مشكلات «فتاة مثالية» وهروبها
«معذرةً يا سيدتي، لكن أعتقد أنكِ فقدتِ شيئًا.»
«فقدتُ شيئًا يا سيدي! يا إلهي! ماذا تقصد؟»
«أما فقدتِ كيسَ نقودك؟»
«يا إلهي! نعم يا سيدي؛ لم أفقده على الإطلاق. أعلم أنه كان في يدي منذ لحظة.»
«هلَّا تكرَّمتِ بتحسُّس جيبك فقط!»
فعلت السيدة ما طُلب منها، ثم طرحت أهداب ثوبها جانبًا، وألقت نظرةً على الأرض.
«ليس موجودًا يا سيدتي؛ أنا أعلم أين هو؛ أرجو أن تتفضلي بالخروج من الغرفة في الحال، قبل بدء الأغنية التالية. سوف أوضح لكِ كل شيء عن الأمر.»
كانت السيدة مُرتبكةً بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا منعتْها من الرد.
قال السيد: «لقد سُرق كيس نقودك يا سيدتي.»
استعادت السيدةُ قُدرتها على الكلام، وسألت: «من عساه يكون فعل هذا؟»
«الفتاة التي كانت تجلس إلى جوارك منذ لحظات؛ لكن أرجو ألَّا نتكلَّم عن الأمر هنا ونتسبَّب في فوضى. إذا تكرمتِ بالخروج من الغرفة، فسأخبركِ بكل شيءٍ عن الأمر.»
«يا إلهي! هذا مُستحيل يا سيدي، لقد كانت فتاةً لطيفةً للغاية؛ فتاة مثالية يا سيدي.»
بقليلٍ من التوكيدِ، ولكنه لا يتنافى مع أرقِّ درجاتِ التهذيب، قال السيد عندئذٍ: «لا بُدَّ لي من أن أطلب منكِ أن تتبعيني يا سيدتي.» وانسلَّ من بين سِرب السيدات دون أن يلاحظه أحدٌ تقريبًا، وذلك عندما تقدَّمَت مُغنيةٌ أوبرالية من مؤخِّرة الفرقة الموسيقية إلى مُقدمتها، وأَعْيُنُ الجميع مُعلَّقةٌ عليها.
تقدَّمت السيدةُ، مترددةً ومُرتجفةً — وكأنما كانت ذاهبةً لتَلْقى حُكمًا على جريمةٍ اقترفتها — وتبعَت الرجل الذي كان يستجوبها.
وقعتْ هذه المحادثةُ ذات صباحٍ جميلٍ من أحد أيام شهر أغسطس، سنة ١٨٥٧، في مكان التسلية الشهير ذاك المُخصص بحُكم القانون، أو الاستعمال، أو العُرف، لسكَّان العاصمة الذين يربو عددُهم على عشرة آلاف فرد؛ وهو مبنى «هانوفر سكوير رومز» المُخصَّص للحفلات الموسيقية.
جمهورٌ من المُستمعين مُختارٌ على نحوٍ مُميَّز، لكنه كان جمهورًا كبيرًا رغم ذلك، اجتمع بناء على اختيار مدام تويير ونشرة برنامجها المُسهبة التي وزَّعَتها بين زبائنها الأرستقراطيين من الرجال والنساء. كان الضيوف (باستثناء شخصين أو ثلاثة) يتألفون من أجمل وأرقِّ وأرقى سيدات البلد، مع نثارٍ مُتفرقٍ من صفوة الشباب، الذين يمكن الوثوق في وجود مُمتلكات لديهم أو انتظارهم إرثًا، ولا شكَّ في حصولهم على دروع النبالة، ولا في أصالة أجدادهم.
كان ثَمَّةَ شخصٌ وسيمٌ يقف بعيدًا عن المجموعة، أو ينسلُّ داخلًا إليها وخارجًا منها. كان في الثلاثين من العمر تقريبًا. كان واضحًا أن سنَّهُ أكبر من هذا نوعًا ما، لكن كان من الممكن الظن أنه في سنٍّ أقل قليلًا من الثلاثين. كان نحيلًا وضعيف البِنية بعضَ الشيء، وكان له وجهٌ شاحبٌ، وعينان رماديتان، وشعرٌ لا يُغطي جبهته وليس مُنحسرًا عنها، ورموشٌ، وحاجبان، وسبلتان، ولحيةٌ ذات شعيراتٍ دقيقة. نستطيع أن نقول، حفاظًا على الوقت، ولكي يكون كلامُنا مفهومًا، إنها ربما تُعدُّ من بين النجاحات العظيمة لصالون حلاقة «تروفيت». كان ملبسه كاملًا بلا أي عيب. لقد بلغت رابطة العنق البيضاءُ التي يرتديها المِعيارَ المثاليَّ الذي وضعه بروميل للَّون والتناسُق. كانت الصدرية ذات ذوقٍ رفيع للغاية، لدرجة أن أحد السياسيين في جماعة «يونج إنجلاند» السياسية سأل مُرتديها ذات مرةٍ عن اسم خيَّاطه. لا بدَّ أن المعطف والبنطلون كانا من إبداع محل «ستالتز آند بكماستر». وذلك الحذاء الجلدي ذو العلامة التجارية المميزة، والنعلين الدقيقَين جدًّا، كان من دون شكٍّ من أفضل الخامات والصنعة لدى محل «ميدوين».
لقد شُوهد هذا المُتأنِّقُ، أو ربما يكون قد شُوهد، قبل أن يُخاطب صديقتنا السيدة تندرهارت مباشرةً، واقفًا في كسلٍ ظاهرٍ، في هيئة تُشبه هيئة اللورد داندريري، قُرب باب قاعة الحفل الموسيقي — كانت أصابعه المُستدقَّةُ الأطراف مكسوةً بالقفازات البيضاء المصنوعة من جلد الماعز الصغير الأكثر أناقةً ونعومةً على الإطلاق — يعبث ببطءٍ في قبعته المُتغضِّنة.
مَن عساه يكون؟ لقد كانت الطبقة التي ينتمي إليها، والعمل، أو المهنة، أو الحرفة التي يُمارسها، أكثر ظهورًا من مجرد أن ينمَّ عنها شيء. لقد كان صديقًا لي، وهو الذي سمعتُ منه تفاصيل هذه القضية الصغيرة المثيرة. يمكنني أيضًا أن أُخبر القارئ في الحال أنه كان ضابطًا من ضباط البوليس السري. كان اسمُه سليمي — المُفتش سليمي — لكنه كان عادةً ما يُدعى «رجل السيدات»؛ فقد كانت المهمة الخاصة التي حدَّدها له رؤساؤه الكبار في شرطة سكوتلاند يارد، بمنطقة وايتهول، أن يقتفيَ ويراقب ويقبض على السارقاتِ الأنيقات من الجنس الناعم، اللواتي يُمارسن مِهنتهنَّ في مُحيط المنطقة المُحيطة بكنيسة سانت جيمس أو بالقُرب منها.
وهكذا، بينما المُفتش سليمي يعبث — متظاهرًا بالغفلة — في قبعته المطوية، كانت عينه الرماديةُ قد مرَّت سريعًا على المقاعد التي اكتظَّت بها قاعة الحفل الموسيقي، ثم حطَّت على قلنسوة الشابةِ اللطيفةِ الجالسة بجوار السيدة تندرهارت. لقد كان خبيرًا. شيءٌ ما ربما لمْ تكن مدام ديفي لتُلاحِظه، وشيءٌ ما لمْ يكن هو ليتمكن من تفسيره، أَخبرَه أنَّ وجود هذه الشابة المثالية في الحفل الموسيقي الذي أقامته مدام تويير كان سيضرُّ بقاعدة العمل الأساسية لنصير الإصلاح الحكومي. لم تكن مِثالًا للمرأة المناسبة في المكان المناسب، أو لإفراغ أفكار المُفتش سليمي في القالب اللغوي لرجلِ شرطة أحسَّ إحساسًا قاطعًا أنها كانت تنتوي سوءًا في ذلك الصباح الجميل.
تحت تأثير اقتناعه هذا، وضعَ الشابة المثالية تحت الفحص الدقيق، وسرعان ما ثبتَت شكوكه عندما لاحظ حدَثًا أدَّى به إلى اتخاذ إجراءاتٍ لم تكن مُرضية تمامًا للفتاةِ التي كان يُراقبها. ربما في شيءٍ من الطيش، غادرتِ الفتاةُ قاعة الحفل الموسيقي بعد بضع دقائق من وقوع هذا الحدث، وأثناء محاولتها مُغادرةَ المبنى قبض عليها شُرطيَّان قويَّان. بعد إنجاز هذا، عاد المُفتش سليمي إلى مهمته في المراقبة. في تلك اللحظة طوَّق بياتي عينَي وأُذُنَي أسيرةِ الجمع برابطة عنقه. وأثناء رجوعه، تقدم رجلُ السيدات نحو السيدة تندرهارت، وجرَتِ المحادثةُ الصغيرةُ التي أشرْنا إليها.
قيل للسيدة التي فقدت كيس نقودها إنَّ عليها أن تمضي مع صديقي المفتش إلى مَخفر شرطةٍ قريب. فعلت السيدةُ ذلك على كُرهٍ منها، مؤكدةً أنه لا بدَّ أن ثَمَّةَ خطأً ما، وأنه لا يمكن أن تكون الفتاةُ سارقة؛ وأنها — أعني السيدة تندرهارت — بكل تأكيدٍ لن تُقاضيها؛ وقالت إنها أُمٌّ، ولديها مشاعر أُم؛ وإن السارقة المزعومة كانت في مثل سنِّ إحدى بناتها الحبيبات تمامًا، والتي، لأنها كانت أكثر طيبةً من أن تعيش في هذا العالم، انتقلت إلى عالمٍ أفضل، منذ ما لا يزيد عن سنةٍ ونصف. في مخفر الشرطة أخذت السيدةُ صاحبةُ الرُّوح النبيلة تُردِّد اعتقادها وقرارها كثيرًا على نحوٍ مُضجر. لقد عثرت مسئولة تفتيش النساء على كيس نقود مع المجرمة المثيرة للاهتمام. لم يكن من الممكن إنكار هويته، وقد استنكفت السيدة تندرهارت عن أن تكذب وتُنكر أنه كيسها.
بدَّدت غرابةُ محتويات الكيس، أو تفاهتها النسبيةُ، أيَّ ذرةِ شكٍّ كان من الممكن أن تستفيد منها طِيبةُ مالكتها الحقيقية لتهرب بها من محنة المُقاضاة. فلم تُخرج المتهمة التعيسةُ الحظ من محفظة السيدة سوى بضعة شلناتٍ وثلاث حبات نعناع.
سألت السيدةُ تندرهارت: «أتظنون أنني، وأنا أمٌّ مسيحيةٌ، سوف أنفي امرأةً شابةً من أجل مثل هذا الشيء التافه؟» ولمَّا لم ترُد السلطات على سؤالها، أجابت هي على استجوابها بالنفي القاطع.
قيل لها إن عليها أن تُوقِّع على لائحة الاتهام، وفعلتْ هذا وهي لا تزال تؤكد أنه ما من قاضٍ عنده رحمةٌ سيُجبرها أن تكون سببًا في عارٍ ربما يكسر قلبَ أمٍّ أو أب، أو يُلطخ طموح العديد من الإخوة، أو يُفسد آمال ما يماثل عددهم من الأخوات. تركت السيدة تندرهارت المَخفر وهي تُعلن للمرة الأخيرة وبنبرةٍ ملؤها الحزنُ أنها لن تُقاضي الفتاة؛ وأنه ما من قوةٍ على وجه الأرض ستُجبرها على فعل ذلك.
بعد ظُهر ذلك اليوم ذهبت السيدة تندرهارت إلى مُحاميها؛ المؤسسة البارزة المملوكة لكلٍّ من توملينسون، وكيوت، وتيب، ووورم، وتوملينسون. لم تستشِرهم السيدة تندرهارت، وإنما وجَّهت لهم تعليماتها. ولم يعرضوا مشورتهم، وإنما عملوا بمُقتضى تعليماتها. لم يكونوا يدَّعون أنهم يتولَّون «قضايا جنائية». وعندما كان أيُّ عميل مرموق يَعمد إلى إجبارهم، إذا جاز التعبير، على إقامة دعوى، كانوا يشرعون في عملهم متأخرًا، ويعملونه من دون براعة. لذلك لم يُفسِد حسَّهم بالالتزام الأخلاقي أيُّ تطلُّعٍ إلى نفقات الدعوى في هذا الموقف. كان السيد توملينسون الأكبر، والسيد تيب حاضرَين في المقابلة مع عميلتهما، وأثنَيا على عطفها وكرم أخلاقها. لقد أكَّدا لها أن تعليماتها سوف تُنفَّذ حرفيًّا، إذا أمكن، وأنهما يعتقدان أن القاضي لن يُجبرها على رفع دعوى رغمًا عنها. كان يجدُر بها ألا تمثُل أمام المحكمة الشرطية، وإنما تفوضهما كي يُوجِّها أحد المحامين العالِمين بالقانون بالحضور بالنيابة عنها.
في اليوم التالي، أُحضرت «الفتاةُ المثالية» للمثول أمام السيد سلينجيم، وهو قاضي صلحٍ مُعين يقِظ، واتُّهمَت بسرقة كيس نقودٍ يحتوي على ثمانية شلناتٍ وثلاث حبات نعناع من جيب السيدة تندرهارت.
أُمر السيد تورتشواس دودج، المحامي العام لِلُصوص لندن، أن يتولَّى، بالنيابة عن المتهمة، مهمةَ إرهابِ المُدَّعية، والإكثارِ من الثرثرة حول الشخصية المُحترمة التي تتمتَّع بها موكلتُه، وتحدِّي كل رجال الشرطة ومسئولي السجون في إنجلترا أن يقولوا إنها اتُّهمت بأي شيءٍ قبل ذلك قط، أو اعتُقلت لأي شُبهة، قبل الواقعة الحالية. كانت هذه حقيقةً، كما أوضح سليمي؛ لأنه بالرغم من علمه بأنها كانت تنتمي إلى «نوعٍ سيئ من الأشخاص» — لكن كيفية علمه بهذا لا تزال لغزًا ليس لديَّ الحرية لتوضيحه — فقد كانت مع ذلك، كما قال «وجهًا جديدًا».
لم تكن المُدَّعية حاضرةً؛ لأنها، كما أوضح السيد فيتز جيسيبوس جِلَم (الذي عينه السادة توملينسون، وكيوت، وتيب، ووورم، وتوملينسون)، كانت في حالةٍ من الانفعال العصبي الشديد بسبب الموضوع، لدرجة أن أصدقاءها خشُوا من النتيجة التي ستترتَّب على حضورها الجلسة؛ وعلاوةً على ذلك، كان ثَمَّةَ مبررٌ للأمل في أن يكون هذا الأمرُ لغزًا، إن لم يكن مصادفةً، أو «مزيجًا عرضيًّا من الملابسات القابلة للتوفيق مع الرأي القائل بالبراءة»، وكان الأمر على أي حالٍ — وتحت أسوأ الاعتبارات — حالةَ هوس تلبَّست السجينة، وأول جُرمٍ ترتكبه. وقد أُمِر السيد فيتز، بناءً على ذلك، بأن يُطالِب بالسماح للمُدَّعية أن تنسحِب من المُقاضاة؛ وكما أكَّد عديدٌ من أبرز القضاة، الذين ازدان بهم يومًا مقعدُ القاضي غيرُ القابل للرشوة في المحكمة الجنائية المركزية، على أنه من الخطأ أن يُطبق القانون على من يُخطئون للمرة الأولى. وحيث إنَّ إدانة الجانية الشابة سيعوق مسار الإصلاح، فقد كان على يقينٍ تامٍّ أن العقل الحصيف الهادئ للسيد سلينجيم سوف يقضي بأن المسلك الذي اختارت السيدة تندرهارت أن تنتهجه كان بإيعازٍ من إحسانٍ مسيحيٍّ نبيل، ومن احترامٍ صادقٍ لمصالح العامة.
إن المبدأ الخاص بإقامة الدعاوى ضدَّ من يُجرِمون للمرة الأولى قد سَمِعتُه يُرسى، من دون شكٍّ، في محاكم العدالة وفي مكانٍ آخر، من قِبَل قضاةٍ ومُعلقين بارزين، لكنَّ السيد سلينجيم لم يعترِف بفعاليته وتأثيره في هذه الحالة. كان شخصًا عديم الرحمة. فلم يسمح للسيدة تندرهارت بالانسحاب من الدعوى، وإنما أعلن أن ثَمَّةَ واجبًا تدين به للمُجتمع وهو إدانة السجينة إذا ذهبت الأدلة إلى إثبات أنها مُذنبة.
كان السيد سلينجيم صارمًا وعنيدًا جدًّا، لدرجة أنَّه بناءً على طلب السيد المُفتش سليمي، رفض ذلك القاضي اليَقِظُ توسُّلَ السيد تورتشواس دودج الصادقَ إليه كي يُطلق سراح مُوكلته، المثيرة للاهتمام، بكفالة. وأُعيدت إلى السجن الاحتياطي لمدة يومين، وأُخبر محامي السيدة تندرهارت أن عليه أن يُقدِّم دليلها في جلسة الاستجواب التالية.
وبناءً على ذلك قُدِّم في الاستجواب المؤجَّل للسجينة ما يكفي من الأدلة ليُبرر للسيد سلينجيم إرسال المتهمة للخضوع للمحاكمة في الجلسة التالية للمحكمة الجنائية المركزية. ورُفض التماسٌ لَجوجٌ آخر للسماح بإطلاق سراحها بكفالةٍ. نُقلت «الشابةُ المثالية» في عربة السجن، مع سجيناتٍ أقل روعةً منها، وأُودِعت سجن نيوجيت. حزنَت السيدة تندرهارت المسكينةُ حُزنًا مُوجِعًا، لكنها وجدت بعض العزاء في تأكيدها المُتكرِّر لجميع صديقاتها، أنها لم تكن تملك منعَ ما حدث.
في اليوم التالي لنقل الشابة المثالية إلى ذلك السجن المشهور، جاءت عربةٌ بدائيةٌ، يجرُّها حصانٌ أشعث، ويكسوها التراب، وتحمل على أحد لوحَيها النقش التالي «جون براون، مزارع، إ…، ميدلسكس»، وتوقفت أمام باب مكتب السادة توملينسون، وكيوت، وتيب، وووم، وتوملينسون. ترجَّل من هذه المَركبة البدائية رجلٌ عجوزٌ، يرتدي قِرامًا كذلك الذي يرتديه عمَّال المزارع، وكأنه واحدٌ من آخِر مُزارعي جيلٍ كاد ينقرض. كان السيد تورتشواس دودج، وفاءً منه بموعدٍ قطعه، قد وصل إلى هذا المكان قبل بضع دقائق، وظلَّ يذرَع الشارع جيئةً وذهابًا بخُطًى وئيدةٍ ليقتل الوقت.
بعد تبادُل بضع كلماتٍ، ذهب «المحامي العام للصوص» ورفيقُه، الرجلُ العجوز، يلتمسان مُقابلة في الشركة. كان الغرَض من هذه الزيارة أن يسألاهم، في حال قُدِّم طلبٌ لأحد قضاة غرفة المداولة ليسمح بإطلاق سراح الفتاة المثالية بكفالة، إن كانت الشركة ستوافق على أن يُطلِق سيادتُه سراح الفتاة.
دافع الرجل المُبجَّلُ ذو الشعر الأبيض دفاعًا شديدًا عن ابنته التعيسة الحظ، وببلاغةِ أُمِّي، وبكلماتٍ قويةٍ جدًّا، وصفَ الكربَ النفسيَّ الذي تُعانيه أمُّها — مُنذرًا باحتمالية دخولها مصحَّة الأمراض العصبية، إن لم تدخُل القبر — لدرجة أن رئيس الشركة، توملينسون الأكبر، كان ميَّالًا إلى تقديم بعض التنازل، والنظر إن كان لا يستطيع أن يساعد من دون مخاطرةٍ في إخراج السجينة من سجن نيوجيت لمدة أسابيع قليلة قبل ميعاد المحاكمة.
لكن السيد تيب، الذي كان حاضرًا هو الآخر في هذه المقابلة، رأى أن سمعة المؤسَّسة قد تتأثر سلبًا بأي ترتيبٍ يُعدُّ مع سجين. وخلا المحاميان بأنفسهما لبضع دقائق في غرفةٍ أخرى، وناقشا الأمر.
عند عودتهما أبلغ السيدُ توملينسون السيدَ العجوز بأنهم لا يستطيعون تلبية هذا الطلب. كان عويل الأب مُحزنًا إلى أبعد الحدود؛ لكن المؤسسة كانت قد اتَّخذت قرارها، ولم تستطِع أن تتراجع عنه، مهما كانت غزارة فيض الدموع التي قد تتسبَّب فيها هذه النكبة العائلية.
عندما غادر المزارع والمحامي ببطءٍ في مركبتهما ذات الحصان التي لا تكفُّ عن الصرير، صاح السيد دودج قائلًا: «أخرقان يا عزيزي؛ إنهما لا يفهمان العُرف الجنائي. لا بأس، دعْ كل شيءٍ لي. لقد فعلتُها مراتٍ عديدةً من قبل، وسوف أفعلها من جديد.»
في غضون ثلاثة أيامٍ من زيارة الأب الذاهل للسادة توملينسون، وكيوت، وتيب، ووورم، وتوملينسون، كان طلبًا قد قُدم إلى القاضي، الجالس حينها في غرفة المداولة، ليُصدر أوامره بإطلاق سراح السجينة بكفالة. ودُعِّم هذا بإقرار رسمي خَطِّي، يفيد، من بين أشياء أخرى، بأن الفتاة لم تُتَّهم قبل ذلك قطُّ بارتكاب أيِّ جُرمٍ جنائي.
سأل سيادةُ القاضي عن رأي مُحامي الادِّعاء في الأمر. أوضح كاتبُ المحامي العام للصوص أنه، بالرغم من إرسال الإخطار المعتاد في مثل هذه الحالات لهؤلاء السادة، فإنهم لم يحضروا. كان مفهومًا أنهم لم يكونوا مُعترضين على طلب السجينة، ويبدو أن غيابهم قد أثبتَ ذلك. قال سيادتُه إنه لا بدَّ أن يرى ما يُثبت عِلمهم بالتماس السجينة. وقال كاتبُ السيد دودج إنه يستطيع أن يُقدِّم له الإقرار الخطِّي الذي كتبه الشخصُ الذي أوصل الإخطار. قُدِّم هذا الإخطار؛ وأمر القاضي بأنه، عند العثور على ضامنَين على استعدادٍ للاشتراك في كفالةٍ قيمتها ١٠٠ جنيه إسترليني لكلٍّ منهما، مع تعهُّد السجينة نفسها بدفع ٢٠٠ جنيه إسترليني، يُطلقُ سراح السجينة حتى موعد محاكمتها. استُوفيت هذه الكفالةُ من دون عِلم محامي السيدة تندرهارت، وخرجت الشابةُ المثاليةُ من سجن نيوجيت امرأةً حرةً مؤقتًا.
بعد وقتٍ وجيزٍ عُقدت الجلسات، وظهر اسم الفتاة في جدول المحاكمات، مع بيان بالجُرم الذي ستُحاكم من أجله. كانت السيدة تندرهارت قد تعهدَت رسميًّا بأن تُقاضي الفتاة؛ لذا كانت حاضرةً بين الحشد المُتنافِر الذي جلس ينتظر النداء للإدلاء بشهاداتهم. ظلَّ السيد فيتز جيسيبوس جِلَم ينتقل من المحكمة الجديدة إلى القديمة، ومن المحكمة القديمة إلى الجديدة بالمُذكرة الوحيدة التي معه؛ والتي تخصُّ مُقاضاة هذه الفتاة المثالية. عندما بدأ نظر القضية نزل السيد كيوت بتواضعٍ عن قاعدته المِهنية في قلة الكلام وذلك بمزيدٍ من التوجيهات للمحامي العالِم بالقانون. كان السيد المُفتش سليمي حاضرًا بالطبع مع شهود الشرطة الآخرين.
اعتبر الجميعُ إدانة ومعاقبة المُذنبة حقيقتَين واقعتَين؛ باستثناء سليمي. فقد أعلن أمام المحكمة أن الطير هرَب، وقال إن السيد جِلَم لن يكون أمامه شيءٌ يفعله سوى أن يطالب بتغريم الضامنَين كفالتَها. كان الشرطي السري الأنيق مُحقًّا. فلم تستسلِم أي فتاةٍ مثاليةٍ نشالةٍ كي تُثبت براءتها من خلال اختبارات القانون الجنائي. نُودي على القضية؛ فلم تُجب أي سجينة. حاول السيد كيوت أن يُخفي شعوره بالخزي تحت ابتسامةٍ مُتكلفة؛ فيما بدا السيد جِلَم كئيبًا للغاية حقًّا، وبفظاظةٍ نفَّذ المهمة المتواضعة التي أوكلها له الشرطي المُتأنق؛ كان سليمي مُغتاظًا، لكنه لم يُبدِ أي علامة على ذلك؛ وكانت رغبةُ السيدة تندرهارت — التي سألت بطريقةٍ تنمُّ عن الحزن قائلةً: «من كان يستطيع أن يتوقَّع هذا؟» — في نفي الأشخاص المتورطين في خدعة الكفالة أكبر من رغبتها في إقامة دعوى من أجل فقدان شلناتها وحبات النعناع. بعد تعليقٍ سريعٍ مُختصرٍ على الموضوع، تفرَّق الجميع، وهكذا ستنتهي القصة، باستثناء توضيحٍ أو اثنين أَبلغهما فيما بعد السيدُ سليمي للمؤسسة القانونية البارزة لكلٍّ من توملينسون، وكيوت، وتيب، ووورم، وتوملينسون، ويُمكنني أن أُخبر بهما قارئي الآن.
ذات يومٍ التقى السيد كيوت بالمُفتش المُهذَّب في نوبة مراقبةٍ في شارعي ريدجينت ستريت وبوند ستريت، وتبادل معه المُجاملات. اقتنص السيد سليمي هذه الفرصة كي يُحسِّن معرفة المحامي بالعُرف الجنائي.
قال السيد سليمي: «لقد اكتشفتُ كيف جرى الأمر. عندما رأى ذلك الرجل، دودج، أن عليه أن يتعامل مع شركةٍ محترمةٍ كشركتكم يا سيدي، علم أن باستطاعته أن يفعل ما لم يكن من الآمن فِعلُه مع شركاتٍ مثل هامفريز، أو وُنتنرز، أو بيردز، أو لويسيس. لقد أتى فقط بوغدٍ يدعوه كاتبَه كي يُقسِم على أنه أوصل لكم إخطار طلب السماح بالخروج من السجن بكفالة، وهو ما لم يفعله بالطبع.»
أجاب كيوت: «لا، إنه لم يفعل ذلك إطلاقًا.»
أضاف المُحقق: «أعرف هذا. لكن ما الذي يستطيع قاضٍ أن يفعله عندما يكون هناك إقرار خَطي يقول إن الإخطار قد وصلكم؟ سيقول لنفسه: «ها هو ذا دليلٌ يشهد بأن المُدعي على علمٍ بهذا الطلب، وأنه لا يُعارضه؛ فالسكوت علامة الرضا. أعتقد أنه لأن هذا أول جُرمٍ، يجدُر بي أن أُطلق سراح السجينة بكفالة.» وهكذا فعل. لكنَّ دودج، في ظني، ما كان ليُجرب فِعْل هذا مع أعضاء مِهنته الأذكياء يا سيدي.»
أحسَّ كيوت بالخزي، لكنه لم يقُل شيئًا.
واصل سليمي كلامه قائلًا: «لكن الأمر كلفهم مبلغًا كبيرًا من المال. لقد اكتشفتُ كل شيءٍ عن الموضوع. لقد كانت، كما قلتُ، وجهًا جديدًا صغيرًا، ولم تكن بارعةً بعضَ الشيء في عملها.»
«كانت أخت زوجة جُو أتكينز، وهو واحدٌ من أشهر تجَّار المسروقات في لندن. لقد قبضتُ عليها في أول مهمة لها، وكان جميع أفراد العصابة التي تنتمي إليها في رُعبٍ هائلٍ خشيةَ أن تَكشف مُخططاتهم. كانوا مُستعدِّين لدفع ألف جنيه، إذا لزم الأمر، وفي تقديري أن خمسمائة جنيه كانت ستكفي بالكاد لتغطية ما كلَّفَتهم الفتاة من نفقات. قبل كل شيء، إنَّ ما اضطرُّوا أن يدفعوه لدودج، المحامي، لإنجاز مهمَّة الحلف الكاذب بخصوص توصيل الإخطار إلى مكتبكم، لم يكن مبلغًا تافهًا يا سيدي؛ ثم إنه قد تعيَّن دفعُ الكفالة بإعطائهما مائتي جنيه لإرضاء مُمثل السلطة الملكية، وإعطائهما مبلغًا كبيرًا لهما شخصيًّا؛ بعد ذلك تعيَّن عليهم إصلاح الأمور مع الفتاة وزوجها؛ إذ كانت متزوجةً، وكانت زوجةً لحارسٍ بالسكة الحديدية. لقد دفعوا لزوجها مبلغًا ضخمًا ليُبقي فمه مُغلَقًا، وأرسلوه هو وزوجته إلى أُستراليا أو نيوزيلاندا، لا أعرف.»
كان السيد كيوت مُستغرقًا في التفكير، وفي هذه اللحظة قال بطريقةٍ جافة: «من المؤسِف أنَّ هذا الوغد، دودج، لا سبيل إلى شنقه. إنه عارٌ شديد البشاعة على مِهنتي، يا سليمي. لا مانع لديَّ أن أُقاضيه على نفقتي الخاصة.»
قال الشرطي المتأنق: «دع هذا لي يا سيدي. إنني أتعقَّبه يا سيدي؛ وأنا الآن أعرف خدعته، ولن يُفلِت منِّي طويلًا.»
كان سليمي عند كلمته. لقد أمسك السيد تورتشواس دودج وهو يُكرر خدعة الإقرار الخطي، وقضى ذلك المحامي المُذهلُ الذكاءِ مُدةً طويلةً من السجن مع الأشغال الشاقة؛ مكافأةً حكوميةً له على براعته.