عبد الرحمن شكري ناقدًا
تحدثت في أول مقال من هذه السلسلة عن الأستاذ ميخائيل نعيمة وكتابه «الغربال»، وأوضحت أن حركة التجديد التي دعا إليها المهجريون، ومثَّلها في مجال النقد الأستاذ نعيمة في غرباله، وحركة التجديد التي دعا إليها شعراؤنا ونقادنا شكري والمازني والعقاد؛ أوضحت أن هاتين الحركتين قد نبعتا تلقائيًّا، وسارتا متوازيتين ساعيتين إلى هدف موحَّد، دون أن تكون إحداهما وليدة للأخرى، وإن تكن الحركتان تبادلتا التحية والتأييد، والشد على اليد.
إن ما قاله شكري لصحبه وتلاميذه في توضيح رأيه لَأضعافُ ما كتبه أو نشره في دعوته الأدبية؛ لأنه كان مطبوعًا على التعقيب الجامع الناقد على مطالعاته ومطالعات غيره، يتناول الديوان أو الكتاب أو المقال فيُجيل فيه بصره لحظة، ثم يلقيه وقد فرغ من وزنه وتقديره كما يفرغ الصيرفي البصير من تقويم الجوهرة بعد لمحة من بصره ولمسة من يديه، فإذا اطَّلع سامعه بعد ذلك على الكتاب، وعاود الاطلاع عليه مرة بعد مرة لم يكن ينتهي فيه إلى رأي أصدق من ذلك الرأي الذي فاه به شكري في جلسة واحدة، وخُيَّل إلى سامعه أنه من آراء البديهة والارتجال، وإنما هو في الواقع رأي الأناة المحفوظة لساعتها، يظهر مع المناسبة الحاضرة كلما تحركت دواعيه.
وقلَّ مَن يذكر الآن شكري حين يذكر الأدب ويعدُّ الأدباء، ولكنه على هذا رجل لا تخالجني ذرة من الشك في أن الزمن لا بدَّ منصفه، وإن كان عصره قد أخمله، ولقد غبرَ زمن كان فيه شكري هو محور النزاع بين القديم والجديد؛ ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل؛ فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه سنة ١٩٠٧م إذا كانت الذاكرة لم تخني (الصحيح أنه ظهر سنة ١٩٠٩م) وكنا يومئذٍ طالبين في مدرسة المعلمين العليا، ولكني لم أكن يومئذٍ إلا مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب مُعيَّن في الأدب، ورأي حاسم فيما ينبغي أن يكون عليه، ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أُنكر أنه أول من أخذ بيدي وسدَّد خُطاي، ودلَّني على المحجة الواضحة، وأنني لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى.
وكتب في عدد ١٢ من أبريل سنة ١٩٣٠م من الجريدة نفسها؛ يقول: «وقد احتمل شكري وحده في أول الأمر وعكة المعركة بين القديم والجديد.» ثم يقول: «وشكري رجل حسَّاس رقيق الشعور سريع التأثر وهو بطبعه أميل إلى اليأس؛ فشقَّ عليه أن يظل يدأب وليس مَن يُعنَى به، وأن يقضي خير عمر ويرفع صوته بأعمق ما تضطرب به النفس الملهمة الحساسة، وليس من يستمع إليه أو يعيره لفتة!»
وفي عدد فبراير سنة ١٩٥٩م من مجلة «الهلال» نطالع للأستاذ العقاد مقالًا عن «شكري في الميزان» يقول فيه: «لم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكُتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية وما يُترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدَّثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علمًا به وإحاطة بخير ما فيه وكان يُحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ.»
وعند تحديد أو محاولة تحديد مكانة شكري في حركة التجديد في أدبنا العربي المعاصر، لا مفرَّ من أن نعطي الأهمية الأولى لإنتاجه الشعري الذي حقق فيه ما يمكن أن نسميه مذهبًا جديدًا في تراثنا الشعري، وهو المذهب الذي أخبرنا المازني أنه كان قد انتهى إليه وهما لا يزالان طالبين بمدرسة المعلمين العليا، وبفضل هذا المذهب الذي حققه شكري فعلًا في الدواوين السبعة التي نشرها في الفترة التي تقع بين سنة ١٩٥٩م وسنة ١٩١٨م يحق لشكري أن يحتل مكانه بين نقاد الأدب أيضًا وموجهيه، كما يجب علينا أن نحاول إيضاح خصائص هذا المذهب الجديد في شعره، وإن كنا لحسن الحظ نستطيع أن نعثر في مقدمات دواوينه، وفي بعض كتبه النثرية، وبخاصة في كتاب «الثمرات» الذي طُبع بالإسكندرية عام ١٣٣٥ هجرية في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، ثم في عدد من المقالات والبحوث التي نشرها في عدد من الصحف والمجلات مثل: «البيان، والمقتطف، وأبوللو، وغيرها» نستطيع أن نعثر في كل هذه الكتابات النثرية على عدد من خصائص هذا المذهب الجديد بل وعلى جوهره.
(١) المذهب الوجداني
ومن المؤكد أن عبد الرحمن شكري قد أعطانا جوهر المذهب الشعري الجديد الذي دعا إليه في البيت الذي وضعه على غلاف أول ديوان أصدره في سنة ١٩٠١م، وهو:
وذلك لأن شعراء الجيل الذي تلا شعراء البعث التقليدي، وعلى رأسهم عبد الرحمن شكري كانت تضاريس الحياة، وثقافتهم الشعرية الواسعة في الآداب الأوروبية، وعلى الأخص الآداب الإنجليزية، توحي إليهم بأن وظيفة الشعر الأساسية هي — وكما يجب أن تكون — التعبير عن وجدان الشاعر الذاتي، حتى ليرى أنه من السخف أن يظل الأدباء والشعراء مؤمنين بتقسيم الشعر إلى أبواب أو فنون، كالوصف والحكمة والغزل والمدح والرثاء وما إليها؛ لأن الشعر في جوهره عاطفة؛ فيقول في مقدمة الجزء الرابع من ديوانه: «ليس شعر العاطفة بابًا جديدًا من أبواب الشعر كما ظن بعضهم؛ فإنه يشمل كل أبواب الشعر، وبعض الناس يُقسِّم الشعر إلى أبواب منفردة فيقول باب الحِكَم وباب الغزل وباب الوصف … إلخ، ولكن النفس إذا فاضت بالشعر أخرجت ما تكنُّه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة؛ فإن منزلة أقسام الشعر في النفس كمنزلة المعاني في العقل؛ فليس لكل معنًى منها حجرة من العقل منفردة، بل إنها تتزاوج وتتوالد منه، فلا رأي لمن يريد أن يجعل كل عاطفة من عواطف النفس في قفص وحدها. وهناك فئة تريد من الشاعر أن يكون أكثر شعره تكلُّفًا للحكمة، فيأتي بأمثال من بطون الكتب وأفواه العامة نصفها حق ونصفها باطل، ثم يصوغها شعرًا من غير أن يكون قد أحسَّ لذعها في ذهنه ولا شعرَ بقيمتها، وإن شر الحكمة أن يتكلفها الوزَّانون، وإنما حكمة الشعر تبدو في كل قسم من أقسام شعره سواء في فن الغزل أو الوصف أو الرثاء.» وهو بعد أن يخلُص إلى هذه الحقيقة الكبرى أعني العاطفة التي يتكون منها جوهر الشعر والتي بدونها لا يُسمَّى شعرًا لا يبالي بعد ذلك بالمذهب الفلسفي الذي يمكن أن يصدر عن الشاعر؛ فيقول: «والشاعر لا يسير على رأي واحد لا يتعداه، فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح مثل أزياء باريس، والنفس أعظم من أزيائها.» وهو كزملائه من شعراء هذا المذهب الجديد يهاجم شعر المناسبات الذي كان سائدًا عندئذٍ في المدرسة التقليدية؛ فيقول: «وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية مثل افتتاح خزَّان أو بناء مدرسة أو حملة جراد أو حريق … فإذا ترفَّع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه؟ أو جفَّت عاطفته؟»
والواقع أن عبد الرحمن شكري قد صدر في دواوينه السبعة، وفي خواطره النثرية المتعددة التي جمعها في كتبه الثلاثة «الاعترافات» و«الصحائف» و«الثمرات» وفي مقالاته التي لم تُجمع في كتب عن مذهب جمالي موحد هو مذهب التأمل، أو كما سميناه في الحلقة الأولى من كتابنا عن «الشعر المصري بعد شوقي» مذهب الاستبطان الذاتي، وهو مذهب يجمع بين التأمل الفكري والإحساس العاطفي الحار، فكل خاطرة من خواطره لها لونها العاطفي الخاص النابع من نفس فكري، وعاطفته الحارة القلقة الجانحة في الأغلب الأعم إلى التشاؤم والتمرد العنيف، وإن يكن تمردًا خاليًا لسوء الحظ من الصلابة والعزم والعناد والثقة بالانتصار، سواء في هذه الحياة أو في الحياة الأخرى، حتى لأذكر بقولي: وبمراجعة دواوين شكري نجد أنه كان يجمع بين التيارين اللذين انفرد بكل منهما واحد من صاحبيه المازني والعقاد، ونعني بهما: التيار العاطفي الشاكي المتمرد المتشائم وهو تيار المازني في شعره قبل أن يتحول إلى ناثر سافر، ثم التيار الفكري الذي تميَّز به العقاد في شعره العقلي الإرادي الواعي بما يريد، وكأن كلًّا من هذين الشاعرين قد أخذ عن شكري التيار الذي يلائم طبيعته، وأما شكري فقد احتفظ بالتيارين، وسلَّط أحدهما على الآخر، ومن هذا التسليط نبعت مأساة حياته فهو شاعر عاطفي حسَّاس، ولكنه سلَّط عقله على عواطفه ومشاعر حياته وما فيها من رغبة وتلهُّف، وبذلك جاء شعره أصيلًا متميزًا بطابعه الخاص؛ فهو لا يمكن أن يوصف بأنه عاطفي، ولا بأنه شعر عقلي، ولكنه شعر ذو طابع خاص يمكن أن نصفه بأنه شعر التأملات النفسية، أو الاستبطان الذاتي.
الخصائص الفنية
- (١)
«يمتاز الشاعر العبقري بذلك الشرَه العقلي الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كل فكر، وأن يحس كل إحساس.»
- (٢)
«الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصف جوانب الحياة وشرح عواطف النفس وحالاتها والفكر وتقلباته والموضوعات الشعرية وتباينها والبواعث الشعرية.»
- (٣)
«التشبيه لا يراد لذاته كما يفعل الشاعر الصغير، وإنما يراد لشرح عاطفة أو توضيح حالة، أو بيان حقيقة.»
- (٤)
«إن أجلَّ الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية.»
- (٥)
«أجلُّ المعاني الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس ووصف حركاتها كما يشرِّح الطبيب الجسم.»
- (٦)
«الشعر هو ما أشعرك، وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا، لا ما كان لغزًا منطقيًّا أو خيالًا من خيالات معاقري الحشيش، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه، وليست المعاني الشعرية كما يتوهم بعض الناس التشبيهات الفاسدة والمغالطات السقيمة كما يتطلبه أصحاب الذوق القبيح.»
- (٧)
«قد يغرى العبقري باستخراج الصلات المتبينة بين الأشياء فتقصر أذهان العامة عن إدراكها.»
- (٨)
«إن قيمة البيت في الصلة بين معناه وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل ولا يصح أن يكون البيت شاذًّا خارجًا عن مكانه من القصيدة بعيدًا عن موضوعها.»
- (٩)
«ينبغي أن ننظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل لا من حيث هي أبيات مستقلة.»
- (١٠)
«مثَل الشاعر الذي يُعنَى بإعطاء وحدة القصيدة حقها، مثل النقَّاش الذي يجعل كل نصيب من أجزاء الصورة التي ينقشها من الضوء نصيبًا واحدًا، وكما أنه ينبغي للنقاش أن يميز بين مقادير امتزاج النور والظلام في نقشه، كذلك ينبغي للشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة وما يميز بين ما يتطلبه كل موضوع، فإن بعض القراء يقسم الشعر إلى شعر عاطفة وشعر عقل وهي مغالطة كبيرة؛ إذ إن كل موضوع من موضوعات الشعر يستلزم نوعًا ومقدارًا خاصًّا من العاطفة.»
- (١١)
«للشاعر أن يستخدم كل أسلوب صحيح سواء كان غريبًا أو معهودًا أليفًا، وليس له أن يتكلف بعض الأساليب، ولا أُنكر أن الشعر من قواميس اللغة، ولكن له وظيفة كبيرة غير وظيفة القواميس، وعاطفة الغريب الذائعة بين فئة خاصة منها هي رد فعل سببه هو ولوع شعراء القرنين الماضيين بالركيك من العبارات والأساليب، وقد وجدت بعض الأدباء يقسم الكلمات إلى شريفة ووضيعة، ويحس أن كل كلمة كثر استعمالها صارت وضيعة وكل كلمة قلَّ استعمالها صارت شريفة، وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق وفوضى الأداء في الأدب. وقد تكون العبارة الملأى بالكلمات الغريبة أخس أسلوبًا وديباجة، وأقل متانة من العبارة السهلة التي ليس فيها غير المألوف من الكلمات، فينبغي للشاعر المبتدئ أن يتطلب المتانة، وألا يخلط بينها وبين الغرابة كي لا تضله الغرابة عن المتانة فيقنع بها، انظر مثلًا إلى قول المتنبي:
عرفتُ الليالي قبل ما صنعتْ بنافلما دهتني لم تزدني بها علمًاهذا أسلوب فخم جزل رائع متين ولكن ليس به غريب.»
- (١٢)
«إنما فسدت آداب اللغة العربية حين ساد الجهل في الممالك العربية في العصور الأخيرة؛ فإن سُنة التقدم تقتضي الاطلاع بما يستحدث في الآداب والعلوم، وكلما كان الشاعر أبعد مرمًى وأسمى روحًا كان أغزر اطِّلاعًا، فلا يقصر همَّته على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم؛ فإن الشاعر يحاول أن يُعبِّر عن العقل البشري والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه، وأن يكون شعره تاريخًا للنفوس ومظهر ما بلغته في عصره، وما عجبت من شيء عجبي من القوم الذين يريدون أن يجعلوا حدًّا فاصلًا بين آداب الغرب وآداب العرب، زاعمين بأن هناك خيالًا غربيًّا وخيالًا عربيًّا، وإذا قرأ الشاعر العربي آداب الأمم الأخرى أكسبته قراءتها جدة في معانيه وفتحت له أبواب التوليد؛ فإن الشاعر الكبير كي يُعبِّر عما في نفسه من العبقرية تمام التعبير حتى لا يبقى بعضها مكتومًا مجهولًا، لا بدَّ أن يُجدد ذهنه دائمًا بالاطلاع وأن يحرك به نفسه وأن ينوِّع ذلك الاطلاع؛ فإن شرَه الإحساس والتفكير هو ميزة العبقري، ومذاهب القول التي تستلزمها حياتنا تقتضي درس العناصر الأخرى التي غمرت أمم العالم وأنشأت لها حضارة وعلومًا وفنونًا؛ فإن درسها يوسِّع عقولنا، ويُجدد أمالنا وقوانا، ويهيئ بعض وحي ذكائنا ويعلي خيالنا، ولكن ينبغي ألا نكون ناقلين، بل ينبغي أن نكون مفكرين باحثين فيها، ومن دلائل هلاك الأمم نظرها إلى حياة أجدادها واحتذاؤهم فيها احتذاء لا روح ولا قوة ولا ذكاء ولا فطنة.»
هذه بعض الأصول التفصيلية التي دعا إليها عبد الرحمن شكري في مذهبه الشعري الجديد، ولكننا عندما ننظر في مدى تحقيقه لها في شعره لا نستطيع أن نغفل أن عبد الرحمن شكري كان نفسًا قلقة كثيرة الشكوك والهواجس معذبة بملكاتها، ومثل هذه الحالة النفسية لم يكن بدٌّ من أن تُصيب شعره أحيانًا كثيرة بعدم الاستواء؛ فتراه يرتفع أحيانًا إلى قمة الشعر، بينما يهبط أحيانًا أخرى إلى مستوى النثر المسطح، كما يتأرجح بين غزارة الرؤية الشعرية، وبين غموض النفس والتواء العبارة، ومع ذلك فإننا لا نرى مانعًا من أن نُقرَّ عبد الرحمن شكري نفسه على مبدأ جدي سليم طالعناه له في مقال نشره في عدد يونيو سنة ١٩٣٣م من مجلة أبوللو تحت عنوان «نقد الطريقة الرمزية»، وقد عبَّر عن هذا المبدأ بقوله في ص١١٩٦: «منزلة الشاعر هي منزلة أحسن شعره، هكذا يقيس الدهر أكثر الأمور؛ فيشيد بالحسنات ويقبر السيئات إذا وجد للمحسنات مذيعًا.» وكم لشكري من روائع تستحق أن يُذاع حسنها!
(٢) الخيال والوهم
والواقع أن الخيال عند كبار الأدباء والشعراء قد كان دائمًا وسيلة لإدراك الحقائق التي يعجز عن إدراكها الحس المباشر أو منطق العقل، بينما الوهم هروب من الواقع ومن الحقائق، وتلفيق لصور محمومة تضل عن الحقائق بدلًا من أن تهدي إليها، وقد أوضح شكري هذا الفارق الجسيم بقوله: «إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق، ويشترط في هذا النوع أن يُعبر عن حق، والتوهم هو أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع الثاني يغري به الشعراء الصغار، ولم يسلم منه الشعراء الكبار، ومثله قول أبي العلاء:
والصلة التي بين المشبه والمشبه به صلة توهُّم ليس لها وجود، وكذلك قول أبي العلاء في سبيل النجوم:
أي أعادي؟ وأي سيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحًا بين التخيل والتوهم. وأما أمثلة الخيال الصحيح، فهو أن يقول قائل إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء كما يقول البحتري:
فهذا تفسير للحقيقة وإيضاح لها، وكذلك قول الشريف:
والقعب: القدح، فهو يُشبه تفرق قومه بتطاير أجزاء الإناء المكسور، وهذا أيضًا توضيح لصورة حقيقية من الحقائق وهي تفرق قومه.»
(٣) مشكلة التعبير الشعري
وكانت مشكلة التعبير الشعري من أهم المشكلات التي درسها أصحاب المذهب الجديد وفي طليعتهم عبد الرحمن شكري.
وجميع نقاد الغرب، والنابهون من نقاد العرب يدركون أن التعبير الشعري يتميز أصلًا بأنه تعبير تصويري لا تقريري، والتصوير في حاجة إلى التشبيهات والاستعارات والصور؛ ولذلك نرى شكري وأصحابه يعلقون على التشبيه في نقدهم وشعرهم أكبر الأهمية، باعتباره العمود الذي يقوم عليه ركن أساسي من أركان الشعر، وهو ركن التعبير الذي يكون ديباجته.
وقد فطن شكري إلى الوظيفة الرمزية الجديدة للتشبيه، عندما قال: «إن الوصف الذي استخدم التشبيه من أجله لا يُطلَب لذاته، وإنما يُطلَب لعلاقة الشيء الموصوف بالنفس البشرية وعقل الإنسان، وكلما كان الشيء الموصوف ألصق بالنفس وأقرب للعقل كان حقيقًا بالوصف، وهكذا يوضح فساد مذهب من يريد وصف الأشياء المادية؛ لأنها مما تُرى؛ لا لسبب آخر. وهذا الوصف خليق بأن يسمى الوصف الميكانيكي؛ إذ إن وصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يكن مقرونًا بعواطف الإنسان وخواطره وذكرياته وأمانيه وصلات نفسه، وإن أجلَّ الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية، انظر مثلًا إلى قول مويلك يرثي امرأته وقد خلَّفت له بنتًا صغيرة، فقال يصف حالها بعد موت أمها:
فهو لم يعلمك شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه، ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقته، ومهارته في تخيل هذه الحالة ووصفها بدقة، ومن أمثال هذا النحو قول ابن الدمينة في وصف حياء الحبيبة:
مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزًّا، والشعر هو ما «أشعرك» وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا.»
وواضح من هذه الفقرة أن نظرة شكري إلى التشبيه شديدة الصلة بجوهر الشعر عنده كما سبق أن أوضحناه وهو العاطفة؛ فهو لا يريد التشبيه لذاته أو لإظهار خاصة شكلية معينة في الشبه أو صلة شكلية بين طرفي التشبيه، وإنما يريد أن نجعل التشبيه وسيلة للتعبير عن أثر المشبه في النفس، أو الإيحاء بهذا الأثر، وفي ذلك تتفق نظرته مع رمزية التعبير تمام الاتفاق، كما تختلف تمام الاختلاف عن نظرة علماء البيان العربي التقليدية له.
وإنه لمن الخير أن نثبت هنا كيف أن الأستاذ عباس محمود العقاد قد تبنَّى هذا الفهم الجديد لوظيفة التشبيه في الشعر، وجعل منه أحد الأسلحة العنيفة التي هاجم بها شوقي وشعره في «الديوان»؛ حيث نراه يُوجِّه إلى شاعرنا التقليدي الكبير الحديث قائلًا:
«اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعدها ويحصي أشكالها وألوانها، وأنه ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه؟ وإنما مزيته أن يقول ما هو؟ ويكشف لك عن لُبابه وصلة الحياة به.
وليس همُّ الناس من التصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعه وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان؛ فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه؛ ولهذا لا لغيره كان كلامه مُطرِبًا مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على الوجدان إحساسًا بوجوده، وصفوة القول أن المحك الذي لا يُخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًّا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما أخال غيره كلامًا أشرف منه إلا بُكم الحيوان الأعجم.»
وهذا كلام رائع يدل على فهم صحيح لحقيقة الشعر كما يفهمه الغربيون، وإن كنا نلاحظ أن يجمع ويمزج بين عدة مذاهب شعرية تتصارع ولا تزال تتصارع في الغرب، مما يقطع بأنها خلاصة الرواسب التي استقرت في نفس العقاد وصحبه من مراجعاتهم لشعر الغربيين ومذاهبهم الشعرية.
فالعقاد في هذه الفقرات القوية المركزة يريد من الشاعر أن يكشف لنا عن لُباب الأشياء، ولكننا في الحقيقة لا نعرف عن هذا اللباب شيئًا، ولا يزال الفلاسفة يقتتلون حول تحديده، فمنهم الوضعيون الذين يُسلِّمون بوجود الأشياء وجودًا حسيًّا منفصلًا عن الإنسان، ومنهم المثاليون أو النفسيون الذين لا يؤمنون بوجود خارجي لتلك الأشياء ولا يعترفون لها بلباب، وإنما يرونها صورًا ذهنية عند الإنسان ويرجعون لبابها إلى هذه الصور أو الانعكاسات إلى صور مثالية مجردة بعيدة عن عالمنا المحسوس، والوضعيون يرون في معطيات الحواس وسيلة فعالة لتحقيق صور الأشياء الذهنية، بينما يرى المثاليون والنفسيون أن تلك الصور الذهنية لا تستطيع أن تحققها، بل تقتصر على إحداث وقعها في الذهن، وبتمايز ذلك الواقع تتمايز الأشياء، وعلى أساس كل من وجهتي النظر الفلسفيتين ظهر في الشعر المذهب البرناسي القائم على عنصر البلاستيك أي التجسيم، وهم يطلبون إلى الشعر تصوير تلك المجسمات بفضل معطيات الحواس التي هي أبواب النفس البشرية، وذلك بينما يرى الرمزيون وأنصار الشعر الصافي أن وظيفة الشعر إنما هي نقل وقع الأشياء من نفس إلى نفس؛ فالشعر عدوى ونقل حالات نفسية لا تجسيم أو تفسير أو نقل معانٍ أو صور محددة؛ ولذلك يقولون بنظرية «العلاقات» التي عبَّر عنها «بودلير» في بيت شعر له بقوله: «إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب.» أي تتبادل ويحل بعضها محل بعض في إحداث الوقع النفسي الواحد، بحيث يستطيع الشاعر أن يصف مرئيًّا بصفة ملموس، فيقول مثلًا عن السماء المغطاة بسحب رمادية بيضاء: إن لونها، كان في نعومة اللؤلؤ، واللون لا يُعبَّر عنه في اللغة التقليدية بالنعومة، ولكننا مع ذلك نحس قوة التعبير ونجاحه من الناحية النفسية؛ إذ نراه ينقل إلى نفوسنا إحساس الشاعر الحقيقي، ووقع ما رأى في نفسه، وهذا اتجاه له أصوله في حقائق اللغة ووظائفها، بل في لغة الشعراء التقليديين أنفسهم؛ حيث نرى شاعرًا عريقًا في محافظته على عمود الشعر العربي كالشيخ علي الجارم يقع متأثرًا بهذا الاتجاه الجديد، أو منساقًا بشعوره الغلَّاب، على هذا النحو الجديد من التعبير، فيقول:
فالنبرة صوت، والتقليد لم يجر بوصف الأصوات بالألوان لاختلاف الحاسة، ومع ذلك يصف الجارم تلك النبرة بأنها سوداء، فيكسب تعبيره قوة شعرية نافذة ناجحة في إحداث العدوى ونقل الحالة النفسية من الشاعر إلى القارئ أو السامع.
ومن الواضح أن فقرة الأستاذ العقاد السابقة قد تضمنت الكثير من مبادئ الرمزية في الشعر الحديث؛ فهو يطلب إلى التشبيه بأن يطبع في وجدان سامعه وفكره صورة واضحة، مما انطبع في نفس الشاعر، وهو لا يرى أن التشبيه قد ابتُدع لرسم الأشكال والألوان، وإنما ابتُدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبذلك يمكن القول بأن جماعة «الديوان» كانوا من رواد الرمزية التي نمت بعد ذلك، وازدهرت عند شعراء أبوللو بنوع خاص، بل أسرف بعضهم فيها إلى حدٍّ رأينا معه رائدها عبد الرحمن شكري يتنكَّر لها وينتقدها بشدة في مقال بمجلة أبوللو سبق أن أشرنا إليه وهو مقاله في نقد الرمزية وافتعالها؛ حيث نراه يقتبس كلمة لشاعر الإغريق الغنائي الكبير «بندار» وهي قوله للشعراء: «ابذروا البذر باليد لا بالزنبيل.» ثم يعلِّق على هذا القول المتزن بقوله: «يعني أن الزارع إذا رمى بذرًا كثيرًا في مكان واحد؛ فإن النبات الذي ينبت قد يقتل بعضه بعضًا، وكذلك الشاعر إذا أدخل الصور الشعرية بعضها في بعض في جملة واحدة أفسد بعضها بعضًا.» وواضح من السياق العام لذلك المقال أنه يعني بنقده «الرمزية» وإن كنا نلاحظ أن شكري لم يستطع في هذا المقال أن يدرك أو يوضح حقيقة الرمزية ومنبعها الفني والنفسي، على نحوِ ما استطاع من قبل هو وزميله العقاد أن يوضحا حقيقتها، وإن لم يذكرها بالاسم في أمثال الاقتباسات التي أوردناها، فنرى شكري يُعرِّف الرمزية في هذا المقال تعريفًا عائمًا مشوَّشًا عندما يقول في مطلع مقاله: «مذهب الرمزيين كما أعتقد يشمل أمورًا منها إحلال المشبه به مكان المشبه وحذف المشبه في كثير من المواضع، ومنها إدخال تشبيه واستعارة في استعارة وخيال في خيال، وثالثها الاسترسال في وصف الهواجس النفسية من غير تمهيد أو شرح، ويرمزون لهذه الهواجس بأشياء تُذكِّرهم بها، ورابعها أنهم قد يُشبِّهون شيئًا بشيء آخر، وهذا الشيء الثاني يشبهونه بثالث والثالث بالرابع … إلخ، ثم يحذفون كل هذه الأشياء ما عدا المشبه به الرابع فإنهم يبقون لفظه كي يكون رمزًا للمشبه الأول.»
وما من شك في أن الرمزية لا صلة لها بكل هذا، وأن شكري وصحبه قد وقعوا فعلًا على حقيقة الرمزية في أقوالهم الأولى التي كتبوها في عنفوان شبابهم، وإنه لمن المصادفات العجيبة أن نطالع في نفس العدد من مجلة أبوللو وبعد مقال شكري المذكور مقالًا آخر لشاعر شاب من جماعة أبوللو هو محمد عبد المعطي الهمشري عن «جمال الإبهام الرمزي» يورد فيه عدة محاولات لإدراك حقيقة الرمزية، وإذا كان هذا الشاعر لم يستطع أن ينفذ إلى حقيقتها الفلسفية وأساسها الفني، فإنه قد استطاع أن يقع فيها على بعض الأمثلة الرائعة مثل قول شاعر الهند الكبير «رابندرانات طاغور» في كتابه «هدية العُشاق» واصفًا للصمت بأنه «السكون المشمس». وإذا كان شاعرنا الشاب لم يستطع أن يحلل جمال هذا التعبير ويوضح أساسه فإننا نستطيع اليوم في يسر ووضوح أن نُحلِّله بقولنا: إن «طاغور» إنما وصف ذلك السكون بأنه مشمس بجامع الواقع النفسي البهيج لذلك السكون ولضوء الشمس المشرقة.
ومع كل ذلك فإننا لا نستطيع إلا أن نقر عبد الرحمن شكري فيما رآه في هذا المقال من إسراف أخذ ينساق إليه بعض شعراء الجيل اللاحق لجيله في الالتجاء إلى الرمزية، على نحو ينمُّ عن الافتعال حينًا وفساد الذوق حينًا آخر، واضطراب الرؤية الشعرية أو طرطشة العاطفة حينًا ثالثًا على نحو ما أوضحنا في السلسلتين الثانية والثالثة من «الشعر المصري بعد شوقي».
(٤) وحدة القصيدة
وأما مبدأ وحدة القصيدة على النحو الذي نادى به شكري وصحبه واتخذه الأستاذ العقاد معولًا من المعاول التي استخدمها لتحطيم شعر شوقي في الديوان؛ فأخذ يقدم ويؤخر في رثائه لمصطفى كامل زاعمًا أن القصيدة لا تفقد شيئًا بهذا التقديم والتأخير نتيجةً لانعدام الوحدة العضوية فيها؛ فإننا نستطيع أن نؤكد أن هذه الدعوة قد سبق إليها عدد من النقاد الشعراء المتقدمين تاريخيًّا على جماعة «الديوان»، فتذكر بين هؤلاء المتقدمين حسين المرصفي الذي رأيناه في مقالنا السابق يقرظ إحدى قصائد البارودي بقوله:
«ثم اجمعها وانظر جمال السياق وحسن النسق، فإنك لا تجد بيتًا يصح أن يقدم أو يؤخر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث.»
ومن بينهم شاعر كبير من رواد التجديد أيضًا هو «خليل مطران» الذي كتب في مقدمة ديوانه الأول الذي ظهر في أوائل القرن؛ يقول: «هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يُقال فيه المعنى الصحيح في اللفظ الفصيح ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره أو شاتم أخاه، ودابر المطلع، وقاطع المقطع، وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلى جمال القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها مع ندور التصور، وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشفوفه عن الشعور الحي وتحري دقة الوصف، واستيفائه فيه على قدر.»
(٥) النقد والذوق
اجتمع أعظم المصوِّرين، فصنع كل صورة أملاها عليه ذوقه، وزعم أنها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها وجدت اختلافًا عظيمًا يُنبئ عن مثله في أذواق هؤلاء المصورين، وربما كان بين تلك الرسوم ما يستسمجه بعضهم، على أنك لو قلت لهم: ما هي أصول الجمال لقالوا كذا كذا، واتفقوا على أشياء عامة حتى إذا عرضوا عليك ما يستملحون من معاني الجمال عجبت لاختلافهم فيما يعرضون عليك، ومن أجل ذلك قال العلامة داود هيوم: إن الأذواق تتفق في الأصول العامة، وتختلف في الأمثلة الخاصة، والأفكار بعكس ذلك تتناكر في النظريات العامة حتى إذا ولج بها البحث إلى الدقائق أدت بها إلى التعارف على أنه مهما تباينت الأذواق، فإن لذلك التباين حدًّا إذا تعداه امرؤ عُدَّ سقيم الذوق، فإذا تمارى اثنان في تفضيل ابن المعتز على البحتري كان أحدهما مصيبًا والآخر مخطئًا، ولكن خطأ المخطئ لا يُعزَى إلى سقم في ذوقه، أما إذا لجَّ امرؤ في تفضيل ابن الفارض على البحتري فلا نجد له شيئًا أحسن من أن نرجو له مغفرة واسعة!
ونحن اليوم ما زلنا نقر — مع هؤلاء الرواد — للذوق بدوره الأساسي في نقد الأدب عامة والشعر خاصة؛ لأن الذوق وحده هو الذي يعطينا طعم الأشياء على نحو لا يستطيعه أي تحليل، ولكننا نرى اليوم في الغالب الأعم أن الذوق يجب ألا يشغل إلا المرحلة الأولى في العملية النقدية، وأنه لكي يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدى الغير، «ولكي يقبل الغير أحكامنا الذوقية التأثرية، لا بد أن نردف هذه المرحلة بمرحلة أخرى موضوعية تستند إلى أصول الأدب والفن المستمدة من روائع الأدب والفن.» وإن كنا نحس أحيانًا، وبخاصة عند نظرنا في الشعر بمثل ما عبَّر عنه أحد نقاد العرب القدماء بقوله: «إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تحتويها «الصفة».»
أي أن جمال الشعر يتضمن أحيانًا عناصر خفية تحسها النفس، ويلمسها الذوق، ولكنها تستعصي على الإيضاح والتقرير.