيف، وهو لا يزال يُطالِب بما تبقَّى من أملاك أجداده وعشائرهم شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا.
-
إن عشيرة الضفير التي تقطن اليومَ الشاميةَ «بالعراق» كانت في الماضي من رعايا آل سعود، أما العمارات والرولا فهما فخذان من أفخاذ عنزى، وكانوا يسكنون نجدًا، خصوصًا القصيم، ومشايخهم بنو الهذال وبنو الشعلان هم أبناء عم آل سعود ومن رعاياهم.
-
إن الإنكليز عندما احتلوا العراق احترموا فيه حدودَه السابقة التي كانت تحترمُها الحكومةُ العثمانية؛ كالحدود الشرقية بين حكومة إيران والعراق مثلًا، والجنوبية بين العراق والكويت. وقد اعترفوا أيضًا بالأحوال الجارية والقواعد المرعيَّة بين الترك قبلهم وحكَّام العرب المجاورين لهم، وفي مقدمتهم إمارة بيت الرشيد. وبما أن سلطان نجد الحالي استولى على إمارة الرشيد وأدخل في ملكه وحوزته جميعَ ما كان لتلك الإمارة المتفرقة من بادية وحضر، فله الحق بمَن تشرَّد أو تسرَّب منهم — أي: العمارات والضفير — إلى العراق.
كان السلطان عبد العزيز هو الذي دعا السر برسي كوكس إليه، وجاء يُلاقِيه في العقير. أما القصد من هذه الدعوة فمزدوج. حدَّثني سموه قال: «يظن الناس أننا نقبض من الإنكليز مبالغَ كبيرة من المال، والحقيقة أنهم لم يدفعوا لنا إلا اليسير مما تستحقُّه الأعمال التي قمنا بها أثناء الحرب وبعدها. ونحن لا نختلف معهم قبل أن يخلفوا معنا. بيننا وبينهم عهد نحافظ عليه ولو تضرَّرنا في أنفسنا ومصالحنا … الإنكليز مديونون لنا، ترى الصحيح يا أستاذ، ونحن لا نطالبهم، من العار أن نطالبهم. ولكن ما هي سياستهم الآن؟ نراهم يغزلون ويغزلون، تراهم يدسُّون الدسائسَ عليَّ — عليَّ أنا صديقهم ابن سعود! — أحاطوني بالأعداء؛ أقاموا دويلات حولي، ونصَّبوا من أعدائي ملوكًا، وهم يمدُّونهم دائمًا بالمساعَدات المالية والسياسية. الشريف في الحجاز، وابنه عبد الله في شرق الأردن، وابنه فيصل في العراق … ما القصد من هذه الأعمال؟ وما الداعي إليها؟ أنا ابن سعود صديق الإنكليز، وهم في سياستهم الشريفية يعاملونني مُعامَلةَ العدو … ومَن هو ابن سعود في نظر الشريف وأولاده؟ هو الجلف الكافر الخارجي. ترى الصحيح يا حضرة الأستاذ. قد قالوا ذلك، بل قالوا أكثر من ذلك. وهم مع ذلك يطلبون مني أن أحمل على الفرنسويين في سوريا لأُخرِجهم منها. ترى الصحيح.»
خرج الكاتب.
«هات اقهُوَه.»
من عادات السلطان أنه حين يحتدم غيظًا يطلب القهوة. فنادى العبد في الباب: اقهُوَه. وكُرِّر الصدى خارجًا عند النار.
«لا نسلم بذرَّة من حقوقنا، ولكننا لا نقول في أعدائنا ما يقولون فينا، ولا نطلب غير ما كان لآبائنا وأجدادنا قبلنا؛ ليعلم ذلك أصحابُنا الإنكليز. وضرب بالشوحط السجادةَ عند قدمَيْه.»
جاء الخادم بالقهوة فوقف أمامه وقفة جندي ألماني وسلَّم، ثم انتظر إلى أن ينتهي من كلامه.
«تسلام (كلام) ولا ندري أنصدِّق الكتاب أم الجريدة.»
ثم سألني رأيي وكانت قد تغيرت لهجته وسكنت فيه ثورة الغضب: ما رأيك يا حضرة الأستاذ؟ لا تقل لي أنْ لا دخلَ لك بالسياسة، وإن سياحتك في بلادنا سياحة علمية فقط. «حنَّا» نفهم — ومر يده على لحيته وهو يبسم بسمته الخلَّابة — لا تخدعنا يا أستاذ. لا تغزل عندنا في المقاصد والكلام. اصدقنا الخبر؛ فقد قابلتَ الشريف وحدَّثته وقابلتَ الإمام يحيى والإدريسي والملك فيصل وحدَّثتهم كلهم، فأعطِني الآن رأيك. أبغي نصيحتك. تكلَّم ويكفي أن تقول: رأيي تسدا (كذا) ولا جزم فنقبله منك. ولكني كلمتك بالحرية وأبغي منك مثلها. المندوب السامي يصل غدًا. «حنَّا» دعوناه للنظر في هذا الأمر، أمر الشريف وأولاده. فما رأيك يا صديقي الأستاذ؟ وماذا ينبغي أن أقول للإنكليز غدًا؟ أراك ساكتًا.
كنت قد أفصحتُ عن رأيي فيما يختص بالموضوع وفروعه في أحاديث سابقة، ولكني وجدتُ أن من المستحيل أن نخطوَ خطوةً واحدة بدون أن نتعثَّر بشيء للإنكليز أو من الإنكليز في كل مكان؛ خصوصًا في الخليج العجمي، وفي سواحل البلاد العربية على الخليج؛ فالإنكليز يحتكرون الخليج وهم يعزِّزون هذا الاحتكار بنشر سيادتهم على ضفتَيْه الشرقية والغربية. إن لهم ها هنا — ولا شك — ما لهم في عدن من مصالح وامتيازات قديمة لا يتنازلون عنها، وهم يأبون أن يكون لسواهم من الأوروبيين أو الأميركيين يد أو رجل أو شراع في تلك البقعة من الأرض. أمَّا في الخليج وفي الجهة العجمية منه فهم آمِنون، على أنهم في السواحل العربية لا يطمئنون كل الاطمئنان رغم ما عقدوه من المعاهَدات مع أمراء العرب، ولولا ابن سعود — وهو أول المتعاهدين وأكبرهم — لما أمنوا التعدِّيات البرية والبحرية. لست مُبالِغًا إذا قلت: قد يكون ابن سعود حامي بريطانيا في الخليج؛ لأنه يستطيع إذا شاء أن يُخرِج وكلاءها من الأساكل، ويقضي على سياستها في السواحل العربية الشرقية فيستولي عليها. ما ضرَّه إذن لو قال لإنكلترا في سبيل مصلحته خصوصًا ومصلحة العرب عمومًا كلمةَ حقٍّ صريحة؟
قلتُ مجيبًا على سؤاله: قل للإنكليز يا مولاي أنْ قد حان الوقت لواحدٍ من أمرَيْن؛ إما أن يساعدوا أمراءَ العرب مساعدةً حقيقية، فيحملوهم على عقْدِ اجتماعٍ عربي عام للنظر في الوَحْدة العربية أو في تأسيس حلف عربي، وإما أن يرفعوا يدهم من التدخُّلات كلها فينهض أمراءُ العرب أنفسُهم لهذا الأمر، ويجتمعون دون وساطة أجنبية.
فأكَّد لي السلطان أن الإنكليز لا يعلمون لا هذا ولا ذاك، ولو سعوا سعيًا أكيدًا ليجمعوا أمراء العرب ويوفِّقوا بين المتعادين منهم لا يفلحون، بل يزيدون الخرق اتساعًا. ثم ضرب مثلًا على ذلك فأطلعني على طريقتهم: لنفرض أن شيخين من مشايخ العرب مختلفان على الحدود بينهما، والخلاف بسيط يمكن حسمه بوساطة شخص ثالث من البلاد، فإن الإنكليز يتدخلون في الأمر فيعقِّده مأمورهم أو وكيلهم السياسي فيصبح السِّلْم بين المتخاصمين مستحيلًا. أما الحق في ذلك فليس على المأمور الإنكليزي وحده. كلا، العرب أنفسهم يشاركون في الذنب؛ كل من الشيخين المتخاصمين يقول في نفسه: لا بد أن يتحزب المأمور الإنكليزي إما لي وإما عليَّ. وهذا أكيد. هي عادة الإنكليز في تدخلاتهم كلها. فيضاعف العربي مَطالبه عشرة أضعاف، ولسان حاله يقول: إذا كان الإنكليز معي فيعطوني حقي وزيادة، وإذا كانوا عليَّ فيعطوني في الأقل بعض ما أطلبه، ولا بد أن يكون فيه شيء من حقي.
ثم قال السلطان: هذه طريقة العرب يا حضرة الأستاذ، وهذه طريقة «الإنكلايز». عسى أن الله يعلِّمنا فنعقل، ويؤدِّبهم فيعدلوا … هات اقهُوَه.
(١٠) مؤتمر العقير
مللنا الإقامة في العقير ونحن ننتظر المندوب السامي. وما العقير غير حوش من الخليج والنفود، شمسها في شهر كانون محرقة، ورطوبة هوائها تنهك حتى الإبل. ولها مزية أخرى يعدُّها العرب من الآفات، العرب الذين لا يقيمون زمنًا في مكان وهم يستأنسون كثيرًا بالأسفار؛ فقد قالوا: إن العقير هي الغربة بعينها، تُبعِدهم عن الأوطان، عن الأهل والعيال، ساد في المضارب روح السآمة والكآبة، فكان أشد وطأةً من الرطوبة في الهواء.
سمعت حتى العبيد يشكون، وكانت خيمتي، وأنا الوحيدُ بين هؤلاء الناسِ البعيدُ حقًّا عن الأوطان، البعيدُ عن الأهل والخلَّان، وأحقُّ منهم لذلك بالشكوى؛ كانت خيمتي خباء الكآبة والغم، فسألت رفيقي الأديب السيد هاشم عن السبب في بؤس حاله: هل هناك غير الهواء والوحشة والإنكليز؟
– لا شيء من ذلك يا أستاذ.
– وهل هو مما يُستطاع مُقاوَمته؟ هل يمكنني أن أقوم بشيء يخفِّف وطأته عليك؟
– لو كنتَ يا عزيزي الأستاذ مُزيِّنًا، وكان عندك مقص وكنتَ ترغب في خدمتي لَفعلت.
ففتحت حقيبتي وقلت: ها المقص، وها أنا ذا. أتبغي أن أقصَّ شعرك؟
– لا يا أستاذ، بل هذه اللحية التي تطاولت عليَّ، أفسدتْ عيشي، سوَّدتْ أيامي.
ولكننا لم نفُزْ بتبييض شيء منها؛ أيْ من أيامه. فبعد أن شذبتُ لحيته وجعلتُها لحيةً نجدية قصيرة مستديرة، قال السيد الحزين: الله يا أستاذ! ما أضعفَ الإنسان وما أسخفَ آراءه ساعةَ يستولي الحزن عليه! حاولتُ أن أُخفِيَ حزني في لحيتي فما نجحت. أضحكتَني يا مزيِّن — زيَّن الله حالك — ولكنك لم تفرِّج غمي. لله در مَن قال: لا تخفِ ما فعلتْ بك الأشواق. وكأنه لمس وترًا فيَّ، شَدَّته إلى حد الأنين يدُ الهجر والنوى، فأنَّ ولسانُ حالي يقول: واشرح هواكَ فكلنا عشَّاق؟!
ولما كنا ذاتَ ليلةٍ في مجلس السلطان، جاء النجاب بالبريد، وفيه كتب لرجال في معيته فوُزِّعت عليهم، ثم شرع عظمته يقرأ كتبَه والكاتب جالس عند قدمَيْه فيطرحها إليه سئمًا، حتى وصل إلى كتاب عرفه قبل أن يفضَّه، فاربدَّ جبينه وهو يُطالِعه، ثم مال وجهه إليَّ وقال: هو من الأهل، وهم يشكون البُعدَ والهجر. منذ أربعة أشهر «حنَّا» في الحسا، وفينا مثلَ ما فيهم من الشوق والحنين … ما كنا نبطئ بالرجوع لولا المندوب السامي، وهو صديقنا. أنا أحبُّ السر برسي كوكس وأحترمه، ولكنه أبطأ، أبطأ جدًّا، وهذا الهواء الردي، هواء العقير، وهذه الوحشة التي لولا أُنْسك يا أستاذ لَمَا كانت تُطاق. «حنَّا» أهل العارض لا نتحمَّل هواء الساحل، سئمنا الإقامة هنا، مرضنا. وسنرجع إذا كان لا يصل السر برسي كوكس غدًا؛ أي بالله نرجع. ثم كلم الحاجب في الباب: هات اقهُوَه. فردد الحاجب: اقهُوَه. وأجاب راعي المعاميل عند النار: إي والله اقهُوَه.
بينا كنا عائدين تلك الليلة إلى الخباء مررنا بحلقة من حلقات الربع حولَ نار مشبوبة يؤمُّها كلُّ مَن يبغي القهوة من الخدم والسادة، فكانت حافلة عامرة تباري النار تأججًا واللهيب حنينًا، فأفسحوا لنا مكانًا وهم يواصلون قصَّ القصص، ويروون من الأشعار ما يُفصِح عما فيهم من الشوق والحنين، فيردِّد الجلوسُ آخِرَ كلمة من كل بيت، وفيهم طرب يمازجه الغم:
زين بالله زين!
ولكنها أبيات قِيلت في مدح ابن رشيد، فقال راويها: ولكنها لسانُ حالِ صديقٍ لي بالمنفوحة.
– زين بالله زين!
– صب يادْحَيم.
وقد استجاب الله سبحانه طلبة الأعرابي، فغربل فريقًا منهم في اليوم التالي، وقذف ما في الغربال إلى شاطئ العقير. أجل وصل المندوب وحاشيته مساء، فبادَر الخدم إليهم بالخيل، ولاقاهم السلطان على الرصيف عند القصر. ثم عادوا كلهم راكبين، فترجَّلوا عند فسطاط الاستقبال، وكان قد أُنِير بنور قنديل «اللوكس»، ويُدعى هناك بالكهرباء.
اعتذر المندوب السامي لأنه أبطأ، فقبِلَ السلطان العُذْر، وشرع يُفصِح عما كان يتَّقِد في صدره وهو ينظر إليه غير مكترث بسواه، فجاءت الكلمة الأولى قنبلةً زعزعت المكان: أنا لا أخشى إلا الرجل الذي لا شرفَ له ولا دين.
ثم قال: لا ندري يا حضرة المندوب ما خفي من المقاصد، ولكننا نرجو منها الخير، ومما نعلمه علمَ اليقين أن العشائر؛ خصوصًا عشائر العراق، لا ترتاح إلى حكومةٍ قوية شديدة الساعد، بل لا تبغيها؛ لأن الحكومة إذا كانت قوية تضربهم، تؤدِّبهم فيتأدَّبون، أما إذا كانت ضعيفةً فتسترضيهم كما هي الحال اليوم … العشائر يا حضرة المندوب لا يفهمون إلا بالسيف، وإلا فهُمْ يركبون على ظهر الحكومة ويسوقونها والبلاد إلى مهاوي الخراب … أَشهِروا السيفَ يرتدعوا يتأدبوا، اغمدوا السيفَ يقتتلوا وينبهوا، ويتقاضوكم مع ذلك الخوَّة.
فاه عظمتُه بهذه الكلمات موليًا وجهَه المندوب السامي وظهر فهد الهذال. وكان الشوحط الطويل بيده يساعد بالإفصاح والتمكين، فرابني، بل راعني هذا التصريح، فقلت في نفسي: سامح الله عبد العزيز! قد أخطأ في استرساله إلى غضبه، ولكنه وهو السياسي المحنَّك أراد أن يُفهِم ابن النذال بأنه صريح مع الإنكليز كما هو صريح مع العرب، وأنه في الحق لا يَهاب بشرًا. على أن المجلس ادلهمَّ هنيهةً من كلامه، فجاء هو على عادته — كما قلت سابقًا — يجلوه بكلمة لطيفة، فأزال الانقباضَ الذي استولى على النفوس؛ لأنه في غمزة قناة الهذال إهانة حكومة الانتداب التي تدفع له مشاهرة ليحفظ الأمن في البادية بين العراق والشام.
«اغمدوا السيفَ يقتتلوا وينهبوا.»
ثم مال بوجهه إلى الشيخ فهد وقال مبتسمًا: أليس كذلك يا فهد؟ «حنَّا» نعرف بعضنا. فضحك كلُّ مَن كان في المجلس سوى شيخ العمارات الذي كان يحدِّق نظره في السجادة، ثم يرفعه خلسةً إلى المندوب السامي كأنه يقول: لا بارَكَ الله بساعة جئتُ فيها معك!
ولم يُحرَم مؤتمر العقير غير ممثلي الصحافة. أمَّا رجال الاقتصاد وطالِبو الامتيازات، الذين يحومون على كل مؤتمرٍ يُعقد في أوروبا في هذه الأيام، فقد شرف بعضهم العقير، وكان البعض، وهم على الشاطئ العجمي من الخليج، يتقرَّبون من ذوي الأمر فيه باسم الصداقة للعرب والبترول. فقد علمت أن السير آرنلد ولسون رئيس شركة الزيت الإنكليزية الفارسية في عبَّادان كتب إلى صديقٍ له في المؤتمر يسأله مفاوَضة السلطان عبد العزيز بخصوص امتياز في الحسا.
ولكن الذي كان قد باشَر المفاوَضة فجاء بنفسه، ونصب خيمته بالقرب من فسطاط السلطان هو الميجر فرانك هومس وكيل النقابة العمومية الشرقية بلندن. كنت قد سمعت بالميجر في عدن وعسير، فما استغربتُ أمره عندما اجتمعت به على رمل العقير. هو في العقد الخامس من العمر، وفي طور الشباب همةً ونشاطًا؛ فقد ساح في تهامة وفي الأحساء بالرغم عن أنه لا يعرف كلمةً من اللغة العربية، وهو يبحث عن الزيت، وينشد مثل شركة عبَّادان الامتيازات.
على أن الفرق بينه وبين تلك الشركة هو أن حكومة بريطانيا تعضِّدها؛ لأنها تملك سبعين بالمائة من أسهمها، وتقاوِم كلَّ شركة سواها تبغي امتيازًا في الشطر الشرقي من البلاد العربية. قال لي الميجر هومس ذات يوم في العقير: لا خصمَ لنا غير حكومتنا، ولكن لا دخلَ لنا في السياسة، نحن تجَّار ننفع وننتفع.
لذلك منحه السلطان عبد العزيز امتيازَ الحسا، بالرغم عن مقاوَمة الحكومة البريطانية التي كانت تفضِّل أن تمنحه لشركة عبَّادان. ثم شدَّ الميجر أطنابه في الكويت وفي البحرين حتى وفي العراق، فإذا جاء فوزه مقابلًا لجزء من سعيه، وكانت شركته بعيدة دائمًا عن السياسة، قد يصبح أشهرَ من نالوا امتيازاتٍ في البلاد العربية وأحبَّهم إلى العرب.
أما مندوب حكومة العراق فأمره يُحزِن! كان قد مرض في الطريق إلى العقير فوصل إلينا ورديفته الحمى، وكان أثناء المؤتمر يشكو كلَّ شيء: ثقل الهواء، وملوحة الماء، ووحشة البيداء، وظلم السماء، ويقبِّل مع ذلك يد السلطان عبد العزيز. أظنه كان يجهل أن أهل نجد لا يقبِّلون يدَ السلطان، وأن تقبيل الأيدي هو مستنكَر عندهم. سألني عند الوداع قائلًا: أصحيح أنك مسافر مع السلطان إلى نجد؟ فقلت: نعم، تعال معنا. فقال: وإن أعطيتني ثقل رمال البادية ذهبًا لا أخطو خطوةً إليها. ها هنا — وأشار إلى البحر — خلاصي.
البحر يوصلني إلى بغداد. وكان في كلماته وفي تنهُّداته يمثِّل العاشق المشتاق، البعيد عن جزر الواق الواق. مسكينٌ المتمدِّنُ الذي لا يستطيع أن يستغني عن المدنية ولو يومًا واحدًا!
أما الإنكليز في المؤتمر فما سمعتهم مرةً يشكون، شأنهم في كل مكان؛ فهم يتقبَّلون كل حال حسنت أو ساءت، عاملين عملَهم جادِّين، راضِين بقسمتهم الوقتية ساكتين صابرين. ودَّعوني ولسان حال كل منهم يقول: هنيئًا لك، يا ليتني مسافر معك!
ولكن المندوب السامي السر برسي كوكس قال لي ساعة الوداع: وهلا سافرتَ إلى الربع الخالي؟ فقلت ضاحكًا: كأنك تبغي هلاكي! ثم فاه وهو يودِّع السلطان بكلمةٍ أنستني الأولى؛ لأن فيها مُنِحتُ ضمنًا حقَّ الحماية الإنكليزية. قال باللغة العربية مخاطبًا السلطان ومشيرًا إليَّ: هو بذمتك. فأجاب السلطان بكلمةٍ ألطفَ منها وأجمل؛ قال ويده على كتفي: الأستاذ نجديٌّ الآن، هو منَّا.
(١١) العدل أساس الملك
العدل أساس الملك، ومن العدل ما كان يعجب، ومنه ما كان يُرعِب ويخيف. وقد شاهدتُ من مُظهِريه في بلاد نجد ما لم أشاهده في البلاد العربية كلها، بل ما وجدتُ خارجَ نجد بلادًا تتمثَّل فيها هذه الحكمة «العدل أساس الملك» ذاك التمثُّل الصحيح الشامل، ذاك التمثُّل المعجب المخيف معًا. عدل ابن سعود! كلمة تسمعها في البحر وفي البر وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها، كلمة يردِّدها الركبان في كل مكان يحكمه سلطان نجد، من الأحساء إلى تهامة، ومن الربع الخالي إلى الجوف.
شاهدتُ بَسْطَ رجلٍ في الرياض لاغتصابه فتاةً صغيرة، بَسَطَهُ العبيد على بطنه وأمسَكَ عبدان منهم يدَيه ورجلَيه، وسقط العبدان الآخَران بالعسيب الأخضر على ظهره يعدُّون الضربات، إلى أن عدُّوا الخمسين أو الستين. نفرتْ من هذا المشهد نفسي، وسئمتُ العيش بعد ذلك أيامًا. ولكن مَن يعرف عربَ البادية ويُقِيم بينهم ويخبرهم، يرى وجوبَ مثلِ هذه القسوة في تأديبهم وضبْطِ أمورهم.
أما المظهر الجميل في عدل ابن سعود، فإليك مثلًا صغيرًا منه: كنا في العقير نحتاج إلى الكثير من الحطب، وكان يجيء البدو بأحمال منه يبيعونها إلى رؤساء الخدم بأسعار غالية لقِلَّة الحطب في ذاك المكان؛ ولعلمهم بحاجة الشيوخ وضيوفه الإنكليز إليه.
وقف يومًا أحد هؤلاء الحطَّابين ومعه أربعة جمال محمَّلة. ساوَمَه قيِّم السلطان عليها، فطلب الجمَّال روبيتَيْن ثمن كل جمل، وسعره الاعتيادي نصف روبية. نزل الجمَّال إلى روبية ونصف. رفض القيِّم شراءَها. ساق الجمَّال جماله. ناداه القيِّم ودفع له روبيةً فأبى. فقال القيِّم، وكان الجمَّال قد ولَّى بأحماله: بدوي قواد. لولا الشيوخ والله لَأدَّبتُه.
ولو كنَّا في معسكر تركي أو أوروبي، وكان الجيش بحاجة إلى الحطب فهل تظن أنهم كانوا يُعامِلون هذا الحطَّاب مثل هذه المعامَلة؟ بل كانوا يُكرِهونه على البيع بما يريدون ثم يسخِّرونه. لولا الشيوخ لفعل الخدَّامون بالبدو الحطَّابين مثل هذه الفعلات، ولكن حق البدو يُعطى لهم؛ وحقهم أن يبيعوا ما يملكون بما يشاءون ويستطيعون. أما حقُّ ابن سعود فيُؤخَذ منهم بالعدل، وإن اقتضى الأمرُ بسيف العدل البتَّار.
إذا كان العدل أساسَ الملك، فالأمنُ أول مظهر من مظاهر العدل. وفي نجد اليوم من الأمن ما لا تجده في بلادنا أو في أي بلاد متمدنة. لا يظنني القارئ مبالِغًا بما أقول، ولست على ما أقول مستشهِدًا بنفسي، مع أن رحلتي النجدية استمرت خمسة أشهر، قطعت في أثنائها الدهناء مرتَيْن، جنوبًا في طريقي من الحسا إلى الرياض، وشمالًا في طريقي من القصيم إلى الكويت، وكانت حقائبي وفيها مالي مكسَّرة الأقفال مفتوحة، وهي مع الحَمَلة بعيدةٌ مني النهارَ كله، وكان في خدمتي أناس من البدو، فلم أفقد مع ذلك شيئًا من حوائجي ولا ورقة من أوراقي، إلا أني لا أقدِّم نفسي حجةً لإثبات ما أقول عن الأمن في نجد؛ لأني كنت أسافر بطريقةٍ ممتازة مصحوبًا بعشرة إلى خمسة عشر رجلًا من رجال السلطان.
ولكن الأمن في نجد لا يحتاج إلى رحلتي مثالًا وإثباتًا، إن له أكبر دليل وأقطع حجة في أهل البلاد أنفسهم، المسافرين من قطر إلى قطر، وفي القوافل التي تسير أربعين يومًا في ملك ابن سعود من طرف إلى طرف، من القطيف مثلًا إلى أبها، أو من وادي الدواسر إلى وادي السرحان، دون أن يتعرَّض لها أحد من البدو أو الحضر، دون أن تسأل من أين وإلى أين.
قدَّمتُ مثلًا صغيرًا على العدل، وهاك مثلًا صغيرًا على الأمن في نجد اليوم: كانت الطرق في الأحساء في عهد الأتراك لا تُعبَر إلا بقوة عسكرية، أو بدفع «الخوَّة»، وكانت الطريق بين العقير والحسا، وهي طريق التجارة إلى نجد الأسفل، أكثرها وأشدها أخطارًا؛ فكان التاجر العربي المسلم الذي يروم الوصول إلى الهفوف — مسافة أربعين ميلًا — يضطر أن يدفع «الخوة» كلما اجتاز خمسة أو عشرة أميال من هذه الطريق المخيفة؛ طريق التجار والأموال. جاءها العجمان من الجنوب، وبنو مرَّة من الربع الخالي، والمناصير من قَطَر وما دونها، وبنو هاجر من الشمال من نواحي القطيف والكويت، وجاء من داخل البلاد، من وراء الدهناء، الدواسر الأشاوس، فحاموا كلهم على هذه الطريق وربطوها، وقطعوها، وتقاسَموا أموال قوافلها.
كان يجيء التاجر من البحرين مثلًا فيدفع قبل أن يطأ برجله العقير «خوة» للعجمان، ومن العقير إلى النخل خمسة أميال وخمسون ريالًا «خوة» للمناصير، ومن النخل إلى أم الذر خمسة أميال وخمسون ريالًا «خوة» لبني مرَّة، ومن أم الذر إلى العلاة خمسون ريالًا «خوة» لبني هاجر، ومن العلاة إلى … إلخ. وإذا فاز التاجر المسكين بحياته وبقي شيء في كيسه، فمن المؤكد أن أحماله لا تصل كلها إلى الحسا، وكان إذا خرج عسكر الترك لتأديب أحد من هؤلاء العشائر يطاردهم البدو فيغلبونهم، ويأخذون خيلَهم وثيابهم، ويُرجِعونهم إلى الحسا حُفاةً عُراةً، ثم يجيء البدوي منهم راكبًا حصانَ الجندي التركي؛ ليُبَيْطِره على مرأًى من السلطة المدنية.
هذه هي حال الأحساء قبل أن سقطت في يد ابن سعود، أمَّا اليوم، فقد مررنا في النفود بجمل بارك، رازح تحت حمله، فسألت عن صاحبه فقيل لي إنه سار في طريقه وسيرجع بعد أن يصل إلى البلد بجمل آخَر يحمل البضاعة. وقد يموت الجمل الرازح ويبقى حمله على قارعة الطريق عشرةَ أيام فيعود صاحبه فيجده، وما مسَّته يدٌ بشرية، كما تركه في مكانه. كيف تمكَّنَ ابن سعود من إقامة مثل هذا الأمن وتوطيده في بلاده؟ بأمرَيْن: أولهما الشرع، وثانيهما تنفيذ أحكام الشرع تنفيذًا لا يعرف التردُّد ولا التمييز ولا الرأفة.
إنَّ لعدلِ عبد الله بن جلوي عينًا واحدة لا ترى غير المذنب، ولا ترى في ذنبه غير ما يستوجب التأديب في الحال. وهو أسرعُ في تنفيذ أحكامه وأشدُّ من ابن عمه السلطان عبد العزيز. إن ساحةَ الهفوف لَساحةُ الدم، ساحةُ القطع والنطع. خذوه إلى الساحة! وبعد هنيهة يلمع سيفُ السيَّاف في شمس الضحى، فتقع اليد أو الرِّجْل أو الرأس في حجر القضاء، ويهز العدل رأسَه استحسانًا.
جاء عبدَ الله ذاتَ يومٍ رجلٌ يشكو ولدًا ضربه وشتمه. فسأل عبد الله: مَن الولد؟ فقال الرجل: لا أعرف اسمه. فقال عبد الله: وهل تعرفه إذا عاينتَه؟ فأجاب الرجل بالإيجاب، فأمر الأمير أن تُجمَع عنده أولادُ ذاك الحي من البلد، فأحضروهم كلهم، وجاء الشاكي فنظر إليهم وأشار إلى غريمه، فهمس أحد الحضور في أُذنه: هو ابن الأمير. فجمجم الرجل بعضَ كلماتٍ أراد بها الاعتذار والعدول، فردَّه الأمير، وسأل الولد فأقرَّ بذنبه، فأمر العبيد أن يبسطوه أمامه، وأن يقدِّموا للشاكي عسيبًا أخضر من النخل، فتردَّد العبيدُ وأحجَمَ الرجل، فأخذ الأمير القضيب بيده، وشرع يضرب ابنه ويقول: إذا كنَّا لا نبدأ بأنفُسِنا، فكيف نعدل في غيرنا.
جاء ذاتَ يومٍ إلى القصر في الرياض بضعةُ رجالٍ من بني مرَّة؛ أشدِّ القبائل في الجنوب توحُّشًا، يطلبون عيشًا وكسوة، فكان لهم من السلطان ما يبغون، ثم ارتحلوا شرقًا إلى الحسا فمرُّوا في طريقهم ببعض الأباعر ترعى فساقوها أمامَهم، فشكاهم أصحابها إلى السلطان في الرياض، فبعث السلطان بنجَّاب يحمل الخبرَ إلى الأمير عبد الله في الحسا. وصل النجَّاب قبل أن يصل عربان بني مرَّة، فتحرَّكت أسبابُ العدل عند الأمير بالسرعة التي اشتهر بها. ركب أربعمائة من رجاله وراحوا منقسمين أربعة أقسام، شمالًا وشرقًا وجنوبًا وغربًا، يفتِّشون عن عربان بني مرَّة اللصوص، وما مرَّ أربع وعشرون ساعة حتى جاءوا بهم وبالبعارين المسروقة إلى الهفوف، فأوقَفُوهم أمام ذاك العربي الروماني؛ العربي شَرَفًا الروماني عَدْلًا، وكان سؤال، وكان جواب، وكانت الكلمة: إلى الساحة!
هناك أمام الأمير والجمع المحتشد يشتغل السيَّاف، ويشتغل مُعاوِنه، والطريقة في الإعدام بسيطة سريعة مدهشة، فيها دِقَّة نظر وفيها مهارة: إنهم يركعون المذنبَ على ركبتَيْه، ثم يرقص أمامه المعاوِن ليلهيه عن السيف الآخَر المرفوع فوق رأسه، فيَكِزه أولًا السيَّاف وكزةً شديدة سريعة في رقبته تحت المخيخ، فيتحرَّك الرأس إلى الأمام، فيتقلَّص عصب الرقبة، فيضربها إذ ذاك ضربةً — ضربة واحدة؟ — يطيح منها الرأس إلى الأرض. دقيقة واحدة تبدأ بالرقص وتنتهي بالنطع، فيتحدَّث بها الركبان في نواحي البلاد كلها.
وفي ذاك اليوم الرهيب لمع سيفُ السيَّاف لمعات ثمانيًا في ساحة الهفوف، وفي شمس الضحى، رقصت على الأرض ثمانية رءوس من بني مرَّة … يا راعي البعارين، ضاع لنا بعيرٌ فهل عايَنْتَه في الطريق …؟ هو ذا يا خويي البعير، تعالَ خذه … العدل أساس الملك وسياجه. فإن القلاع التي بناها التركُ في الطريق إلى الحسا هي اليوم مهجورة متهدِّمة، والقوافل تسير ثمانمائة ميل شرقًا وغربًا، وثمانمائة ميل جنوبًا وشمالًا في ملك ابن سعود، وهي تدعو له بطول العمر وتشكر الله.
قلت: إنهم يبسطون مَن يدخِّن في نجد، ويبسطون كذلك مَن لا يصلي. وللكلمتين شرحٌ تُوجِبه الحقيقة والإنصاف؛ لأن الناس فيما يسمعون من عجيب الأمور ومنكرها يُبالِغون، ولا يهمهم من الحقيقة غير ما يثبت منها المبالَغات.
التدخين ممنوع في نجد، بل في ملك ابن سعود كله، ولا أحد يدخِّن علنًا أو في الأسواق، لا في الحسا ولا في العارض ولا في القصيم.
ولكنهم في الحسا وفي القصيم يدخِّنون في بيوتهم، والمشايخ يتساهلون، وقد رأيت في الرياض مَن يدخِّن سرًّا حتى في حضور أقرب الناس إلى السلطان؛ ذلك لأنهم لا يرون في الدخان ما يراه المتعصِّبون من العلماء. أمَّا السلطان فهو يحب الروائحَ الطيبة ويشمئزُّ من رائحة الدخان، وما كان ليزورني كلَّ ليلة على ما أظن لو كنتُ أدخِّن يومَ كنتُ ضيفَه في القصر بالرياض.
حدَّثنا المستر فلبي في كتابه «قلب البلاد العربية» قال: كنت أنا ورفيقي ندخِّن ذات ليلة (وكانا مِثلي ضيفَيْن في القصر) إذ دخل علينا عبدٌ يُعلِمنا بقدوم الشيوخ. وكانت الغلايين وعلب التبغ مبعثرةً على الديوان، فخبَّأناها مُسرِعين، وفتحنا الشبابيكَ كلَّها، إلا أنه عندما دخل السلطان كان الدخان لا يزال منتشرًا في الغرفة، فجلس متجاهلًا، وكان لطيفًا على عادته، ولكن أحد العبيد جاء توًّا بالمجمرة وفيها الطِّيب فقدَّموها لسموه، ودار علينا بها مرارًا ثم تركها على السجادة وسط القاعة تطهيرًا للهواء.
تجاهل السلطان مع أن دخان الغلايين أكرهُ شيءٍ لديه، وكان لطيفًا على عادته، ولكنها كانت أولَ زيارة منه لضيوفه في منزلهم، وآخِر زيارة. هاك مثلًا آخر من تلطُّفه وتساهُله: في الرياض حي يسكنه العلماء، وللعلماء حاسةُ شمٍّ تخترق الجدرانَ فتعرف ما وراءها من دخان، وتميِّز بين الحلال منه والحرام؛ لذلك لا يجرؤ أحد في ذاك الحي أن يشعل سيكارة، لا سرًّا ولا في غرفةٍ مُظلِمة تحت الأرض. وإذا خاطَرَ بنفسه واستهتر، فاكتُشِف أمره، يُحاكَم أمامَ الشيخ، وعند إثبات الجُرْم، بعد استماع الشهود يُبسَط في الحال لا محالة، ﻓ «يطقه» — يجلده — العبيدُ من أربعين إلى ثمانين جلدةً حسب خطورة الذنب فيه. وقد سمعت السلطان عبد العزيز يقول لرجل من أخصائه كان يبحث يومئذٍ عن بيت لينقل إليه: في محلة الشيخ (أيْ في حي العلماء المذكور) بيتٌ كبير، ولكنك تعلم أنهم هناك يُواظِبون على الصلاة، ويشدِّدون في الأحكام فتُضطر إلى أن تصلي في المسجد.
إن في كل مسجد بالرياض كما قِيل لي جريدةً بأسماء الذين يصلون فيه، يقرؤها الشيخ كلَّ يوم صباح مساء، فإذا كان أحدٌ غائبًا يزوره وفدٌ من الإخوان في بيته. قد يكون مريضًا فيَعُودونه ويُؤاسِون، وقد يكون مُستغرِقًا في النوم فينبِّهونه وينصحون، وقد يكون كَسُولًا فيحذِّرون. أما إذا تغيَّب عن الصلاة ثانيةً بلا سببٍ فيَعِظونه ويوبِّخون، وإذا كرَّر فعِلته فيَبْسطونه لا محالة، ويعملون في ظهره النخل أو الخيزران.
هي حقيقة الوهابية في العارض، بل في الرياض، بل في حي خاص من أحياء الرياض. وكلما بعدت من ذاك الحي ومن تلك المدينة، وكلما بعدت من العارض شمالًا أو شرقًا، تبعد من الغُلوِّ في الدين — دين التوحيد — ومن التعصُّب في تنفيذ أحكامه الاجتماعية.
(١٢) الإخوان
مَن هم الإخوان؟ مَن هم أولئك الوهابيون الذين يردِّد الناس في كل قُطْر من الأقطار العربية اسمَهم مُستعِيذين بالله؟ وقلَّ مَن يعرف حقيقةَ حالهم، ويدرك سرَّ اشتهارهم. أَهُم رُسلُ الهول والموت، أم رُسلُ دينٍ لا يعرف غيرَ الله والكتاب والسُّنة، دين النبي محمد والصحابة؟ أقول نعم جوابًا على السؤالين.
من الحقائق الناصعة في الأديان ونشأتها أن كل مَن دان بدين جديد أو كان جديدًا في الدين، يأخذ منه الغلو مأخذًا يلتوي عنده العقل، فيسترسل فيما يظنه فضيلةً ولا يطيب له عيش إلا بالتبشير والجهاد. قد كان كذلك المسيحيون الأوَّلون ثم البروتستانتيون، بل قد كانت شِيَع الإسلام كلها في بداءتها نازعة إلى السيف، معتقدة أن الدين كل الدين في نشره في الناس حربًا أو سلمًا، كَرْهًا أو إقناعًا.
وها إن الإخوان في هذا الزمان يحملون البنادق والبيارق باسم الله، فيحملون أو كانوا يحملون على كل مَن لا يدَّين من العرب، وكأني بهم لا يرون خيرًا في حياةٍ لا إكراهَ فيها على التوحيد، فينادي الأخ منهم ممتشقًا حسامَه أو رافعًا بندقيته: أنا خيَّال التوحيد أخو مَن طاع الله، بين رأسك يا عدو الله! إنهم من هذا القبيل مثل رجال البروتستانت الأوَّلين الذين حارَبوا تشارلس ملك الإنكليز. والسلطانُ عبد العزيز أشبهُ برَجُلِ تلك الثورة الكبيرِ كرمويل.
قد برهنوا على ذلك في مواقع عديدة، وأثبتوا جوابي على السؤال الأول، فكانوا رُسلَ الهول ورُسلَ الموت في كل مكان سُمِعت فيه «هوستهم» المشهورة: هبَّتْ هبوب الجنة، أين أنتَ يا باغيها؟ فلا الحجاز ينساهم، ولا الكويت يذكرهم بالخير، ولا العراق يُحسِن بهم الظن، ولا الجوف ولا الجبل ولا القصيم يكبر في ساعة الوغى سِواهم؛ ويردِّد خوفًا وإعجابًا غير اسمهم. الإخوان، زرعوا الهولَ في كل مكان. الإخوان يحاربون مستبسِلين مستشهِدين. روى الناس، الموالون منهم والمعادون، أخبارَ الشجاعة والبطولة التي اشتهروا بها. قالوا إنهم شياطين الدين، وقالوا إنهم أبطال المسلمين. وما كانت البطولة بغير الإيمان الحي والثبات في الجهاد. لولا ذلك ما كان الإخوان، وما كان مُلك ابن سعود. هبَّتْ هبوب الجنة، أين أنت يا باغيها؟ وكل يبغيها؛ لذلك يحاربون وقلَّما ينهزمون. الجنةُ أمامَكم والنارُ وراءَكم، فمَن منهم يتقهقر، ومَن منهم يولي مدبرًا؟! هم شوكة ابن سعود أيام الحرب، وهم أيام السِّلْم الشوك في غصن الدين. يحملون سُلَّم التوحيد بالعرض، ويزعجون أحيانًا حتى سلطانهم العزيز. حدَّثتُ كثيرين منهم فما وجدتُ وراء اللسان غيرَ قلبٍ فيه أتون من الإيمان، فلا يهاب صاحبُه الموتَ ولا يخاف غير الله. ولكنك تسألني: أمن روح هناك فيها شيء من الحنان، أم من عقل فيه ذرة من البرهان؟
كان الأخ نوَّار مع ذلك لطيفًا وذا مروءة تُشكَر؛ فيُعاوِن الخَدَم، ويرعى الركائب عند المراح، ويجمع الحطَبَ ويشبُّ النار، ولا يأكل إلا قليلًا. رافَقَنا هذا البشر الغريب، آخانا كَرْهًا عشرة أيام، وما من مَرَّة سلَّمَ عليَّ أو كلَّمني أو ردَّ سلامي. مرضت أثناء السفر بالحمى، فكنت ذات يوم على الفراش في خيمتي ونوَّار واقف اتفاقًا في الباب، فقلتُ مازحًا، بل كنت أضايقه عَمْدًا: يا نوَّار أنا «مصخن» (مريض) اليوم. فمالَ بوجهه إليَّ هاتفًا: والحمد لله! كانت عصاي طوع يدي قرب السرير فرميتُه بها لِمَا ظننتُه منه وَقَاحة، بل وَحْشية، فأصابت منه الرأس، ولكنها لم تحرِّك اللسان بكلمةٍ واحدة.
نهضت بعد ذلك وخاطَبتُه وهو واقف عند النار: أنت يا نوَّار رجلٌ تقي وَرِع صِدِّيق، وأنا رفيقك في السفر — مريض — «خوياك مصخن» اليوم، ونبغي الرحيل، ولا رحيل مع مرض، فهلَّا ذكرتني في صلاتك وسألتَ اللهَ لي الشفاء العاجل! فلم يُجِبْني بكلمة. فقلت: أفَلَا تصلي من أجلي يا نوَّار! ظلَّ مُعرِضًا عني ساكتًا. فقلت مُصِرًّا: أنا «خوياك» أبغي منك أن تَذْكرني في صلاتك. هزَّ الرجل رأسه متأفِّفًا وبعد عني، فتبعته وأمسكته بعباءته، وأظنني كنت محمومًا فزادني هذا الصد منه حرارةً وغيظًا، فقلت ولا مزاح: اسمعْ يا نوَّار، أنا أعلِّمك، أنت واحد و«حنَّا» خمسة عشر، وكلنا ندخِّن ونغني، فإذا كنتَ لا تصلِّي من أجلي وتسأل الله لي الشفاء، نذبحك والله مثلما ذبح مسفر هذه الشاة. أظن أن تهديدي راعه فحرَّك شفتَيْه بهذه الكلمات: الله يُجِيرنا وإياك من النار! وهذا منتهى التساهُل منه. لم يطلب لي الشفاء، كلا، بل أشرَكَني من فضله بالاستجارة من النار، نار الجحيم. كلُّ الإخوان المدَّينين جديدًا هذا الرجل، كلهم نوَّار.
وهناك فريقٌ ثالث أكثرهم من جبل شمر، ديَّنوا بعد سقوط حائل أو قبله إما خوفًا وإما ارتزاقًا، فهم يتساهلون تساهُل السُّني، ولكن الأخ الجديد الأكيد يقول: إنهم مدغلون.
قد كان في رجالي الذين عشت وإياهم شهرين في السفر من العارض إلى القصيم والكويت من الثلاثة الإخوان، الأخ المجنون، والأخ المتعصب تعصُّبًا نسبيًّا معقولًا، والأخ المتساهل. وكان في الصنف الأخير رجلٌ ظريف ذكي الفؤاد يُحسِن النكتةَ والجواب، يدخِّن دائمًا ولا يستأثر بالسبيل، بل كان يقدِّمه عند كل «تعميرة» إلى رفقائه، صارخًا بصوته العريض: دخِّنوا يا إخوان. بارَكَ الله فيهم قد كانوا طيلة الطريق موضوع التهكُّم والضحك. أجل، قد أضحكونا وفكَّهونا في ساعات الضجر الطويلة.
والسلطان عبد العزيز إمامُهم في كل شيء، فهو يعرف الشجاع فيهم والتقي والصبور والعاقل والمجنون، ويُحسِن سياسةَ الجميع، فيستخدمهم في سبيل الله وملك ابن سعود. أجل إن عنده لكلٍّ من الإخوان وظيفةً ومقامًا: المعتدِل للخدمة، والمتساهِل للتجارة والسياسة، والمجنون للقتال. أمَّا أمر الصنف الأخير، إخوان نوَّار، فقد يستفحل عليه في بعض الأحايين، وقد يعجز عن ضبطهم دائمًا؛ لأن المسافات في نجد بعيدة والمواصلات كلها أولية. الإخوان قوة هائلة ينقصها نظام وإدارة، وإلا فتتفلَّت من يد سيدها، وتكون عليه وعلى سِواه وخيمةَ العاقبة. مثال ذلك ما حدث في الشامية بالعراق يوم هجم الدويش بأهل الأرطاوية على ابن سعدون وعشائر العراق، فهزموهم شرَّ هزمة وأذاقوهم من هَوْل الإخوان ما لا ينسونه حياتهم.
ولنا فيما حدث في الجوف السنةَ الماضية مثالٌ آخر، غير أن عُذر إخوان الجوف كان واهيًا فلم يقبله السلطان عبد العزيز، بل أمر بالقبض على رؤساء تلك الغزوة، وبإحضارهم مُقيَّدين إلى الرياض حيث سُجِنوا ثلاثة أشهر.
كنت في عاصمة نجد يومَ أُطلِق سراحهم فأُحضِروا أمام السلطان، فخاطَبَهم قائلًا: لا تظنوا يا إخوان أنَّ لكم قيمةً كبيرة عندنا، لا تظنوا أنكم ساعدتمونا وأننا نحتاج إليكم، قيمتكم يا إخوان في طاعة الله، ثم طاعتنا، فإذا تجاوَزتم ذلك كنتم من المغضوب عليهم. إي بالله، ولا تنسوا أن ما من رجل منكم إلا وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمه. وما ملكناكم إلا بالسيف. ترى الصحيح. والسيف لا يزال بيدنا إذا كنتم يا إخوان لا ترعون حقوقَ الناس. لا والله، لا قيمةَ لكم عندنا في تجاوُزكم، أنتم عندنا مثل التراب … أمَّا إذا عدلتم وعقلتم فحقكم بشرع الله خذوه من هذا الخشم — وضرب بالسبابة أنفَه — وحقي آخُذُه منكم دائمًا بإذن الله … أنتم ما دخلتم في طاعتنا رغبةً بل قهرًا، وإني والله أُعمِل بكم السيفَ إذا تجاوَزتم حدودَ الله.
(١٣) في القصر بالرياض
لا يزال للشِّعر مقام في نجد وإنْ رثَّت حواشيه وتفاقَم اللحن فيه، فكثيرًا ما تجد على حيطان القصور أثرًا من حكمة القدماء ونفائس الشعراء يُنبِئك بما يتمثَّل به الأمراء والعربان، أو بما كان من حادِثات الزمان. وفي القصر بالرياض فوق الأبواب في رواق المجلس العام، كُتِبت على الحائط بالحبر الأسود بخطٍّ رديء أبياتٌ من الشعر منها:
إن اللبيب العالم بتاريخ نجد الحديث ليقرأ في هذا البيت الوحيد فصلًا في الخيانات والدسائس التي كان السلطان عبد العزيز هدفًا لها وسيفًا لامعًا عليها. الخيانات في أقرب الناس إليه، وفي البدو أيضًا والإخوان. أمَّا الأباعِد الذين سالَموه، بل والَوْه، وكانوا له عونًا على أعدائه أثناء الحرب العظمى، فهم حقًّا من الأباعِد، الأباعِد قومًا، الأباعد دِينًا، الأباعِد مَزارًا. وما كان ليربط آل سعود بهم غير السياسة والمصلحة. ليس قصدي أن أفيضَ الآن في الكلام عن تلك الرابطة وأسبابها ونتائجها، وإنما القصد أن أشيرَ إلى ما في حياة ابن سعود من شِدة قاساها، وغَمٍّ يكنُّه، فيبدو في بعض الأحايين يابسًا كالجرح القديم في وجه الجندي.
إن السلطان عبد العزيز، وإن كان قد ذلَّل العقبات، وفلَّ حدَّ النكبات، وأصبح، إذا صح الحُكْم على الرجل من حديثه ومحضره، آمِنًا مطمئنًّا؛ إنه لَيُفصِح في هذا البيت من الشعر عن حقيقةٍ لا يزال يؤلمه ذِكْرها، وقد يكون أمر بكتابته فوق باب مجلسه؛ ليذكر أيضًا به أولئك الذين كانوا بالأمس حربًا عليه وأصبحوا اليومَ من خاصة رجاله. أمَّا وَلاء الأباعِد فالعجب فيه يتجاوَز ظاهرَ أمره. العجب كل العجب من مصالح تنتصر حتى في نجد، حتى في الحجاز، على رابطتَي القومية والدِّين. فعبثًا يكبر الناس الواحدة ويقدِّسون الأخرى. إنَّ عُرَى الاثنتَيْن لَتَنحلُّ وتتقطع، كأنها حبال شمس الضحى، عندما يَمْسسنا منها الضرُّ أو يستحثنا عليها غرضٌ مادي أو معنوي.
وهناك أبيات أخرى من الشِّعر تُفصِح عن خلة حميدة مجيدة، ليس في السلطان وَحْده أو في آل سعود أو في الإخوان، بل في أهل نجد كافة. ولَكنتُ أقول إنها تعبِّر عما في قلب كل عربي من الإباء والنخوة والشجاعة، لولا أني رأيت من العرب في غير نجد مَن لا أثرَ في أنفُسِهم لتلك السجايا الشريفة. أمَّا في نجد، في البادية والحضر، فلا غرو إذا تمثَّلَ الناس بقول الشاعر الذي رفعه السلطان عبد العزيز إلى أرفع مقام عنده، فأمر بكتابة كلماته فوق بابه:
هم يجيئون من كل حدب وصوب في أيام الغزو أو الحرب وهذا لسان حالهم. أجل إن أمرًا يصدر من الرياض فيحمله النجَّابون إلى أقاصي البلاد؛ ليُجمِع على إحدى الآبار أو في أحد الشعاب في اليوم المضروب ألوفًا من أهل نجد، بادية وحضر، وقد جاء كلٌّ على ذلوله مسلَّحًا ببندقيته، وممنطقًا بذخيرته، وحاملًا بعض التمر والماء. إن أمرًا كهذا مُطاع ولا مَردَّ له؛ فهم أثناء الغزو أو الحرب لا يبغون من سلطانهم شيئًا. هم يعطوننا — الكلام للسلطان عبد العزيز — ولا يأخذون منا، ونحن في أيام السِّلْم نعطيهم ولا نأخذ منهم.
لقد شاهدت معرض العطاء في الرياض، بل كنت أشاهده كلَّ يوم مدة إقامتي هناك، وأعجب جدًّا لا لكرم هذا الرجل بل لإيمانه وثقته بالله، مصدر الخير غير المتناهي وولي النعم التي لا تزول. وإلا فكيف يؤمل بدوام حال تمكِّنه من العطاء في بلاد لا ثروة لها ثابتة دائمة؟ هنالك حكومة فردية أوتوقراطية وديمقراطية معًا تبرأ من قواعد الإدارة والنظام كلها، وبلاد ثلاثة أرباع أرضها بادية قفراء ليس فيها من موارد الثروة غير الأنعام، ورعية ثلثاها من البدو وأكثرهم حتى اليوم لا يُحسِنون صناعةً ما، وإقليم قَيْظه يُحرِق ويبيد، وشتاؤه لا يصدق ولا يُحسِن الوفاء، فتجيء السنون المجدبة فتعقم المفالي ويعم البلاء.
ومع ذلك ترى نجد اليومَ عزيزةً بعبد العزيز، تستمتع بأمنٍ منقطعِ النظير في كل البلاد العربية، وبعدلٍ كبير شامل يحمل السيف والقسطاس، وبخيرٍ فوق ذلك لا تنفد موارده.
«هذه يا طويل العمر جريدة بمَن نوَّخوا اليوم.»
- بخط رئيس التشريفات: حمود بن صوَيْط معه فرسان وذلول (بعض الزائرين يجيئون بالهدايا من خيل وإبل).
- بخط السلطان: ألفا روبية وبشت وبر معلَّم (أيْ: عباءة مقصبة) وزبون (قنباز) جوخ وسيف مذهب.
- بخط رئيس التشريفات: سليمان بن علي من أهل حايل.
- بخط السلطان: أربعمائة روبية وبشت وزبون.
- بخط رئيس التشريفات: هذاع بن سلطان بن زايد راعي (حاكم) عمار معه عشر ركائب (نوق) عمانيات (هدية).
-
بخط السلطان: ثمانية آلاف روبية وسبعون ليرة وعشرون بندقية
وفرَسان.
ثم إلى رجاله الخمسة والعشرين كل واحد كسوة وكيس فيه من المائة إلى الخمسمائة روبية حسب مقامه.
إن في الجريدة أسماء أناس من غير رعايا ابن سعود، جاءوا زائرين مسلمين؛ منهم ابن صويط من مشايخ الضفير في العراق، وابن مجلاد من مشايخ عنزى في الشمال، وابن نايف من بني علي في المدينة المنورة، وابن سلطان بن زايد من عمان، وابن الدخيل من قِبَل نوري الشعلان؛ كلهم يؤمون الرياض لعلمهم أن فيها رجلًا من كبار رجال العرب اليوم بل أكبرهم، يؤمونها إما حبًّا وإجلالًا، وإما خوفًا واستعطافًا، وإمَّا ابتغاءَ مساعدة مادية أو سياسية، وقلَّما يعود أحدهم من عاصمة نجد خائب الأمل.
والرجل في حلمه مثله في كرمه. جاءَه ذاتَ يومٍ شيخُ قبيلة حاربته بضع سنين ثم دانت له، فأقام الشيخ أيامًا في الرياض وقال للسلطان عند الوداع: قالوا لي إنك سحار يا عبد العزيز. صدقوا والله؛ فقد سحرتني! إن أخبار حِلمه لَأَدْعى إلى الدهشة والإعجاب من أخبار كرمه.
رأيت العربان والإخوان ينتظرون في الرواق وشلهوب جالس وراء منضدته يعدُّ الروبيات، وأعوانه في المخازن حوله يوزِّعون الثياب، وكنت أرى كلَّ يوم عند غروب الشمس صفًّا طويلًا من العبيد، ساسة الخيل، كلٌّ يحمل وعاءَه وينتظر عند باب من أبواب شلهوب ليملأه شعيرًا. إن لشلهوب منازلَ كثيرة ومهمات متعددة، هو مثل يوسف في مصر الفراعنة. وملَّكناه … وجعلناه على خزائن الأرض. وهو مع ذلك القيِّم الأول في المطبخ السلطاني والمطبخ العام اللذين لا يختلفان في غير التمن؛ أي: الأرز. فالصنف الذي يُطبخ للسلطان ورجاله أحسن من ذاك الذي يُطبخ للعربان والإخوان.
يوم وصلت إلى الرياض هالني عندما أَنَخْنا أمْرُ أولئك العربان من بدوٍ وحضر وإخوان؛ رأيتهم جالسين خارج القصر وداخل القصر في الأروقة على مجالس من الطين، رجال وصِبْية، وبأيديهم العصي ينكتون بها الأرض، أو يرفعون رءوسها إلى شفاههم يُداعِبونها مثل أماجد الإنكليز. وكل واحد منهم رب أمره ملتف برداء العظمة والسكينة، كأنه أمير خطير لا ينظر إلى جاره ولا يكترث به. مئات من «الأمراء» جالسون صامتون، يتفرجون! سألت رفيقي: هل جاءوا يتفرجون علينا؟ فقال: لا، إنما الآن وقت الغداء، وهم ينتظرون الأمرَ بالدخول، الأمر من وليِّه شلهوب. ولكنهم في دعائهم لعبد العزيز بطول العمر لا يذكرون شلهوبًا بغير الذم. ولماذا؟ التمن ما هو زين. الله يغربلك يا شلهوب!
وكنت أرى كل يوم قبل غروب الشمس ليس في ساحة القصر، بل وراءَه عند باب المطبخ جمعًا آخَر محتشدًا هناك، جمعًا كبيرًا من فقراء البدو المخيمين خارج المدينة، نساء يحملن أطفالهن، وصبيانًا عُراة، وبعض الرجال في أطمار ممزَّقة بالية. جمعًا تأكله القذارة وتنتشر منه الروائح الكريهة، وكلهم جاءوا في هذه الساعة وبأيديهم أوانٍ من الخشب أو النحاس أو الفخَّار ينتظرون شيئًا من الطبخ، ينتظرون فضلات المائدة العامة.
ما رأيت في الفقر مشهدًا أشد وبالًا وأبلغ فصاحة فيما يثير التسخُّط والأحزان مثل هذا المشهد الهائل. إنه لَفقرٌ وجُوع في قذارة، وقذارةٌ في ذل، وذلٌّ في قناعة!
لو كان مثل هذا الفقر في مدن نجد كلها لَكان يُخشى منه على ملك ابن سعود، ولكن العاصمة تمتاز عن سائر المدن بمَن يحوم على موارد الرزق والخير التي لسيد البلاد، ومع ذلك فإن مثل هذا البؤس في قلب نجد لَيحط في عين الأجانب وفي عين الحضر من العرب أيضًا من كرامة ولي الأمر والنِّعَم. فحبذا العمل باقتراح اقترحتُه على عظمة السلطان، وهو أن يشغل السباهلة المعطَّلين بدلًا من أن يتصدَّق عليهم؛ ليشغلهم في الأشغال العامة أيام السِّلم، كإصلاح آبار المياه في البلاد، وأكثرها في حاجة إلى إصلاح وترميم، وتعبيد الطرق للسيارات التي بدأت اليومَ «تطوي البيد طي»، فيأكلون إذ ذاك خبزَهم بعَرَق جبينهم، وينفعون وينتفعون.
(١٤) ونفعل فوق ما فعلوا
نقلت في الفصل السابق شيئًا من الشِّعر المكتوب على الحائط في رواق المجلس العام، وفيه تصويرٌ لأخلاق النجديين وقواعد في الحياة يتمشون عليها، بل فيه ينعكس بعضُ ما يخالج السلطان عبد العزيز من أليم الذكرى ومن شريف المقاصد والآمال. وهناك بيتان آخَران فيهما مزيج من الحكمة ومن الخطل الذي أَلِفه الشرقيون. عفوًا أيها القارئ! إننا نجني على الشرقيين في التعميم؛ لأن اليابان والهند حتى الصين نبذت ذاك المزيج، أو قامت تُصلِح ما أفسَدَه الزمان في التقاليد والأحكام. يجب أن أقول إذن: ذاك المزيج من الحكمة والخطل الذي أَلِفه المسلمون، فخدَّر منهم العقل والروح والقلب كذلك. خدَّر العقل فقلَّما ينشط إلى فكر جديد يُنعِشه ويُحيِيه، وخدَّر الروحَ فلا تكترث بما فيه صحتها، وخدَّر القلب فلا يحس بالبلية المشتركة إحساسًا مدنيًّا قوميًّا يحمله على نبْذِ ما أَلِفه من قديم العادات، وما يقيِّده من ذميم التقاليد والخزعبلات. قرأت مرةً في حضور السلطان ما كُتِب فوق بابه:
ها هنا الخطل، ها هنا المستنقع الذي تنتشر منه جراثيم أمراضنا الاجتماعية والسياسية والدينية، وإنَّا إذا تساهَلْنا في تحليل البيت وتفسيره نسلم بنصفه الذي لا شكَّ ينفع الشرقيين العملُ به؛ إذ لا أظن أننا نستطيع نبْذَ الماضي كله بحذافيره، فلا بأس أن نبني كما كانت تبني أوائلنا، أن تكون حكومتنا ملكية مثلًا … فقاطعني عظمته قائلًا: نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا. فقلت: أحسنتَ يا طويل العمر، أحسنت. أصلِحوا البيتَ إذن حتى إذا قرأ كلُّ مَن تشرَّفَ المثول لديكم:
ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائمًا عن هذه الخطة العمرانية؛ إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمسُّ الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصُّب لمذهبه، يُحسِن المُداراة، فيتجاهل فيما لا يضر، ويَتساهَل فيما هو مفيد لبلاده. قد يَفُوه أحدُ العلماء أحيانًا بكلمةٍ فيها بعض ما يكنُّه من الوَجْد والأسى، فيقول مثلًا: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها. فيسمع عبد العزيز ويبتسم، ثم يسير في سبيله ليتمِّم مقاصده.
وقلَّما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء مَن يجهلون نجد الحديث؛ لذلك تضارَبتِ الآراء في كثير من الشئون التي تتعلَّق به وببلاده؛ خصوصًا في موقفه الحقيقي تجاه الوهابية وأنصارها الأولين المتعصبين؛ العلماء والإخوان. فقد بددتُ بعض الظلمات — على ما أظن — في تصويري الرجلَ للقارئ تصويرًا صادقًا حقيقيًّا، وجئت الآن أشعل مصباحًا في زوايا السياسة المذهبية التي كان يخامرني منها بعض الريب.
سألت ذات يوم أحد رجال السلطان الأذكياء أن يصدقني الخبر أو يجهر لي برأيه الخاص، فقلت: لا أنكر ولا ينكر أحد صدق عقيدة الشيوخ الدينية، فهو إمام الموحدين، ولكني حائر يا صديقي في أمره والإخوان، فهل تظنه يعتقد أن على الإمام أن يحارب المشركين في كل مكان، أن يجاهدهم حتى يدينوا؟ في نيتي أن أسأل عظمته هذا السؤال. فقال صديقي: لا تفعل، والذي أراه أن السلطان يعتقد ذلك من الواجب. لم يرضني جواب الرجل، فتطرقت ذات ليلة إلى الموضوع، ومما قلت للسلطان على ما أذكر إني في حيرة لا يزيلها سواه، وإذا سافرت من الرياض أحملها ساكتًا لا أكون راضيًا عن نفسي، وقد أسيءُ إليه فيما أكتب. فقال عظمته: اسألني كل ما تبغي وأنا أجيبك عليه، ولا أسامحك إذا سافرت من عندنا وفي نفسك حاجة نقضيها أو مسألة نجلي غامضها. فقلت: هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا في دين التوحيد؟
فأجاب على الفور: لا، لا. وضرب الأرض ضربتين بعصاه، ثم قال: هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفًا من أهل الشيعة، وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد، إلا أنَّا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم … كن مطمئن البال يا أستاذ، لسنا كما يرانا بعض الناس. فقلت: اسمحوا لي بسؤال آخر، وكان يجب أن يكون سؤالي الأول: هل ترون من الواجب الديني … وهل ترون من الواجب السياسي أن تحاربوا المشركين حتى يدينوا؟ فأجابني قائلًا: السياسة غير الدين، ولكننا أهل نجد لا نبغي شيئًا لا يحلله الدين، فإذا حلل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محللة، وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز.
في الستة أسابيع التي أقمتها في الرياض كان السلطان يزورني في منزلي كل ليلة، فنتباحث في مواضيع شتى؛ نجدية وعربية وعامة، وهو دائمًا في حديثه فصيح صريح. ليت شعري أية صراحة أبهر مما تقدَّم ومما سأذكر؟ إن السلطان عبد العزيز مثل كل رجل كبير لا يخشى أن يقال فيه: إن عمله اليوم يناقض عمله بالأمس. وإنه في السياسة غيره في الدين؛ فهو في حكمه البلدان التي امتلكها والعشائر التي تغلَّب عليها يراعي شئون أهلها الخاصة من مذهبية ومحلية، ويندر أن يؤمر فيها من هو من غير أهلها.
قبل أن أختم هذا الفصل أطلع القارئ على رأي السلطان في الموضوع الذي يشغل أفكار ملوك العرب اليوم وقلوبهم، في الموضوع الذي شغل الصحافة العربية في كل مكان، فكانت أخبارها وآراؤها فيه مزيجًا من الحقيقة الناقصة والغرض الأعمى، في الموضوع الذي شغل كذلك ساسة الإنكليز وصحافتهم، فساروا فيه على عادتهم سير صاحب المصلحة الذي يعد كل يوم أصحابه وأعداءه، ويغير كل يوم من آرائه ما توحيه الأحوال.
كانت الوحدة العربية حديثنا في جلسات عديدة، ولكن السلطان، عندما دنا يوم الرحيل، أفاض في الموضوع، فدونت خلاصة حديثه تلك الليلة وعرضتها عليه في الليلة التالية، فقرأها وأصلح خطئي فيها. وهاكها في الحالين:
(١٥) رأي السلطان عبد العزيز في الوحدة العربية
من حديث له ليلة ٣ جمادى الآخرة سنة ١٣٤١ في منزلي بالقصر:
– هو يبغي الوحدة العربية ويساعد من سعى بإخلاص في تحقيقها، فيحضر اجتماعًا يعقد لهذه الغاية، ويقبل الزعامة والبيعة ملكًا على البلاد العربية كلها لاعتقاده أنه أهل لها ويستطيع تعزيزها.
– وإذا بايع العرب غيره فهو يقبل ذلك ولا يتحول عن فكرته، بل يستمر في خدمة القضية العربية بما يستطيع.
– وإذا لم تتحقق الوحدة وكان ائتلاف أو حلف عربي بين أمراء العرب لتعزيز شئونهم معنويًّا وسياسيًّا، ولضمانة مصالحهم الاقتصادية المشتركة فهو ينضم إليه.
– وإذا لم تكن الوحدة ولا الحلف فهو على سياسته يحالف دولة تكون المصالح مشتركة بينه وبينها.
– في كل حال هو رجل في سلم بلاده، لا يبغي الاعتداء على أحد، ولكنه يأبى أن يعتدي أحد عليه.
كتبتُ خلاصة الحديث تلك الليلة كما هو أعلاه، وأطلعت السلطان عليها لأتحقق صحة الرواية. فقرأ ما كُتب فقرة فقرة، ثم أخذ القلم وضرب على الفقرة الثانية قائلًا: أسأت فهمنا فيها. نحن لا نقول كلمة ينقلها عنا الأستاذ الريحاني ولا نثبت عليها، ولكن هذا لا يكون. أشار وهو يتكلم إلى الفقرة الثانية، ثم قال: نحن نعرف أنفسنا ولا نقبل الرئاسة في غيرنا.
أيذكر القارئ ما قاله لي الملك حسين ساعة الوداع؟ — أنا لا أبغيها — أي: الزعامة — وأساعد في تحقيقها — أي: الوحدة — تابعًا كنت أو متبوعًا. أوَلا يذكر كذلك أنه رفض أن يوقع المعاهدتين مع الإمام يحيى والإدريسي؛ لأنهما لم يعترفا له بالزعامة العامة، لم يلقباه بملك العرب.
فإذا قابل القارئ بين القولين؛ قول الملك وقول السلطان، ليعجب، وإن كان شريفيًّا، بصراحة ابن سعود.
(١٦) الوشم
قد غشيني الرعب ثلاث مرات في رحلتي العربية، قد خفت كما يخاف الناس ثلاث مرات، ولا تفلسف ولا اعتذار. قبض الخوف على قلبي وحملق بي هنيهة وهنيهتين، ويومًا ويومين، فزعزع مني الإرادة والإيمان، فعرفت يومئذ عدو الإنسان الأكبر، وعرفت معنى السلامة والاطمئنان.
أول مرة خفت على حياتي عندما لحق بنا عساكر الحواشب، وأطلقوا النار ليوقفونا من أجل الفطور. وخفت ثانية على حريتي في الأقل، خفت أن أعتقل في قلعة مظلمة عندما سئلت في ماوية: أحسني أنت أم حسيني؟ وثالث مرة يئست فيها من رحمة الله عندما دهمتني الحمى في القصر بالرياض، فكنت أسيرها أيامًا ودرجة الحرارة تهمس في أذني تلك الكلمة التي فيها خاتمة كل شيء.
نعم خفت مرة في الرياض وأحسست لأول مرة في رحلتي أني في الغربة، بعيد عن بلادي وأهلي، بعيد عن أسباب الصحة والشفاء، وعن الأطباء. بيد أني في تلك المحنة كنت أتعزى بما عاضني الله من صداقة رجل نجد الأكبر سيد البلاد والمكارم، فكان يعودني كل يوم ويجيء كل مرة بشيء يخفف سَورة الحمى — هل أكلت الكنكينا يا صديقي الأستاذ؟ هذا شراب يبرد الدم. خذ منه الآن. ولكني في العقاقير كلها والمرطبات ما وجدت ما ينعشني مثل ابتسامة السلطان ومصافحته وكلماته.
قد كنت مع ذلك مكتئبًا وخائفًا على حياتي. أقول: يا حضرة النجيب، خائفًا على حياتي. وما هي — وحياتك — بشيء ثمين لولا ما سُخر له صاحبها كما يقول الأولياء: خفت الموت لا لأن الموت يخيفني — أقول ذلك اتضاعًا لا فخرًا — بل لأنه يزعجني، يقطع عليَّ عملي وأنا في مبهجة منه، يوقفني في نصف رحلتي. وكنت أسمع صوتًا فيه ارتعاش إذ كانت درجة الحرارة على حدود الأربع بعد المائة، وهي درجة يغتفر عندها الهذيان، كنت أسمع صوتًا يقول ويردد: الوشم، وادي السر، عنيزة، بريدة، الكويت … إلى الكويت. هات الخريطة يا دحيم.
وكان دحيم (مختصر عبد الرحمن) وهو السلحفاة في سيره وعمله، يروح ويجيء في قميصه البيضاء القذرة كأنه طيف الموت بعينه — أبشر يا أستاذ أبشر. ولكنني، قبل أن يجيء بالخارطة، أكون قد سافرت على ظهر الحمى إلى الكويت عشر مرات. وكان لدي خرائط كبيرة وجدتها في القصر جسَّمت في نظري المسافات وضاعفت المشقات. أما رفيقي السيد هاشم فكان قد تصلب من طول الصحبة، أو عاد إلى صلابته، فصار لا يرثي لحالي. لا أنساه حياتي وهو واقف عند النافذة والمرآة بيده يحكم وضع عقاله، ويصف لي مشقات الطريق إلى الكويت. وكان كل مرة يرى الخارطة بيدي يتناول تلك المرآة ليزين روحه، فيزينها وهو يقول: لا ماء إلا في الحفر، فيريني الحياة كلها مفازات، ويسمعني فوق ذلك: كلها مفازات. ألا فاسقني غمًّا وقل لي هو الغم.
إلى الكويت! ليس في العبارة، إذا كنت في غير قلب البلاد العربية، ما يدعو إلى الخوف والاضطراب. هب أنك في بمباي ومحجتك الكويت، فالسلامة ترافقك في مركب بخاري تعددت فيه أسباب الراحة والاطمئنان. ولو كنت في العراق وقلت: الكويت، للبَّاك كذلك البخار، فيحملك على العجلات من بغداد إلى البصرة، ويكلك هناك إلى باخرة تُريكَ، وهي تجري في شط العرب، شيئًا من الجنة على ضفتيه، وتنزلك من جون من الخليج حفرته يد الزمان، فاطمأن إليه البحر والإنسان.
ولكن تلك العبارة: إلى الكويت، وأنت في الرياض، وراءك الدهناء وأمامك الدهناء والنفود، ولست يا رجل من الدواسر أو من بني مرة، وليس لديك من السيارات والطائرات غير «البل» — الإبل — إنما هي المحنة التي تفاخرك بأخويها الشقاء والموت. ومع ذلك فالسيد هاشم كان يحبب إليَّ الأخت والأسرة جمعاء إكرامًا للشيخ أحمد آل صباح والكويت. ولعله أكثر من عشرتي وفلسفتي فاستحجر قلبه.
– الشيخ أحمد رجل زين، يا أستاذ، متعلم متأدب، سافر إلى أوروبا، وهو يتأنق بملابسه ومآكله. والكويت مدينة تنسيك الرياض. هي باريس البلاد العربية. فيها دخان، وفيها وسكي، وفيها المباح من النساء، وفيها طبيب ومستشفى. نعم فيها طبيب ومستشفى … ثم يبادر إلى المرآة فيحكم وضع عقاله ويقول: لا ماء إلا في الحفر.
– وقد أموت يا سيد هاشم قبل أن أصل إلى الكويت.
– حياة الفلاسفة طويلة يا أستاذ. وهب أنك مت، فقد شاهدت الرياض والإخوان، فيؤذن لك بالدخول إلى الجنة.
– الجنة لكم لا لي … هات الخارطة يا دحيم … وأعطني الماء. سأشرب ما يكفيني إلى الكويت.
السيد هاشم بعد أن عدل عقاله ووضع المرآة تحت السند:
– ألا تعتقد بالجنة يا أستاذ؟
– لا أعتقد بها ولا بك.
– ولكن الجنة كائنة بشهادة الكتاب الكريم والنبي!
– جنة البله كما قال الغزالي. هي لك بخشيش مني.
– أنت تمزح.
– أنا أجد.
– أتهبني حصتك فيها؟
– وهبتكها كلها.
– أوَتكتب لي حجة بذلك؟
– يا دحيم هات الورق والحبر.
فبادر إليَّ بهما السيد هاشم فكتبت ما يلي: على فرض أن الجنة موجودة فإني أهب السيد هاشم بن السيد أحمد الكويتي السني الشافعي الرفاعي حصتي فيها. ووقعت الصك ودفعته إليه، فأعاده قائلًا: بالله يا أستاذ امضه بالإنكليزية أيضًا. فقلت، وقد دونت اسمي باللغتين: أتظن أن لرضوان مستشارًا إنكليزيًّا، أو أن الإنكليز أصحاب الانتداب في الجنة؟ فقال: الله أعلم، وعاد إلى المرآة يعدل عقاله. كنت قد أدركت ما للمرآة من الأهمية في حياة صديقي، فقلت والموت يداعبني: وقد جعلتك وارث مرآتي أيضًا. فسُرَّ بالهبتين ونادى:
يا دحيم هات اقْهُوَه.
يا دحيم هات الخارطة. هذه هي الرياض، وهذا الوشم، مائة ميل، وهاك وادي السر فشقرا فعنيزة فبريدة، مائة وخمسون ميلًا، ومن بريدة إلى الحفر مائة وخمسون ميلًا.
السيد هاشم: لا ماء إلا في الحفر.
قال لي أحد الموظفين الإنكليز عندما كنا في العقير: أحسنت في سفرك من هنا، فستتعود تدريجًا على ركوب الذلول، فتصل إلى القصيم وقد تصلبت فتقوى إذ ذاك على السفر من القصيم إلى الكويت.
إنها — والحق يقال — أوعر الطرق في نجدن ومهما صحبني من مكارم عظمة السلطان عبد العزيز من أسباب الراحة والأمن وخفض العيش، فقد كانت هذه الرحلة عليَّ أشد الرحلات مشقة وتعبًا وهمًّا. خرجنا من الرياض اثني عشر راكبًا، وفينا الرفيق والحارس والخادم والطاهي والقهوجي وراعي البعارين، وهو يسوق قطيعًا من الغنم للذبح، ومعنا في الحملة الخيام، وفي مواعين المئونة حتى العسل من عسير والبسكوت من لندن.
على أنه كان معنا ضيف ثقيل خبيث، ما رآه أحد من الربع ولا علم به أمير الحملة هذلول — هذلول الذي كان يرى ما وراءه كأنه أمامه، فلا يخفى عليه شيء يختص بالحملة أو بمن جهزت من أجله — لم يرَ ذاك الضيف الثقيل ولا علم به. فقد رافقنا من الرياض رديفًا، رديفي أنا بل رفيقي الأول، شبح الحمى! وكان يشهر حربًا عليَّ من حين إلى حين ليثبت وجوده وينفي وجودي، فيحمل عليَّ بالنار فأحمل عليه بالكينا. دامت الحرب شهرًا ويزيد، أثناء الرحلة كلها، دون أن يفوز أحد منا، فكان يتبع كل وقعة هدنة وكل هدنة وقعة، ولم يكتب لنا النصر المبين إلا بعد وصولي إلى الفريكة واستنجادي بهواء لبنان.
أين نحن الآن من لبنان؟ إننا لا نزال أيها القارئ العزيز تحت سماء العارض، وفي ظلال بساتين الرياض التي تمتد جنوبًا إلى المنفوحة بلد الأعشى أحد رجال المعلقات. صعدنا قليلًا في جبل طويق، وعاصمة نجد التي هي عند سفح الجبل وراءنا والمنفوحة تحتها. ثم أطللنا، بعد سير ثلاث ساعات شمالًا، على برج مهدوم أشار إليه هذلول قائلًا: هناك نصب إبراهيم المصري مدافعه وأطلقها على الدرعية.
وبينما كان يقص علينا قصة تلك الحرب بدت بعد نصف ساعة الأطلال تحتها، وقبالتها شرقًا بشمال بساتين من النخيل والأثل اختبأت فيها القرية التي هي اليوم الدرعية الجديدة. نزلنا في شغب من وادي حنيفة الذي يفضي إلى اليمامة، وسرنا بين الدرعتين قليلًا، ثم أنخنا في عقيق السيل بين ظلَّي الأطلال والنخيل. وبعد أن أمر هذلول بنصب الخيام وإعداد العشاء أرسل إلى أمير البلدة رسولًا يطلب الحطب للنار والعلف للركائب، ثم مشى يرافقني إلى عاصمة الوهابية التي دمرتها مدافع المصريين منذ مائة سنة ونيف.
صعدنا إلى الجانب الغربي من السيل القائمة على حاشيته بقايا قصور آل سعود، فإذا نحن في أسواق مدينة كبيرة كانت تشرف شمالًا على جبل طويق، وجنوبًا على اليمامة التي هي اليوم بقعة صغيرة في مقاطعة الخرج، فمشينا بين جدران تداعت، وفي ساحات لم يبقَ من عمرانها غير الرسوم العافية، ووقفنا على جسور متهدمة بين القصور، ونزلنا في درجات مبرية إلى آبار ردمها الزمان.
كانت الدرعية منذ مائة سنة أكبر مدينة في الجزيرة. سرنا في اليوم الثاني ساعة في وادي حنيفة ونحن لا نزال في ظلال طلولها الدوارس، فلا عجب إذا كانت في أيام مجدها، في عهد عبد العزيز الأول وسعود الأكبر، قطب البلاد العربية بعد الحرمين، يؤمها العرب من كل قطر قصي للاستنجاد بأمرائها وللاتجار. من عمان ومسقط وحضرموت كانوا يجيئون إلى الدرعية، ومن العراق والكويت والبحرين، ومن اليمن وعسير والحجاز.
كانت العيينة قائمة وسط سهل فسيح، سطحه يابس جاف، غير أن تحته — ولا شك — مجاري من المياه كثيرة. فما معنى القلبان المتعددة لولا ذلك؟
كانت العيينة من مدن نجد العامرة يوم فر هاربًا منها محمد بن عبد الوهاب، ولجأ إلى الأمير سعود بن مقرن في الدرعية. بل كان هذا الوادي وادي حنيفة عامرًا في أيام الصحابة بالبلدان والقرى التي كان يتصل بعضها ببعض من الدرعية إلى العيينة. أما اليوم فقبور الصحابة فيه و«ديرة» مسيلمة، مسقط رأس الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي كلها مثل القلبان تحت الأرض واحدة في الخراب والهجران. بل قد هجر وادي حنيفة حتى الأطيار والأزهار، ولم يبقَ من الشجر غير الشوكي كالطلح والسلم، كأنها مخالب الزمان في كبد العمران أو أكاليل من الشوك للطلول الدوارس.
ومثل الطلح والسلم في الأخربة هؤلاء الإخوان في الدين. هناك ثلاثة ذاهبون إلى الرياض «ليقروا» — ليتعلموا القرآن والحديث. سلموا علينا فرددنا السلام. وراح هذلول يحدثهم ليستطلع «علومهم» (أخبارهم)، ثم سمعنا واحدًا منهم يقول: ردوا لنا سلامنا. وسمعنا هذلولًا وقد أدبر بذلوله يصيح: سلامكم رد لكم. ثم أشعل السبيل فسألته الخبر فقال وهو يضحك ويدخن: بدو جهال، سلموا علينا ثم ندموا على السلام. سألوني عنك فقلت: سوري جاء يتاجر بالبُل، فما صدقوا، وقال أحدهم: هو إنكليزي كافر. ردوا لنا سلامنا. فرددتهم وسلامهم إلى الجحيم.
فضحك العجماني بدَّاح ضحكته العريضة الفضفاضة، وراح يدرهم ويغني:
وكأنه كان يتغنى بمديح كل ذلول من ركائبنا إلا ناقة سوداء شعراء حرون، سميتها الحيزبون، كانت تأبى السير إلا غارة، فتضطر راعيها سالم القهوجي أن يتخلف عن الربع من حين إلى حين، ثم يطلق لها العنان فتجيء كأنها «جلمود صخر حطه السيل من علٍ»، وهي تهدر كالرعد والبحر الهائج معًا، والمعاميل — مواعين القهوة — المعلقة بالرحل تصفق لها استحسانًا. ولم تكد تلحق بنا حتى تسري منها إلى ركائبنا الكهرباء، فينزق كل ذلول لمباراتها، فيبادر الركب إلى الأرسنة وقد كانت على الغوارب ملقاة، وإلى الخيزران يهولون بها فوق الرقاب، وينادي هذلول بدَّاحًا، وبداح يحمِّس هذلولًا، حي هلا، حي هلا! جاب الحيزبون، شنها سالم المجنون.
أسرع من رماشتك بالعين، ورماشة العين تلهيها.
كنت في بداءة أمري بالغارات أحس أن شيئًا في صدري يذوب، فيحدث فراغًا يصعب عنده التنفس. وكنت أتصور الرحل يعلو ويهبط كأنه موجة تحتي مائجة، بيد أني بالممارسة ملكت النفس والعنان، وصرت أهوِّل بالخيزران كأني من الدواسر أو العجمان، حتى إذا ما دنت مني الحيزبون كنت أسرع الربع إلى النخوة والاعتزاز — خيَّال التوحيد أخو من طاع الله! وقرينهم في الغارات.
إن في ركوب الهجين خير الرياضات الجسدية، وهو يلذ ولا يتعب إذا بدل الراكب السير هونًا بالدرهام، والدرهام بالغارة من حين إلى حين؛ أي إذا سار يمشي الهون عشر دقائق مثلًا، ثم مثلها درهامًا، ثم بضع دقائق غارة، وكذلك في المسير كله، فلا هو يتعب ولا تتعب الذلول، بل في هذا السير المختلط صحة الراكب والمركوب وسرور الاثنين معًا. ولم يكن هذلول ليسمح بأكثر من ساعة من السير البطيء، فيقول إذ ذاك: هو والركائب، فننشأ ندرهم جميعًا.
قد يخفى على القارئ المتمدن من لا يعرف من أخبار البل — الإبل — غير «سائق الأظعان يطوي البيد طي» وغيرها في الدواوين ما في الكلمة «هووا الركائب» من الحقيقة، وما في العمل بها من الرحمة بالحيوان؛ ليعلم إذن أن سنام البعير هو من أعضائه الطرية الحساسة وإن قل عددها، وأن الكور في شكله يحوق بالسنام ولا يضغط عليه فيبدو السنام معه للهواء كأنه قبة من الشحم في إطار من خشب، فيستأنس البعير بذلك. وليعلم القارئ كذلك أن الجمل المحمل مهما ثقل حمله هو أوفر حظًّا من الذلول؛ لأن الحمل يضغط على جنبيه وظهره أكثر من ضغطه على السنام. أما الذلول فحملها الأول الكور. ثم الفرش — وسادة وسجادة وخرج وجلد غنم — فوق السنام يمنع عنه الهواء، ثم الراكب وهو على السنام يضغط عليه فيزيد بكربة صاحبته، ولا سيما إذا سار الهون فلا يتحرك إلا ترجحًا؛ أي حركة أفقية، فتزداد بالفرك الحرارة، ويمسي السنام كقطعة لحم مشوية، أما إذا درهم فتتغير الحركة، تصير عمودية، فيدخل، وأنت تنتفض في الرحل، شيء من الهواء إلى السنام فتنتعش الذلول المسكينة.
وحبذا اعتناء أهل نجد بالأشجار اعتناءهم بالإبل. مررنا في وادي حنيفة ببقعة تدعى الحيسية، فيها غاب من الطلح والسَّلم هو أول ما شاهدت في نجد، ولكن الأشجار متفرقة متكسرة، قليلة الإخضرار، ضئيلة الظل، تسطو على أصولها وجديدها الأنعام، ويفتك بفروعها فأس الحطاب. في الحيسية تحتطب الرياض، ولكن أهل العاصمة في غفلة عما يحدثه جهل الرعاة وجهل الحطابين؛ فهؤلاء يقتلون الشجرة وأولئك يجهزون عليها، ولا أحد يشكو ويلوم. ما رأيت ولا سمعت أن أحدًا اهتم لغرس الجديد من الطلح والسلم. فلا يمر والحال هذه عقدان من الزمن حتى يضطر أهل الرياض أن ينشدوا الحطب كما ينشد الرعاة في سنة الجدب الحيا (المرعى) في الأراضي القصية وقد لا يجدونه.
بعد خروجنا من الحيسية نطل على أول بلد في الوشم، ذاك القاع الكائن بين وادي حنيفة ووادي السر، الذي يمتد غربًا من سفح جبل طويق. إن الوشم مشهور بقصوره ومزارعه وتاريخه وتقاليده. هذه البَرَّة كأنها في قصرها ونخيلها واقفة عند الباب وبيدها المفتاح إلى وادي حنيفة في تلك الناحية. هي قرية لا يتجاوز عدد سكانها الخمسمائة نفس أكثرهم من عرب مطير، وفيهم مائتان من الإخوان المجاهدين.
أما ثرمدا بعدها، ثرمدا الكثيرة القلبان، فإن الماء المالح والماء القراح يجريان فيها جنبًا إلى جنب تحت النخيل. سكانها من بني تميم وأميرها العنقري الذي أضافنا وحدثنا عن العصامي والعظامي من الرجال هو من بني سعد، وهم أطيب جذوع تميم في الزمان الأول. قال لي هذا العنقري التميمي العصامي وأكد قوله: إن عندهم في ثرمدا ثلاثمائة قليب وثلاثة آلاف مجاهد. ولكن أمير شقرا الذي قرأ بعدئذ العددين في مذكراتي أسقط صفرًا واحدًا من كليهما.
– هذا الصحيح. ثلاثون جليبًا وثلاثمائة مجاهد. أولم يعلِّمك بطباع نساء ثرمدا؟ هن يكرهن الإقامة فيها. رجال ثرمدا لا يعدلون في النساء … لا يستطيعون؛ لذلك ترى نساءهم، والحبل على الغارب، في كل مكان.
لم أتمكن من الرجوع إلى ثرمدا لأسمع ما يقولون هناك عن نساء شقرا، ولكن الأمير القحطاني أكد لي أن نساء بلدهم مقصورات الطرف لا يبغين خارج السور بديلًا. ثم قال: إذا ديَّنت يا أمين نعرسك ببنت من بناتنا فتقيم عندنا وتتحقق قولنا. ونعطيك مع البنية بيتًا وذلولًا، ونعلمك الغزو وضرب السيف.
إن شقرا لأجمل بلدان الوشم وأكبرها، نخيلها مثل نسائها، داخل السور يزين البيوت ويحجبها بعضها عن بعض. عدد سكانها خمسة آلاف؛ فيهم قليل من تميم، أما الأغلبية فهي لبني زيد، وهم — كما يدعون — من قحطان، وبنو خالد من عنزى فعدنان. على أن الجميع في شقرا متآلفون متحابون، ومع أن الناس في نجد يسخرون بالقحطاني ويتهكمون عليه، فيرمونه بالبخل، فقد وجدته في شقرا مثله في اليمن عربيًّا كريمًا. لست أنسى الأمير ووكيل المال والشاعر فيها، ولا أنسى ضيافة حالت دونها ودوني الحمى. وهم على كرمهم ودماثة أخلاقهم متضعون؛ ينحرون لك، ويمدون سماطًا ملكيًّا، ثم يقولون: ما عندنا في نجد غير فاكهتين: الماء البارد في القيظ، والنار في الشتاء.
إن شقراء مشهورة كذلك بمائها، ذاك الماء الذي أدهش البدوي عندما شرب منه لأول مرة، فصاح قائلًا: اقمح يا مطر. وعندهم داخل السور ثمانون قليبًا وألف من الإخوان المجاهدين يحرثون في أيام السلم الأرض ويتعاطون التجارة. أما عمال ابن سعود فليس فيهم من لم يخرج ولو يومًا واحدًا إلى الجهاد، فأدَّى شهادة التوحيد وحمل على المشركين. وإنه ليدهشك ما يقوم به العامل الواحد من الأعمال؛ فلا دوائر هناك ولا كتاب، ولا كراسي تجلس فيها الألقاب، وتأخذ من مال الأمة بلا حساب.
كنا في شقرا ضيوف وكيل المال عبد الرحمن السبيعي، وهو رجل صغير نحيل عليل، يحمل في جيبه مفتاحًا من الخشب يفتح عشرين بابًا في داره، ويتولى الجباية في الوشم كله، إن بيت السبيعي مفتوح، وإن ناره مشبوبة على الدوام. السبيعي لحية غانمة كما يقولون هناك؛ أي إنه ذو يسر وفضل وحمية. ومع ذلك فهو لا يوكل أحدًا بعمل يستطيع أن يعمله بنفسه — نباشر أمرنا بيدنا؛ الكاتب متيسر، ولكن ما كل واحد نأمنه على الأسرار، فنصبر على المشقة ولا نشكو غير ضعف في البدن. لو كان لنا ما للبدو من الصحة والعافية. ثم طفق يشكو البدو — هم على صحتهم كسالى، خاملون، ويجب علينا مع ذلك أن نلاطفهم عندما ينيخون علينا. ونجاملهم «ونحبهم» (نقبِّلهم) بين عيونهم ونحمل لهم الأكل بيدنا، وإلا راحوا يسبوننا ويقولون: إننا كفار … البدوي إذا شاف الخير تدلى، وإذا شاف الشر تعلَّى. ثم أنشد يقول:
شكرت الحمى بعدئذٍ، وأشكرها الآن على يومين في بيت عبد الرحمن السبيعي تداويت فيهما بطيبتين: لبَنِه وحديثه.
ذكرت ما في ثرمدا وشقرا من تعدد القلبان مما يدل على غزارة الماء في الوشم، فإن مياه جبل طويق تصب غربًا بجنوب تحت هذا القاع، فتصل إلى الخرج والأفلاج، فتتكون هناك بحيرات شتى، كما تصب شرقًا بجنوب تحت الدهناء والصمان فتظهر في الأحساء. والشاهد على غزارة الماء في الوشم تعدد القلبان في القرى وخارجها في القصور. قد أشرت فيما سبق إلى القصور في نجد فأزيد القارئ علمًا بها، أو بالحري بتلك التي في البر مثل قصور الوشم. فالقصر هناك سور مربع في كل زاوية منه مفتول أو برج، وداخله بيوت للسكن وللأنعام، وقليب ومقهاية ومسجد. هو إذن جامع بين المزرعة والقلعة، فيستخدم في أيام الحرب للدفاع. وهذه القصور بعيدة بعضها عن بعض، حول كل قصر منطقة خضراء مزروعة، وبين كل منطقة وأختها قفر قاحل كالصمان.
فلو عاد تميم ووائل وقحطان اليوم إلى تاريخ أجدادهم في الأندلس — مثلًا — لعلموا بما كان لهم على الأرض من الأيادي البيض، لعلموا بما كان أولئك الأجداد يبنون من السدود والقني للري، فيساوون بين كل بقعة صالحة للزرع ويستثمرونها كلها. إني على يقين من أن الآبار الارتوازية في الوشم، وبناء السدود والقني، واستخدام الآلات البخارية للرفع والدفع تمكن أهله من زرع كل باعٍ فيه، فتزداد غلاله عشرة أضعاف. وما يصح في الوشم يصح في القصيم.
دع عنك الزراعة الآن، فها نحن في الطريق التي أكلت قديمًا نعال الشعراء، في «الديرة» التي زانها يومًا من قال: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل. لست أدري إذا كان سقط اللوى ها هنا أو في ذا الجوار، وإذا كانت حوْمَل والدخول بين ثرمدا والنفود. ولكن هذلولًا وهو شاعر يقول: إن إلى يسارنا على مسيرة نصف ساعة بلدة تدعى أثيثية هي مسقط رأس الشاعر جرير، وأن بين ثرمدا وأثيثية مراه بلد امرئ القيس.
ولكن الوشم اليوم أصيب بأدبه كما أصيب بأرضه. فيا له من مجد عفت رسومه، ومن بلد عفنت علومه، فصار حتى الدوسري يزدري ابن الوشم، والسديري يسخر بقراريشه؛ أي: حمَّاريه.
(١٧) القصيم
القصيم يعلو زهاء ألف قدم عن العارض، ويبعد مائتي ميل عن الغلو في الدين، فيتغير الهواء والنبات، وتتغير كذلك أخلاق الناس. سرنا في وادي السر إلى جانب النفود، وهي إلى يميننا قافلة من الكثب تدنو وتبعد منا، فيتقلص ظلها ويمتد، ثم يختفي معها فلا نرى منها غير الأسنمة والرءوس الذهبية. وبعد مسير عشر ساعات في وادٍ يكثر طلحه وشنانه أشرفنا على العوسجية، وعلى ما يشبه النهر شرقًا منها. فسألت هذلولا: أسراب هذا؟ فقال هذلول: هذا القاع. وسألت سالمًا فأجاب: القاع. وسألت بداحًا فقال: هو القاع بعينه.
وما هو القاع؟ في اليمن يطلقون الاسم على السهل فيقولون: قاع يريم مثلًا وقاع الحقل، فيكون القاع إما أخضر وإما أسود أو أحمر إذا لم يكن مزروعًا. بيد أن هذا القاع أبيض كالثلج ولم يتغير في قربنا منه، ولا بدا على وجهه تموج يدل على الماء. فعندما وصلنا إلى العوسجية بعد الظهر تركنا الخدم ينصبون الخيام ويعدون الطعام، وسددنا خطواتنا أنا ورفاقي إلى القاع شرقًا من القرية، فاجتزنا بستانًا من النخيل، وغيضة من الطرفاء، وأدغالًا من نبات طويل لزج يدعى الهَرْطَميل، فإذا نحن بعد ذلك في أرض سبخة موحلة، وإذا بالنهر أو القاع قيد أبواع منا. أنهر في نجد؟ أي نعم، نهر من الملح المتجمد، من فصفات السودا، عرضه نصف ميل، وطوله من الخمسة إلى السبعة أميال.
خضنا الأرض الموحلة إلى الصفحة البيضاء، فألفيناها جامدة مصقولة كالجليد، صلبة كالجلمود، ناشفة كالرمل، ولا باردة هي ولا حارة. جلست هناك وتربعت وشكرت الله على ذا المظهر الغريب العجيب في الكائنات. هو ذا نهر ماؤه جامد جاف، وهي ذي بحيرة حار جليدها. سألت رفاقي أن يجلسوا فترددوا خائفين؛ هي أول مرة جاءوا إلى القاع وخبروا حقيقته. دقوا ما تحت أرجلهم بخشب البنادق ليتحققوا صلابته، وجلسوا وهم يضحكون، ثم قال بدَّاح: والله يا هذلول، بلاد نجد عجيبة! فأجابه هذلول: وأعجب منها يا بداح نحن الذين لا نعرف ما فيها!
قطعنا صفيحة من هذا الملح، فإذا سمكها أربع أصابع ويتخلله شيء من التراب والقش. أما إذا دنوت من وسط القاع فيزداد السمك ويصفو الملح فيقل فيه التراب. على أننا لم نرَ في أسواق عنيزة وبريدة ملحًا نظيفًا. فهم يجلبونه من هذا المكان، ويبيعونه صفائح كبيرة وصغيرة كما يقطعونها.
العَوْسَجية قرية صغيرة حقيرة فقيرة؛ لأن تربتها بسبب هذا القاع جلها سبخة لا يصلح زرع أو غرس فيها، ولكن أهلها ملح الأرض. جاءنا وجيههم يدعونا للقهوة — تفضلوا نقهويكم — فقبلنا شاكرين، وكانت أول ضيافة من مثلها في القصيم. جلسنا حول الموقد على الوسائد ورب البيت يحدثنا بينا هو يعمل القهوة، ثم أشعل السبيل ودخن وقدمه لهذلول فأداره على الربع، ثم جاءنا بخبيص يدعونه عبيطًا يعملونه من التمر والسمن، استلذذته واستعدته، فضحك العوسجي الكريم وأثنى على حريتي قائلًا: كأنكم من القصيم. جاء هذا العربي الفاضل في المساء يرد الزيارة ويشرب القهوة، فازددت إعجابًا به وبكرم أخلاقه؛ إذ قدم للربع شيئًا من التبغ واعتذر قائلًا: لولا قلَّته — والله — زودناكم منه.
قد تصغر عنيزة دون أهلها، وهم زهاء ثلاثين ألفًا؛ لأن النفود تقيدها فلا تستطيع التبسط والامتداد؛ فهي لذلك مزدحمة بالسكان، وأكثر أسواقها كالسراديب؛ لأنهم يبنون فوقها الجسور، وفوق الجسور البيوت، ولكن هناك سوقًا للتجارة كبيرة منيرة تدهشك بما فيها من الأشكال والألوان، فتذكرك بأميركا وبلاد الإنكليز، وتنقلك إلى الهند واليابان، وتسمعك اللغات الإنكليزية والفرنسية والهندوستانية، ولهجات من العربية متعددة.
«تفضل نقهويك.» هي دعوة شبيهة بدعوة الإنكليز للشاي. وفي الضيافتين شيء غير القهوة وغير الشاي جميل، فيهما ميل إلى الحديث والتعارف، ورغبة في الألفة والوداد. على أن ضيافة العربي العنيزي تمتاز عن ضيافة الإنكليزي في أن رب البيت يخدمك بنفسه من حين الاستقبال إلى حين الوداع. وما أجمل ذاك الكرم وتلك الوداعة! ولا سيما أن الفضيلتين نشأتا في عزة نفس لا تحتاج إلى الأبهة لتؤيدها.
إن قاعة الاستقبال عندهم تدعى القهوة، وهي عادة طويلة فسيحة عالٍ سقفها، وقد سقِّف بخشب الأثل، قائم على أعمدة من الحجر مطلية بالجص، لها نوافذ مزدوجة، النافذة فوق الأخرى، العالية للدخان يخرج منها والواطئة للهواء، وعلى جدرانها رسوم هندسية نقشت بالجص فوق أرضية من الطين، فتبدو في لونيها الأبيض والحنطي كأنها خرج فرنسي على قميص عربية. وفي الصدر مجوف مستطيل لا يزيد إذا كبر على الثلاثة الأذرع، هو الموقد يجلس عنده رب البيت، ويجلس إلى جنبه ابنه أو أخوه أو أحد من أهله، فينشئ الواحد يعمل القهوة، والآخر يدق البن في جرن حجر كبير شبيه بجرن الكبة في لبنان، إلا أن قطر ثقبه لا يزيد كثيرًا عن قطر الهاون. وعند رأس الموقد خزانتان؛ واحدة للحطب والأخرى للمواعين، هما قيد يد الجالس هناك، فلا يضطر أن يقف ليتناول شيئًا منهما. وأهم من كل ما ذكر الأباريق، وهي محور الدعوة وركن الضيافة المادي، أباريق النحاس الوهاجة كأنها وصلت تلك الساعة من المعمل في دمشق، وقد صفت أمام المضيف صفًّا متناسقًا من الأول الصغير الذي يكفي ضيفين إلى العاشر الذي يسقي مائة ضيف ويزيد. هذه هي القهوة عندهم، وهي في شكلها ورسومها ولون جدرانها، وسقفها العالي، ونورها اللطيف الذي قلما يمازجه نور الشمس، تعيد إلى ذهنك صورة معبد من معابد الأقدمين، فتحدثك بجلال العتق والقدم.
قال هنري دَوْطي في كلامه عند عبد الله البسام: «وكان لجرنه صوت شجي كأنه جرس الضيافة يدعو الناس للقهوة.» إلا أنهم لا يقفون في الضيافة عندها، فهم يقدمون بعدها، في كئوس من الزجاج، شيئًا من الشاي، جزآه الأكبران الحليب والسكر. في بعض الأقطار العربية يسمى هذا الشاي: القهوة الحلوة، ويقدم للضيف دائمًا بعد القهوة المرة. وهم في الضيافة لا يسرعون ولا يلحون، اللهم إذا كانت الدعوة للقهوة فقط، أما إذا دعيت للغداء أو العشاء فبعد الأكل الآية: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا. ولا استثناء؛ لذلك كنت أفضل الدعوات للقهوة رغبة في الحديث، وما أكثر الفوائد والدهشات فيه.
هذا سيدي عبد العزيز بن عبد الله آل سليم، وقد أضافنا مرات بين الصلاتين وبعدها أصيلًا ومساءً، لا ليسمعنا حديثه، وما أحلاه، بل ليسمع حديثنا. وكنت من باب حب الذات والاستفادة أباريه في السؤالات، فننتقل من الجغرافية إلى الزراعة، ومن «أُمريكة» — كما كان يلفظها — إلى بلاد طي، ومن الأطباء إلى الشعراء. كان يكثر — عافاه الله! — من ذكر الأطباء؛ خصوصًا «طبيب السنون»، ويشكو خلو عنيزة منهم — قيل لنا يا أفندي: إن أمهر أطباء الأسنان هم في أمريكة. أصحيح هذا؟ قد نسافر إلى أُمريكة فنشاهد بناياتها العالية ونصلح أسناننا.
والأمير عبد الله مثل عمه عبد العزيز مزارع كبير يشتغل ساعات الفراغ في بساتينه، غير أنه مثل كل عربي لا يزال، على شغفه بالزراعة، أسير تقاليدها القديمة. سألنا عن الآلات البخارية لرفع المياه والري، ثم قال: سمعنا أن السلطان عبد العزيز يبغي استخدامها في الحسا، فمتى فعل نتبعه إن شاء الله. الناس على دين ملوكهم، وعلى طريقتهم في الزراعة أيضًا.
وهذا عبد الله بن محمد آل بسام يثبت ما أقول؛ فهو على علمه وأدبه وروحه العصرية في كثير من أمور الحياة، لا يتقدم طويل العمر في الرياض. لعبد الله أرض خارج المدينة حفر فيها قليبًا عمقه ثمانون قدمًا، وعرضه خمسة وعشرون بعشرين، يشتغل في رفع المياه منه عشرة جمال، وهو مطوي بالحجارة محكم البناء، كلَّفه أربعمائة ليرة إنكليزية، ويكلِّفه رفع المياه يوميًّا ليرة واحدة في الأقل. أما ثمن الآلة البخارية فلا يزيد على نصف كلف القليب، وثمن البترول أقل من أجرة الجمال. وعبد الله البسام الذي ساح في مصر والعراق والهند يدرك ما في الاستعاضة بالبخار من الاقتصاد والتوفير والسرعة في العمل، ولكنه عربي، والعرب في الزراعة على طريقة ملوكهم وأجدادهم.
أما في التساهل الديني، فبين أهل عنيزة اليوم وأجدادهم بون شاسع: ليس في عنيزة اليوم من يضرب بالعصا من لا يصلي، فيسوق إلى المسجد كالأنعام من لا يلبون دعوة المؤذن. وليس في القصيم كله من أولئك الوهابيين، أمثال الإخوان اليوم، الذين اضطهدوا «النصراني الكافر» هنري دَوْطي وطردوه من البلدة. لم يجد الرحالة الإنكليزي يومئذ غير بضعة رجال والوه، وأضافوه، وساعدوه في محنته؛ أهمهم ثلاثة، هم: أمير عنيزة يومئذ، وعبد الله القنيني، وعبد الله البسام. وقد ذكرهم دَوْطي في كتابه بالخير؛ نعتهم بالفلاسفة وأثنى عليهم ثناءً طيبًا.
حدثني صديقه عبد الله قال: كنت شابًّا يوم جاء «خليل» إلى عنيزة، وكان القنيني أكبر أصدقائه ومساعديه، فأغضب سكان المدينة فسبوه وتجنبوه. قالوا: إنه كافر مثل الإنكليزي. وها قد مر خمس وأربعون سنة وأنا أشاهد التطور عندنا. نعم الفرق كبير؛ ثلاثة يومئذ والوا الغريب علنًا وأكرموه، ثلاثة فقط، أما اليوم فلو عاد «خليل» إلينا لما وجد ثلاثة يسيئون إليه فعلًا أو قولًا. أهل عنيزة اليوم يغضبون لأقل إساءة تلحق بالغريب في بلدهم.
بين عنيزة وبريدة الوادي، وادي الرُّمة، والنفود، ولكن بين سكان المدينتين فرقًا يكاد يكون أبعد من الفرق بين البدو والحضر. إنما بريدة مدينة تجارية وليس لأهلها وقت لغير الاتجار والصلاة، هي محط رحال البدو من مطير وهتيم وعتيبة وحرب وغيرهم، يجيئونها للبيع والشراء، هي بدوية مادية لا تهتم للأدب ولا تسرف في تليد العقل والفؤاد، فلا تكرم الغريب ولا تسيء إليه. على أنه قلما يُسمع فيها تلك الكلمة الطيبة، تفضل نقهويك، التي هي صلة التعارف والولاء؛ لذلك تسمى عنيزة باريس، مع أن بريدة أوفر حظًّا منها في النزول على النفود. إن الرمال تفسح لها ولا تناوئها. فلو كانت المدن في انبساطها وانقباضها تؤثر في الأخلاق لكانت بريدة في الضيافة، في بسط يدها وقلبها إلى الغريب، المدينة الأولى في القصيم.
وهي لا تبعد عن عنيزة أكثر من عشرين ميلًا. مسير النفود بينهما ساعتين، فنشرف ونحن في آخر ضعسٍ منها على الخبوب التي تطوق بريدة كالقلادة — قلادة من الزمرد في خيط من الذهب لبدوية القصيم. إن الأرض لتتضع أمامها فتخضع لها، وتقف بعيدة عنها مبسوطة اليدين. لا كثب حول بريدة قريبة، ولا واحات عاليات الجبين — حولها الخبوب. والخب منخفض من الأرض فيه ماء وأثل ونخيل ومضارب وأكواخ. الخبوب خنادق احتلتها قوى السلام؛ أي المياه والأيدي الزارعة.
أقمنا في بريدة أسبوعًا نجدد ما وهن من القوى وما نفد من الزاد، فقد اجتزنا في رحلتنا قسمًا من بلاد نجد تعددت فيه القرى والمدن وطابت المياه، وبقي أمامنا القسم الأكبر والأوعر ثلاثمائة ميل بين بريدة والكويت، لا مدن فيها ولا قرى، ولا ماء إلا في نصف الطريق. وهناك النفود الكبرى، والدهناء، ووادي الرمة، والدبدبة، كلها أقفار يضيع فيها حتى أبناء القفار.
نزلنا في القصر الذي أسسه ابن مهنَّا وبنى جناحًا منه ابن الرشيد وآخر ابن سعود. هو قصر كبير ذو أبراج متعددة، وأفنية رحبة، وقلاع للدفاع الواحدة دون الأخرى. وفيه بيوت للضيافة وماء ومسجد، وليس فيه في هذه الأيام، في عهد السلطان عبد العزيز العادل، غير حامية صغيرة لا يتجاوز عددها المائة جندي.
– سرق البعير يا لامير. ابْدوي لص! والله عاينته بعيني. ابْدوي قواد!
فيسكت الأمير قائلًا: اقصر، الله يعافيك! فإن لم يسكت يعيد الكلمة ولا يغير صوته أو لهجته، بل يضرب الأرض بعصاه مثل السلطان عبد العزيز ويقول: اقصر الله يعافيك! ما أجملها كلمة تسكت بها الصيَّاح الشتَّام! ولكنها قلما تفيد إذا لم يكن عند صاحبها شيء من تلك القوة المعنوية الروحية التي تجعل كلماته الناعمة أشد وقعًا على البدو من السيف.
(١٨) الدهناء
ما احتجنا إلى دليل في الطريق من الرياض إلى بريدة مع أننا عبرنا ثلاثة أبحر من النفود، ولكنها بحيرات رمل إذا قسمناها بالعروض التي لا يجتازها حتى العرب بدون دليل خبير. وإذا كان هذا الدليل زكرتًا، فله بعد أمير الحملة المقام الأول، ولا يمشي إلا ومعه أركان حربه. نفعنا الله بهم وبه، فقد أصحبنا سويلم بن سويلم برجل من مطير ساح في الأمصار، ورافق الكبار والصغار، وحارب مع الترك في الحرب العظمى، ثم مع الشريف، ثم مع ابن سعود. رجل وهيب له صوت يرجف حتى البدو، وخطوة كانت تذكرني ببيت المتنبي:
كان يضحكني المطيري، وشر البلية ما يضحك، عندما ننيخ للمراح، فيقف إذ ذاك جانبًا وقد التف بعباءته، وطرح أحد طرفيها على كتفه، كأنه يمثل على المسرح دور أمير خطير، ثم يصدر أوامره:
– يا مبارك ساعد مسفر في الذبيحة. يا جعيثن هات الأوتاد. رح يا جمود ارعى الركايب. وأنت يا حمد ساعد في نصب الخيمة. القرب يا بداح. الحطب يا إبراهيم …
وكنت أرى هذلولًا — بارك الله فيه — يشتغل وسالم في رفع الشراع، ويساعد الجميع دون أن يصدر أمرًا واحدًا. بذا يمتاز الرجال بعضهم عن بعض، وبذا يفلح العاملون، ويفشل، بالرغم عن الخبر والاقتدار، أولو العجب والادعاء.
كانت طريقنا من العارض إلى القصيم شمالًا بغرب، فاستقبلنا الشمس في بريدة وسرنا منها مشرقين إلى الكويت. ولا ماء إلا في الحفر. ما أدركت خطر الطريق ووعورة المسلك إلا بعد التأهب في بريدة؛ إذ خرجت القافلة منها وقد ازدادت رجالًا وركائب. فضلًا عن اهتمام ابن السويلم، وقد رافقنا إلى خارج السور فأوصى الدليل وألحَّ على الأمير بإرسال كلمة اطمئنان بعد أن نجتاز الدهناء.
ما أجمل ذهب النفود في الشروق وفي الغروب! بل ما أجمل أرجوانه إذا مال الظل وتعرَّج في الأصيل! وما أبهج ليل النفود وقد افترشت رملًا ناعمًا كالحرير! وآخيت نجمًا دانيًا في نوره منك، كأنه يهمس في أذنك كلمات السكينة والحب والسلام. وما أروع أشكال الرمال وقد كونت أهرامًا وقبابًا، وفيها أمثلة الصراط وقد شحذتها الرياح فأمست كحد السيف!
ما أجمل …! ولكن … كانت ذلولي من العارض إلى القصيم سهلة المراس، لطيفة المزاج، قصيرة الخطى، خفيفة الترجح، فيرتاح فوق سنامها من لم يألف ركوب الجمال. ولكنها انقلبت عليَّ قبل أن تصل إلى بريدة، فشرس خلقها، وثقلت خطواتها، أو أنها كانت خبيرة بطريق الكويت ففضلت الرجوع إلى الرياض.
ولكن الحمى والنفود … لا أظن أن الاثنين يجتمعان لكثير من الناس حتى في الجزيرة العربية. ومتى جاءت الحمى في الدرجة الرابعة من الخطر، وكانت النفودُ العروضَ، وكانت الذلول عمانية جموحًا، فماذا ينفع الرسن باليد أو على الغارب، وماذا ينفع الخيزران. إن أصعب السير على الركب والركائب هو السير في العروض، ولا أثر البتة لطريق فيها، ولا مهرب من أمواج رمالها. تصعد الذلول في الدعص إلى رأسه وهي تربخ فتغوص حتى الرسغ، فتجيء الخطوة الواحدة وفيها قد بذل جهد عشر خطوات، فتئن حتى الرحال من شدة الحال. أما في النزول، فتنتقم من الدعص الذلول فتروع هاوية غاوية، وهي تغوص في الرمل حتى الركاب، فتجيء الخطوة مقدار خمس خطوات، وفي كل منها للراكب خمس نكبات. زد على ذلك أن الدليل المطيري كان يعبر المنحدر في خط مستقيم دائمًا، فلا يهمه الرفيق المحموم، فتتبعه الركائب غائرة متدهورة إذا لم يكبح جماحها. وكيف يقوى على كبح جماح ذلوله من كبحت جماحه الحمى؟
لم تنفعني قوة الإرادة في تلك الأيام، ولا ما كنت أتدرع به من الكينا صباح مساء، فقد رميت بنفسي على الرمل مرتين في العروض وأنا أنتفض من البرد، فأنتظر مجيء الحمى، التي كانت تتبع البرد، لنستأنف السير. نعم، لنستأنف السير. فهل نقف لنجامل الحمى ورفيقنا الأكبر شبح الموت؟
ليس فيما أكتب الآن شيء من تأثير تلك الأيام، إنما الحقيقة كل الحقيقة فيما أقول، الماء معنا لا يكفي إلا أيامًا معدودة، فإذا أنخنا كل مرة شرفتنا الحمى لنجاملها حتى تزول، ينفد ماؤنا قبل أن نجتاز نصف الطريق. ولا ماء إلا في الحفر! اركب يا رجل وتوكل على الله. لا أظنني توكلت في تلك المحنة الفريدة على غير الله، بل كنت أحس — أستغفرك ربي! — أنك، وإن كانت الحمى رديفي، راكب أمامي قابض على زمام الذلول وزمامي.
وما كان أبعده في أيام النفود، في ذاك البحر الرملي الذي تعالت أمواجه جبالًا وهبطت جباله أمواجًا، فضاق في اجتيازه حتى صدر الدليل المطيري. ما كنت أظن ونحن نخوض عبابه أن له نهاية تنتهي عندها الشدة والعذاب. ولكن الدليل عندما أطللنا على الأفق الأعلى، فاه بكلمة كانت منه الكلمة الوحيدة التي أبهجتني: هناك ظهر العروض ومنه نعاين الدهناء.
ظهر العروض، آخر ضلع من ضلوع الأسياح، آخر دعص من النفود، آخر درجة من سلم التعذيب … شكرنا الله ثم شكرنا الله. وعندما أطللنا على الدهناء تنفس الربع كلهم الصعداء، وأمر هذلول بالتكبير: كبر يا بدَّاح. فراح بداح يدرهم ويصيح: الله أكبر! الله أكبر! وكانت ساعة الغروب فأنخنا فوق السهل الذي يمتد بين العروض والدهناء. وكنا قد عثرنا في ذاك النهار على أثر من طريق قديمة هي سكة زبيدة؛ أي الطريق التي أمرت بفتحها وتعبيدها للحجاج زبيدة امرأة هارون الرشيد، فتيمنَّا بها وكانت فاتحة الخير إلى يومين.
أكرم الله مثواك يا ستي زبيدة وجعلك من المقربين — إذا كان لم يفعل حتى الآن. ويا ليت في المسلمين اليوم أختًا لك صغيرة تجدد في الأقل الطريق التي شرفتْ باسمك. فالبرك العديدة التي بنيت في الصحراء في سبيل البر والتقوى؛ لتروي الإنسان والحيوان أن يرجع إليك فضل بنائها.
إن أبهج ما يشاهد الإنسان في الصحراء بقعة أرض خضراء، ولكن الحيوان، ذا السنام كان أو ذا القرون، يشارك الإنسان في ذا الابتهاج. وقد تبارينا كلنا حول البريتسة التي يدوم اخضرارها طيلة السنة. إن إحسانك يا ستي زبيدة خالد البركات ولو في زاوية من القفر، خالد هو ما دامت الأرض خالدة. أنخنا الركائب لترعى في ظلال إحسانك، وكنت أنا الحيوان الناطق المفكر أول من فاه باسمك شكرًا وإعجابًا، فلقد لقيتُ في ذلك المرعى كما لقيتْ ذلولي ما ألفته العين والمعدة.
جاءني مبارك، وهو نباتي الحملة، ببضع وريقات خضر يقول: هذا الحنبصيص. هي عشبة صغيرة فيها حموضة يأكلها أهل نجد ويجعلونها في الأقط. وكنت قد سئمت اللحم؛ لأنه في الثلاثة الأشهر التي مضت كان يصبحني ويمسيني كل يوم دون سواه، فجعلني أحن إلى ورقة خضراء حنين البعير إلى العرفج والأرطى. ثم جاءني مبارك — بارك الله فيه! — بعشبة أخرى سال لمرآها اللعاب، وهاج في القلب ذكر الوطن والأحباب. فيا ما أحيلاها نبتة تزرع في لبنان حول البيوت، وتسيج من غزوات الدجاج بالشوك! الرشاد! جاءني مبارك بالرشاد. وهو في بادية نجد نفسه في لبنان، لا يتغير اسمًا ولا طعمًا.
تبعتُ مبارك إلى مواطن المرعى الطيبة، ورحت أرعى فيها كالبعير، بل رحت أدبُّ على الأربع مثل نبوكد نصر، آكل الحشيش، وأشكر الله ثم الست زبيدة، فانتعشتْ وابتهجت حواسي كلها، فصرت أظن أن الرشاد والحنبصيص فعلا بالحمى ما عجزت دونه الكينا. على أنني، في رجوعي إلى الأصل ولو ساعة، أصلحت ليومين ما أفسده الوقوف على الاثنتين.
وهاكم الدهناء تبسط لنا النمارق البيضاء وترحب بنا، فينبغي للقارئ أن يعرف بعض الشيء عنها قبل أن نصل إليها. تختلف الدهناء عن النفود بأشياء: بطولها وهي تمتد من الشمال الغربي، فتنساب كالحية أو تتعرج كالنهر شرقًا بجنوب حتى تصل إلى الربع الخالي؛ بلون رمالها وهو أبيض إلا في أطرافها؛ بقلة كثبها وتجوفاتها فلا يتجاوز أعلى كثيب فيها المائة قدمًا؛ بتنوع أعشابها وغزارة المرعى فيها. زد على ذلك أنها قليلة العرض جدًّا بالنسبة إلى طولها، والعرب لا يقطعونها إلا في الأماكن التي هي أقل عرضًا من سواها؛ لذلك هي أسهل سيرًا وأينس مشهدًا من النفود.
أما في لبسه فهو آية في البلاغة والإبداع، لا يعرف أنجدي هو أم حجازي، أيماني أم عراقي. بل لم يكن عربيًا في غير الغطرة والعقال. أضف إلى ذلك حذاء مرقعًا تخض رجله فيه، وسروالًا كان أبيض، لا نظنه غُسل في عهده أو في عهد أبيه، فوقه معطف كذلك من الخام، مفصل مثل الفراك التركي، وفوق المعطف زنار تلمع فيه الخناجر والسياخ، إلا أنه عندما يركب على بعيره الأسود، فوق أحماله، يبدو ككيس من الأكياس.
هاك الرجل في ظاهره، أما في باطنه فسبحان رب الكائنات، النافخ من روحه حتى في عجائب مخلوقاته. إن في ذاك الوجه العفن مبسمًا ولا مبسم الحسان في جاذبه، مبسمًا يوقفك ويغريك، ويضحكك ويلهيك، مبسمًا ينسيك الفم منه والأنف والجبين، بل ينسيك الرباح، وضلوع الأسياخ.
أي بالله! ما كان في رجالنا، وقلما تجد في الرجال، من هو أخف روحًا، وأدمث خلقًا وألطف ذوقًا، وأرق شعورًا، وأسرع إلى الخدمة يدًا من هذا الدميم الكريم. فقل: تبارك رب العالمين الرحمن الرحيم، فهو إذا مسخ الإنسان قردًا يهبه من الجمال الروحي والخلقي ما يندر في يوسف الحسن وزين العابدين.
إن للمعطف الذي كان يلبسه مسفر جيوبًا هي دكان بما حوت. أتبغي خيطًا وإبرة وزرًا؟ أتبغي ملحًا أو بهارًا أو شيئًا من مسحوق الليمون الحامض؟ أتبغي رقعة تمسح بها فنجانًا أو تضمد بها جرحًا؟ أتبغي قلمًا وورقًا للكتابة؟ أتبغي مسواكًا من الأراك أو شيئًا من الكحل؟ سمعًا وطاعة. لم يدهشني عندما رأيته أول مرة يكتحل؛ لأن أكثر رجال العرب يكتحلون وقاية للعيون. ولكنه أدهشني ذات يوم إذ كنا حول النار نشرب القهوة، فتناول مسفر حجرًا وضع عليه بضع جمرات، ثم مد يده إلى كيس في «دكانه» فأخرج علبة صغيرة، ففتحها وأخذ منها بأطراف أنامله، ورشه على النار. البخور، عود الند، الطيب؟ هو وحده كان يحمل هذه النفيسة من نفائس الحياة ونوافلها، فيطيبنا دائمًا بعد الطعام.
على أني دهشت الدهشة الكبرى ولم أتمالك أن ضحكت عندما أشار بالسبابة إلى رأسه كأنه يقول: مسفر لا ينسى شيئًا. ثم أخرج من عبه مرآة صغيرة قدمها لي لأرى وجهي وأزين — احكم وضع — عقالي قبل الرحيل. هو ذا حقًّا أقبح خلق الله صورة وأجملهم نفسًا وذوقًا. ولا أظن أنه كان يحرص على شيء في كل ما يحمله حرصه على المرآة، فكان يتسلى بها وهو راكب فيتأمل طويلًا ذاك الوجه الذي وصفت.
ما السر في ذلك؟ هل يرى في وجهه ما يراه الناس أم ما يراه الله وقد تساوت في نظره المخلوقات جمعاء؟ أو هل الرباح، ذاك المخلوق الأولي فيه، وقد أعجب بهذا الشيء الذي يعكس وجهه فكان مسحورًا! ما قول سادتنا العلماء، علماء الجسد والروح؟ أفلا يأخذهم العجب من الرجل الدميم، الدميم إلى حد يضحك ويبكي معًا، الذي يحمل السكاكين والخناجر ولا يضع واحدة منها في قلبه عندما يرى وجهه في المرآة؟ ولكنه على ما أظن حب الذات يقينا ويقيه شر النفس إذا ما رأت العين منكرات التكوين الظاهرة. أجل، لولا حب الذات، ذاك الغرس المبارك الذي غرسه الله في كل حيوان صامت وناطق، لكان الانتحار بسبب التشويه الخلقي وحده أكثر شيوعًا من لعب القمار.
عندما كنا في شقرا رحنا ذات ليلة نتفقد مسفرًا و«خوياه» في منزلهم، فسمعنا ونحن داخلون إلى البيت صوتًا شجيًّا ينشد نشيد الإخوان، فأطللنا من الشباك، فإذا مسفر داخل والسيف بيده يصحب «الهوسة» برقصة رائعة. سألناه بعدئذ مرارًا أن يرقص ويغني فأبى واعتذر. وعندما خرجنا من بريدة كنا نعيد سؤالنا كل يوم فيتذرع بالشغل أو بالتقاليد التي تحرِّم الغناء في نجد، على أنه وعدنا برقصة الإخوان عندما نصل إلى الدهناء … وها قد اجتزنا الدهناء والحمد لله، وكان الحبور رفيقنا طيلة النهار. فهلا استهويته يا مسفر بصوتك وسيفك، فيظل معنا ليحل محل القمر في ذا السمر؟
كنا حلقة حول النار أمام الشراع، وكانت الركائب باركة في حلقة أخرى حولنا تجتر قانعة مطمئنة، وكانت السماء سافرة صافية الجبين فتلألأت كواكبها سرورًا لتغيِّب سيدها القمر، فزاد الكلام كذلك في نور نهارنا — الحطب يا إبراهيم. وكان إبراهيم معاون مسفر الأول في النفخ والطبخ جالسًا عند ركمة من حطب العرفج والأرطى، فيمد يده وراءه ثم يبسطها فوق النار، فتقهقه طربًا وتزداد تأججًا. وكان حمد العبد وهو يقلب في حضنه مقلاة البن، وهذلول الذي اتخذ صحنًا من النحاس دفًّا، وبداح وقد صفق كفًّا على كف، ينادون مسفرًا ويحرضونه — قم يا مسفر. أسفر يا مسَيفر. وكان كوكب السمر قد دخل الخيمة فخرج منها والسيف يلمع بيمينه والخنجر بيسراه. فوثب وثبة ثم أخرى إلى وسط الحلقة، وطفق ينشد نشيد أهل العوجا؛ أي أهل الرياض، وهو ينتقل نقلة خفيفة بطيئة، ويتلوى من وسطه إلى اليمين وإلى اليسار كالثعبان:
كان يقف عند كل بيت، بينا حمد وهذلول يردان عليه بالنحاس، وهو يهز السيف والخنجر هزة بطيئة خفيفة، فيها ربض الهول كأنه يتأهب للوثوب. ثم عند البيت الأخير يثب فوق النار وهو يصيح: لي لي لي لي لي لي لي! فيجيب الربع: حي على! حي على! وحمد وهذلول يدقان على النحاس:
وما هذا كله إلا التمهيد لهوسة الإخوان: هبت هبوب الجنة أين أنت يا باغيها. غيَّر مسفر نقلة رجله زنة وسرعة، ورمى السيف والخنجر في الهواء، فتناول الأول باليسرى والثاني باليمين — حطب يا إبراهيم. كف يا إخوان.
لعب الهوس بالرجال، ووثب الهول من النصال — هبت هبوب الجنة! فتغير الوزن من السريع الخفيف إلى الأخف والأسرع حتى أمسى كرقص الدراويش. فأغمد مسفر إذ ذاك الخنجر ونزع الغطرة والعقال عن رأسه، فرمى بهما في النار، فصاح الجميع: أين أنت يا باغيها!
ثم اعتزوا مرددين: أهل التوحيد، أهل التوحيد! حتى خمدت النار، وقد ذهل إبراهيم في هوسه عن وظيفته، فكان الختام الدخان والظلام.
حطب يا إبراهيم. وكان الفصل الثاني فصل حكايات، فقص هذلول خبر وقعة كانت له مع الجن في وادي الدواسر، فقتل منهم اثنين وجرح كثيرين. وقص مداح قصة غرام هو بطلها، وهو الفاسق الأكبر بشهادة نفسه، فأخبرنا كيف أخبأته الحبيبة في الصندوق عندما عاد زوجها إلى البيت وكان قد خامره منها الريب فسبها، فسبته، فطلقها، فشكرت الله ونادت الخادم حالًا ليحمل صندوقها، وهي تبغي العزوبة — «فحمله وأنا فيه، والله بالله، وهي وراءنا تضحك.» — وبعد ذلك يا بداح؟ — لا تسل يا هذلول.
وحدثنا حمود قال: كنت حاملًا كتابًا من الشيوخ إلى أمير عنيزة فنوخت في شعيب بوادي حنيفة لأتعشى. كنت وحدي وكانت الليلة مظلمة. عقلت الذلول، وجمعت الحطب، وشببت النار، فسمعت في الحال صوت امرأة تولول وتصيح: احجب علينا حجب الله عليك! فتلفت فعاينت تحت الشجرة وجهًا كالشمس، وحياة الله، وشعرها طويل وأسود كالليل. ظهر الوجه في النور لمحة بصر واختفى، فعدت إلى النار أشبها، فعادت تصيح: لا تشب النار، الله يجيرك من النار! احجب علينا، استرنا. هي عروس الجن، وقد كانت لطيفة كريمة، فدنت من حمود وقبَّلته وهي ترجوه أن يسير في سبيله ويتركها وشأنها في ظلمات الليل. فاستجاب حمود طلبتها وأسرى تلك الليلة كلها وهو يشكو من حرق في وجهه — والله بالله يا أستاذ حبتني (قبلتني) هنا، وكان فمها كالجمرة. وحياة الله أقول الصدق.
ثم حدثنا مسفر فقص خبر غزوة من الغزوات التي كان فيها وختمها قائلًا: والله ذبحت أربعة عشر منهم ابن طوالة حي موجود. فضحك الربع، وكانت ضحكة بداح طويلة مستنكرة وقرت في نفس مسفر، فصاح وقد استل سكينًا من سكاكينه: اسكت أو أذبحك بالله. فقال بداح وهو لا يزال يضحك: مثلما ذبحت ابن طوالة. فوثب مسفر فوق النار يبغي دم العجماني، فصده هذلول وسكن روعه، ثم أمر بداحًا أن يقدم له بيده فنجان القهوة.
جاء دور راعي المعاميل القهوجي سالم، سالم الرزين السكوت، وليد حايل وربيب الأمصار، سالم الطواف الذي طاف في الحرب العظمى البلاد العربية كلها من أقصى الأقطار إلى أقصاها، من اليمن إلى شرق الأردن ومن البصرة إلى الشام.
– هات حكايتك يا سالم.
– والله يا أستاذ ما عندي حكايات. عندي كمبيالة على الملك حسين بمائة وخمسين ليرة إنكليزية أبيعك إياها بعشر روبيات.
– وكيف تقول ما عندك حكايات؟ هات حكاية الكمبيالة. فأخبرنا سالم أنه كان جمالًا في جيش الأمير عبد الله يحمل الماء عندما زحف بعد الهدنة من المدينة على تربة. وعندما وصلوا إليها ودخلها الأمير صباح ذاك اليوم منتصرًا، سأل سالم سموه أن يأمر بالإجازة والحساب؛ لأنه يبغي الرجوع إلى بيته وعياله، فأعطاه الأمير حوالة على جلالة الملك أبيه بحسابه؛ أي بمائة وخمسين ليرة، فأخذ الحوالة سالم وراح ينحر الطائف ليزور صاحبًا له فيها، فاعترضه بداح يصلح الكلمة فأنثها: هي صويحبة يا أستاذ. أنا أعرفها. لم يأبه له سالم فاستمر في قصته. أقام بضعة أيام في الطائف ثم نزل إلى مكة، وكان أن الإخوان انتصروا على الأمير ليلة يوم النصر، وأفنوا جيشه كما هو معلوم، وحمل النجاب خبر النكبة إلى جلالة الملك. فلما وصل سالم يحمل الحوالة قال له صاحب الجلالة: الله يعوض عليك وعلينا يا ابني، خسرنا كل شيء!
انتصف الليل ونحن لا نزال في فصل الحكايات، والإبل حولنا لا تزال تجتر قانعة مطمئنة، وسالم يعمل القهوة ثم الشاي، الإبريق تلو الإبريق، فأرقنا وما مللنا، ولا كنا من القانتين. ثم نهضنا باكرًا قبل الفجر الكاذب، وكنت أول من سمع هذلولًا ينادي على عادته. قوموا … قوموا صلوا. بداح، سالم، حمود، مبارك، جعيثن، قوموا، قوموا صلوا … أذِّن يا مسفر.
– الله أكبر. الله أكبر … حيوا على الصلاة … الصلاة خير من النوم.
ثم تقهونا وسرنا في سحر برده شديد يخرق العظم، فأنخنا بعد ساعة لنشب النار وندفئ أرجلنا، وكنت أنا في جزمتي أسرع منهم، وهم في النعال شبه حفاة إلى ذلك. لا أظن في البلاد العربية من قوم أصبر على الشدة وأثبت في المشقات من أهل نجد.
- أولًا: أن الله خلقنا ورزقنا وهدانا برسول أرسله إلينا، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. واستدل على ذلك بقوله تعالى — وذكر الآية.
- ثانيًا: أن الله لا يرضى أن نشرك معه في عبادته أحدًا؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. والدليل قوله تعالى — ذكر الآية.
- ثالثًا: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حادَّ الله ورسوله. وذكر الآية دليلًا على ذلك.
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة؟ فقل: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدًا ﷺ. وإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين، وهو معبودي ليس لي معبود سواه. وإذا قيل لك: بمَ عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته. ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر. ثم سأل بداحًا: ما هي أركان الإسلام؟ فأجاب بداح البجاح: إني أعرفها يا هذلول، اذكرها أنت فأرددها. فقال هذلول الطيب القلب الورع التقي: أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فنشأ بداح بعد فقال: واحد. وإقامة الصلاة — اثنين. وإيفاء الزكاة — ثلاثة. وصوم رمضان — أربعة. وحج بيت الله الحرام — تمام، تعرفها والله.
ثم قال بداح: وأنا أسألك أتعرف آية العيون؟ فأجابه الأمير: وما هي؟ فنطق بداح بالآية التي كنتُ قد سمعتها مرارًا من فيه ولا أظنه يعرف سواها — كل عين باكية يوم الحشر إلا ثلاثًا: عينًا صدت عن محارم الله، وعينًا دمعت من خشية الله، وعينًا باتت تحرس في سبيل الله.
– علمتني يا عجماني. جزاك الله خيرًا. وما هي شروط الصلاة؟
– أعرفها. أولها الإسلام.
– الإسلام. وثانيها؟
– كملها يا لإمام. فأجاب هذلول: الإسلام والعقل والتمييز — وكان بداح يرددها وراءه — ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية. فشكره بداح ثم قال: وما هي شروط الوضوء؟
– غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق، وغسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين … إلخ. ثم قال: وما هي نواقض الوضوء؟ فأجاب العجماني: أنا أعرفها. علمها للربع يا لإمام. فنشأ هذلول يعددها. هي ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد، وأكل لحم الجزور، وتغسيل الميت، والردة عن الإسلام، أعاذنا الله منها! — والله يا هذلول الشرط الرابع ينقض وضوئي دائمًا. قل لنا ما هي أركان الإيمان؟
– أركان الإيمان يا بداح ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. والإيمان يا بداح هو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان.
– هذه الشعبة من الإيمان لا يعرفها بداح. الحياء عدو له.
الصوت الذي نطق بهذه الكلمة صوت مسفر.
فقال بداح: صدقت يا مسيفر السدوسي. ولكن عندي أول الإيمان وآخره، أعلاه وأدناه. ولولا حرمة الأستاذ لبرهنت لك أني مؤمن فأزيلك، يا شر الأذى، عن الطريق.
– برررر والله بالله! واستل مسفر خنجره وساق بعيره على بداح. فوكز هذلول ذلوله وكر فاستوى بين الاثنين.
– وهل هذا من الإيمان؟ الله يغربلك يا مسفر! سلط الله عليك يا بداح!
– ومتى كان ابن العجمان يشتم ابن الدواسر؟
– أنا أؤدب العجماني. دونك والحملة، امشِ. فراح مسفر يبربر ويسب العجمان. فخاطبني بداح قائلًا: مسفر لا يحب النكتة، وحنَّا نحب نغيظه لنسليك.
(١٩) الحفر
بعد أن خرجنا من الدهناء دخلنا في الباطن، وهو القسم الشرقي الشمالي من وادي الرمة، وفيه — كما يقول أهل نجد — ديرة بني هلال. ها هنا كانت قديمًا منازلهم، وها هنا أماكن حروبهم، ولكنه لم يبقَ من المنازل حتى ما شبَّهه الشاعر بباقي الوشم في ظاهر اليد. لم يبقَ ظل من الديرة فوق الأرض، أما تحتها فالآبار العميقة، المطوية بالحجارة، والمحفورة في الصخور، تدل على همة في أولئك الأقوام عالية. ولا يزال في هذه القلبان ما لم يقوَ عليه من الأقدار غير غضب الأمطار. فقد تحولت من الوادي المياه، وجفت منذ قرون قلبان بني هلال، فكانت الطبيعة عونًا لهم إذا أجهزت على من تبقى منهم وهم يتفانون في الحروب. حتى النبات هجر المكان، فقلما تجد في الأرض التي رويت بدمائهم غير تلك الدالية التي تدب وتنساب كالحية، وتثمر ثمرًا شبيهًا بالليمون، هو الحنظل بمثل مر القضاء في «ديرة» الفناء.
في الباطن بعض الرمث أيضًا، وهو — في القاموس — مرعى للإبل من الحمض. غير أن الإبل لا تدنو منه إلا إذا كانت في أرض فيها ماء؛ لأنه يولد الظمأ، وهي لا ترعاه إلا قليلًا. قال بداح: الرمث للبُل مثل السكر للإنسان — يطلب الماء ولكنه للنار زين. ومع ذلك فإن ناقة المتنبي فضلت دخان العنبر على دخانه:
ترى الباطن يضيق في أماكن فلا يتجاوز خمسة عشر ذراعًا، وإلى جانبيه جدار عالٍ من الطبقتين الرملية والكلسية. هو ذا عقيق للنهر الذي كان يجري في وادي الرمة. وقيل: إنه لا يزال يجري ويفيض مرة واحدة كل أربعين أو خمسين سنة.
عندما نصل إلى مكان يدعى أم الهشيم يأخذ الوادي بالاتساع فتزول تدريجًا جوانبه، فلا يبقى حولنا وأمامنا غير رحب القفر وما في فراغه وامتداده من دواعي الغم، بل من الهول. إن النفس لتنقبض من عقمه العميم، فتنقلب العين عنه خاسئة. هو القفر السبسب بالذات، لا حد له ولا ظل فيه. وليس في هذه الكلمات ظل من المبالغة.
إن فيه مع ذلك النعيم المنتظر، هو القفر المختبئ في تضاعيفه، وراء آفاقه، الحفر … الحفر، الماء، النعيم! وكنا نعِد أنفسنا بواحة مع الماء ورياحين، بنخيل وظلال طيبة. فوا أسفاه! إن الحفر حفرة دفنت فيها كل آمالنا وأحلامنا! هو القفر السبسب يقينًا، تربة رملية ولكنها سوداء، لا ظل فيها ولا ورقة عشب خضراء أو يابسة. وإنه ليحزن الفلاح خصوصًا إذا علم بأن هذه الأرض حول الآبار على مسير ساعة في الجهات الأربع هي سوداء من السماد فيها لكثرة ورود المواشي على مائها.
الماء والسماد والتربة الطيبة، ولا وريقة خضراء فيها. لمَ ذلك؟ إن الحفر أيها القارئ العزيز ميدان اقتتلت وتفانت فيه القبائل، فكان يومًا في يد الضفير، ويومًا في يد شمر، وتارة في حوزة ابن الصباح، وطورًا تحت إمرة ابن الرشيد. كم وقعة ها هنا، حول هذا الماء، روت التربة الطيبة بدم ربيعة ومضر، روتها بدم أبنائك يا عدنان، فلا تنبت اليوم حتى الحنظل، ولا تظلل حتى الجندب.
في الحفر ثماني آبار كلها متهدمة الجوانب، ولا عدة لرفع الماء إلا فوق اثنتين منها، فمن يرد الماء وليس معه حبل ولا إناء يعود منه ظمآن، إلا إذا وجد هناك من يعيره حبلًا وقربة. قد تكون الحروب في الماضي أوجبت هذا الإهمال، بل هذا الظلم. الماء لي اليوم وقد يكون غدًا لعدوي، فلا أصلحه وأجهزه بما قد يكون فيه هلاكي وهلاك عشيرتي، إنما هي عاطفة البدو وقاعدتهم في الحياة، وهم لا يدركون من سر التعاون والتضامن غير الغزو ثم الغنائم.
أما اليوم وسيادة سلطان نجد تمتد إلى الحفر وما دونه شرقًا وشمالًا، والأمن والسلام سائدان في بلاده كلها، والبدو بعنايته الأبوية آخذون بالتحضر، والأرطاوية أكبر الهُجَر وأهمها، هي على يومين جنوبًا من هذا المكان، ومَطير فيها تستطيع حماية الماء والمحافظة عليها، فمن العار إذن أن يبقى الحفر كما كان أيام الضفير وشمر، في حروب القبائل والأمراء.
ولا عجب إذا كان كل من سافر في هذه الطريق من القصيم إلى الكويت، فقطع النفود والدهناء، يبتهج ويرقص عندما يصل إلى هذا الماء. لا عجب إذا كان الرحالة على الخصوص أجنبيًّا لا ناقة له في البلاد ولا جمل. ومع أني أحق من المستر فلبي بالرقص، إذ قد نجوت من خطرين؛ خطر الطريق وخطر الحمى في الطريق، فقد كاد قلبي يتفطر من شدة الحزن عندما أنخنا في الحفر.
احتللناه يومًا واحدًا فشاركتنا في الاحتلال الرياح الأربع. وقد قيل لي إن اثنتين منها في الأقل، وكلها غالبًا تحتل هذا المكان على الدوام؛ ذلك لأن آفاقه مكشوفة مبسوطة كآفاق البحر، فتجيئه الشمال مدرهمة، والجنوب غائرة، والشرقية صافرة، والغربية مصفقة مولولة، فتلتقي كلها وتحترب في ذا المكان. دخلت خيمتي، وأقفلت الباب وجلست أستمع دوي المعركة، فأحسست غير مرة أن بيت يومي واقع لا محالة على رأسي.
جاءني مسفر بعد الظهر يسألني إذا كنت أبغي أن أسبح، فظننته يمزح وقلت ضاحكًا: نعم. ثم انتبهت إلى الجد في أمره؛ لأنهم في نجد يعبرون عن الحمام بالسباحة. فجاء بعد ساعة بالمرجل الذي يطبخ فيه وقد ملأه ماءً حارًا، فقلت: بارك الله فيك يا مسفر! سنسبح في القدر. فقال مستدركًا وهو جاد في كل أمره: قد غسلته بالرمل ثم بالماء الحار.
ثم بعد نصف ساعة عاد يحمل في صحن من النحاس الجمر وعود الند وهو يقول: تطيب. ثم مد يده إلى عبه وأخرج كنزه الأكبر؛ المرآة. وساعدني في لبس الجزمة وإحكام العقال، وخرج من الخيمة يقول للربع: باركوا للأستاذ بالسباحة، فقال هذلول فرُددت كلماته: نعيم دائم إن شاء الله. وقالت الرياح: ستأكل عشاك مطبوخًا بالتراب.
صدقت الرياح! فكيف يستطيع مسفر أو غيره من الطهاة العظام أن يرد عن القدر التراب ما دامت الأربعة الأهوية تثيره وتغريه على الدوام؟ وكيف يستطيع بداح ومبارك وجعيثن أو غيرهم من العربان الأقوياء الأخفاء أن يرفعوا الماء ليملئوا القرب والأروية دون أن تعترضهم الرياح فتبعدهم مرارًا عن القليب وتخلط حتى بمائنا التراب؟ ولكن ماء الحفر، وإن كان ذا لون، فلا رائحة ولا طعم له. حمدنا الله على ذلك وسرحنا باكرًا، كما مرحنا تحت قسطل من العجاج وبين أمواج من دوي الأهوية تصم. إني أذكر الآن أننا كنا وقتئذ في آخر شهر شباط، فيما يسمى بلبنان المستقرضات.
قلت سرحنا، ولو كان في الإمكان لرحنا غارة من ذاك المكان نبغي السكينة والاطمئنان في الشعبان، ولكن الركائب نفسها كانت تمشي كأنها مصعدة في النفود، فتلوي الرقاب وتصك الركاب، من شدة صدمات العدو المحيق بنا. وعندما أنخنا للمضحى كانت لا تزال سرياته تعج حولنا وتثج، فأخذ كل منا شيئًا من الخبز والطعام بيده، وجلس على الرمل فرفع العباءة على رأسه كالخيمة وشد أطرافها تحت رجليه.
كذلك جلست. وكان الرمل مع ذلك يسبق اللقمة إلى فمي، وجاءت الحمى في ذلك اليوم العصيب تجهز عليَّ لولا رحمة الله. على أن الرياح هدأت في اليوم التالي وكنا قد بعدنا عن الحفر. عن القفر اليباب والموت، فلاحَ في الأرض حولنا شيء من الحياة. هي ذي الرَّوْثة، روثة العام الماضي، وهي شبيهة بالرمث إلا أن الحموضة قليلة فيها فتقبل عليها الإبل. وهو ذا نبت أخضر، من طلائع الحيا في هذا العام، ولكنه ليس من الحيا بشيء؛ لأن الأنعام لا تدنو منه. أما مرآه فقرت به العين وانتعش منه الفؤاد. قيل لي إنه يدعى بُعيثران وهو شبيه بالشمر، زهره أصفر، ورائحته قارصة.
وهاك في الجو جناحًا صغيرًا يسف فيؤنس، ويزلج أمام الهواء كأنه ورقة خضراء سوداء، جناحًا أسود فيه اخضرار يرفرف حولنا فيبشرنا بالحياة، ثم ينسل في وهج من خيوط الشمس. هو الخطاف الذي يسميه أهل نجد الرقَيْعي. وجاءت معه الورقاء — أم سالم — تتيِّم زهر البعيثران وتجر تيهًا ذيلها، ذنبها الطويل على الرمل. قال الأعرابي وقد عرَّفه رفيقه إلى أم سالم: أي بالله! وأين هو أبو سالم؟ فأشار الرفيق إلى الخطاف فقال: وأبيك، حتى في الطيور تهوى البيض العبيد. وإيش قولك يَسالم؟ أولاد العبيد مناكيد.
في اليوم الثاني بعد سفرنا من الحفر خرجنا من الباطن؛ أي وادي الرمة، عند مكان يدعى الرقعي، وسرنا جنوبًا بشرق نازلين إلى الدِّبْدِبَة، فوصلنا إليها بعد أن اجتزنا بضعة تلال أو شعبان ضل فيها الدليل المطيري. وقد كان في ضلاله مشكورًا؛ لأنه أقصر بدل أن يطيل الطريق.
الدبدبة سهل فسيح لا يقل عن العشرين ألف ميل مربع، يمتد شرقًا بجنوب وشمال من وادي الرمة، فيحده غربًا الحفر، وشرقًا الشق، وتشطره الدرجة الثانية والعشرون من العرض الشمالي. قد كانت الدبدبة — ولا تزال — تابعة لمن يملك الحفر إلا أن قسمًا صغيرًا منها دخل اليوم في حدود العراق.
والدبدبة كثيرة المفالي، مخضرة الجوانب، رقيقة الأديم، منبسطة الأرجاء. تمحي غالبًا أثر الطريق فيها فيسير من كان ناحرًا الكويت وظله أمامه أو وراءه، وإذا أسرى فبرج الجدي الدليل الذي لا يضل. وفي الدبدبة من القنص الحبارى والقطا والأرانب والغزلان. على أن الماء قليل، وهو غير موجود في الطرفين من الحفر إلى الكويت؛ أي الطريق الشرقية في خط مستقيم إلى خبرة الدويش، وطولها مائة ميل، والطريق التي اتخذناها إلى الجهرة شمالًا، وهي مائة وأربعون ميلًا.
ومع ذلك فقد ظفرنا في الدبدبة بأربعة أيام طيبة سرنا فيها سير الهون إكرامًا للركائب ولأنفسنا، وقد كان لنا ما كان لها من الخير واللذة في تغيير الهواء والمناظر والمرعى! فالإبل تستلذ العرفج والأرطى الخضراء، وكانت في الدبدبة وافرة من نعمة الله. ونحن نستلذ الحبارى والكمأ، وكان مبارك وجعيثن يقنصان بينما إبراهيم ومسفر وحمود يبحثون في الأرض، فيجيئوننا كلهم في المساء بخضار تندر حتى في باريس ولندن، إلا إذا بذل في سبيلها كثير من المال. لا أظن أن في الشمال كمأة تفوق خصبًا ولذة كمأة الدبدبة. أربعة أيام طيبة، ثم الحمى!
لله ما أبلدك وما أحمقك، أيتها العجوز البصرية، إذا كنت تظنين أنك تجيئين في اليوم الخامس لتفسدي علينا هذه الأربعة المباركة، فتنسينا حسنات الدبدبة كلها! جئتِ لا أكرم الله مسواك! ونزلت ضيفًا علينا، فأكلت ما تبقى عندي من الكينا وملح الأثمار، وعدت بخفي حنين. العفو يا حنين! هي أول مرة في حياتي ألجأ إلى خفيك لأطرد بهما عجوزًا شمطاء. ولو لم تكن عربية الأصل ومن البصرة، هذه الحمى، ولو لم أكن الآن في البلاد العربية، لما أزعجتك يا حنين، ولما اتخذت لغرضي نعلك القديم الجليل.
راحت المسكينة تعرج، ونهضنا في اليوم السادس بعد نصف الليل منشطين، فأسرينا في ضوء القمر لنصل إلى الجهرة صباحًا. وما أبهجها ساعة أطللنا فيها على البحر! البحر بعد أربعة أشهر في قلب البلاد العربية، ما أجمله وجهًا! وما أكرمه يدًا! وما أبلغه رمزًا! القفار أبعدتني عن العالم والبحر يعيدني إليه، القفار قرَّبتني من الله، والبحر يقربني من الأهل والخلان. وإنه ليلذ لي، وأنا من الناس، ما يلذ لعامة الناس. فلا أكتم القارئ أن العشرة الإلهية الدائمة تضايق من لم ينتصر ولا حاول مرة أن ينتصر على الجسد. إنني أعجب بالقديسَيْن أنطونيوس الكبير وسمعان العمودي، ولكني بعد أشهر أقمتها في ظله تعالى، وأحسست مرة أن الظل تجسَّم قدامي على ظهر الذلول ليساعدني على الحمى، بعد هذه الأشهر المباركة أبغي الرجوع إلى ما فيه شيء من الحب البسيط الفاني، أبغي الرجوع إلى توافه المدنية ومبتذلات الحياة البشرية.
الجهرة بلدة عند جبل الزور، على ساعد من الخليج يمتد غربًا من الجون وراء مدينة الكويت، والمسافة بينهما وبين العاصمة لا تتجاوز خمسة عشر ميلًا. وهي مشهورة بكثرة آبارها، وبقصرٍ فيها لشيخ الكويت، وبتلك الوقعة بين أهلها والإخوان التي سيجيء ذكرها.
أنخنا خارج السور على كثيب من الرمل، وأرسلنا بداحًا بكتاب إلى سمو الشيخ أحمد الجابر آل الصباح نعلمه بوصولنا ونستأذنه بالدخول إلى المدينة. كنت قد كتبت إليه من الرياض وجاءني منه الجواب مرحبًا بي، ولكن هذلولًا، وهو ولي الأمر، حريص على الرسميات، فلا يدخل مدينة قبل أن يسبق منه علم بذلك إلى أميرها.
ما كدنا ننصب الخيام حتى جاء بعض أفاضل الجهرة، وفي مقدمتهم أمير القصر، يزوروننا ويدعوننا للقهوة في بيوتهم، فذكرونا بأهل القصيم في ترحيبهم بالغريب. قضينا بضع ساعات من ذلك اليوم نشرب القهوة والشاي ونسمع ما يتسرب من العاصمة إلى هذه القرية من أخبار العالم. على أن أهلها يهتمون لما في البادية — على ما ظهر لي — ولأخبار نجد والإخوان أكثر من سواها. أخبروني أن الجهرة مجلبة للرياح مثل الحفر، وأن الهبوب التي مهبها الشمال مسلطة عليها. على أنهم لا يخافونها بقدر ما يخافون «هبوب الجنة» التي مهبها الجنوب.
أسرعنا إلى المناخ فألفينا الربع حول نار سالم يشربون القهوة، ويتحادثون وهم لاهون عما هو حادث هناك، فصاح بهم هذلول وأمرهم بأن يرفعوا الشراع ويطووه ويوطدوا أوتاد الخيمة؛ خيمتي. فما كادوا يتممون العمل حتى وصلت إلينا سريات هبوب الشمال.
أمر الأمير الخدم بأن يرزموا العفش ويتأهبوا للرحيل، ولكن سريات من الغرب والجنوب أحاطت بهم فأوقفتهم، وشتتتهم، وكادت تذهب بقمصانهم. لجئوا إلى الجهة الشرقية من الخيمة فهوت وكادت تقع عليهم.
فتمسك الثلاثة بحبالها والرياح من النواحي الثلاث تذري الرمال عليها وعليهم.
وكانت ساعة المغرب والعشاء والصلاة. الصلاة أولًا. وكيف يصلون وهم إذا استقبلوا القبلة يستقبلون الهبوب … هبوبًا ولا «هبوب الجنة»؟
دعوتهم إلى الخيمة فدخلوا كلهم إلا الثلاثة القابضين على الأطناب، فأذَّن مسفر ثم صلوا، وصليت معهم وأنا جالس على السرير. أوَلا يخلق بي، وهي أخر ليلة مع «خوياي» أن أشاركهم في الصلاة وفي العشاء!
جاء مسفر وإبراهيم يحملان المرجل الكبير إلى الخيمة، فرفعا الغطاء فإذا على وجهه قطيفة من الرمل، فكشطها مسفر بالمغرفة وصب ما فيه من الأرز واللحم. نحرنا الزاد ونحن جالسون القرفصاء. ولكن الرياح وهي تصفر وتنفخ من خلال فرج الخيمة ومن تحتها كانت تسابقنا إليه، فيجيء الرمل في كل سفة من الأرز كالبذر في الصبير. وما كنت تسمع مقطعًا أو حرفًا واحدًا من الشكوى إلا إذا كانت باطنًا مني، بيد أني كظمت وتجلدت خجلًا من أبطال نجد، وشكرت الله معهم على عشاء من الأرز والرمل.
بتنا كلنا في الخيمة نقص القصص، والرجال يتناوبون حراستها، والرياح تولول حولها وتحاول عبثًا اقتلاعها. كنت قد سألت هذلولًا غير مرة أن يملي عليَّ شيئًا من شعره فأبى اتضاعًا، فألححت عليه — هي آخر ليالينا يا هذلول — فأكرَمَني.
وكان قد انتصف الليل فطلع القمر وسكنت الرياح، فقمنا نتأهب للرحيل. أسرينا من الجهرة مكرهين، وبعد ساعتين أنخنا ليتم الربع عملًا لا بد منه: يجب أن يغيروا ثياب السفر قبل أن يدخلوا الكويت.
شببنا النار وفرشنا بعض الفرش، فحاولت أن أنام ساعة بينا «خوياي» يلبسون أثوابهم الرسمية ويزينون أنفسهم، ولكني وجدت شرب القهوة ورعي النجوم أسهل من النوم.
لبس كل من الربع الكسوة الجديدة التي أنعم بها السلطان عبد العزيز قبل السفر من الرياض، ولبس هذلول ورجاله النجاد بالجلد فوقها، وتمنطقوا بمناطق الفشق، وأخرجوا البنادق من بيوتها، والغطرات الجديدة من الأخراج. وكانت مرآة مسفر الصغيرة تقوم بفضل القمر بواجبها، فتداولتها الأيدي وبسمت لها الوجوه.
وكنت أنا — ويا للعجب من أمري! — أسيرَ اكتئابٍ حاولت أن أظهر عليه أو أخفيه. قد أدركت وتيقنت أننا في المرحلة الأخيرة بل في الساعة الأخيرة من رحلتنا. وكم مرة وددت النهاية وتقت وحننت إليها، على أنه في تلك الساعة، وأنا مدرك أن القمر لا يطلع مرة أخرى علينا؛ عليَّ وعلى هؤلاء الإخوان الحقيقيين المحبين المخلصين، في تلك الساعة، ساعة الفراق، اعتراني الغم ووددت من الزمان يومًا آخر نسير فيه إلى واحة من الواحات، وليلة أخرى نسمر فيها حول نار سالم، فيرقص مسفر رقصة الإخوان، ويطعم إبراهيم النار إلى أن يتخلل دخانها خيوط الشمس الذهبية.
«حنَّا أهل العوجا — مروية السنين.»
ولكن شِعر هذلول النبطي الذي أملاه عليَّ منذ ساعة — وستظل بالرغم من الأيام والليالي منذ ساعة — لا يزال يرن في الأذن والفؤاد. وما أحسن اختيارك أيها الدوسري الكريم! وما أجمل العاطفة في تلك الأبيات التي بعثت بها إلى أحد خلانك! فهي تنطق بلسان حالي إذا ما ذكرتك وذكرت «خويانا» كلهم أجمعين.
أدلجنا من ذاك المكان، وما هي إلا ساعة حتى انبلج الفجر، وبانت من وراء حجابه الفضي الشفاف مدينة الكويت.
والصليان بقلة واحدتها صليانة، ولكن جعيثننا يخطِّئ القاموس. فقد أخبرنا أن أمه ولدته عند جذع أثلة، وأن جذع الأثل يدعى جعثن، وهو قوي سوي، فسمي تيمنًا به جُعيثن.