الشيخ خزعل خان
(١) عربستان (مقاطَعة في إيران)
- حدودها: غربًا المملكة العراقية وشط العرب، شمالًا مقاطَعة بوروجيرد وغولبكيان، شرقًا الحدود الأصفهانية، وجنوبًا الخليج العربي.
- عدد سكانها: نحو من نصف مليون نفس، نصفهم عرب والنصف الآخَر فارسي.
- أهم قبائلها: الحاسبي الكعبي المحيسني والعامري — والعوامر يدَّعون أنهم من نجد.
- أهم بلدانها: عبَّدان والمحمَّرة.
- مذاهبها: الشيعة.
(٢) الشيخ خزعل
هو سمو السردار أقدس، معز السلطنة، الشيخ خزعل خان بن نصرت الملك الحاج جابر خان الحاسبي المحيسني الكعبي العامري، أمير نويان وسردار عربستان، ومؤلِّف كتاب الرياض الخزعلية في السياسة الإنسانية. قلَّ مَن لا يعرفه من قرَّاء الصحف العربية باسمه ولقبه الأوَّلين في الأقل، فهو من أمراء العرب وإن كانت إمارته داخلةً في سيادة الدولة الإيرانية، بل هو أكبرهم بعد الملك حسين سنًّا، وأسبقهم إلى الشهرة، ومن أعظمهم في الكرم. هذا ما يعرفه أكثر العارفين بالبلاد العربية.
أما ما يجهله أكثر الناس خارج الكويت والبصرة، فهو أن هذا الأمير العربي من طراز أمراء عهد العباسيين؛ أعني بذلك أنه غني حكيم كريم معًا، فهو برمكي في كرمه، وفي ذوقه، وفي أدبه، يحبُّ اللهوَ والغناء حبَّه الأدب والشعراء، بل يميل إلى كل ما فيه شيء من أسباب السرور كلها؛ العقلية والاجتماعية والجسدية. وإن كلمةً قالها معاوية: الدنيا بحذافيرها، الخفض والدعة. لَتَصحُّ أن تكون من كلماته.
أجل، إن للشيخ خزعل ذوقًا إنسانيًّا شاملًا، فلا ينفر من غير القبيح والذميم في الحياة، ولا يعرف في مكارمه التفضيل والتمييز. تجيء المغنية من حلب أو من دمشق إلى المحمَّرة وهي لا تملك غير خلخالها، فتُقِيم عدة أشهر في القصر وتعود غنيةً مُثقَلةً بالحلي؛ ويجيء الشعراء وفي جيوبهم قصائدُ المديح، فيعودون من المحمَّرة وفي جيوبهم أكياس من المال؛ ويجيء حَبْر من أحبار المسيحيين فينزل على سمو السردار ضيفًا كريمًا محترمًا، ويعود مصحوبًا بالهدايا الثمينة؛ ثم يجيء المبشِّر بالماسونية فيحلُّ محلَّ الأسقف في القصر الخزعلي، ويعود بعد إقامةٍ سعيدة كما عاد المحترَم قبله.
إن من أجمل أزاهر الكرم في هذا العربي تساهُله وهو شيعي المذهب، فهو يساعد في بناء كنيسة في بلاده لمنكوبي الكلدان، ويساعد في تأسيس محفل للماسون، ويفتح خزانته لراقصة أو مغنية كما يفتحها لأُولي البر والإحسان من الطوائف كلها جمعاء. وهو على مقامه، بل بالرغم من مقامه، يميل دائمًا إلى ما فيه لهو أو تسلية أو فكاهة، فإذا ما انتابه الضجر في القصر، وكان قصر الضيافة فارغًا، ولم يكن ليرغب في زيارة البصرة ليشرف طاولة «البوكر» فيها، ينادي أولاده قائلًا: يا ولد الخير، تعالَوا، أَلَا تلعبون؟ فيجيء السردار أرفع، أو السردار أجل، أو السردار جاسم، أو نصرت الملك، أو كلهم أجمعون، فيجلسون مع عظمة الوالد إلى تلك الطاولة الخضراء العزيزة الشأن حتى في المحمرة والبصرة.
والشيخ خزعل من أمراء العرب المحافظين على تقاليد الأجداد في التعريس، ولا سيما أن شريعة المتعة عند الشيعة تساعده في ذلك؛ فقد قيل لي إن له أكثر من ستين امرأة، وإنه قلَّما يعرف أولادَهن. كثيرًا ما يجيئه أحد أولئك الصغار فيسأله قائلًا: ومَن هي أمُّك يا وليد؟ ثم إذا ناوَأه أحد مشايخ القبائل وهمَّ بالخروج عليه، وكانت له بنتٌ صالحة للنكاح، يزوره السردار أقدس ويشرفه بالمصاهَرة، فتخمد فيه في الحال جذوة التمرُّد والعصيان. سألت عن سمو الشيخ وأنا في البصرة فقيل لي هو متغيِّب اليوم. فقلت: وأين هو؟ فقال محدثي: راح يتزوَّج! وهو لا يزال على سنه التي تتجاوز الستين أهلًا لمثل هذه المهمات.
جاء في الكامل للمبرد أنَّ أنعم الناس عيشًا مَن عاش غيره في عيشه، ولا أظن الشيخ خزعل يحتاج إلى شهادة المبرد وشهادتي في أنه يعتقد هذه الحكمة ويعمل بها؛ فهو إذا لبس ثوبه الرسمي يحمل على صدره شهادات من ملوك الأرض، وفيها وسام القديس غريغوريوس من البابا بناديكتوس الخامس عشر، وبين تلك الأوسمة والنياشين كلها وسامان لا يراهما كل الناس، بل لا يراهما غير مَن نظر إلى هذا الرجل بعين الشعر والفلسفة؛ فهو في صفته الإنسانية يحمل وسامًا من الفيلسوف الإغريقي أبيقور، وآخَر من الحكيم الإلهي الصوفي محيي الدين بن العربي.
أسعد الله أوقاتك.
أيها الفيلسوف المكرم، حيَّاك الله وأبقاك، وحفظك ونجَّاك، وإني مشتاق إلى لُقْياك. فيجب أن أزورك قبل أن تزورني؛ لأن لكل قادمٍ حقَّ الزيارة، وقد سبقتني بالجميل في كتابك الكريم، فأشكر ذاك الذوق السليم، وإني صباحًا إن شاء الله أزورك في محل الجميع وأحظى بنور تلك الطلعة. وأختم كتابي بالدعاء لكم بالتوفيق. والسلام عليكم.
وكان اجتماعنا الأول في «محل الجميع»؛ أيْ عند سمو الشيخ أحمد في الجناح الجنوبي من القصر في القاعة المفروشة بالفرش الأوروبي.
الشيخ خزعل في العقد السادس من العمر، وهو بالرغم عن الطبيبين في معيته، على جانبٍ متين من الصحة والعافية، إلا أنه كان يشكو يومئذٍ من أسنانه ومن الطبيبين معًا.
– سمعت الناس يشكرون أطباء الأسنان في أميركا، وقد قال لنا أحد أفاضل الأميركيين إن أطباء الأسنان هناك وباعة الخيل وسماسرة البورص من طبقة واحدة. فلم نفهم كلامَه فهل لك أن تشرحه لنا؟
فقلت: أما باعة الخيل، فالمشهور من أمرهم هو أنهم مثل مَن يبيعون المعاليق في حماة فينفخونها قبل أن يَزِنوها. أمَّا سماسرة البورص فلهم في أميركا اسمٌ آخَر أظنُّ فيه الشرح الذي تبغيه؛ فهم كما يَدعونهم هناك أصحاب الدلو الفارغ؛ أيْ إنهم يتاجرون بلا شيء، بالهواء، فيبيعون زبائنهم ما لا يملكون من الأسهم، وكذلك الزبائن يبيعون ويشترون. هو ضرب من لعب القمار، يكثر فيه ما هو محض سرٍّ من الأسرار.
– وأين وجه الشبه بينهم وبين طبيب الأسنان؟
– وجه الشبه في المبدأ يا مولاي؛ المبدأ واحد هو الوَهْم، والاحتراف به هو الهواء في المعاليق، وهو الدلو الفارغ أو الهواء في الدلو. فإذا رحت إلى طبيب أسنان تشكو من وجع في ضرس واحد، يقول لك بعد الفحص إنك جبَّار لأنك لا تشكو إلا من ضرس واحد، وإن بقية أضراسك في حالةٍ مُفجِعة، فيُقنِعك بما أُوتي من علمٍ أن معالجتها كلها لازمة ولو اقتضى ذلك شهرًا من العمل، وإلا فتُمسِي بعد أشهر وليس في فمك سِن واحدة.
فقال الشيخ خزعل: قد أخطأ الأميركيون إذن! فلو كان هذا الرجل عندنا لَعددناه من النشَّالين! فضحك الشيخ أحمد وقال: ينشل ما في الفم وما في الكيس. فقال الشيخ خزعل: والحمد لله أن أطباءَنا سوريون.
قد كان في مَعِية سمو الشيخ طبيبٌ آخَر سوري هو الدكتور رامي، ولكنَّ الطبيبَيْن على ما علمتُ قلَّما يَصِفان من العقاقير غير المنادمة. وهما الصيدليان كذلك، فيَمزجونها لسيدهم في السمر وحول الغطاء الأخضر المشهور.
جاء الخادم بالقهوة؛ فعلمت أن مجلس حاكم الكويت الرسمي يختلف عن مجلسه العام بأمرَيْن؛ الأول: أن المجلس الرسمي المفروش بالرياش الفاخر لا يحضره غير أفراد من حاشيته وأسرته. والمجلس العام المفروش بالوسائد والمساند يحضره مَن يشاء من الناس، فيجلس في المكان الذي يليق به ولا يتعدَّاه. أمَّا الفرق الآخَر فهو في تقديم القهوة؛ في المجلس الرسمي لا يصيح الخدم ويردِّد بعضهم صدى بعض، وفي المجلس العام، بل في مجالس آل الصباح إجمالًا، إذا ما أمر الشيخ بالقهوة يصيح الخادم في الباب: اقهُوة. فيهتف الخادم الواقف في الفناء: إي والله اقهوة! فيسمعه الخادم الجالس عند باب المطبخ فيصيح كذلك: اقهوة! فيؤمن راعي المعاميل على الصيَّاحين أجمعين مردِّدًا كلمة السر: إي والله اقهوة. فتجيء القهوة في الحال، وإن كان المطبخ على نصف ساعة من المجلس.
انتقلنا في الحديث من الأسنان إلى الإخوان، فقال الشيخ أحمد: التعصُّب بلية العرب.