إيميلي إتش … قصة حزينة
قبل بضع سنواتٍ كلَّفني محامٍ بارز، وهو شريكٌ في مؤسَّسةٍ كبيرةٍ في مقاطعة ويست إند أوف لندن، بحلِّ ألغاز واحدةٍ من أشرس قضايا الاحتيال التي جاءت يومًا في نطاق ملاحظتي المهنية؛ والقصة التالية تتضمن الحقائق الأساسية لهذه القضية الحزينة.
كان السيد إتش … الشريكَ الأساسي في واحدٍ من أكبر مصانع القطن في شمال إنجلترا. كانت مصانعه في إحدى المدن تُوظِّف، فيما أعتقد، حوالي ٣٠٠٠ شخص، بين رجالٍ ونساء وأطفال. كان ذائعَ الصِّيت، وكان، من دون أدنى شك، من أصحاب الملايين. كانت الأقمشة التي تنسجها أنوال مصانعه لها شُهرتها في كل أرجاء بريطانيا العُظمى، وفي جميع أنحاء العالم؛ وهو امتيازٌ، كما قيل لي، ظلَّ شركاؤه وورثتُه يتمتَّعون به. كان رجلًا فظًّا ومُتكبرًا، وقد جسَّد بشخصيته وسلوكه واحدةً من الصور الوصفية للسيدة ترولوب. كانت ثَمَّةَ شائعةٌ رائجةٌ في مُحيط بيته ومصنعه تتَّهِمه بجميع أنواع الدناءة، والرذيلة الحقيرة والشهوانية. لكن دعُونا نتجاوز هذا. من المهم فقط القول إنه قبل وفاته بعدة سنوات أصبح شريكًا صامتًا في الشركة التي أسَّسها، وإنَّ الانغماس في الخمر أو المُسكرات أرسلَه إلى قبره على الأرجح مُبكرًا جدًّا عمَّا لو لم ينغمِس فيهما. عندما تُوفِّي لم يُفجَع أحدٌ لرحيله. لقد فقدَ العُمَّال صاحب عمل، لكن لمَّا لم يتوقَّف المُحرك البخاري عن زفيره إلا يومًا واحدًا، ولم تتوقَّف الأنوال والمغازل إلا أثناء هذه الفترة القصيرة، التي عاد بعدَها كلُّ شيءٍ كما كان في السابق؛ ولمَّا لم يتسبَّب موتُه في جعل أيِّ أحدٍ يخسَر أيَّ شيءٍ ذي قيمة، ولم يهتم أيُّ أحدٍ نهائيًّا برجلٍ عجوزٍ أناني، فقد أُنزل إلى قبره دون نصبِ تكريمٍ أو دمعةِ ولاء.
خلَّف العجوزُ صاحبُ مصنع القطن وراءه أرملةً، وبنتَين، وثروةً ضخمة، ووصيةً حُرِّرت بعناية. وهذه الوصية تستحق الذكر. فقد كانت وثيقةً مميزةً بعض الشيء. لقد ألَّفَها عقلُ الرجل العجوز وعقلُ أفضل أصدقائه — إذا كان يمكن القول إنه كان له أي أصدقاء — وصاغها «بترتيبٍ وعلى نحوٍ مُنمق»، كما اعتاد هو أن يقول، السيد بي …، مُحاميه، الذي كان، في الحقيقة، قد استعان بمحامٍ ماهر من مُحامي المحاكم العُليا لإنجاز هذه المهمة.
مُنح كلٌّ من الأرملة والبنتَين مبلغًا كبيرًا من المال، وكان لكلِّ واحدةٍ منهنَّ الحرية في فعل ما تشاء به. وتُرك لكلٍّ منهن معاشٌ سنوي؛ وكان مبلغًا وافرًا نسبيًّا للأرملة، ومبلغًا صغيرًا نسبيًّا لكل واحدةٍ من البنتين. وكانت هذه المعاشاتُ مُحصَّنة تمامًا لدرجة أنه لم يكن أي زوجٍ قد تقترن به أيٌّ منهن له سلطة على دخلِها، ولم يكن ذلك الدخل ليُصبح عُرضةً لديونه أو التزاماته؛ ولم يكن يمكن للراتب السنوي (الذي يُصرَف رُبع سنوي) أن يُرهَن أو يُصرَف قبل موعد الاستحقاق. وبخلاف ذلك، انتقل مبلغٌ كبيرٌ من المال، وهو جزء من بقية التركة، تحت تصرُّف أوصياء لصالح الفتاتَين.
منحت الوصية، التي أثبتها مُنفذوها، أوسعَ نطاقٍ من الصلاحيات فيما يخصُّ توزيع هذه المواريث، لكن قيل لي إن رسائل، أو أوراق وصائية من نوعٍ ما، تُعبر عن آراء المُوصِي، قد أُعطيت للأوصياء. بصفةٍ عامة، يُمكنني القول، إنني أُخبرتُ أنه قد طُلب من الأوصياء، في حال تزوَّجَت أيٌّ من الفتاتين «شخصًا تافهًا لا يليق بها»، أن يُعطوا الجزء الأكبر من نصيبها في بقية التركة هذه لأختها، وأن يجعلوا ما وهبوه أو أعطَوه للفتاة التي تتزوَّج بهذه الطريقة، بقدْر ما يمكنهم من الحذَر، في صورة معاشٍ سنويٍّ لها هي فقط، بعيدًا عن مُتناوَل زوجها؛ أو، في الحقيقة، أن يتصرَّفوا على نحوٍ قريب جدًّا من هذا، بحسب ما يرَونه الأفضل تبعًا لما يُمليه عليهم اجتهادهم.
دُفن الرجل العجوز على نحوٍ لائق. وأُثبتت الوصية. واستحوذ منفذو الوصية على الملكية، وحوَّلوا التركة إلى نقد؛ وبدأ الأوصياءُ يُمارِسون الجزء الأول من وظائفهم. لقد أُعلنت الوصية في حينها، وأُفهِمت الفتاتان على نحوٍ غير مباشر إلى أي مدًى أصبحتا تحت سلطة أوصيائهما.
بعد فترةٍ ليست بالطويلة من ذهاب غازل القطن العجوز لتقديم كشف حسابه الأخير، سُمِعت أرملتُه وبنتاها وهنَّ يتفجَّعن على فقدانه بعباراتٍ تستدرُّ الدموع. لم يستطعنَ أن يتحملنَ الذكريات الأليمة التي واجهْنَها في كل مكان، وفي كل مناسبة، في المدينة، ولكي ينجون، كما زعمن، من المحنة الروحية التي يُسببها لهنَّ مَوطنُهنَّ الأصلي، قررن، عملًا بنصيحةِ أصدقاء حميمين للغاية — هكذا قُلن أيضًا — أن يُقِمنَ في العاصمة الكبرى.
قال بعضُ الحاقدين إنَّ الغرور هو الذي أخرجهنَّ من المدينة التي صُنعت فيها ثرواتُهن، وإنهنَّ أردنَ أن يُطلقنَ العنان لنزواتهن، بطريقةٍ محترمةٍ بعض الشيء، في الملذَّات المُستهترة الشائعة في لندن في ذلك الوقت، وإنَّ أُمَّهنَّ كانت على علمٍ بخطةٍ أعدَّتها الفتاتان لجذْب أزواجٍ من وسطٍ أكثر رُقيًّا من ذلك الذي في شمال إنجلترا.
إنني مُلزَمٌ أدبيًّا بالقول إن تحقيقاتي لم تقُدْني إلى أيِّ دليلٍ على صحة هذه المزاعم يكون له أثرٌ سلبيٌّ على بطلات قصتنا. لكنَّ من الحقائق المُقررة أنه في غضون بضعة أشهرٍ بعد دفن الرجل العجوز، انتقلت الأسرةُ التي خلَّفها وراءه إلى لندن، وأخذَت منزلًا أنيقَ الأثاث في منطقة كينسينجتون. إن سمسار المنازل الذي أجَّر لهنَّ البيت قد وصفه بالجوهرة؛ وكان لتغيير المنظر تأثيرٌ واضحٌ ونافعٌ على صحَّة ومعنويات الأم وبنتيها.
أحدثت الوافداتُ الجديدات «ضجةً» في كينسينجتون. كان التجَّار في حالة تأهُّب، وراحوا يجتذبون الزبونات، ويرْشون الخدَم كي يتعامَلوا معهم دون غيرهم من التجار. كان هؤلاء كُثرًا، وليس من الضروري أن أُضيف أنَّ كل ما كان يُستهلك أو يُطلَب كان يُدفَع ثمنه في الحال.
قال الخدم، الذين أسعدهم الحظ بالحصول على وظائف مع هذه العائلة، إنهن كُنَّ أفضل سيداتٍ على الإطلاق؛ ولمَّا لم يكن من السهل إرضاءُ نُزلاء المطابخ وحُجرات حفظ المؤن، فإنني أُسلِّم بأن الخدم قد لقوا عنايةً جيدة. لكن لكي لا أُرهق القارئ، يُمكنني أن أقول إن عائلة إتش … عاشت بنمطٍ حياتي رائع، وإن كان على نطاقٍ محدود نسبيًّا؛ لدرجة أن سمعتهن؛ أعني سمعة ثروتهن، كانت موضوعًا دائمًا للتخمين والتعليق.
بعض الأشخاص الذين حضروا حفلاتهن الفخمة القليلة صدَّقوا كل تلك الشائعات المنسوبة إلى العائلة؛ لكن أشخاصًا آخرين، من غير روَّاد هذه الحفلات، كانوا يميلون إلى عدَم تصديق الشائعات المُنتشِرة عن ثروة الفتاتين؛ وحتى السيدات والسادة من الجماعة الأخيرة عُرِف عنهم أنهم كانوا يُطلقون عليهما نعوتًا من قبيل «مغرورات»، و«مختالات»، إلى آخره. بقِيَت نخبةُ بيلجرافيا وتيبورنيا بعيدًا، في شيءٍ من الريبة. فلم تكن الآنستان من سيدات المجتمع الراقي، كما أنَّ أُمهما كانت من السُّوقة في أعين هؤلاء الناس. رغم هذا لم يكن قليلًا عددُ أولئك الناس — ممَّن يستحقون أن يُعَدُّوا من الطبقة الراقية — الذين وجدوا ما يسرُّهم على مائدة أرملة غازل القطن.
كان من بين الضيوف الأثيرين في منزل الأرملة، سيدٌ في حوالي الخامسة والعشرين من العمر. كان طويل القامة بعض الشيء، أهيف البنية، ذا بشرةٍ داكنةٍ، وشعرٍ يقترِب من الأسوَد الفاحم. كان وصف الذكاء أقلَّ من أن يصِف ملامحه. كانت ملامحه تدل على نشاطٍ عقلي وقوة. كان في عينه تعبيرٌ لم أُحِبه كثيرًا، إذ كنتُ قد رأيتُه بعد أشهرٍ قليلة من زيارته الأولى لمنزل السيدة إتش …؛ وكان كذلك في وجهه وفمه تعابير تنمُّ عن نذالةٍ كامنةٍ في شخصيته. لقد قُلتُ هذا في أول مرةٍ وُضعَت مُنمنمةٌ للوغد بين يدَيَّ؛ وعندما تعرفتُ على الأصل، لم يَحدُث إلا أن تأكَّدَتِ انطباعاتي الأولى أو وجدَت ما يُبرِّرها.
إن مَن قابلوه في رفقةٍ قد اتفقوا تقريبًا أنه كان رفيقًا دمثًا ولطيفًا. لكن أُناسًا قليلين هم من قابلوه في منزل السيدة إتش …؛ فدائمًا ما كانت تمنعه ارتباطاتٌ مهمةٌ من تلبية الدعوات لحضور الحفلات. فكان يُضطرُّ دائمًا تقريبًا للاعتذار عن غيابه عن هذه المناسبات، الأمر الذي كان، بالطبع، يُسبب له كثيرًا من الضيق. لكنه كان يُعوِّض غيابه عن الحفلات بحضوره الدائم إلى المنزل عندما لا يكون فيه أحدٌ غيرُ العائلة. وهكذا بات يُمضي الكثير من فتراتِ ما بعد الظهيرة معهن، الأمر الذي لاقى قبولًا واستحسانًا كبيرَين لدى الأم وبنتيها، وخصوصًا الآنسة إيميلي، الأخت الصغرى، التي كانت قد وافقت في قرارة نفسها على أن تُصبح زوجةً لهذا الرجل بعد أقل من شهرٍ من أول لقاء لها به.
كانت إيميلي شابة جميلةً صغيرة، في الحادية والعشرين من العمر، وكانت تصغُر أختها بسنتَين فقط. كانت فتاةً وقحةً ومُدَّعيةً بعض الشيء، وكانت شخصيتها تُظهِر الكثير من أفضل سِمات السلالة التي انحدرت منها، وقد أفسدَها التعليم الرديء الذي تلقَّته في المدارس الداخلية. لقد اكتسبت في هذه المدارس أخلاقياتٍ زائفة، ونزعةً عاطفيةً خطيرة، واكتسبت عادةً في الخداع برهنَت، كما تُبيِّن هذه القصةُ الحزينة، على فسادها المُطلق.
عندما عمَد هذا الخاطبُ، الذي سأدعوه الآن تشارلي إدواردز (رغم أنه ذهب إلى كينسينجتون تحت اسمٍ آخر)، إلى التودُّد إليها سرًّا، لم تأبَ عليه. كانت تعلَم أنه، وفقًا لقواعد المجتمع المهذَّب، كان ينبغي أن تتزوَّج أختها قبل أن يأتي دورُها هي؛ وكانت تعلَم أن هذا كان هو الترتيب الذي تقتضيه خطةُ أمِّها. وقد برع النذلُ الذي تتحدَّث عنه هذه القصةُ الواقعية في اتخاذ هذه الحقيقة عُذرًا وذريعةً للسرية. وبعدما نجح في جزءٍ كبير جدًّا من خطته، رأى أن البقية سهلة. كان يعلَم ما يكفي من طبيعة النساء بحيث يعرِف أن فتاةً سخيفةً كهذه، إذا أُغويَت مرةً لكسر قانونٍ من قوانين الحياة الاجتماعية، فلن يردَعَها أيُّ تعقُّلٍ بعد ذلك، إلا إذا كانت على عتبة الخطيئة، ولم يكن جزءًا من خطة هذا الوغد أن يعتدي على الفتاة، أو أن يظلِمَها، قبل أن يجعلها زوجةً له. استمرَّت المُراسَلات بينهما كحبيبَين لفترةٍ قصيرة قبل أن يُكتشَف أمرُها. وبما أنني أقول الحقيقة، يُمكنني كذلك أن أقول إنه قد وقع شِجارٌ — أو ربما عددٌ من الفضائح، في منزل السيدة إتش … — لم يَقِلَّ عنفًا ووقاحة عن أي شجارٍ حدث يومًا في الطبقات الاجتماعية الوضيعة من المجتمع.
ثارت الأمُّ وبكَت، ونفَّستِ الأختُ الكبرى عن غضبها بعدة أساليب تخيُّلُها أسهل من وصفِها. وكان ردُّ الآنسة إيميلي عليهما بالمِثل، ولم تقتنع بخطأ تصرُّفها. كانت مُستقرة على فكرةٍ واحدة؛ لقد أصبحَت سيدةَ قرارها. كانت مُستعدةً لتحمُّل كل المخاطر. سوف تتزوَّج من الرجل الذي أحبَّته وقتما تُريد. لم يكن على أُمِّها وأختها أن تشغلا نفسيهما بمصيرها أو ثروتها. كانت ستتزوَّجُه في الحال، إذا أرادها. وانتهى النزاع كمعركةٍ متعادلة لا فائز فيها.
في غضون ذلك تراسَل الحبيبان، اللذان كانا مُستعدَّين لاحتمالية حدوث شيءٍ كهذا، وتقابلا. كانت خادمةُ الآنسة إيميلي هي من تُدبِّر موعدَ اللقاء ومكانه. وبعد أُسبوعٍ من اكتشاف الأمر أصبحت إيميلي السيدة … لم تكن تعلم اسمَ زوجها حينئذٍ، وينبغي ألَّا يعلمه القارئُ أبدًا. كانت نتيجة المُراسَلات السرية زواجًا سرِّيًّا.
سار كلُّ شيء على ما يرام لمدةٍ قصيرة. كان مع العروس بعض النقد السائل، وكذلك العريس. تظاهرت الأم والأخت بلامبالاةٍ غير حقيقية، وكانت السيدة إدواردز مفتونةً للغاية بوضعها الجديد وبأصدقاء زوجها حتى إنها لم تعُد تعبأ بأقاربها في كينسينجتون.
قالت في رسالةٍ إلى أحد أقاربها في الريف: «إن أصدقاء عزيزي تشارلي هم أروع أصدقاء قابلتُهم في حياتي.» كان أولئك الذين سُمح لها برؤيتهم رفاقًا لُطفاء جدًّا، رغم أنه من المُمكن أن أذكر هنا أنه كان له مجموعةٌ أخرى من الأصدقاء، أو سلسلة مجموعات، كانت تصرُّفاتهم ولُغتهم تصدم حتى مفاهيمَها هي عن آداب السلوك، ولم تكن مفاهيمُها تلك من النوع المُغالى فيه أو الصارم. كانوا يتحادثون في موضوعاتٍ ليست أعلى ولا أدنى من مستوى فهم سيدةٍ من طراز بطلةِ قصتي، ويُدخِّنون أفضل أنواع السيجار في حضورها، وكانوا يُصرِّحون لها بعبارات الثناء لأنها كانت تمنحهم تلك الحرية. كانوا يشربون، لكن دون إفراط، ويمزحون بحُريتهم، «مثلما يفعل السادة والنبلاء»، هكذا قالت.
عندما استُنفِد المخزون الحالي من المال، لم يجد تشارلي صعوبةً في جمع المزيد منه بتوقيع إيصالات أمانة، وبنوعٍ من الضمان أو الرهن لمُمتلكات زوجته.
قضى الزوجان الأسابيع الثلاثة الأولى في سكاربرو. وعند عودتهما في الأسبوع التالي، والذي مرَّ وكأنه ثلاثة أشهرٍ على الطريقة التي وصفتُها، وأثناء كل هذه الفترة لم تأتِ ساكنتا كينسينجتون إلى ساكنَي نوتينج هيل، ولا زار ساكنا نوتينج هيل ساكنتَي كينسينجتون. كان كِلا الفريقين يلعب لعبة الانتظار، وكان من الممكن أن تتصالح السيدة العجوز مع ابنتها، لو لم يرفض العزيز تشارلي بعنادٍ شديدٍ أن يتَّخذ هو، أو أن يترك زوجته تتَّخِذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. كان واضحًا لبعض الناس أنه لم يُرد، وربما كان يُفضِّل ألَّا يحتفظ بصداقته مع أسرة زوجته. ربما كان هذا في الواقع سيعوق خُطَطَه، وكان لديه مُبرراتُه التي تجعله يُفضِّل أن تُعفياه من مَساعيهما الحميدة.
في صباح أحد الأيام كان تشارلي مُرتديًا مِبْذلًا، وطلب قهوته وهو يتثاءب، وكان يُدخن غليونًا مرشوميًّا بكسل، بينما يتظاهر بقراءة الجريدة، تمامًا كما قد يفعل أعزب ذو استقلالية كافية. كانت حبيبته إيميلي تحاول أن تقتل الوقت بإبرةِ كروشيه، أو ربما كانت مشغولةً بشيءٍ ما مُستحوذٍ على تفكيرها، نسيت ما هو. وهنا أُعلِنَ عن قُدوم أحد الضيوف. كان أحد الأصدقاء الرائعين المرِحين الأسخياء، كما يبدو واضحًا، الذين تغنَّت كثيرًا في رسالتها المعروفة بعبارات الإطراء التي كانوا يُلقونها على مسامعها، سوف أُسميه روبنسون.
«يا إلهي! تشارلي، عزيزي، كيف هذا؟ ما الذي حدث في الليلة الماضية؟ يا إلهي! مدام إدواردز — أرجوكِ المعذرة — لقد كدتُ أنساكِ، يا للمُفاجأة!» هكذا ثرثر المُتطفِّل.
أجابه تشارلي: «أوه، لم يحدُث شيءٌ في الليلة الماضية، صدِّقني.» وأردف قائلًا: «لكنَّ الوضع مُمِلٌّ بشدة في لندن الآن، وأنا وإيم كُنا نستمتع ببهجةِ زواجنا في هدوء، كما تعرف، ولم نكن نتوقَّع زيارة راتلبرين هنا الآن قبل بضع ساعات.»
«يا إلهي، إنني أعرف أني مُرَحَّبٌ بي دائمًا، أليس كذلك يا مدام إدواردز؟ وسوف آتي دائمًا عندما أُحب؛ لكن، يا صديقي العزيز، إذا كنتَ ترى لندن مُملةً، لماذا لا تأتي إلى باريس معي أنا وجاك نولان؟»
«هل أنت ذاهبٌ إلى باريس؟ متى؟»
«أوه، لا أدري، فلم نُحدد اليوم بعد، كما قالت الخادمة العجوز عن زفافها، لكنه سيكون في غضون أسبوعٍ تقريبًا، فيما أظن. هل ستأتي؟ يا إلهي، لا تتجهَّمي يا مدام إدواردز؛ اجعلي هذا البائس يأخُذك معه، هكذا أرى.»
«حسنٌ، ما رأيكِ في ذلك يا إيم؟»
كانت إيم صامتة. كان ذلك النوع من الصمت الذي ربما يكون من المَقبول دائمًا تفسيرُهُ على أنه موافقة، وهكذا فسَّر تشارلي قصْدَها به.
«أرى أن إيم تودُّ أن تذهب، لكنها فقط قَلِقَةٌ على جيب زوجها الحبيب. الزوجة الصالحة كنز أيها الشاب راتلبرين. متى ستتزوَّج حقًّا؟»
«كُفَّ عن هذا. متى سنذهب إلى باريس؟»
«أُوه، لنقل يوم الاثنين القادم.»
«الاثنين؟! لا، الثلاثاء؛ عندي موعدٌ مع المحافظ يومَ الاثنين.»
«المحافظ، صحيح؟» وضحك تشارلي وكأنه رأى أن هذا الزعم كان مزحةً جيدةً جدًّا يمكنه الضحك منها دون خوف.
سوف يتساءل القارئ: خوف من ماذا؟
حسنٌ، من أي شيءٍ مثل الكذب أو الرياء، أيها القارئ العزيز.
رأت السيدة إدواردز أن الوقت قد حان لقول وفعل شيءٍ ما، وهكذا، وبالطريقة التي كثيرًا ما تتدرَّب عليها الفتيات، عندما تذهب إحداهن إلى ما يمكن وصفه بحق ﺑ «مدرسة الكياسة»، جذبَت إليها سبلتَي «حبيبها تشارلي»، وقبَّلَته، وسألَت: «متى سنذهب؟»
«الثلاثاء، أرجوكِ، ليكن الثلاثاء. أي يومٍ تريدينه. الأيام كلها سواء عندي.»
بعد حسْم هذه النقطة، غيَّروا المحادثةَ إلى موضوعٍ تافهٍ يبدو أن هذه المجموعة المُتحذلقة من المخلوقات البشرية قد استمتعوا به. بدا في النهاية أن السيدة إدواردز، في حوالي الساعة الواحدة، أخذت تُفكر أن مظهرها لم يكن لائقًا تمامًا بابنة مليونيرٍ راحل، ولا زوجة سيد نبيل مثل حبيبها تشارلي؛ لذا صعدَت إلى غرفتها في الطابق العلوي، وتركت الرجُلين بمفردهما.
اتَّخذت المحادثة الآن نبرةً أكثر خفوتًا وشكلًا أكثر جدية. كان راتلبرين الآن هادئًا ومنتبهًا. وأصبح تشارلز جادًّا وحاسمًا. سيكون من دواعي سرور القارئ أن يتقبَّل مُبرري لعدم سرد تفاصيل هذه المناقشة، التي كثيرًا جدًّا ما يُقابلها في التقارير الصحفية عن المناقشات البرلمانية، والخُطب التي تُلقى في الاجتماعات السياسية؛ فأصوات المتحدثين، عزيزي القارئ، إذا سمحتَ لي، لم تكن مسموعةً لي؛ لأنني لم أكن موجودًا في ذلك الوقت. هل هذا التفسير غير مُقنِع؟ انتظر قليلًا، وسيظهر كُنه المحادثة، أو الخطة التي اتَّفقا عليها، في ثنايا هذه القصة.
في يوم الثلاثاء غادرت المجموعة لندن متوجهةً إلى باريس، ووصلوا في الوقت المُحدَّد إلى فندق إ… ﺑ…، وهو «فُندقٌ إنجليزيٌّ» بارزٌ، في شارع ﺳ… د… (يجب أن يعذُر القارئ حرصي على تجنُّب إظهار أي شيءٍ قد يكون من شأنه أن يدلَّ على هُوية أُناسٍ أبرياء.)
انقضت عشرةُ أيامٍ أو نحو ذلك في العاصمة المُبهجة، قبل وقوع الحدث الأساسي الذي أنا بصدد أن أقصه عليكم. كان السيد والسيدة إدواردز، وروبنسون، ونولان، بارزين بدرجاتٍ مُعينة في كل مكانٍ من أماكن الترفيه العامة. لا أعرف أنهم قد أُذن لهم بدخول الأوساط الاجتماعية الراقية، لكنَّني تأكدتُ أنهم زاروا خلال الأيام العشرة التي لا تُنسى كل الأماكن تقريبًا المذكورة في دليل السُّيَّاح.
كانت مجموعتي من الضيوف الأثيرين؛ فَسُلوك إدواردز اللطيف، وحديث روبنسون المرِح، وذكاء نولان المُتوقِّد، وحياء السيدة إدواردز — لأنها كانت، كما قالت، أو كما حاولت أن تقول بالفرنسية، مثل سمكةٍ خرجت من الماء — كل ذلك جعلهم صُحبةً لطيفةً على «مائدة المُضيف»؛ ولمَّا لم يكونوا في احتياجٍ إلى المال، كان المُضيف والخدَم مسرورين بضيوفهم. قالت سيدةٌ عزباء؛ امرأةٌ إنجليزية، في حوالي الخامسة والثلاثين من العمر، وكانت تميل بعض الشيء إلى النقد القاسي، قالت إن تصرُّفات إيم كانت مُتحررةً أكثر مما ينبغي. وقد زعمت هذه المرأةُ فيما بعد أنها رأت روبنسون يُقبِّلها عدةَ مراتٍ «خِلسةً». إنني بالطبع لا أُصدِّق أنه كان ثَمَّةَ مسحة من الحقيقة في هذا الاتهام تحديدًا، مع أنني مُلزَمٌ أدبيًّا بالاعتراف بأنها لم تكن تُظهر من الاحتراس ما كان ينبغي لها أن تُظهره في اعتقادي. من ناحيةٍ أخرى، ربما يسأل سائلٌ: ألم يُعرِّفها زوجُها بروبنسون ونولان؟ ألم يكونا صديقَيه؟ ألم يضعها هو في طريقهما، وطالبها بالتبسُّط معهما؟ سوف يتقبَّل القارئ تصريحي الجِدِّي، إن كان ذا قيمة، على أن إيميلي لم تكن، لا في فعلها ولا في أفكارها، خائنةً لزوجها.
تلقَّى إدواردز رسالةً مُبهمةً، عن طريق البريد، تتهم زوجتَه بهذا الجُرم المُنافي لآداب الحياة الزوجية. كَتبَت هذه الرسالة، وأنا في حِلٍّ لقول هذا، تلك المرأةُ العزباء، التي كانت تُقيم وقتئذٍ في فندق إ… ﺑ… قرأ إدواردز الرسالة وهو غير مُبالٍ؛ إذ لم يبدُ أي تغيير في سلوكه. ووضع الرسالة بعنايةٍ في جيب أحد المعاطف.
في مكانٍ ما في اليوم التاسع تقريبًا من إقامتهم في باريس، اجتمعت إيم وتشارلي فيما يُسمَّى في البرلمان لجنة الطرائق والموارد. كانت محفظة نقودها فارغةً تقريبًا، وكذلك محفظته. ماذا عساهما أن يفعلا؟ هل يقترضان من روبنسون؟ لا! من نولان؟ لا! سوف يكون هذا مُهينًا للغاية. يجب أن يعود إلى لندن، ويقترض مبلغًا آخر من المال. وكان عليها أن تبقى رهنًا في الفندق إلى أن يتمكَّن من تحريرها. ثلاثة أيام على الأكثر كانت كافية لذلك. بكَتْ أو نشجت بالبكاء بسبب أول افتراقٍ لها عن «حبيبها تشارلي». وعزَّاها بتأكيده لها أنه لن يغيب عنها أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام. وهكذا تَقرَّر أن يُغادر في الحال، أعني، في غضون بضع ساعات، وأن يُسرع قدْر استطاعته بالعودة.
عند رحيله سألَته قائلةً: «سوف ترسل لي رسالةً كل ليلة، أليس كذلك يا حبيبي تشارلي؟»
«حبيبتي إيم، من غير المُحتمَل أن أتمكن من فعل هذا وأنا على متن القطار أو الباخرة طوال مدة سفري، إلا في ساعاتٍ قليلة.»
جرت مقابلةٌ بين إدواردز والرجُلين الآخرَين، وذلك عندما أَخبرهما بنيته المغادرَة إلى لندن لأمرٍ خاصٍّ وعاجل، لكنه لن يتأخر هناك سوى أيامٍ قليلة فقط. في غضون ذلك، ترك زوجَته الفاتنة الصغيرة في رعايتهما. وردَّد إدواردز الحديث ذاته عن رحلته، وعن سببها، للضيوف على «مائدة المُضيف»، واستقلَّ قطارًا ليليًّا من سكك حديد الشمال. لكنه لم يُسافر إلى لندن. هل ملأ محفظة نقوده، في الطريق، مرةً أخرى؟ هل تأكد أنه يستطيع الاستغناء عن المال، مثل بيكي شارب في رواية دار الغرور؟ أم اكتشف مخزونًا جيدًا من الأوراق النقدية في جيب ساعته أو محفظة جيبه؟ أنا أميل إلى النظرية الأخيرة. على أي حال، لم يتجاوز إدواردز مدينة بولوني، وبقِي هناك يومًا كاملًا.
في الليلة التالية، عندما انطلق القطار الليلي من بولوني إلى باريس، قطع السيد تشارلز إدواردز تذكرة، وعاد إلى العاصمة الفرنسية. ووصل إلى باريس في منتصف الليل تقريبًا، وتوجَّه مباشرةً إلى فندق إقامته.
أثناء غياب زوج المسكينة إيميلي، كان روبنسون يُرافقها لحمايتها، وفي تلك الليلة دعا هو ونولان أنفسهما لقضاء ساعةٍ أو ساعتَين في غرفة الجلوس عندها. لم تعترِض إيميلي على الإذن الذي منحه صديقا زوجها لأنفسهما. لم ترَ في استقبالهما أي منافاةٍ للياقة والاحتشام، وبذلت غاية وسعها في جعلهما مُرتاحَين. مرَّت الليلة كما مرت الليالي الأخرى، عندما كان الأصدقاء يبقون في البيت، وقبل الساعة الثانية عشرة انفضَّ الجمع الصغير.
سمحت الحاجبةُ للسيد إدواردز بدخول الفندق، دون أن تسأله أية أسئلة، وتوجَّه إلى غرفة نومه. بعد ذلك مباشرةً، صفق الباب بعُنف، بعدما أدار المفتاح من الخارج، وبدأ يصرُخ كالمجنون. كان روبنسون، ذلك الوغد، الذي صاح إدواردز باسمه، نائمًا في مكانه إلى جوار إيميلي! أيقظ هذا الضجيج، في مثل هذا الوقت، نصف النُّزلاء، والضيوف، والخدَم في الفندق؛ وعندما أُدير المفتاحُ مرةً أُخرى، رأى أكثرُ من عشرين شخصًا السيدة إدواردز المسكينة وهي تستيقظ على صوت الضجيج، وتفرك عينيها، وهي غائبةٌ عن الوعي جُزئيًّا، وفي حالة ذهولٍ تام. أيقظت روبنسون لكمةٌ قويةٌ سدَّدها له سيدٌ ريفي، سوف تجدون اسمَه في كتاب بيرك «نبلاء الريف»، لكن يجب ألَّا أذكره هنا. كان ثَمَّةَ مأزقٌ أكثر إيلامًا من مأزق أمينا في الأوبرا التي ألَّفها بيليني؛ وأفظع من أي شيءٍ عرفه القارئُ في حياته.
كان من الممكن أن يُقسِم على ثُبوت الأدلة الواضحة على خطيئة إيميلي عشرون شاهدًا من أشرف الشهود بين كلِّ من أدلَوا بشهاداتهم يومًا أمام أي محكمةٍ في الدنيا. فلم يظهر للمُشاهدين أيُّ تفسيرٍ على الإطلاق يتوافق مع براءتها. قالت المرأة العزباء، التي كانت حاضرةً في هذا المشهد، إن الأمور انتهت كما كانت تتوقَّع لها أن تنتهي تمامًا. لم تتفاجأ على الإطلاق. كانت مُتعجِّبة فقط كيف أَمكن أن يظل السيد إدواردز المسكين غافلًا طوال هذه المدة عمَّا كان واضحًا للآخرين جميعًا، وأكثر بكثير على شاكلته. تذكر الحاضرون جميعًا، وقد بدءوا الآن يُفكرون في الأمر — أو هكذا قالوا — أنه كان ثَمَّةَ الكثير من مظاهر الحميمية الزائدة غير اللائقة بين روبنسون وإيميلي. نعم! الآن تذكَّروا جيدًا جدًّا النظرات المختلسة بين الآثمَين على «مائدة المُضيف» وأخذ الناس، على مائدة الفندق، خلال الأسبوعين أو الثلاثة التالية، يُعدِّدون مئاتٍ من خُدَع حُبهما المُحرَّم.
أُصيبت إيميلي بنوبةِ حُزنٍ عنيفة. كانت تصرفاتها هستيرية؛ لكن فكرة جريمتها المزعومة ظلَّت مُلازمة لها. لم تكن تتكلَّم عن شيءٍ آخر خلال الفترة التي ظلت خلالها في الفندق. بالطبع تخلت عنها السيدات المُقيمات هناك اشمئزازًا منها، وأحضر المُضيفُ من مكانٍ ما امرأةً فرنسيةً طيبةَ القلب اعتنتْ بها إلى أن وصلَت الأمُّ الأبية من كينسينجتون. عندئذٍ نقلَتها أُمُّها على الفور تقريبًا إلى إنجلترا. ظلَّت السيدةُ العجوز حرونًا مثل الأُخريات لبعض الوقت. لقد أمطرت إيميلي بوابلٍ من التأنيب، مُبينة كيف أدَّت جريمةٌ إلى أُخرى، وجاعلةً العلاقةَ بين الزواج السري والزنا مثل علاقة حتمية بين سببٍ ونتيجته؛ لكنَّ كرب الابنة التعيسة كان شديدًا للغاية، وكانت تأكيداتها على براءتها قويةً جدًّا، لدرجة أن ثقة الأم تزحزحت في النهاية، وتوصلَت إلى استنتاجٍ جديد مُزدوج؛ وهو أن روبنسون كان نذلًا، وأن إدواردز كان، رغم كل شيء، جديرًا بأن يُرثى لحاله، رغم أنه لم يتصرَّف كما ينبغي لرجلٍ نبيل أن يفعل عندما هرب مع ابنتها.
استخفى روبنسون بقدْر ما أَمكنه بعد بلوغ الأحداث «ذروتها»، وقد قيل لي إنه كان حاذقًا بما يكفي بحيث هرب تلك الليلة إلى غُرفته، حيث لم يخطر على بال أحدٍ أن يلحق به، ولم يكن به سوى كدمةٍ وجرحٍ طفيفٍ أو اثنين، كتذكاراتٍ لسُخط السادة الأرستقراطيين على جريمته. في صباح اليوم التالي دفع فاتورته، وغادر إلى بروكسل. كان من دواعي سرور صاحب الفندق أن يتخلَّص منه دون مزيد ضجيج؛ ولذا انصرف في هدوء. كان من شأن الفضيحة أن تُشوِّه سُمعة الفُندق؛ لذا كان «المُضيف» سيسعد لو أن الضيوف لم يتكلموا في الردهة عن الموضوع. لكنه كان لديه مثَلٌ فرنسيٌّ يساعده، وهو مثلٌ يُوازي الحكمة الإنجليزية القائلة: «ما لا يمكن علاجُه، ينبغي تحمُّله.» لمَّا لم يستطع إسكاتَهم، ولمَّا كانوا هم «زبائنه الدائمين الطيبين»، صَبَرَ على هذا الحديث البغيض ريثما انتهى، واحتفظ برأيه في الموضوع لنفسه. فكرةٌ واحدةٌ خطرت بباله واسَتْه عن أي خسارةٍ فعلية أو إزعاج؛ لقد كان يعرف اسم كل نزيلٍ من نزلاء فندقه وعناوينهم المعتادة. سوف يحتاج الزوجُ الجريح هذه المعلومات، وسوف يحتاج مجموعةً منوَّعةً من الخدمات في سبيل الحصول على الدليل ضدَّ زوجته وعشيقها. وسوف يحصل على هذا، لكن عليه أن يدفع مُقابله، وبسخاءٍ أيضًا، مثلما يفعلُ أيُّ سيدٍ إنجليزيٍّ نبيل.
أما عن السيد تشارلي إدواردز، فاسمحوا لي أن أكتفيَ الآن بالقول إنه أيضًا غادر الفندقَ في اليوم التالي، وكان يبدو عليه حُزنٌ شديد. لم يُودِّع زوجته. وقال للمُضيفة إنه لن يحتمِل هذا اللقاء. ورجاها أن تعتني بإيميلي إلى أن تصل أمُّها. أرسل تشارلي رسالةً، مليئةً بالشجن الرجولي، إلى كينسينجتون. ووصل إلى لندن بالقطار من مدينة فولكستون في مساء اليوم الذي غادر فيه باريس.
•••
بعد وقتٍ قصيرٍ جدًّا من وقوع الأحداث الأليمة الأخيرة، استدعاني المحامي الذي أشرتُ إليه. كان في حيرةٍ من أمره. لقد كان يعتقد هو أن المُرجَّح أن خُدعةً واحتيالًا شديدَي البشاعة والقسوة قد ارتُكبا، ولكن الغياب الواضح لوجود دافعٍ لتدمير سُمعة الزوجة الشابة كاد يؤدي به إلى استنتاجِ أنها كانت مُذنبةً لا محالة. لقد قال له محامي الزوج بوضوحٍ شديدٍ إنه يجب أن يحصل الزوجُ على مالٍ إذا كان من الممكن إقناعُه بالامتناع عن جلْب العار على عائلتها ومعارفها. مع ذلك، كما لاحظ محاميَّ، كان الرجل سيحصُل على القدر نفسه، أو في الواقع أكثر بكثيرٍ مما يمكن أن يحصل عليه الآن، من المال، بالإضافة إلى زوجةٍ شابةٍ جميلةٍ على قدْر عالٍ من الاحترام، لو لم تكن الفضيحة قد وقعَت أو جُلبت. وأصابتني الحيرةُ أنا أيضًا.
أول صعوبة واجهَتني كانت في معرفة وظيفة السيد إدواردز أو أسلافه. قيل آنذاك إنه كان في أوروبا، بعيدًا عن إنجلترا، وقد ارتأيت أنه ليس من الحكمة إرسال طلبٍ مباشرٍ إلى مُحاميه في هذا الشأن؛ إذ كان من الممكن أن يجعله هذا يأخذ حذره. لم تكن السيدة إتش …، والدة إيميلي، تعلم أيَّ شيءٍ عنه. لقد تعرَّفَت عليه في معرضٍ للزهور، وأعطاها عنوانه على أحد الفنادق، زاعمًا أنه عاد لتوِّه من فرنسا، حيث أقام سنواتٍ عديدة. لم أستطع التعرُّف عليه من خلال صورةٍ أو مُنمنمة. ولم يكن للسؤال في الفندق الذي كان يعيش فيه، عندما كان يُغازل زوجته، ليُسفر عن اكتشاف شيءٍ عنه سوى اليوم الذي وصل فيه إلى هناك، لكنَّ أحدًا لم يعلم من أين أتى.
أخيرًا اهتديتُ إلى الطريق الصحيح، وفي خلال شهرٍ كنتُ قد نصبتُ شَرَكي الذي سقط فيه أحد المُجرمين الحقيقيين؛ وهو نولان. عندما كان هناك، بدأ الخوف يتملَّكه، كما يفعل الأوغادُ دائمًا، على سلامته الشخصية؛ ولمَّا كان أقلَّهم جُرمًا، فقد وصلتُ إلى حدِّ أن وعدتُه بمكافأةٍ إذا تمكَّن من إقناعي بأنه قد قال كلَّ شيءٍ عن القضية. وقلتُ له إنه إن لم يفعل هذا فسأُسلِّمه للشرطة في الحال، وألمحتُ بُلطفٍ إلى أن لديَّ مبررًا للاعتقاد أنه كان مطلوبًا في قضيةٍ أخرى. لقد أخبرَني بما أعتقد أنه القصة كاملةً، وتركتُه وأرسلتُ معه رسالةً إلى المحامي الذي استعان بخدماتي، واقترحتُ فيها أن يُعطَى عشرةَ جنيهاتٍ إسترلينية في الحال، مع تعهُّدٍ بإعطائه أربعين جنيهًا أخرى، إذا أمكن التأكُّد من صحة قصته في نقطةٍ أخرى.
دون أن أكشف أمر نولان، علمتُ كلَّ شيءٍ عن روبنسون والسيد تشارلي إدواردز، والمكيدة الشنيعة من الألف إلى الياء.
كانت المؤامرة باختصارٍ هكذا. لاحظ روبنسون وصول الأسرة إلى كينسينجتون. قُيِّم موقف الأم وابنتيها. لقد اعتقدوا أن إحدى البنتَين، نظرًا لعدَم معرفتها بسكان العاصمة الذين يربو عددُهم على عشرة آلاف، سوف توافق على أول طلبٍ للزواج يُقدِّمه شخصٌ يُعتقد فيه أنه «نبيلٌ حقيقي». واختير إدواردز من قِبل رفاقِه ليؤدي دور العاشق. كان الوحيد على الإطلاق القادر على أداء ذلك الدور ببراعة. كان ما يحتاجون إليه هو النقد السائل. لم يكن أيٌّ منهم ليسعد بزواجه من إيميلي. كان لكلٍّ منهم «ارتباطه العاطفي»، الذي لم يُرد الانسحاب منه، ولم يكن أيٌّ منهم يستطيع أن يهرب من عبودية ميثاق الجريمة الذي أصبح طرفًا فيه.
لقد فحصوا الوصية قبل إتمام المكيدة، وبعدما درسوها بتمعُّنٍ توصلوا إلى أن الخطوات التي اتخذوها ستمكنهم من الحصول على مالٍ سائلٍ أكثر بكثيرٍ من أي طريقةٍ أُخرى. إذا أمكنهم إلحاق عارٍ بالأسرة، فإن أفرادها جميعًا سيوافقون على أي تسويةٍ ماليةٍ لمنع انتشار الفضيحة. كل شيءٍ قصصتُه في هذه القصة من البداية إلى النهاية حدثَ كما خطط له إدواردز، وروبنسون، ونولان، ربما باستثناء رسالة المرأة العزباء التي شكَّلت حلقةً قيِّمةً في سلسلة الأدلة.
لم أتأكد من نولان إن كانت هذه المرأة الودودة عضوة في التحالف، أم حليفة لا تعي حقيقة ما تفعل. اكتشفتُ كذلك، عن طريق التحقيق، أن إدواردز كان يعيش مع امرأةٍ لسنواتٍ عدة، وأنها أصبحت فيما بعد أُمًّا للعديد من أولاده. كانت هذه المرأة شريكةً في المؤامرة بموافقتها على التضحية بإيميلي. لقد كانت على علمٍ بدَورها السلبي في المؤامرة وأدته بالتخلي عن حبيبها لأداء دوره؛ وهو أن يُصبح العريس لزوجةٍ ينوي تدميرها.
كان باستطاعتنا، لو دعت الضرورة، أن نُثبت كل هذا عن طريق قَسَم نولان، والذي كان سيُبرهن على صدقه بمجموعةٍ من الأدلة المادية. إلى أيِّ مدًى كان من الممكن أن يتغلَّب هذا على الدعوى القوية، الظاهرة الوجاهة، التي شهد عليها الشهود المُستقلون في باريس، ليس أنا من يقول هذا، ولا يُهمني أن أُقدِّم رأيًا في قيمة الأبعاد الأخرى للقضية والتي أثقلت عقول وقلوب أسرة الزوجة التعيسة. لو نجحنا في منع الطلاق الذي كان مُقررًا أن يُقدَّم طلبٌ له، فسيتركز جوهر براعتنا في محاصرة الوغد الذي جار عليها من مدخل حقوق الزوج في دخل الزوجة طوال حياتها، إلا إذا أنقذتها العناية الإلهية بإزاحته هو أولًا من هذه الحياة، وحينئذٍ سيكون على الزوجة أن تُمدِّد هذا الرباط الزوجي البغيض إلى أن يموت.
لو وافقنا، في سبيل تحقيق خلاصها، على توسُّله من أجل الطلاق — بافتراض أنه مُستعدٌّ، في هذه الحالة، أن يُنفِّذه — سنكون قد سمحنا له أن يَسِمها، رغم براءتها، بوصف الزانية البغيض. وقد شعرنا أن هذه كانت معضلةً عسيرة. أو أننا، إذا افترضنا أن جريمة الأنذال الثلاثة أُدخلت في نطاق القانون الجنائي، فستنكشف الفضيحة الشنيعة. ولتجنُّب حدوث أيٍّ من الأمرين البغيضَين، تقرر، بعد مشاوراتٍ عديدة بين المحامي والمستشار القانوني لعائلة إتش … — ومشاوراتٍ بين والدة إيميلي، وأوصيائها، والمحامي — ومقابلاتٍ بين مُحامِيَي الطرفين، والكثير من التفكير المُضطرب من قِبل الضحية وصديقاتها، تقرَّر أنه سيكون من الحكمة الصائبة أن يُلزَم الزوجُ — بموجب صكِّ انفصال وتعهد، تلحق به عقوباتُه إذا انتهك تعهُّدَه في أي يومٍ من الأيام — بألَّا يُضايق زوجته المظلومة ظُلمًا بليغًا. وفي سبيل تنفيذ هذه الوثائق القانونية، دفع الأوصياء والأسرةُ للسيد تشارلي إدواردز مبلغ ٣٠٠٠ جنيه إسترليني.
ممَّا يُواسي المرء أن يعلم أن الأوغاد لم يستمتعوا طويلًا بمالهم الحرام؛ فقد سقطوا جميعًا في يدَي العدالة في أوقاتٍ مختلفة. نُفي إدواردز إلى ما وراء البحار، وعندما أخلَّ بإطلاق سراحه المشروط في أستراليا، تحوَّل إلى أحد قاطني الأدغال. وأثناء مهاجمته، هو وبعض رفاقه، لقوات حراسةٍ كانت ترافق الذهب المُستخرج من المناجم في بالارات أثناء نقله إلى ملبورن، أُصيب بطلقٍ ناريٍّ في القلب. أعتقد أن روبنسون ونولان على قيد الحياة، ويُكفِّران عن ذنوبهما في السجن. أما إيميلي، التي وجدت ما يواسيها في أعمال البر، فتعيش باسمٍ مُستعارٍ في إحدى المدن داخل أوروبا، بعيدًا عن إنجلترا، حيث لا أحد يعلم بقصتها السوداوية.