عباس محمود العقاد ناقدًا
١
ونصل في سلسلة النقد والنقاد إلى الأستاذ عباس محمود العقاد الذي بلغ في عمره المديد السبعين منذ أيام وهو رجل خصب منتج؛ أنفق عمره كله في القراءة والكتابة حتى أثرى أدبنا المعاصر بعدد ضخم من المؤلفات التي تربو على السبعين، من بينهما: دواوين الشعر وكتب السيَر والعبقريات والدراسات الأدبية ومجموعات المقالات الثقافية والنقدية والاجتماعية بحيث يستحيل أن نلم بكل هذا الإنتاج الكبير في مقال أو مقالات.
ونحن نستبعد هنا — بالبداهة — شعر العقاد وقصته النثرية «سارة» وكل ما يدخل في الأدب الإنشائي من كتاباته؛ لأننا نريد أن نحصر الكلام عنه في النقد الأدبي وإن يكن نقده متصلًا حتمًا بأدبه الإنشائي ومتأثرًا به، ومؤثرًا فيه، فدفاعه مثلًا عن شعر الفكرة أو الشعر الفلسفي متأثر حتمًا لا بآرائه النقدية وحدها، بل وباتجاهه الخاص في قول مثل هذا الشعر، مما يضطرنا إلى أن نعكف أحيانًا على بعض شعره أو أدبه الإنشائي لالتماس الشاهد، أو مناقشة قضية من قضايا النقد في ضوء إنتاجه الأدبي هو نفسه.
النقد والدراسات
ونحن حتى عندما نترك جانبًا شعر العقاد وقصته «سارة» لا تزال لدينا العديد من كتبه ومقالاته التي تتصل حتمًا بمنهجه النقدي وآرائه في الآداب والفنون، بحيث لا نجد مفرًّا من أن نخطو بالموضوع خطوة أخرى نحو الحصر والتحديد، فنُخرج من حديثنا هذا كتب السيَر والعبقريات التي ألَّفها العقاد، كما نُخرج دراساته الأدبية من حيث نتائج تلك السيَر والدراسات من الناحية الثقافية، ومدى صلابة هذه النتائج، مكتفين بإيضاح ومناقشة منهجه في كتابة السيرة أو الدراسة الأدبية، وبذلك يتبقى لدينا آراؤه في الأدب والشعر عامة، ودوره القيادي في توجيه الحركة الأدبية المعاصرة والحركة النقدية على السواء، وهو دور واسع عميق؛ متعدد المظان على نحو يكاد يضل الباحث بين الكتب والصحف والمجلات والإذاعات التي حرَّرها.
والعقاد من أولئك النفر القليل الذين يصح أن يقال فيهم مثلما قيل في المتنبي: من أنه قد ملأ الدنيا وشغل الناس وأثار الصداقات والعدوات، وخاض المعارك في شجاعة وصلابة، وإن يكن عنف خصامه قد أرث له من العداوات ما أضعف من قوة تأثيره في عصره، وضيَّق من رقعة ذلك التأثير وبخاصة في خصوماته التي لا تقوم حول قضايا أدبية أو ثقافية، بل حول آراء أو مذاهب سياسية، نرى من الخير أن نسقطها من حسابنا حتى لا يكون لها أي تأثير عند تقديرنا لمكانة هذا العملاق في تيارات النقد والأدب المعاصرين.
فصول من النقد عن العقاد
وبالرغم من أنني كنت قرأت ودرست الكثير من أدب العقاد شعرًا ونثرًا، وتحدثت عنه في عدد من كتبي وبخاصة في الجزء الأول من كتابي عن «الشعر المصري بعد شوقي»، ثم في كتابي عن «مسرحيات شوقي»، إلا أنني مع ذلك كنت مشفقًا على نفسي من العودة إلى كل ما كتب في الكتب أو الصحف والمجلات لجمع النصوص الخاصة بالقضايا الأدبية الكثيرة التي أثارها العقاد، حتى عثرت — لحُسن الحظ — على كتاب وفَّر عليَّ جانبًا كبيرًا من هذا الجهد، وهو كتاب «فصول من النقد عند العقاد» الذي قدمه الأستاذ محمد خليفة التونسي، وجمع فيه طائفة كبيرة صالحة مما كتبه العقاد في النقد، كما صدرت هذه المجموعة من الفصول بمقدمة طويلة ضافية تتكون من جزأين، أولهما عن العقاد ومكانته الأدبية العامة وبخاصة في مجال النقد، وثانيهما لرسم صورة بيانية لشخصية العقاد.
والأستاذ التونسي يخبرنا في شجاعة وإخلاص يثيران الإعجاب منذ الصفحة الأولى من مقدماته: أنه من مريدي العقاد الذين لا يعدلون به أحدًا في الشرق أو الغرب، كما يخبرنا أن معرفته بالعقاد، واتصاله الفكري والشخصي به يرجع إلى ربع قرن مضى، والأستاذ التونسي يبدو عليه الصدق والإخلاص في جميع ما قال، وكتابه بمقدماته وهوامشه يشهد بأنه قد تتبع عن قرب سيرة الأستاذ العقاد وإنتاجه الأدبي، وتمثَّل هذه المعرفة تمثُّلًا تامًّا حتى لنراه يحيلك في كل هامش على المظانِّ التي تستطيع أن تستكمل منها رأيًا للعقاد، أو تطورًا وتنمية لهذا الرأي، وإن كنت أخشى أن تكون حماسة الأستاذ التونسي قد ساقته أحيانًا كثيرة إلى شيء من الإسراف الذي أحس بأن الأستاذ العقاد نفسه لا يمكن أن يُقره، وكل ذلك فضلًا عن أن الأستاذ التونسي لم يخطر له بالبداهة أن يُراجع رائده في أي رأي أبداه، وأكبر ظني أن ثقافته لا تسمح له بمثل هذه المراجعة.
وفي هذا الكتاب النافع، وزَّع الأستاذ التونسي فصول النقد العقادية بين أربعة أقسام: أورد في القسم الأول نصيب الأستاذ العقاد في الجزأين اللذين ظهرا في كتاب «الديوان» في سنة ١٩٢١م واشترك في تأليفهما المازني مع العقاد، وحملا فيهما على زعماء الأدب التقليدي حملة عنيفة، وقد استقلَّ العقاد في هذه الحملة بنقد شوقي وأدبه في عدة أصول جعل منها الأستاذ التونسي الفصل الأول في كتابه، ثم أتبعه في قسم ثانٍ بنص الكُتيب الصغير الذي كان الأستاذ العقاد قد نشره لنقد مسرحية «قمبيز» لأحمد شوقي، وفي القسم الثالث أورد الأستاذ التونسي فصولًا من مقدمات دواوين العقاد الشعرية وخواتمها، كما أورد عددًا من القصائد التي اعتبرها الأستاذ التونسي نقدية وسماها بالفعل «الشعر النقدي»؛ لأنها تعالج بعضًا من قضايا الشعر والإلهام أو قضايا نقد الحياة؛ لأن الأستاذ التونسي قد فهم كلمة «نقد» بمعناها الواسع الذي يتَّسع لنقد الحياة أيضًا، لا الأدب والفن وحده، وفي القسم الرابع أورد المؤلف مختارات من مقالات العقاد وشذوره اختار بعضها من كتبه التي تتضمن مجموعات من المقالات مثل: «خلاصة اليومية» و«الشذور» و«الفصول» و«مطالعات في الكتب والحياة» و«مراجعات في الآداب والفنون» و«ساعات بين الكتب» و«شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» و«على الأثير» و«يسألونك» و«بين الكتب والناس»، وبعضها الآخر اختاره من بين مئات المقالات التي كتبها الأستاذ العقاد في الصحف والمجلات ولم تُجمع حتى اليوم في كتب.
العقاد ومعاصروه
وإنه لمن الممتع أن نُثبت هنا بعض آراء مريد متَّقد الحماس كالأستاذ محمد خليفة التونسي في المقارنات التي عقدها في مقدمته بين العقاد وعدد من المعاصرين الذين اشتركوا مع العقاد في النهضة الأدبية المعاصرة، وأدخلوا معه في مناقشات أدبية، أو التبست بعض مناهجهم الأدبية بمناهج الأستاذ العقاد، مثل: الدكتور طه حسين، والأستاذ محمد خلف الله أحمد عميد كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم المرحوم مصطفى صادق الرافعي، فالأستاذ التونسي يقارن مثلًا بين العقاد وطه حسين في صفحتي ٦٠، ٦٢ من مقدمته وفي هامش ص٩٢ يقارن منهجي العقاد والأستاذ محمد خلف الله أحمد، كما يهاجم في أكثر من موضع من مقدماته وهوامشه هجومًا عنيفًا المرحوم مصطفى صادق الرافعي الذي بلغ من عنف خصومته للعقاد أن أصدر كتابًا غفلًا من التوقيع باسم «على السفود» خصص معظمة للهجوم على العقاد.
ففي ص٥٩ وما بعدها، يحاول الأستاذ التونسي أن يُحدد منهج العقاد في الدراسة الأدبية فيقول إن هذا المنهج قائم على ما يؤمن به العقاد من أدب الأديب، إنما هو صورة نفس صاحبه، وتاريخ حياته الباطنية، وإن عمل الناقد هو البحث عن الأديب في أدبه، واستخراج صورته النفسية من هذا الأدب؛ إذ إن الشاعر الذي لا تعرفه بشعره لا يستحق أن يعرف، وهذا هو المنهج الذي استخدمه العقاد في دراسته عن ابن الرومي، كما يشهد اسم كتابه نفسه، وهو «ابن الرومي: حياته من شعره» على حين نرى الدكتور طه حسين لا يهتم بالشاعر وحياته إلا بالقدر اللازم لفهم شعره وتذوقه على نحو ما فعل في كتابه «مع المتنبي».
وقد اشتبك العقاد وطه حسين حول هذين المنهجين المختلفين في مناقشة أدبية مثمرة أشار إليها الأستاذ التونسي، ثم قال: يهتم العقاد بالشعر لينفذ منه إلى الشاعر على حين أن نهج الدكتور أن يهتم بالشعر دون الشاعر أو أكثر من اهتمامه به، كما لاحظ الدكتور نفسه طريقة الدكتور أيسر مع بالغ جدواها على البادئين من الباحثين، ومن يعرف هذا يعرف بعض الفروق بين منهج العزم والشجاعة عند العقاد، ومنهج الحزم والسلامة عند الدكتور؛ فالشعر عند العقاد وسيلة لفهم الشاعر مع اهتمام بالوسيلة، ومن هنا اهتمام العقاد البالغ بالشخصيات وفلاحه في تصويرها بل البحث عن مفاتيحها مما لا تجد نظيره لأديب في العربية كما يقول الدكتور طه حسين في كتابه «من حديث الشعر والنثر».
وفي ص٦٢ من نفس المقدمة يوسِّع الأستاذ التونسي من دائرة المقارنة بين الأديبين فيقول: «الدكتور طه حسين صاحب آراء منها السديد وغير السديد، ونظريات منها المستعار ومنها الأصيل، ولكنها لا تكوِّن منهجًا، ونقده ممتاز ولا سيما للنصوص ولكنه لا يستوعب ولا يتأنَّى، وأما في غيرها فهو كطعامنا المصري المحبوب «الملوخية» سائغ عذب لذيذ سهل البلع والهضم، ولكنه مختلط لا يمتاز شيء من شيء فيه، وهو غير قابل للانعقاد والتبلور، وحظ الدكتور هيكل من النقد ضئيل ليس له منهج نقدي واضح ولكنه أدنى إلى العالم منه إلى الأديب، ونقد الدكتور أحمد أمين نقد عالم باحث لا نقد أديب متذوق وإن كان إنتاجهم وفضلهم في غير النقد عظيمًا.»
إنه منهج نفسي يزن جميع الأعمال والأقوال والحركات وما إليها في الوجود ويفسرها ويعللها ببواعثها في نفس الإنسان ونظرة الوجود الحي، ولا يبالي بظواهرها وعناوينها إلا بمقدار ما تؤدي تلك البواعث وتدل عليها … إلخ.
يجب التفرقة بين هذا المنهج النفسي الشعري كما وضَّحناه والمنهج «النفساني» الذي يحاول فهم أسرار الأدب والنقد عن طريق نظريات علم النفس، فاعتقادي أن علم النفس وغيره نافع في الاسترشاد به، ولكنه لا يستطيع أن يكشف أسرار الأدب وتمييز جيده من رديئه، وقد جُرِّب في أوروبا ففشل، ويتعاطاه هنا بعض الأكاديميين فلا يدلون على تذوق صحيح للأدب، ولا يصلون إلى حكم سليم في مسائله، ومن هؤلاء الأستاذ محمد خلف الله صاحب كتاب «من الوجهة النفسية في الأدب ونقده»، وهناك فرق بين فن النفس وعلم النفس؛ فالفنانون نفسيون بالفطرة، وعلم النفس وحده عقيم، وماذا تفيد الشمس في هداية الأعمى؟!
وهذا رأي سبق لي أن جادلت فيه صديقنا الأستاذ خلف الله أحمد يوم أنكرت إقحام علم النفس أو غيره من العلوم على دراسة الأدب ونقده، وإن لم أعارض بالبداهة في أن يوسع الناقد ثقافته بالاطلاع على مؤلفات علماء النفس والاجتماع والتاريخ وغيرهم.
وقد جمعت طرفًا من هذه المناقشات في كتابي «في الميزان الجديد»، ولكنني لست واثقًا تمامًا من أن الأستاذ العقاد قد التزم بدقة التفريق الذي يقيمه مريده بين فن النفس وعلم النفس في دراسته الأدبية التي كتبها عن شاعر مثل ابن الرومي أو أبي نواس في كتابه «أبو نواس — الحسن بن هانئ — دراسة في التحليل النفسي والنقد التاريخي»، أو في مقالات الدراسة الأدبية التي كتبها الأستاذ العقاد عن المتنبي وأبي العلاء المعري، وأنا أذكر أن الدكتور طه حسين قد كتب يومًا مقالًا في إحدى الصحف يستنكر فيه إقحام نظريات علم النفس وبخاصة التحليل النفسي لفرويد ومدرسته على الدراسات الأدبية، وكان ذلك عقب ظهور كتابين عن أبي نواس يستخدمان هذا المنهج التحليل النفساني في دراستهما لهذا الشاعر الكبير وخمرياته، وهما كتاب الأستاذ العقاد المذكور، ثم كتاب مماثل للدكتور محمد النويهي، وكان من أهم مآخذ الدكتور طه حسين على الإسراف في هذا المنهج الزعم مثلًا بأن أبا نواس كان يعشق الخمر عشقًا جنسيًّا، ويتغزل فيها تغزلًا جنسيًّا لسبب أو لآخر من مزاعم اللاوعي، أو المكبوتات النفسية، أو الحرمان الجنسي.
موازنة بين الفصول
والأقسام الأربعة التي يتضمنها كتاب الأستاذ محمد خليفة التونسي لا تخلو كلها من متعة وإيحاء، ولكنني أحسب أن خيرها ما جاء في القسم الرابع مختارًا من مقالات العقاد وشذوره؛ وذلك لأنه القسم الوحيد الذي يكاد يخلو من انفعالات الأستاذ العقاد العنيفة في النقد عندما تتصل موضوعات الحديث بشخصه أو بآرائه الخاصة ودعواته التجديدية من قريب أو بعيد؛ وذلك لأن الأستاذ العقاد من تلك الشخصيات الكبيرة التي يصعب عليها دائمًا أن تنسى نفسها، وربما كان في هذه الحقيقة المنبع الأساسي لفلسفته العامة في الحياة، تلك الفلسفة التي يتفرع عنها الكثير من اتجاهات منهجه في النقد والدراسة الأدبية وكتابة السير والمقالات واتجاهات الشعر، فكتاباته في «الديوان» يكاد ينعقد الرأي بين الباحثين والمثقفين على أنها كثيرًا ما تسرف في العنف الذي يلونه إحساس العقاد الشخصي، ومقدمات دواوينه وشعره النقدي لا تخلو هي الأخرى من بعض التعسف في الدفاع عن اتجاهه الأدبي وفلسفته العامة في الحياة والأدب، وليس كذلك مقالاته وشذوره التي ينطلق فيها أحيانًا كثيرة إلى جلاء كثير من القضايا الثقافية والأدبية العامة جلاءً هادئًا مستقيمًا، مع المحافظة على حرارة الطبع التي تتميز بها دائمًا شخصية العقاد.
فلسفة العقاد
والأستاذ العقاد من النفر القليل في بلادنا الذين نستطيع أن نستخلص لهم من مجموع إنتاجهم الثقافي فلسفة عامة في الحياة والأدب، وهي فلسفة يمكن أن نجملها في لفظتين: «الفردية، والحرية».
فالفردية هي التي أوحت للعقاد بأن يناضل طوال حياته في مجال الحياة العامة ضد الحكم المطلق، أو المذاهب الجماعية التي يفنى فيها الفرد، فرأيناه في سنة ١٩٢٨م يأخذ بخناق الحكم المطلق في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، كما رأيناه يعود في مطلع الحرب العالمية الثانية إلى تأليف كتاب «هتلر في الميزان»، الذي يشجب فيه جميع أنواع الحكم الديكتاتوري الفاشي والنازي، ثم رأيناه بعد ذلك يلحق المذهب الشيوعي بهذين المذهبين في سخطه وعدائه العنيف.
كن أنت ولا تكن غيرك ولا تطمس ذاتك.
أو تلك التي يدعو فيها الناقد إلى البحث عمن قال، لا عما قال.
ويقول في مقال له تحت هذا العنوان من مجموعة «ساعات بين الكتب» وتأييدًا لهذا الرأي: «على أن هذه السُّنة نشأت في تقدير كل كلام فليس عندي أشد خطأ من القائلين: أنظر إلى ما قيل لا إلى مَن قال، ولا أستطيع أن أفهم كلامًا حق فهمه إلا إذا عرفت صاحبه ووقفت على كل شيء من تاريخه وصفاته. وفي مذكرات جمعتها وطبعتها في سنة ١٩١٢م اسمها «خلاصة اليومية» أقول: انظر إلى ما قيل لا إلى مَن قال، قاعدة لا يصح إطلاقها في كل حالة؛ فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها وكلمة مثل قول المعري مثلًا:
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما نسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مُرة، ونكدًا أو رغدًا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة، وكل ما رأيته بعد ذلك يؤيد هذا الرأي ويقرر هذه التجربة؛ فالكلمة الواحدة تختلف في معانيها باختلاف قائليها؛ فيؤبه لها من قائل ولا يلتفت إليها من قائل غيره؛ لأن الكلام جزء من الإنسان، وليس بحركات تتموج في الهواء وتقع في الآذان، فإذا أردت أن تعرف الجزء فلا محيص لك من الرجوع به إلى كله الذي تجزَّأ منه، وإذا أحببت أن تفهم الكلمة فافهم المتكلم لأنها من معدنه أخذت، ومن مميزاته تعتبر وتوزن.»
وهذا قول يبدو سليمًا في نظر المنطق الشكلي القائم على القياس، ولكننا نخشى أن يُداخله الخطأ من التعميم، وهو الاتجاه الذي سجلناه منذ ما يقرب من العشرين عامًا عندما اشتبكنا نحن أيضًا في مناقشات عنيفة مع العقاد، ولكنه على أية حال يدخل في يسر ضمن فلسفته العامة التي تعتبر الفردية من منابعها الثرة.
والفردية أو — على نحو أدق — أصالة الفردية هي المبدأ العام الذي نجده خلف دعوة التجديد في الشعر التي قادها في النصف الأول من هذا القرن الأستاذ العقاد وصاحباه شكري والمازني، وهي الدعوة التي طالبت بأن يكون الشعر الغنائي تعبيرًا عن الوجدان الفردي للشاعر، وقد نجحت هذه الدعوة وطبعت تجديدنا الشعري كله بطابعها، وإن يكن هذا الوجدان الفردي قد تطوَّر بعد ذلك إلى وجدان جماعي، مع المحافظة طبعًا ودائمًا على الطابع الوجداني الذي حُرم منه هذا الفن الشعري، حُرم من أحد مقوماته الأساسية، على نحوِ ما سنُفصل عندما نعرض لدفاع الأستاذ العقاد نفسه بعد ذلك عن شعر الفكرة أو الشعر الفلسفي، وبخاصة في مقدمته لديوان «ما بعد الأعاصير» وهو اتجاه انفرد به الأستاذ العقاد دون صاحبيه شكري والمازني.
وقد أحببت أن أُبين هنا ما أردته بوحدة الفكرة والحياة في الفن، فأقول أولًا، إن الحرية في رأيي هي العنصر الذي لا يخلو منه جمال في عالم الحياة أو في عالم الفنون، وإننا مهما نبحث عن مزية تتفاضل بها مراتب الجمال في الحياة لا نجد هناك إلا مزية حرية الاختيار التي يفضل بها الإنسان الكامل مَن دونه من المرجوحين في صفات النفوس وسمات الأجسام، ثم يفضُل بها الناس عامة الأحياء، ثم يفضُل بها الأحياء طبقات النبات ثم بها يفضل النبات الأشياء الجامدة أو المادة الصماء.
والعقاد مع ذلك من حسن الفطنة بحيث لا يغفل أن الحرية ليس معناها الفوضى وأنها لا تتنافر أو تتناقض مع النظام، فيقول: «وخلاصة الرأي أننا نحب الحرية حين نحب الجمال، وأننا أحرار حين نعيش من قلوب سليمة صافية فلا سلطان علينا لغير الحرية التي نهيم بها ولا قيود في أيدينا غير قيودها، ولا عجب، فحتى الحرية لها قيود.»
والفن الجميل مدرسة النظام، كما هو مدرسة الحرية، فهل في ذلك من عجب؟ قد يبدو فيه العجب لمن يحسب أن الحرية تناقض النظام، ولكن الخروج على النظام هو الفوضى وليس هو بالحرية، ولا مشابهة بين الفوضى والحرية في صورة من الصور، بل هما شيئان متناقضان، وقد يكون الفارق بينهما أبعد من الفارق بين الحرية والرق في أثقل قيود الاستعباد.
فالحرية كما قدَّمنا هي أن تختار، والفوضى هي أن تفقد كل اختيار وأن تختلط عليك الأشياء فلا ترى فيها محلًّا للتمييز والإيثار! نقول هذه فوضى، ونفهم من ذلك أننا فقدنا النظام وفقدنا الحرية فلا نحن مستقرون ولا نحن أحرار. ونقول هذا جميل فنفهم من ذلك أنه تنسيق سليم من شوائب الخلط والاضطراب، فهو نظام، ونفهم منه أيضًا أننا نستحسنه ونختاره فهو حرية وما من شيء غير الفن الجميل يمنحنا هاتين النعمتين النفسيتين؛ نعمة الحرية، ونعمة النظام مجتمعتين.
الدعوة إلى التجديد
وأبرز ما ظهرت فيه ملَكة الأستاذ عباس محمود العقاد النقدية منذ مطلع حياته كان الدعوةَ إلى التجديد في الشعر الغنائي الذي يتكون منه تراثنا الشعري التقليدي، وهي دعوة كان الأستاذ عباس محمود العقاد وصاحباه شكري والمازني قد تأثروا فيها بلا ريب بحصيلتهم من الشعر الغربي وبخاصة الإنجليزي منه، وباتجاهات الثقافة والنقد عند الغربيين، وإن يكن من العدل أن نقر للأستاذ عباس محمود العقاد بنوع خاص بقدرته الفائقة على تمثُّل جميع ما يقرأ وهضمه، حتى يستحيل إلى جزء من ذاته من العناصر المكونة لشخصيته الثقافية والأدبية، حتى ليصعب أن يرجع هذا الرأي أو ذاك من آرائه إلى هذا الأديب أو المفكر الغربي أو ذاك؛ فالعقاد من القوة بحيث يطبع جميع آرائه بطابعه الخاص وكأنها منبعثة عن ذاته تلقائيًّا، حتى لنحس بأن الرجل لم يجانب الصواب عندما قال عن نفسه في مقدمة مجموعة «مراجعات في الأدب والفنون»: «ولو أن للخواطر يومَ بعثٍ تَرِد فيه إلى مناشئها لخِلت أنها ستُبعَث معي في جسد واحد يومَ يُنفَخ في الصور الموعود، أو لعادت معي حيث كنا في الحياة ولو كان لها ألف شبه يربطها بآراء المرتئين وكتابات الكاتبين؛ فإنما أنا قد عشتها وغذوتها، فلا أتخيلني قائمًا بغيرها، كما لا يستطيع أحد أن يتخيل جسده قائمًا بغير أعضائه، أو يتخيل رأسه ويديه وقدميه وسائر جوارحه راجعة يوم القيامة إلى جثمان غير جثمانه. إنني لا أحسب تفكير الإنسان إلا جزءًا من الحياة ونوعًا من الأبوة؛ فليس يسرني أن تنتمي إلى أفكار كل مَن أقلَّتهم هذه الأرض من الأدباء والحكماء والعلماء إذا كانت غريبةً عني بعيدةَ النسب من نفسي، كما لا يسرني أن ينزل لي كلُّ مَن في الأرض عن أبنائهم وبناتهم ولو كانوا أبناء سادة أو ذرية ملوك.»
وكل هذا حق إلى حدٍّ كبير، وبه يختلف العقاد فيما نرى عن صاحبَيْه، وبخاصة عن المرحوم المازني الذي ثارت بينه وبين زميله شكري وغيره من الأدباء والنقاد مناقشاتٌ حادة حول السَّرِقات الأدبية، أو أبوة بعض الفصول القصصية وبخاصة في قصة «إبراهيم الكاتب».
ولما كانت الدعوة إلى التجديد في الشعر الغنائي قد كانت دعوةً مشتركة بين العقاد وشكري والمازني، بل وبين شعر المهجر وبخاصة ميخائيل نعيمة، ثم الشاعر الكبير خليل مطران، فإننا لا نرى داعيًا إلى إعادة القول فيها بعد أن سبق لنا هذا القول في مقالنا عن «ميخائيل نعيمة»، ومقالنا عن «عبد الرحمن شكري» في هذه السلسلة، إنما يعنينا في هذا المقال أن نقف عند الناحية التي انفرد بها الأستاذ العقاد داخل هذه الجماعة، والتي استفحلت عنده فيما بعد، وهي الدعوة إلى شعر الفكرة أو الشعر الفلسفي، ودفاعه الحار عنها في مقدمة ديوانه «ما بعد الأعاصير»، وفي عدد من مقالاته الأساسية في مجموعة «مطالعات في الكتب والحياة»، ومجموعة «ساعات بين الكتب» التي تتضمَّن ثلاث مقالات في مناظرةٍ بينه وبين الشاعر العراقي جميل الزهاوي سنة ١٩٣٧م، وأخيرًا في مقالة كبيرة له، عن فلسفة المتنبي، يقول فيها: «الحقيقة أن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها للفلسفة والشعر مع اختلاف في النِّسَب، وتغيُّر في المقادير؛ فلا بدَّ للفيلسوف الحق من نصيب من الخيال والعاطفة ولكنه أقل من نصيب الشاعر، ولا بدَّ للشاعر الحق من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف؛ فلا نعلم فيلسوفًا واحدًا حقيقيًّا بهذا الاسم كان خِلْوًا من السليقة الشاعرية، ولا شاعرًا واحدًا يُوصَف بالعظمة كان خِلْوًا من الفكر الفلسفي، وكيف يتأنَّى أن تُعطَّل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب، متيقظ الخاطر، مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية ورُسُل الحقائق والمذاهب في كل عصر نبغوا فيه؛ فمكانتهم في تاريخ تقدُّم المعارف والآراء لا يعفيه ولا يغص منه مكانهم في تواريخ الآداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح الأذواق وتقويم الأخلاق لا تضيع سدًى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم الخيالية. هكذا كان شكسبير شاعرًا ناطق الفكر حتى في أغانيه الغزلية، وهكذا كان جيته وشللر وهايني شعراء الألمان الفلاسفة في استعدادهم وسيرة حياتهم، وفيما يُستقرى من مجموعة أعمالهم، وهكذا كان بيرون ووردزويرث وسوينبرن من الشعراء المجاهدين في أغانيهم، المغنِّين في جهادهم، وهكذا كان من قبلهم جميعًا دانتي اللجيري إمام النهضة الإيطالية، بل هكذا كان شاعر عظيم في أية لغة وفي أية قبيل.»
وهذه كلها مجادلة يبرع فيها العقاد كما سبق أن أوضحنا يومًا عند مناقشتنا معه التي أشرنا إليها من قبل، ولكنها لا تخلو من مغالطات؛ فالشعر لا يمكن أن يتَّسع للفلسفة أو التفلسف وبخاصة الغنائي منه، وفرق بين أن يتفلسف الشعر وبين أن يصدر عن فلسفة خاصة في الحياة الطبيعية ووجهة نظر محددة إليها، كما أن هناك فرقًا كبيرًا بين التأمل الفلسفي الذي يصطبغ بوجدان الشاعر وتثيره لواعجه ومخاوفه وأشواق روحه، وبين التفلسف أو الفلسفة، ولا نذهب في إيضاح كل هذه الفوارق التي تجاهلها العقاد إلى النظر في تعليقه في المقال نفسه على قول المتنبي:
حيث يقول: «فتأمَّلْ هذين البيتين، أَلَا ترى أنه قرن كلَّ حكم فيهما بسببه أو بتفسيره، وبإقامة الدليل الذي ينفي الغرابة عنه؟ أليس العقل هنا مساوقًا للطبع، متأهبًا لتعزيز حكمه، وتسويغ نظره وتمحيض المساعدة الطبيعية السمحة له.»
ومن البيِّن أن هذا التعليق لم يمسَّ في شيءٍ روعةَ هذين البيتين وتأثيرهما في النفس، فالمتنبي لا يورد فيهما أسبابًا ومسبِّبات، أو نتائج وتفسيرات، بل يتأمل في حقائق الحياة والموت ويستشعر الأسى من تلك الحقائق ويشعرنا به. وهذا تأمل لا تفلسف، ولعل في الفرق بين التأمل والتفلسف ما يميِّز شعر عبد الرحمن شكري الذي يتَّسم هو الآخر بسِمَة الفكر عن شعر العقاد الفلسفي، فشكري يتأمَّل، أما العقاد فيتفلسف أحيانًا على نحوِ ما فعل في مطولته التي يعتزُّ بها، وهي «ترجمة حياة شيطان»، ومطلعها:
وبعد أن دعانا الشاعر إلى أن نسمع أعاجيب العِبر، أخذ يقص تلك الأعاجيب في مائة مقطوعة وعشر؛ كل مقطوعة من بيتين متَّحِدَي القافية في شعر جهم يعوزه الماء والرواء، بل التعبير والإيضاح لتعقُّد الأفكار، حتى لنرى العقاد نفسه يُقدِّم لقصيدته بمقدمة نثرية يسرد فيها موضوع القصيدة وأفكارها الفلسفية المعقدة، بل ويضطر إلى أن يوضح نثرًا في هوامشها ما أراد أن يقوله شعرًا وأحس أنه لم ينجح في الإفصاح عنه، وربما كان من الخير أن يستعيض عندئذٍ عن الشعر كله بالنثر، يستطيع أن يتسع لمثل هذا التفلسف الغامض.
ومع ذلك نرى هذا العملاق ينسى أحيانًا عقله الجبار ليدخره للنثر، وذلك لكي يُطلق عاطفته غير الجبارة بل الأليفة المتواضعة، كعواطف كبار الشعراء الذين لا يخجلون من ضعف الطبيعة البشرية، ولا يأنفون من الشكوى والتلهف، وذلك كي يستطيع أن يُسمِعنا شعرًا إنسانيًّا رائعًا مثل مقطوعته التي تحمل عنوان «نفثة» في الجزء الثاني من ديوانه؛ حيث يقول:
فهذه المقطوعة الرائعة لا نخشى عليها شيئًا مما يقوله الأستاذ العقاد نفسه في مقدمة ديوانه «بعد الأعاصير» التي أشرنا إليها فيما سبق؛ حيث يقول: «ولعلنا بحاجة إلى التنبيه إلى تفاهة شائعة في مصر والشرق بين أدعياء الإحساس ممن لا يحسون ولا يفكرون، وفي اعتقادهم أن الإحساس والترقق مترادفان ويوشك أن يموت الإنسان عندهم من فرط الإحساس؛ لأنه يحس في زعمهم بمقدار ما يتراخى ويتخاذل ويئن وينوح.» وذلك لأننا لا نرى جودة الشعر في المكابرة وادعاء البطولة الكاذبة، كما لا نراها في الأنين والنواح، بقدر ما نراها في إخلاص الشاعر نحو نفسه وصدوره عما يجد، وقد مضى الزمن الذي كان النقاد يلومون فيه الشاعر لأنه يغاضب حبيبته ويثور على حبه لها، مؤثرين أن يقول ما قاله من قبل عاشق آخر لمعشوقته، فيفديها إن حفظت هواه أو ضيعته بدلًا من أن يغاضبها، حتى ولو كان إحساسه الصادق هو الغضب والتمرد، لا الخضوع والتلطُّف أو العكس، والذي لا شك فيه أن قوة الانفعال هي التي تولد الرؤية الشعرية لا التفكير الفلسفي الجاف.
إلى هنا يحسن أن نقف في حديثنا عن العقاد ناقدًا؛ وذلك لأن هذا المقال لا يمكن أن يتَّسع لبقية آرائه النقدية ومقاييسه الشعرية ومنهجه النقدي العام بما في ذلك المقاييس السليمة في نظرتنا، والمقاييس التي تستحق في رأينا أيضًا المراجعة والتقويم، وبخاصة بعض تلك المقاييس التي انساق إليها الأستاذ العقاد في خصومته العتيقة للشاعر التقليدي الكبير أحمد شوقي، وهي خصومة نحس بأن العقاد قد حاول التخفيف من عنفها بعد موت شوقي، على نحو ما أحسسنا في الحديث الذي ألقاه عن شعره في المهرجان الذي انعقد له بالقاهرة، بناءً على توصية من لجنة الشعر التي يرأسها العقاد بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وليكن حديثنا عن كل هذا في مقال آخر.
٢
تحدثنا فيما سبق عن فلسفة العقاد العامة في الحياة ملخَّصة في الحرية والفردية، وحاولنا إيضاح الصلة العميقة التي تربط بين هذه الفلسفة ومنهج العقاد النقدي، وأُسس دعوته إلى التجديد في شعره الغنائي، وأرجأنا الحديث عن تفاصيل منهجه ومقاييس نقده إلى هذا المقال الثاني عنه.
نقد الشعر الغنائي
والواقع أن الحركة النقدية الجديدة في أدبنا العربي المعاصر، قد تركَّزت كلها أو كادت في نقد ما نُسميه شعر القصائد، ويُسميه الغربيون بالشعر الغنائي؛ وذلك لأن هذا الفن هو الذي يتكون منه الجانب الأكبر من تراثنا الأدبي، كما أنه الفن الذي ابتدأت فيه حركة البعث الأدبي بفضل محمود سامي البارودي. وإذا كان أدبنا المعاصر قد أخذ يشهد فنونًا أخرى وفدت إلينا من الغرب كفن المسرحية الشعرية والنثرية، وفن القصة والأقصوصة، وفن المقالة والسيرة الحديثة المنهج، فإن كل هذه الفنون قد ظلت زمنًا طويلًا بعيدة عن اهتمام النقد والنقاد الجادِّين، حتى لنرى الأستاذ العقاد نفسه يزدري فن التمثيل في بلادنا على نحوِ ما نُطالع في مقالٍ له بعنوان «التمثيل في مصر» منشورٍ في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، وفيه يردُّ على قارئ يسأله لماذا لا يُعنَى بفن التمثيل؟ فيجيبه العقاد أن في عالم الأدب وعالم السياسة ما يشغل كلَّ وقته، وهو وإن كان لا يكره التمثيل ولا يبخسه قدره، إلا أن التمثيل في مصر «مَقْتلة للوقت، بل مذبحة طائشة يذهب فيها دمُ البريء المظلوم جهارًا، ليلًا ونهارًا، وما من حسيب ولا رقيب.» ثم يُرجِع سر هذا الانحطاط إلى الشعب الذي يسميه «ديموس» — وهي كلمة يونانية قديمة معناها «الشعب» — فيقول: «إن الأمر اليومَ يا صاحبي للمَلِك ديموس الأول والأخير، لا لي ولا لك في الآداب والفنون، وهل تدري ما هو الملِك ديموس؟ الملِك ديموس هذا هو مستعبِد قاهر يدعون إليه كثيرًا، ويثنون عليه كثيرًا، ولكنه بعد كل ما يُقال من مدح لسياسته، وثناء على حكومته، عُتُل أحمق مأفون الرأي، بليد الطبع، قذر العينين والأظافر، قد يستحق الصفع أحيانًا، ولكنه لا يجد الكفَّ الغليظة التي تملأ خده العريض الطويل؛ فلذلك لا يصفعه أحد، أو هم يصفعونه بكف غير الكف التي تصلح له فيعتدُّ الصنعَ مزاحًا رشيقًا، وتربيتًا رفيقًا. والملِك ديموس لا يحب الوعَّاظ والأنبياء، ولا يألف الفلاسفة والعلماء، ولكنه يحب المهرِّجين والمسخاء، ويألف المتزلِّفين والأدعياء، وفي عهد حكمه السعيد كثر هؤلاء النُّدماء الأماثل، وانتشر وظهرت البركة في صفوفهم، فامتلأ بهم بلاطه العامر، وانفسح لهم عقله الضيق، وما أوسع العقول الضيقة لصنوف الجهالة والحماقة! وما أحفلها بضروب السماجة والصفاقة! إن عقلًا منها لَيَسعُ من ولائد العبارة أضعافَ ما تسعه عقول الفلاسفة أجمعين من ولائد الفطنة والنبوغ.»
وعلى ضوء هذه النظرة نستطيع أن نفهم كيف أن ناقدًا مثقفًا كالأستاذ العقاد لم يحاول في دعوته إلى التجديد الأدبي أن يطالب بتوسيع مجال هذا الأدب، وتنويع فنونه، وأخذ ما لا نعرفه منها عن الغربيين الذين استطاع العقاد أن يتَّصل بآدابهم بفضل إتقانه للغة الإنجليزية، وذلك في حين نرى شاعرًا أرستقراطيًّا تقليديًّا كأحمد شوقي تتفتح نفسه منذ شبابه الأول لفن كبير كفن المسرح، فيكتب منذ سنة ١٨٩٣م أولى مسرحياته الشعرية، وهي النسخة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير»، كما نراه يعود بعد ذلك إلى هذا الفن فيكتب ابتداءً من سنة ١٩٢٧م حتى وفاته بعد ذلك بخمس سنوات سلسلة مسرحياته التي يمكن القول بأن هذا الفن قد دخل بفضلها ضمن تراثنا الأدبي الخالد. وعندئذٍ فقط ابتدأ العقاد الناقد يحس بأن ما يُؤلَّف في هذا الفن يستحق النقد، بدليل الكتيب العنيف الذي كتبه العقاد عندئذٍ في نقد مسرحية «قمبيز» لأحمد شوقي باسم «قمبيز في الميزان»، وهو نقد سوف نرى ما فيه من تعسُّف وبُعْد عن الأصول الخاصة بهذا الفن.
وإذا كان الأستاذ العقاد قد كتب مقالًا عن «المناهج في فن القصة» منشورًا في مجموعة «بين الكتب والناس»، فإن حديثه في هذا المقال قد جاء مقصورًا على تبصير أحد الشبان نظريًّا بالمناهج المختلفة التي ينتجها كُتَّاب القصة مثل قوله: «فمن القصَّاصين مثلًا مَن يجعل معوله على الحادثة أو الواقعة، فلا تطيق أن تقرأ له قصة تخلو من حادثة مروعة، أو ذات خطر في حياة أبطالها، وهو في هذا الباب صاحب قدرة بارعة لا يُستهان بها في تمثيل الحوادث واستكناه خفاياها والانتقال بها مع أطوارها المتعاقبة إلى غايتها. ومنهم مَن يجعل معوله على الشخصية يحلِّلها أو يعرضها لقارئه باللون الذي يعجبه ويستهويه، وقد يكون الكاتب خبيرًا بتحليل الشخصيات، أو لا تكون له خبرة بالتحليل، ولكنه مقتدر على إبرازها على صورة تسحر الأبصار وتدعوك إلى العناية بها، كما تُعنَى بمَن تعرفهم من الصحب أو الأقربين. ومنهم مَن يعوِّل على التشويق، ويعتمد التقديم والتأخير في سرده لأخباره ومواقفه تعليقًا لهوى التشويق، ويعتمد التقديم والتأخير في سرده لأخباره ومواقفه تعليقًا لهوى الاستطلاع في نفوس القراء الذين يأخذون بهذا الأسلوب، ومنهم مَن يطرح التشويق جانبًا ويُخيَّل إليه أنه يتعمد الإملال أنفةً أن يظن به أنه يشتغل باله بتسلية القرَّاء، ويصطنع الحيلة للنزول عندهم منزلة الرضا والإقبال، ولكنه يعوِّض التشويق بالدقة والجد في التزام الحقائق وبلاغة التعبير … إلخ.» مما يوحي باتِّساع نظرة العقاد إلى هذا الفن وتنوع مناهجه، ولكن دون أن يتبين للعقاد رأي خاص في هذا الفن على نحوِ ما تبيَّنَّا وسنتبيَّن رأيه الخاص في فننا الأدبي التقليدي وهو فن الشعر الغنائي، وكل ذلك بالرغم من أن الأستاذ العقاد قد كتب هو نفسه منذ صدر شبابه قصة «سارة» التي تعتبر من النوع الذي يُسميه بالنوع التحليلي، بل وبالرغم من أن هذا الفن قد أخذ يجتذب إليه شيئًا فشيئًا أكبر عدد من متأدِّبينا، وكان من المتوقع أن يشغل مثل هذا الفن ناقدًا مثقفًا كبيرًا كالعقاد، ولكننا لا نذكر له في هذا المجال شيئًا، ولم نطالع له قط نقدًا لقصة أو لقصَّاص من معاصرينا في مصر أو غير مصر من الأقطار العربية.
وأما المجال النقدي الذي شغل العقاد منذ صدر حياته فقد كان كما قلنا مجالَ الشعر الغنائي، الذي يلوح لنا أنه المجال الذي يحرص عليه العقاد أكبر الحرص، ويودُّ أن يُذكر به شاعرًا، وناقدًا، بل هو المجال الذي خاض فيه العقاد معاركه النقدية العاتية، وبخاصة معركته العنيفة مع أحمد شوقي.
العقاد وشوقي
معركة العقاد مع شوقي لم تبتدئ بكتاب «الديوان» الذي ظهر جزءاه في سنة ١٩٢١م واشترك في تأليفهما المازني مع العقاد، بل ترجع أصول هذه المعركة إلى أبعد من ذلك بكثير؛ إذ تُطالع في أقدم مجموعة للعقاد، وهي «خلاصة اليومية» تعليقًا كتبه العقاد في سنة ١٩١٢م على أبيات قالها شوقي على قبر بطرس باشا غالي، ومن هذا التعليق نحس بالدوافع النفسية العنيفة التي أوغرت صدر العقاد على شوقي من مثل تزلُّفه للعظماء، ومداهنته لهم، وتمسحه بأبوابهم، فشوقي يقول:
ويُعلِّق العقاد على هذه الأبيات الثلاثة؛ بقوله:
«أكان يريد أن يقول: إن زائري قبر الرجل — وفيهم سادات الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء، وفيهم نائب مولاه الأمير ووكلاء الدول وأكابر السراة والوجهاء — أكان يريد أن يقول: إن هؤلاء كلهم ممن كانوا يقصدون من نادي ابن غالي موئلًا وكهف رجاء يستعطون من أريحية ساكنة الجواد، ويستدرون من أفضاله؟ أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى فأخطأ التقليد؟ أم لعله كان لا يريد أن يقول شيئًا؟ أم تراه يحس أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه وأنه نائحة ألمعية أعد ليرثي كل من يموت من خدامها بلا مقابل؟»
ومع ذلك فإن موقف العقاد من أحمد شوقي لم يتحدد نهائيًّا وعلى نحو قاطع إلا في كتاب «الديوان» بجزأيه؛ حيث نرى العقاد لا يقرُّ لأحمد شوقي بأية موهبة، بل بأية حسنة شعرية، وعلى العكس من ذلك يهاجم كل شعره جملة وتفصيلًا أعنف الهجوم، ولا يجد العقاد ضيرًا في أن يكشف في مقدمة هجومه الفني على شوقي عن البواعث النفسية التي أضرمت في نفسه كره هذا الشاعر؛ فهو يتهمه بالزُّلفى لرجال السلطان وبإساءة استخدام ثروته في اصطناع المهرجين والمطبلين، والنيل من خصومه ومنافسيه سرًّا وعلانية بما في ذلك زملاء مدرسته الشعرية من أمثال حافظ إبراهيم، وكل ذلك فضلًا عما لم يصرح به العقاد، مثل هجاء شوقي لعرابي والعرابيين تملُّقًا للخديوي، وبخاصة في القصائد التي كان ينشرها شوقي في جريدة «المؤيد» وغيرها غفلًا من إمضائه، أو بإمضاء مستعار على نحوِ ما أثبت البحث الحديث، وكل ذلك فضلًا عن أن العقاد كان مرتبطًا في صدر حياته بمعسكر الشعب الممثل عندئذٍ في «الوفد» أقوى تمثيل، على حين كان شوقي لصيقًا بالسراي ومن يلوذ بها أو يناصرها، ولم تظهر بعض اتجاهاته الشعبية إلا لمامًا وبعد عودته من منفاه في أواخر الحرب العالمية الأولى.
المعركة الفنية
وبالرغم من أن معركة العقاد مع شوقي قد كانت وراءها أسباب ودوافع نفسية وأخلاقية عميقة دفعتها إلى كثير من الإسراف الذي خرج بها عن نطاقها القاسي؛ فإن ما نحرص عليه هنا هو النظر في المقاييس التي اصطنعها الأستاذ العقاد في نقد شعر شوقي لنتبين صادقها من زائفها، والصحيح منها من المتعسف.
وأول ما يستحق النظر هو الأساس الفلسفي العام الذي بنى عليه العقاد نقده لشعر شوقي، وشعرنا التقليدي كله؛ فالعقاد بفلسفته الفردية ومنهجه النفسي لا يريد، كما رأينا في المقال السابق، أن يعترف بشاعر لا تطالعنا شخصيته ومزاجه الخاص ونظرته إلى الحياة، وفلسفته فيها من خلال شعره، وهذه نظرة تتَّفق إلى حدٍّ كبير مع طبيعة الشعر الغنائي وجوهره، ولكن موضع الخلاف هو: على أي نحو يجب أن تظهر شخصية الشاعر في شعره؟ وهل يجب أن يكون ظهورها سافرًا، أو على نحوٍ مباشر، أم يكفي أن يكون ظهورها من خلال موضوعه وطريقة علاج هذا الموضوع، ووجهة نظر الشاعر إليه وهدفه منه، ويكون في ذلك ما يكفي للتسليم للشاعر بالأصالة الشخصية والطابع الذاتي، وإلا لوجب ألا نسمي شاعرًا إلا من يصدر عن وجدانه الذاتي، ويتحدث عن تجاربه الخاصة، ومواضع أفراحه وأتراحه في الحياة؛ أي الشاعر الرومانسي دون غيره من شعراء الكلاسيكية، أو الوجدان الجماعي، أو أهل الفن للفن أو ما دون ذلك من شعراء مذاهب الأدب المختلفة وفنونه المتباينة، وعلى أساس هذه المفارقات الواجبة يمكن أن نتبين مدى تجنِّي العقاد على شوقي عندما أنكر عليه كل أصالة وتجديد، واتَّهمه بالسير في الدروب المطروقة البالية، والصدور عن القوالب التقليدية المتحجرة، فلشوقي صوره الشعرية القوية، وموسيقاه الرنانة وخطابيته الجهورية، وله مدرسته التي توافق مزاجنا أو لا توافقه، ولكننا لا نستطيع أن ننكر طاقته الشعرية الفذَّة.
وحدة القصيدة
ولقد كان المأخذ الثاني الكبير الذي أخذه العقاد على شعر شوقي هو انعدام الوحدة في قصائده التي جارى فيها تقاليد الشعر العربي القديم، بالرغم من تطور الفلسفة الجمالية العام تطورًا يتطلب الوحدة في كل عمل فني، ولقد فطن مطران أحد شعراء جيل شوقي إلى هذه الحقيقة الجمالية، ومنذ أن فطن إليها قرر — كما شرح في مقدمة ديوانه القديم — أن يطرح من هذا الديوان كل ما قاله على الغرار التقليدي فيما عدا قصيدة واحدة عز عليه أن يطرحها، وهي القصيدة التي وصف فيها غزو نابليون لألمانيا، وانتقام ألمانيا من فرنسا بعد ذلك بنحو ثلاثة أرباع القرن، وقد سمَّاها «١٨٠٦–١٨٧٠م».
والواقع أن «وحدة القصيدة» لها قصة طويلة في أدبنا العربي قديمه وحديثه كما أن مفهومها قد ظل غامضًا لزمن طويل؛ إذ نلاحظ أنه قد قُصد بها أحيانًا كثيرة في نقدنا الحديث إلى «وحدة الغرض»؛ وذلك لأن القصيدة العربية القديمة إذا كانت عند ظهورها التلقائي قد تمتعت بلا شك بوحدة الغرض؛ إذ كان الشاعر يقول القصيدة أو المقطوعة لساعته في الأمر الذي يشغله، فإن التكسب بالشعر لم يلبث أن حمل الشعراء على المديح، وعز عليهم أن يقصروا عليه شعرهم فجمعوا في القصيدة الواحدة بين هذا المديح وأغراضهم التلقائية القديمة، وبهذا أصيبت القصيدة العربية بالتفكك وبخاصة في قصائد المديح، وإن يكن كثير من القصائد الأخرى قد توفرت لها وحدة الغرض على نحوِ ما نشاهد مثلًا في غزليات العذريين بل الغزل الحسي أيضًا عند جميل والمجنون، وابن ذريح وكُثير وعمر بن أبي ربيعة وكثير غيرهم، ولكن لسوء الحظ رأينا أحمد شوقي يتابع الأقدمين في مدائحه فنراه مثلًا يستهل إحدى مطولاته في مدح الخديوي بقوله:
ولكن وحدة الغرض قد أخذت تختلط بعد ذلك عند العقاد وغيره من نقادنا المحدثين بما سمَّوه «الوحدة العضوية» أي بناء القصيدة بناءً هندسيًّا بحيث تخرج من بين يدي الشاعر كالكائن العضوي الذي لا يمكن نقل جزء منه مكان جزء آخر، وهي دعوة سليمة من ناحية الفلسفة الجمالية ولكنها لا تكاد تُتصوَّر في الشعر الغنائي الخالص الذي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر في غير نسق وضعي محدد، وإنما نتصور هذه الوحدة العضوية في القصائد ذات الموضوع الذي له بدء ووسط ونهاية على نحوِ ما نشاهد اليوم في عدد من قصائد الشعراء الشبان المعروفين بالشعراء الواقعيين؛ حيث يتخذ كل منهم موضوعًا لقصيدته قصة قصيرة، أو دراما سريعة يعالج بها إحدى مشاكل عصره، أو مجتمعه.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نتبين ما في بعض المقاييس التي فرعها الأستاذ العقاد عن هذا الأساس من تعصب غير مقبول، مثل زعمه بأن القصيدة السليمة البناء الممتعة بالوحدة لا يمكن تقديم بيت منها على غيره، وحُكمه على قصيدة مثل رثاء شوقي لمصطفى كامل بأنها مفككة البناء لمجرد أن العقاد قد استطاع إعادة ترتيب أبياتها على نحوٍ جديد دون أن يبدو عليها التخريب، فالعقاد يعيد ترتيبها على النحو الذي نمثل له بالأربعة الأبيات الأولى التالية:
مع أن الأبيات: الثاني والثالث والرابع هنا يأتي ترتيبها في قصيدة شوقي الأصلية ١٤، ٢١، ٦٤، وأما الأبيات الأربعة الأولى في القصيدة الأصلية، فهي:
فهذه الأبيات من قصيدة رثاء أيضًا كقصيدة شوقي، وقد أعاد الطالب ترتيب هذا العدد من الأبيات التي نقرؤها فتستقيم القراءة دون تعثر، أو إحساس بتخلخل، وتقديم وتأخير؛ لأن القصيدة كلها مبنية على خواطر وأحاسيس متناثرة يمكن ترتيبها على أوضاع متباينة، بل لقد استطاع الطالب المذكور أن يأتيني بعدة أبيات أعاد هو نفسه تأليفها من شطرات مختلفة تخيرها من قصيدة العقاد المذكورة واستقام لها الفهم، وهي:
ونحن لا نريد أن نتعسف فنرمي قصيدة العقاد هذه بالتفكك، وانعدام الوحدة العضوية على نحوِ ما فعل هو في نقده لشعر شوقي، ولكننا نقول إن المطالبة بالوحدة العضوية لا تكون إلا في فنون الأدب الموضعي كفن المسرحية، وفن القصة والأقصوصة، وأما في شعر القصائد فلا ينبغي أن يطالب بها إلا في الشعر الموضعي ذي الطابع الواقعي الذي تنبني القصيدة فيه، كما قلنا على قصة قصيرة، أو دراما سريعة، وأما الشعر الغنائي الخالص؛ أي شعر الوجدان فمن أكبر التعسف مطالبة الشاعر بمثل تلك الوحدة التي لا تقبل تقديمًا أو تأخيرًا في نفس أبياتها.
مقاييس المعاني
وأما المقاييس الفرعية التي استخدمها الأستاذ العقاد في نقد معاني شوقي، فمنها ما تحدَّث عنه نقاد العرب القدماء مثل «الإحالة»؛ أي المبالغة في المعاني مبالغةً مُسرِفة، فقد التفت إلى ذلك نقاد العرب القدماء كالآمدي والجرجاني وغيرهما، وإن اختلفوا بعد ذلك في منهج التطبيق؛ فرأى بعضهم إحالة فيما لا إحالة فيه، وإن يكن الأستاذ العقاد قد أخذ يفرِّع في ضروب الإحالة، فيقول: «أما الإحالة فهي فساد المعنى، وهي ضروب: فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه.» ثم يأخذ بعد ذلك في ضرب أمثلة لكل هذه الأنواع من الإحالة في شعر شوقي، والكثير منها جدير بالنقد وإن لم يخلُ عدد منها من التعسف والقسر، نستطيع أن نجد له مثلًا واضحًا في نقده لقول شوقي في رثاء مصطفى كامل:
إذ يعلق عليه العقاد بقوله: «مصر أيها القارئ: ولا تخطئ فتحسبها القاهرة المعزية، فإنها مصر بريفها وصعيدها، مصر كلها ما هي إلا قبر واحد، فلله در شاعرها يرثي رجلًا أحيا نهضةً في بلاده فيجعلها قبرًا! ولأي ضرورة؟ وليدل على ماذا؟ لا شيء.» فأي تعسُّف بعد هذا؟ وماذا كان من الممكن أن يقول الأستاذ العقاد لو سمع خطيب اليونان الأكبر «بركليس» وهو يقول: «إن الأرض كلها مقبرة للعظماء.» بمعنى أن الرجل العظيم لا يرقد في بقعة من الأرض، بل تستقر ذكراه في نفوس جميع البشر بشتى بقاع العالم، وهل تراه يتهمه بالسخف والإحالة؟!
وكذلك الأمر في مقياس «التقليد»، فهو مقياس قديم أسرف فيه نقاد العرب القدماء أيما إسراف، حتى رأوا سرقة فيما لا سرقة فيه؛ لأنه عام مشترك، وقد أخذ العقاد يبحث في تعسُّف عن سرقات لشوقي، ويتهمه بالتقليد، فيرى مثلًا أن قوله:
مغتصَب من بيت المتنبي:
ولسنا نرى شبهًا بين البيتين فضلًا عن اغتصاب أو سرقة، إلا في عبارة «أن الذكر عُمر ثانٍ»، وهي ليست من غرائب المعاني التي يصح فيها الاتهام بالسرقة، فضلًا عن أن «شوقي» قد دمغه بطابعه الشعري الخاص، وهو طابع الإنشاء الخطابي، على حين نرى المعنى نفسه، يتخذ في بيت المتنبي طابع الحكمة؛ أي التقرير الإخباري، وفي مثل هذه الحالة لا تتركَّز الأصالة والخبرة في المعنى، بل في الأسلوب والطابع الشعري.
وباستطاعتنا أن نبرز نفس الملاحظات على المقياس الذي سمَّاه العقاد «الولوع بالأعراض دون الجواهر»؛ فالعقاد يريد أن يأخذ الشاعر بالغوص وراء المعاني الخفية، وإغفال المظاهر الحسية للأشياء والطبائع، والخطأ هنا يأتي — كالعادة — من التعميم، فما يطالب به العقاد قد يتمشى مع شعر الفكرة، ولكنه يتجاهل مدرسة كبيرة في الشعر كمدرسة «البرناسيين»، التي كانت ترى أن الشعر تجسيم ورسم ناطق، وكل ذلك فضلًا على أننا لا نعلم على وجه التحقيق تلك الجواهر التي يقصد إليها العقاد، وهل يريد أن يحيل الشعر إلى فلسفة وميتافزيقا على نحوِ ما حاول أن يقول في مقدمة ديوانه «بعد الأعاصير» الصادر سنة ١٩٥٠م؛ حيث نراه يدافع عن شعر الفكرة في حماس بالغ، مع أن زميله عبد الرحمن شكري كان قد حل هذه القضية، وفضَّ الجدل بطريق إنشائي رائع عندما تحوَّل الشعر الفكرة أو الأفكار بين يديه إلى تأمُّل وجداني؛ فشكري وإن يكن فكريَّ النزعة إلا أنه لم يحاول أن يودع قصائده الرائعة جواهر أو حقائق، وإنما أودعها انفعالات وجدانه الحي العميق إزاء حقائق الحياة وجواهرها على نحوِ ما فعل في القصيدة التي يخاطب فيها المجهول بقوله:
… إلخ.
وإنما الذي أصبحنا نطالب به اليوم في الشعر الغنائي الجديد أن يتطور الوصف الحسي إلى وصف وجداني على نحو ما فعل مطران بهذا الفن فجدَّد منهجه.
الشاعرية والتشبيه
وأما الكسب الجديد الباقي في نقد العقاد لشوقي، وفي آراء زميلَيْه شكري والمازني، وفي دعوته التجديدية؛ فقد كان في نظرتهم إلى التشبيه ووظيفته الشعرية، وهي تلك النظرة التي نقلت التشبيه من مجال الحواس الخارجية إلى داخل النفس البشرية؛ إذ رأيناهم يطالبون بأن يكون الهدف من التشبيه هو نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ، وبذلك فتحوا الباب أمام التعبير الرمزي على نحوِ ما أوضحنا في عدد من المقالات السابقة لهذه السلسلة.
العقاد وقمبيز
قلنا إن العقاد لم يُعْنَ بنقد المسرحيات إلا بعد أن أخذ أحمد شوقي يُصدِر سلسلة مسرحياته الشعرية ابتداءً من سنة ١٩٢٧م، وأكبر الظن أن العقاد لم يكتب عن مسرحية «قمبيز» إلا باعتبار كتابته هذه جزءًا من حملته العامة العنيفة على شوقي؛ وذلك بدليل أننا لم نشهد بعد ذلك، ولا قبل ذلك، نقدًا للعقاد لأية مسرحية أخرى.
ومسرحية «قمبيز» تناوَلَ فيها شوقي فترةً حاسمة في تاريخ مصر، وهي فترة القضاء على استقلالها وسيادتها، ووقوعها فريسةً في يد الغزاة الأجانب الذين ظلوا يتعاقبون على حكمها منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد حتى نهاية فاروق، ولكن شوقي لم يرجع في تصوير هذه الفترة إلى التاريخ الحقيقي الذي يفسر غزو الفرس لمصر لأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية تتصل اتصالًا وثيقًا بالصراع الجبار الذي كان سائدًا عندئذٍ بين الفُرس من جهة، واليونان وقرطاجنة من جهة أخرى، وتطلُّع الفريقين إلى الاستيلاء على مصر لترجيح كفة الصراع، بل آثر أن يستخدم لفنه المسرحي أسطورة رواها المؤرخ اليوناني القديم «هيرودوت»، ونقلها عنه بعض المؤرخين المحدثين، وهي تلك الأسطورة التي تزعم أن «قمبيز» غزا مصر لأنه طلب من فرعونها «أمازيس» أن يزوِّجه من ابنته، ولكن «أمازيس» غشَّه؛ فبدلًا من أن يزوِّجه من ابنته «نفريت» زوَّجه «نيتيتاس» ابنة «أبرياس» الفرعون الذي قتله «أمازيس» واستولى على عرشه، ثم اكتشف «قمبيز» هذا الغش؛ فثارت حفيظته، وانتقم من فرعون بغزو مصر وسفك دماء أهلها، ونهب خيراتها وتدمير معابدها وقتل عجل «أبيس» إله المصريين القدماء، وإن تكن نوبات جنون هذا الطاغية السفَّاح قد أحاطت بما بقي في رأسه من عقل؛ فقتل أيضًا أخاه وأخته في ساعة جنونية، بل ولقي حتفه.
وليس من شك في أن «شوقي» كان له الحق في أن يُفضِّل هذه الأسطورة على التاريخ الواقعي؛ إذ رأى أنها أكثر مواتاةً لفنه، وأوفر حظًّا في خدمة الهدف الذي رمى إليه من تمجيد روح الفداء والتضحية الوطنية في شخصية «نيتيتاس» التي قدَّمت نفسها قربانًا على مذبح الوطن.
وإذا صحَّ هذا لا يكون هناك محل لأن يُشدِّد العقاد في كتابه «قمبيز في الميزان» النكيرَ على شوقي باسم التاريخ، ما دام شوقي نفسه قد آثر لفنه أن يخرج من مجال التاريخ إلى مجال الأسطورة، ومع ذلك فإن الحملة العنيفة التي شنَّها العقاد على مسرحية شوقي باسم التاريخ، إذا كان لبعض تفصيلاتها شيء من الوجاهة، فإن البعض الآخر لا يخلو من تعسُّف لا محل له.
فالأستاذ العقاد قد يكون محِقًّا عندما يأخذ على شوقي أنه لم يستخدم بعض الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تتنافى مع هدفه الوطني، والتي تفسِّر إطباق الجنون على «قمبيز» مثل الهزائم الشديدة والخسائر الفادحة التي لقيتها جيوش الفرس في بلاد النوبة وفي الصحراء الغربية.
وعلى العكس من ذلك يظهر تعسُّف العقاد عندما يأخذ على شوقي أنه لم يستخدم في مسرحيته أسماء تاريخية لامعة كانت لها بعض الصلات بمصر أو فارس في تلك الفترة، مثل المُشرِّع اليوناني الشهير «صولون» أو «قارون» ملك «ليديا»، الذي لا يزال يُضرَب به المثل الشعبي في وفرة الثراء. ويزيد هذا التعسُّف وضوحًا عندما نلاحظ أن العقاد لم يوضح لنا على أي نحوٍ كان يريد أن يُدخِل شوقي هاتين الشخصيتين أو غيرهما في المسرحية، وما هي الأدوار التي كان من الممكن أن تلعبها فيها، وهكذا يتَّضح كيف أن هذا النقد التاريخي لم يكن له محل، كما يتَّضح ما فيه من تعسُّف، وكذلك الأمر في عدد من مواضع النقد الجزئي التي أخذها العقاد على بعض تعبيرات شوقي وصوره الشعرية.
وإذا ذكرنا أن العقاد قد اقتصر أو كاد في نقده لمسرحية «قمبيز» على الناحية التاريخية، والناحية اللغوية، أدركنا كيف أن هذا النقد قد جاء أبعد ما يكون عن أصول هذا الفن، الذي يلوح أن الأستاذ العقاد لم يُعنَ بدراستها دراسة مستفيضة، كتلك التي وصل إليها في دراساته لأصول الشعر الغنائي وخصائصه ومدارسه، ولو أن العقاد كان قد عُنِي بفن الأدب التمثيلي العناية الكاملة، لَاستطاع أن يجد في مسرحية «قمبيز» لشوقي مآخِذَ فنيةً جادة لا يمكن أن يُخطِئها ناقد مستنير في هذا الفن.
ففي هذه المسرحية نلاحظ مثلًا أن الشخصية الأساسية ليست «قمبيز» وإنما هي «نيتيتاس»، التي أراد شوقي أن يصوِّر فيها الروح الوطنية، تلك الروح الذي أراد أن يحقق بها المشاركة الوجدانية مع القارئ أو المشاهد، وبها يضمن استجابة الجماهير.
والواقع أن «شوقي» قد أراد أن يجسِّم الوطنية المصرية في شخصية «نيتيتاس»، وأن يجعل منها ما يمكن أن يُشبَّه باللؤلؤة التي لا تذوب في الأوحال؛ وذلك لأنه صوَّر مصر عندئذٍ على حقيقتها من حيث الضَّعْف والانحلال والإسراف في البذخ حتى قتل النعيم حميَّة الشبان، وأصبح جيش مصر نفسه خليطًا من المرتزقة، وخاصة من اليونان الذين وصل أحدهم وهو «فانيس» إلى رتبة القائد، ثم غدر بمصر وجيشها، وأفشى سرها إلى «قمبيز» والتحق بالجيش الفارسي، ولكننا مع ذلك نلاحظ أن شوقي لم يستطع أن يصون صفاء هذه اللؤلؤة، أو أن يُوضِّح لنا سر نقائها، بل أن يُنحِّي عنها ما علق بها من أدران.
قدَّم لنا شوقي «نيتيتاس» على أنها مصرية سليلة الفراعنة التي تفدي البلاد بنفسها، وتدفع عن مصر شرَّ العجم، وتَقِي الوطن دنسَ الفتح وعاره، وتهتف دائمًا: «تعيش مصر وتبقى.» ولكنه مع ذلك لم يوضِّح لنا كيف استطاعت «نيتيتاس» أن تغلب على حقدها الإنساني المشروع على قاتل أبيها الفرعون «أمازيس»، أو كيف استطاعت أن تتناساه، ولم يستخدم الصراع المؤثر الذي كان من الطبيعي أن يثور في نفسها بين الموجدة الشخصية وحب الوطن، وخاصة أن شوقي قد جعل لتلك الموجدة أعقابًا تُذكيها وتزيدها ضرامًا حتى لتمس «نيتيتاس» في أعز ما تملك الفتاة، هو قلبها؛ فشوقي يحدِّثنا أن «نيتيتاس» كانت تحب «تاسو» حارس أبيها، وكان هذا الجندي يبادلها حبًّا بحب طالما كان أبوها فرعونًا لمصر، حتى إذا قتله «أمازيس» واغتصب منه العرش، تحوَّلَ «تاسو» من «نيتيتاس» إلى «نفريت» بنت فرعون الجديد؛ وذلك لأنه على حدِّ قول شوقي:
فهو كالنحلة من زهر إلى زهر، وكالنعمة من قصر إلى قصر، ولم يستطع شوقي أن يهمل ما يثيره مثل هذا الغدر في نفس «نيتيتاس» من غيرة كاوية فنراها تخاطب «تاسو» بقولها:
وإذا كانت هذه هي حالة «نيتيتاس» النفسية، وهذا هو مبلغ نقمتها على «تاسو» وغيرتها من «نفريت» الأنانية المحظوظة، أَوَما يكون القارئ والمشاهد على حق في أن يشك في مدى نبل «نيتيتاس»، وسيطرة روح التضحية والفداء على نفسها، مما يُذهِب بروعة بطولتها، ويُضعِف من عطفنا عليها وتحمُّسنا لها؟ وبخاصة أننا لم نشهد صراعًا نفسيًّا في حناياها بين كل هذه العناصر المتشابكة المتضاربة من حقد على قاتل أبيها، وغيرة من ابنته، ويأس من غرامها المحطَّم، ثم شعورها الوطني، واشتعال روح التضحية في نفسها. لم نشهد صراعًا تخرج منه منتصرة، مُغلِّبة روح الوطنية النقية السامية على مشاعرها الشخصية ومآسيها الخاصة، بحيث تزداد عندئذٍ تضحيتها نبلًا، وتزداد قلوبنا عليها حنوًّا.
وهذا هو النقد الأساسي الذي يمكن أن يوجَّه إلى هذه المسرحية التي أراد شوقي أن يمجِّد فيها روح الفداء والوطنية المصرية ممثَّلةً في فتاة من سلالة الفراعنة، ولكنه لم يُصِب الهدف كما لم يُصِبه عندما حاول في مصرع كليوباترا، أن يردَّ إلى تلك الملكة اليونانية التي جلست على عرش مصر اعتبارَها، وأن يثير فينا العطف عليها، بل الإعجاب بها.
وكل ذلك فضلًا عن أن «شوقي» لم يعرف كيف يستخدم عناصر الصراع المتوفرة في مسرحيته في بنائها، وتوليد الحركة الدرامية الداخلية فيها على نحوِ ما فعل عمالقة هذا الفن.
ولكن الأستاذ العقاد لم يلتفت إلى شيء من كل هذا؛ لأنه كما قلنا، لم يُعْنَ بدراسة النقد المسرحي، بل والتأليف المسرحي، العنايةَ الكافية، فرأيناه يصرف نقده إلى نواحٍ جانبية أو ثانوية أو شعرية لا تدخل، أو لا تكاد تدخل في صميم النقد المسرحي، فضلًا عن أن الكثير منها مردود كما سبق القول.
النقد البنَّاء
وإذا كنا فرغنا في هذا المقال من نقد العقاد الهدَّام الذي تجلى في معركته العنيفة مع أحمد شوقي، فقد بقي أن ننظر في نقد العقاد البنَّاء وفلسفته العامة في الأدب، وفي الشعر خاصة، وهو الفن الذي يعتبر المجال الهام، إن لم يكن الوحيد للعقاد ناقدًا، كما بقي أن ننظر في منهج العقاد في الدراسات الأدبية، وفي كتابة السيرة، وآراؤه في كل ذلك مبثوثةٌ في عدد من مقالاته وكتبه، وهي من الوفرة والاتساع بحيث تستحق أن نُفرِد لها مقالًا خاصًّا.
٣
فرغنا في المقالين السابقين عن الأستاذ عباس محمود العقاد من فلسفته العامة في الحياة وارتباطها الوثيق بآرائه في الأدب والنقد، كما فرغنا من خصومته مع المدرسة التقليدية وعلى رأسها أحمد شوقي، وبقي أن ننظر في آرائه العامة في الشعر ونقده، وفي الدراسة الأدبية وهدفها ومنهجها، ثم في السيرة ومنهجه في كتابتها.
نظرية الشعر
والنظرية العامة التي يلوح أن الأستاذ العقاد قد تحمَّس لها، هو وزميلاه شكري والمازني — روَّاد دعوة التجديد في الشعر المعاصر — هي النظرية التي تطالب بأن يكون الشعر تعبيرًا عن وجدان الشاعر وحياته الباطنية؛ أيْ صورة لنفسه، فهو يقول في مقدمة كتابه «ابن الرومي: حياته من شعره» عن الطبيعة الفنية إن: «تمامها إنما يتحقق بأن تكون حياة الشاعر وفنه شيئًا واحدًا لا ينفصل فيه الإنسان الحي عن الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته، فديوانه هو ترجمةٌ باطنية لنفسه، يخفى فيها ذِكر الأماكن والأسماء ولا يخفى فيها ذِكر خالجة ولا هاجئة مما تتألَّف منه حياة الإنسان.»
وهو يبلغ بهذا الرأي أقصاه عندما يقول في مقال له بمجموعة «ساعات بين الكتب» إنه إذا لم تعرف حياة الشاعر من ديوانه فما هو بشاعر، ولو كان له عشرات الدواوين.
والذي لا شك فيه أن الأستاذ العقاد انساق إلى هذه النظرة المتحمسة لشعر الوجدان الذاتي بالدعوة التي قادها هو وزميلاه لتجديد الشعر العربي المعاصر، ثم باتجاهه النفسي في البحث الدائم عن خلجات النفس البشرية ومحاولة اكتشاف شخصيات الأدباء من خلال إنتاجهم الأدبي، وذلك بالرغم مما في هذه النظرة من إسراف، فهناك ضروب من الشعر يختفي فيها الشاعر ويجب أن يختفي، كالشعر الملحمي والشعر التمثيلي، بل إن الشعر الغنائي نفسه منه ما لا نعثر فيه على شخصية الشاعر بطريق مباشر، بل نتلمَّس عنها بعض اللمحات من نظرته إلى الأشياء والناس، ومن أسلوب عرضه عندما نحس أن هذا الشاعر أو ذاك — مثلًا — متفائل أو متشائم، وعاطفي انفعالي، أو متهكم ساخر، وأما الشعر الذي يتخذ الشاعر نفسه محورًا له فهو الشعر الرومانسي وحده، ومن المؤكد أن الأستاذ العقاد نفسه قد قال كثيرًا من الشعر غير الشخصي الذي لا نعثر فيه على شخصيته بطريق مباشر، وكل ما نستطيع أن نستشفَّه منه هو الحالة النفسية التي صدر عنها، وفلسفة الحياة التي يريد أن يوحي لنا بها. ومن المعلوم أن شعراء الفن للفن وجماعة البرناسيين قد كان مصدر ثورتهم على الشعر الرومانسي هو الإفراط في «الأنا» التي طغت على شعرهم كله، حتى أحالته إلى مجرد وسيلة للتعبير عن هذه «الأنا»، دون عناية كافية بالقِيَم الجمالية للشعر، مما دعا أصحاب الفن للفن إلى القول بأن الشعر لا ينبغي أن ينحط إلى مستوى الوسيلة مهما شرُفت، بل يجب أن يُعتبَر غايةً في ذاته؛ أيْ إن يكون خلقًا للقِيَم الجمالية قبل كل شيء، حتى ذهبوا إلى حدِّ القول بأن اللغة ليست وسيلة في الشعر، بل إنها كمحجَر الرخام الذي ينحت منه الشاعرُ صورةً على نحوِ ما ينحت المثَّال تماثيلَه من الرخام.
ولكن مثل هذه النظرية كان من السهل أن تُستغَل أقوى استغلال ضد شاعر كبير كأحمد شوقي، الذي يصعب أن نستخلص من شعره الوفير صورةً نفسية متكاملة لشخصه، وربما كان ذلك لأن شوقي لم يكن يقول الشعر للتنفيس عن نفسه، بقدر ما كان يقول لاكتساب الحظوة الملكية حينًا، والشهرة الشعبية حينًا آخر، وقد عاب العقاد عليه كل ذلك كما أوضحنا في المقال السابق عند حديثنا عن الخصومة بينهما.
مجال الشعر
وتأسيسًا على هذه النظرية العامة، كان من الضروري أن يُطالِب العقاد كلَّ شاعر بأن يصدر عن طبعه، وألَّا يحاول القول فيما يتعارض مع هذا الطبع حتى يأتي شعره صورة لروحه، وهذه النتيجة المنطقية نستطيع أن نطالعها في مقدمة كتاب «ابن الرومي»؛ حيث يقول: «إن مزايا الشعر كثيرة، تتفرَّق بين الشعراء ويتفرَّق الإعجاب بها بين القراء، وقد يُحرَم الشاعر إحداها أو أكثرها، وهو بعدُ شاعرٌ لا غبارَ عليه؛ لأنه يحس نمطًا من الشعر يقيم به الشاعرية، كالجمال في الحِسان يروقنا في كل وجهٍ بلونٍ وسِمة، وهو في جميع الوجوه رائقٌ جميل، وكاللمحة الواحدة من ملامح الجمال تحلو في هذا الوجه وتحلو في ذاك، ولا تشابُهَ بينهما في غير الحلاوة؛ ففي العيون ألفُ عين جميلة لا تشبه الواحدة أختها، ولا تتَّفق اثنتان منها في معاني النظرات ومحاسن الصفات، وليس هذا إلا جمالًا واحدًا عن الكلام على جوهر الجمال.»
ومن الشعراء من يطربك متغزلًا أو يعجبك واصفًا أو من يشجوك شاكيًا أو راثيًا، أو من تستمع له فتحلو لك نغمته في بعض مذاهبه، ولكنك لا تلقى عنده مستمعًا في غير الباب الذي تستحسنه منه، فهؤلاء الشعراء تستريح النفس إليهم في حالة من حالاتها، وتتسلَّى بهم في بعض نوباتها، غير أنها لا تشعر بعظمة فيهم حين تنصت إليهم، وهي على حق فيما تراه، فإن الشاعر الذي لا يخاطب النفس إلا من ناحية واحدة كالآلة الموسيقية التي ليس فيها غير وتر فرد؛ فهي تنطق بصوت واحد من أصوات تلك الحياة، ولكنها لا تتَّسع لتمثيل روايتها الكبرى بأصواتها المنوعة وأصدائها المختلفة المتجاوبة.
ونحن لا نريد أن نناقش هذا الرأي إلا بآراء العقاد الأخرى نفسها، فنسأل كيف يمكن أن ينطق الشاعر بكافة النغمات المتناقضة المتضاربة، بل لِنَقُل المتناغمة المتجاوبة أو المتكاملة، ما دام العقاد نفسه يطالب الشاعر بأن يكون شعره صورةً لنفسه. والغالب أن تكون النفس ذات لون خاص واتجاه معين، ومطالبتُها بأن تجمع بين الاتجاهات والألوان والنغمات كافة مطالبةٌ لها بما ليس فيها، وهذا يُناقض نظرية العقاد العامة، كما يناقض ما نستطيع أن نستخلصه من الآداب كافة، وإلا لَجاز أن نتنكَّر لشعر الرومانسيين مثلًا؛ لأنهم لم يصدروا في كل شعرهم إلا عن حالة نفسية محددة لا تعدُّد فيها، ولم يعزفوا إلا على وتر واحد، بل إن وترَ كلِّ فرد منهم يختلف عن وتر الآخر، وفي هذا تَكمُن أصالته الفريدة، ونحن نقرأ دواوين عدد من كبار شعرائنا المعاصرين فيُخيَّل إلينا أحيانًا كثيرة أننا لم نقرأ غير قصيدة واحدة متنوعة؛ فدواوين «ناجي» مثلًا تكاد تكون قصيدة غرام متصلة، وديوان «الشابي» يكاد يكون ثورة نفسية متلاحقة الانفجار، ودواوين علي محمود طه تكاد تكون فرحة مستمرة بالحياة، ودواوين شكري تكاد تكون تأملًا متَّصلًا واستبطانًا مستمرًّا لذاته، ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن ننكر العظمة على كل هؤلاء الشعراء لمجرد أنهم لم يعزفوا على كل النغمات، وهنا نلتقي برأي العقاد الأول المتماشي مع نظرته العامة للشعر.
موضوعات الشعر
ولكننا عندما ننظر في مجالات الشعر وموضوعاته التي طرقها العقاد نفسه في دواوينه العديدة، نميل إلى الاعتقاد بأن العقاد قد آثَر لنفسه الضرب على سائر النغمات؛ فله الشعر الفلسفي، والشعر العاطفي، وشعر المناسبات التقليدية، بل ونراه يحاول أن يكتشف موضوعات جديدة للشعر على نحوِ ما فعل ديوانه «عابر سبيل»؛ حيث يحدِّثنا أن في الحياة العادية وفي الشوارع والحوانيت أشياءَ كثيرةً تصلح لأن تكون مادة للشعر، مثل: الفواكه المكدَّسة في الحوانيت، أو القرود الحبيسة في حديقة الحيوان، وقد نظم هذا الديوانَ كله في هذه الأشياء وأشباهها.
وإنه وإن يكون هناك خلاف شديد بين الشعراء والنقاد حول موضوعات الشعر، وما يصلح منها ولا يصلح لأن يكون مادة لهذا الفن الجميل، إلا أن هناك مع ذلك إجماعًا على أن النظم في موضوع قبيح أو تافه بطبيعته لا يمكن أن يصبح شعرًا؛ أي فنًّا جميلًا، إلا إذا استطاع الشاعر أن يُضفِي الجمال على ما يصِفُ أو ينتزعه منه حتى تهتزَّ له النفس أو تطمئن حاسة الجمال، وذلك إما بفضل الصور الشعرية التي ينحتها الشاعر من اللغة عند وصفه لشيء تافه، وإما بفضل المشاعر الجميلة الخيِّرة التي يضيفها الشاعر على الشيء القبيح أو المؤلم؛ أيْ بفضل المشارَكة الوجدانية التي تجمع بين الشاعر وبين ما يصف.
ووصْفُ الأشياء العادية التي تبدو تافهة لم يبتكره الأستاذ العقاد في الشعر العربي، وأكبر الظن أن ابن الرومي هو الذي وجه هذه الوجهة، وبخاصة إذا ذكرنا أن ابن الرومي كان من الشعراء المفضَّلين الذين تناوَلهم العقاد، كما تناولهم زميله المازني بالدراسة والنقد، ولابن الرومي في شعر المشاهدات اليومية العادية — أيْ شعر عابر السبيل — مقطوعات فنية رائعة مثل وصفه للخبَّاز وغيره، ولكن العقاد لا يستطيع أن يتمهَّل عندما يصف ليخلق شيئًا من لا شيء، وينحت الصور الجميلة من الحركات التافهة، كما يفعل ابن الرومي، بل نراه يفر من موضوع وصفه إلى التداعي، وهو تداعٍ لا يسوقه الخيال الشعري ولا الفيض العاطفي، بل يسوقه الفكر، والعقاد بطبيعته رجل فكر قبل كل شيء، وكثيرًا ما يأتي تداعيًا متلمسًا مجتلبًا قد يدل على براعة، ولكنه لا يدل على شاعرية مصورة أو عطف إنساني عميق، على نحوِ ما أوضحنا في الجزء الأول من كتابنا «الشعر المصري بعد شوقي»، والحديث عن الشارع والزقاق والقرية استطاع الاشتراكيون الواقعيون أن يخلقوا منه شعرًا وأدبًا رائعًا في كثير من الحالات، ولكن العقاد في «عابر سبيل» قد آثَر أن يتحدث عن الأشياء والحيوانات عن أن يتحدث عن الناس وحياتهم، وما كان له أن يصدر عن تلك النزعة التي يعاديها في عنف.
ومن البيِّن أنه بغير مثل هذه الفلسفة الحانية على الناس العاديين وكفاحهم الشاق في الحياة، من الممكن أن تؤدي مثل هذه النزعة في شعرنا العربي إلى الانتكاس نحو الهُوَّة التي كان قد وصل إليها قبل البارودي، عندما انتهى الأمر به إلى معالجة التوافه؛ مثل: وصف القلم أو المحبرة أو هدية عتب أو ما شاكَلَ ذلك من موضوعات كان الشعراء يفتعلون فيها الشعر، ويتسابقون في إظهار المهارة اللفظية أو توليدات الخيال، دون أن يحفِّزهم إلى قول الشعر حافزٌ إنساني قوي، أو عاطفة حانية، أو خيال خلَّاق في غير تصنُّع أو اجتلاب.
وكما حاوَل العقاد أن يقول الشعر على لسان «عابر سبيل»، فإنه أراد أيضًا أن يوجِّه الشعر والشعراء وجهة جديدة يقول إنها الوجهة المحلية الواجبة، وهي وجهة التغني بالكروان بدل البلبل، الذي يؤكِّد الأستاذ العقاد أنه لم يسمعه ولا رآه قط في بلادنا، ولا يعتبره من طيور بيئتنا الطبيعية، ويتهم شعراءنا بترديد اسمه بالباطل نقلًا عن الشعراء الغربيين، ولستُ من علماء الحيوان والطيور لأفصل في زعم الأستاذ العقاد، ولكنني أعلم أن أهلي في الريف يُسمُّون طائرًا صغيرًا يزقزق على الأشجار باسم البلبل، ولقد حدث في إجازتي القصيرة الأخيرة بالريف أن جاءني أطفالي صائحين بأنهم قد اصطادوا ببندقية الرش بلبلًا أرَوْني إياه، فإذا به يشبه العصفور إلا أنه أنحف منه جسمًا وأطول ذنبًا ومنقارًا، وما أحسب أن الشعراء يُعتبَرون من الضالين إذا كانوا قد جاروا أهلَ قريتنا وأطفالي في الحديث عن البلبل وزقزقته، ولكننا مع ذلك قد ظفرنا من الأستاذ العقاد بديوان قائم بذاته خصَّص معظمَه لتغريد الكروان وإيحاءاته، وسمَّاه «هدية الكروان»، وإن كنت أعتبر القصيدة الأولى التي كتبها الأستاذ العقاد عن الكروان ونشرها في الجزء الأول من ديوانه لا تزال خيرَ ما قال بوحي من الكروان، وأن ما قاله بعد ذلك فيه — وبعد أن اعتبر هذا الموضوع كشفًا جديدًا — لا يسمو إلى مستوى هذه القصيدة التلقائية الأولى التي مطلعها:
الشعر والمضمون
ومع ذلك، فمن رَأْينا أن الأستاذ العقاد قد كان أكثر توفيقًا، وأسدُّ توجيهًا، في حديثه عن مضمون الشعر، أكثر من حديثه عن موضوعات الشعر ومجالاته، فهو قد صحَّح بلا ريب تصحيحًا سليمًا.
وما فهمه بعض الأدباء والشعراء التقليديين من دعوته هو وزميلَيْه إلى التجديد، إذا ظن بعضهم أن التجديد يتحقق بالحديث مثلًا عن القطار أو الطائرة بدلًا من الناقة على نحوِ ما فعل الشاعر البدوي محمد عبد المطلب، بل الشاعر الحضري علي الجارم، فبادَرَ الأستاذ العقاد وجماعته بتصحيح هذا الفهم الخاطئ، مؤكِّدين بحقٍّ أن التجديد المطلوب لا يتحقَّق باختيار موضوع جديد، بل يتحقق بالمضمون الجديد؛ أيْ بالخواطر والأحاسيس والتأملات الأصلية المبتكرة النابعة من ذات النفس العصرية بثقافتها وفلسفتها وطرائق انفعالها بالحياة، فقال العقاد عن العصرية في الشعر:
«إن وصف الطائرة لا ينم عن روح عصرية إلا كما ينم وصف قطار من الجِمال داخل مدينة لوندرة أو باريس على جاهلية الشاعر الإنجليزي أو الفرنسي، فإذا مثل الطيارة بدويٌّ قادم من جوف الصحراء، فليس يستخرج أحد من ذلك أنه حديث الذهن، مدني النفس؛ إذ ليس المعول في معرفة عصرية الشاعر على وصفه الاختراعات العصرية، ولكن على كيفية الوصف ووجهة النظر.»
بل لقد صحَّح العقاد أيضًا بعض المقاييس القديمة، أو على الأصح ناصَرَ من القدماء مَن يستحق المناصَرة في ضوء ثقافتنا العصرية الواسعة.
فابن قتيبة في كتابه «عن الشعر والشعراء» نراه يقسِّم الشعر إلى أنواع، منها ما حسن لفظه وحسن معناه، ومنها ما فسد أحدهما، ونراه في الحديث عن المعنى يتطلَّب في كل بيت أو أبيات من الشعر معنًى عقليًّا أو حكمة أخلاقية، وعلى هذا الأساس يعيب بعض الشعر الرائع بدعوى خُلوِّه من المعنى، مثل قولِ كُثير في وصف عودة الحجيج:
وجاء عبد القاهر الجرجاني الناقد الفحل صاحب «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، فصحَّح هذا الفهم الخاطئ لابن قتيبة، ودافَعَ عن هذه الأبيات الجميلة أروع دفاع، مُظهِرًا ما فيها من براعة التصوير، مؤكِّدًا أن الشعر قد يخلو مما يسمِّيه ابن قتيبة بالمعنى، ومع ذلك يبلغ الذروةَ في الشاعرية بقوة تصويره، كما هو الحال في هذه الأبيات.
والمقطوعتان ولا ريب من أعذب الشعر وأسلسه، وهما كذلك خلو مما تعوَّد النقَّاد أن يسموه بالمعاني في الشعر، ولكننا لا نقول مع القائلين إنها طلاوة لفظية ليس إلا … ولسنا نحسب الفضل في استحسانهما للحروف والكلمات كما يحسبون؛ فإن في الشعر شيئًا غير الألفاظ والمعاني الذهنية، وهو الصور الخيالية وما ينطوي عليه من دعاوى الشعور، وأبيات هاتين القطعتين حافلة بالصور التي تتوارد على الخيال كما تتوارد المناظر للعين في الصور المتحركة، فيكاد القارئ ينسى كلماتها وحروفها وهو ينشدها بما يستشفه فيها من الأخيلة المتلاحقة، وما يصحبها من الخواطر الحية المتساوقة، ولو أن أبياتَ كُثير نُقِلت إلى اللوحة لَملأتْ فراغًا من الشريط المصوَّر لا يملؤه أضعافُها من قصائد المعاني وقصص الواقع؛ لأنها تنقل لك صور الحجيج غادين رائحين يجمعون متاعهم وينشدون رواحلهم، ويحثهم الشوق إلى أوطانهم بعد أن قضَوْا فريضتَهم التي فارقوا من أجلها ديارهم وأصحابهم، ثم تنقل لك صورةَ البطحاء تعلو فيها أعناق الإبل وتسفل، وتنساب أحيانًا كما تنساب الأمواج كَرَّةً بعد كَرَّة، وفوجًا بعد فوج، ثم تنقل إليه في المنظر نفسه صورة الركبان أقبل بعضُهم على بعضٍ جماعاتٍ يتجاذبون أطرافًا من الحديث، ويتطارحون آلافًا من الروايات والأنباء، ويذهبون في ذلك كلَّ مذهب تلمُّ به الأذهان في حشد كثير مختلِف الأوطان والأعمار متباين التجارب والأطوار، ثم تنقل إليه صورة القائل في نفسه من الشجن واللوعة، وما يحركه من ذاك إلى التسلي بالحديث واللياذ بغماز الناس، ولا تفوتك من تلك الصور قصة كاملة تُنبِئك عنها «القلوب المنضجات القرائح»، وتدل عليها رائحة السآمة التي تنسم عليك من قوله: «ومسح بالأركان مَن هو ماسح»، كأنما تمسيح الأركان لم يكن همه الذي يعنيه من تلك الرحلة، وكأنه كان يتوسَّل به إلى مأرب يشغله عن الأركان ومَن يمسحها من الماسحين، وإلى جانب هذه المناظر والخواطر حواشٍ شتى يُضفِيها الخيال وتمليها البديهة، فإذا أنت من الأبيات الخمسة في وادٍ يموج بالمشاهد ويتتابع بدواعي الشعور، وفي ذلك على ما نرى شيء غير اللفظ السهل الذي يحسب قوم من النقَّاد أنه كل ما في هذه الأبيات من فضيلة الجودة ومزية الإعجاب.
وغنيٌّ عن الشرح أن اللغة ليست هي الشعر، والشعر ليس هو اللغة، وأن الإنسان لم ينظم إلا للباعث الذي من أجله صوَّر أو صنع التماثيل، أو غنَّى أو وضع الألحان، فالباعث موجود بمعزل عن الكلام والألوان والرخام والألحان، وإنما هي أدوات الفنون التي تظهر بها للعيون والأسماع والخواطر حسب اختلاف المواهب والملَكات، فإذا وجدتَ الفحولة البدوية وجدتَ أدلة النَّظْم والتعبير، وبقي أن نبحث عن الشاعرية والخوالج والأحاسيس التي يعبِّر عنها الشاعر، وهذه الشاعرية قِسطٌ شائع بين الناس يعبِّرون عنه بما استطاعوا من لغات، وقد يُعبِّرون عنه بغير اللغات.
ولقد يُقِر بعض النقَّاد الأستاذ العقاد في نقده لإسراف عبد المطلب اللغوي وبحثه عن الغريب المهجور من الألفاظ، ولكنني لا أحسب ناقدًا واحدًا يقره على إهمال اللغة وللتنكُّر لأهميتها، أو ادِّعاء الشاعرية لمجرد وجود الباعث أو تلجلج الخواطر والأحاسيس في نفس إنسان، فهذه الخواطر والأحاسيس لا يمكن أن تصبح شعرًا ذا قيم جمالية إلا إذا نجح الشاعر في أن يصوِّرها بوساطة اللغة وبأسلوبه الخاص — التصوير المعبِّر المُوحِي.
ومما لا شك فيه أن هذه النظرة قد كانت الأساسَ الذي اعتمد عليه جماعة الديوان عندما اتخذوا إمكانَ ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، دون أن يفقد شيئًا من جماله، اتخذوا ذلك مقياسًا للحكم على جمال الشعر أو عدمه. وإذا كان المازني هو الذي تحدَّث عن هذا المقياس ودافَع عنه، فإن الشيخ محمد خليفة التونسي مريدُ العقاد وجامعُ كتابِ «فصول من النقد عند العقاد» يؤكِّد لنا في هامش خطير كتبه في ص٢٩٦ من هذا الكتاب، أن المازني قد أخذ هذا المقياس عن العقاد، مستدلًّا على ذلك بالفقرة السابقة التي يؤكِّد فيها العقاد أن الشعر ملَكةٌ إنسانية لغوية، لما يترتب على ذلك من أن الشعر الجيد يظل جيدًا في كل لغة؛ لأن جودته إنما تأتي من باعثه وما يتضمنه من خواطر وأحاسيس، ويكفينا في الرد على هذا الرأي أن نُحيل إلى ما سبق أن أوضحناه من محور الخصومة التي قامت بين الرومانسيين وأصحاب نظرية الفن للفن ثم الرمزيين، وبخاصة إذا ذكرنا أن رائد الفن في فرنسا نفسها قد كان «تيوفيل جوتييه»، الذي ابتدأ حياته رومانسيًّا متعصبًا، واقتتل في سبيل الرومانسية في المرة الأولى لعرض مسرحية هرناني الرومانسية لفيكتور هيجو، وذكرنا كذلك أن الرمزيين كانوا يعتقدون أن الشعر موسيقى لغوية قبل كل شيء، ومن الواضح أن الشاعر الذي لا يعرف كيف يستخرج من اللغة موسيقاها، لن تغني عند الرمزيين وغيرهم بواعثُه وخواطره وأحاسيسه.
منهج الدراسة الأدبية
لقد رأينا حتى الآن العقاد ناقدًا فرأيناه يحرص على التقييم والتوجيه أكثر من حرصه على التفسير والتعليل، وقد يكون في هذا الاتجاه ما يتمشَّى مع طبيعة النقد الأدبي ويميِّزه عما نُسمِّيه بالدراسة الأدبية، ولكنه مما لا شك فيه أن الظروف التي تولَّى فيها العقاد مهمة النقد الأدبي، قد ساعدت على دفْعِه نحو هذه الوجهة؛ فهو في الواقع لم يكن ينقد فحسب، بل كان يخوض معاركَ ويرفع راياتٍ ويدعو دعوةً جديدة، ومن هنا كان حرصه على التقييم؛ أيْ على الحكم على الإنتاج الأدبي في ذاته بالجودة أو الرداءة، وتفضيل قِيَم على أخرى، والدعوة إلى قِيَم جديدة بدلًا من القِيَم القديمة البالية، كما أن هذه الظروف هي التي وجَّهته نحو النقد التطبيقي؛ أي نقد القصائد الشعرية لشوقي وغيره نقدًا تفصيليًّا دون عناية كبيرة بفلسفة الأدب عامة والشعر خاصة، ونظرياته ومذاهبه ومصادرة أهدافه، على نحوِ ما أوضحنا في مقالنا عن ميخائيل نعيمة بهذه السلسلة؛ حيث تحدثنا عن المقاييس النظرية العامة التي أراد نعيمة أن يُخضِع لها الأدب، وهي مقاييس استمدها من الحاجات الإنسانية التي يجب أن يُشبِعها ذلك الأدب: حاجتنا إلى التعبير عن ذاتنا، وحاجتنا إلى الموسيقى، وحاجتنا إلى الجمال، وحاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وإن يكن من الواضح أن نقد العقاد التطبيقي قد صدر طبعًا من آراء ونظريات عامة في الأدب عامةً والشعر خاصة، ولكنها نظريات وآراء نستطيع نحن أن نستخلصها من تطبيقه، ولكنه لم يجمع أشتاتها ولم يُفصِّل أصولها العامة، وهذا هو ما حاولنا عندما تحدَّثنا في مقالنا الأول عنه؛ عن فلسفته العامة في الحياة، وأرجعناها إلى إيمانه العميق بالفردية والحرية، وربطنا بين هذه الفلسفة العامة وفلسفته الأدبية.
وأما الدراسة الأدبية فتختلف عند العقاد اختلافًا كبيرًا عن النقد الأدبي، فاهتمامه فيها ينصبُّ أولًا وقبل كل شيء على التعليل والتفسير أكثر من انصبابه على التقييم والنظر في القِيَم الجمالية، وإنْ كنا نلاحظ أنه قد اختار لدراساته الأدبية دائمًا الشعراءَ الذين تنطبق عليهم فلسفته الأدبية العامة المتصلة بفلسفته في الحياة؛ فنراه يختار من بين شعراء العرب القدماء أبا نواس الحسن بن هانئ، والمتنبي، وأبا العلاء المعري، وابن الرومي، وأربعتهم شعراء ذو أصالة فردية تتَّضح شخصياتهم في شعرهم، وليسوا من الغارقين في عمود الشعر العربي وقوالبه التقليدية.
والدراسة الأدبية تقوم في جامعات العالم على منهج علمي يجمع بين التاريخ والتفسير والنقد، وهو منهج يمكن أن يختلف فيه أساتذة الأدب وفقًا للأهمية النسبية التي يعطيها كلٌّ منهم لأحد هذه العناصر؛ فيُولي أحدهم الأهمية الأولى للتاريخ أو للتفسير أو للنقد، كما أن كلًّا من هذه العناصر يمكن أن تختلف فيه وجهاتُ النظر فيصبُّ أستاذٌ اهتمامَه على تاريخ العصر والبيئة، على حين يصبُّ آخَر هذا الاهتمامَ على تاريخ حياة الأديب الشخصية، كما أن التفسير قد يكون اجتماعيًّا وقد يكون نفسيًّا، والنقد قد يكون ذاتيًّا تأثُّريًّا أو قاعديًّا موضوعيًّا، كما قد يكون جماليًّا أو أيديولوجيًّا.
•••
والواقع أن منهج الدراسة الأدبية لم يتبلور بعدُ في بلادنا العربية، ولا رُسِمت له خططٌ ومذاهب، وما من شكٍّ في أن جامعاتنا تُعتبَر متخلِّفة في دراسة المناهج والتأليف فيها بوجه عام، مع أن الأبحاث الجدية المثمرة لا يمكن أن تقوم في كافة العلوم إلا على أساس المناهج السليمة في العلم والعمل على السواء؛ ولذلك ترانا نغتبط عندما نرى أديبًا كبيرًا كالعقاد يحاول خارج الجامعة أن يكون له منهجٌ متميز في الدراسة الأدبية، وهو المنهج النفسي.
هذا ولقد أثار صديقنا السوري الأستاذ سامي الدروبي في جريدة الشعب مشكلةَ التعليل في الأدب، وأخذ يقارن بين منهج الدكتور طه حسين في هذا التعليل، ومنهج الأستاذ العقاد، فقال: «إن منهج الدكتور طه حسين هو المنهج الاجتماعي، منهج مدرسة الاجتماع الفرنسية وأعلامها من أمثال: دور كيم وليفي بريل وغيرهما، على حين أن منهج العقاد هو المنهج النفسي الذي يفضِّله الأستاذ الدروبي، ويريد أن يستمر فيه على ضوء نظريات علم النفس الفردي وعلم الطبائع الجديدة.» وبالفعل نشر في الجريدة نفسها دراستَين على أساس هذا المنهج عن أبي نواس، الذي يبلور شخصيته الإنسانية والشعرية في طابعه العصبي القَلِق المتمرِّد المتحدي، والأخرى عن أبي العلاء المعري وطَبْعه العاطفي.
والحقيقة أن مناهج نقدنا وتعليلنا الأدبي في نهضتنا الحديثة أوسع بكثير من التخطيط الذي حاوَل أن يرسمه الأستاذ الدروبي، ومنابع مناهجنا في النقد والتعليل أغزر بكثير من مدرسة الاجتماع الفرنسية ومدرسة علم النفس، وقد ثارت حول هذه المناهج مناقشاتٌ ضافية بلغت في بعض الأحيان حدَّ العنف، ونُشِرت هذه المناقشات في كتب، وكنا نود أن لو وسَّع صديقنا الدروبي مجالَ اطِّلاعه على نقدنا المعاصر قبل أن يخطِّط له.
ومنهج طه حسين في الدراسة الأدبية ليس منهج مدرسة الاجتماع الفرنسية، بل هو أقدم منها؛ لأنه يرجع إلى مذهب «تين»، وهو المذهب الذي فصَّل أصولَه هذا الناقدُ الفرنسي الكبير في المقدمة الضخمة التي كتبها لمؤلَّفه الكبير عن «تاريخ الأدب الإنجليزي»، وزعم فيها أنَّ في استطاعة المؤرخ أنْ يفسِّر آداب الشعوب وآداب الأفراد على ضوء الجنس أو العنصر والبيئة والعصر، وبهذه العناصر الثلاثة حاوَل أن يفسِّر اختلاف الأدب الإنجليزي مثلًا عن غيره من الآداب العالمية، كما يُفسِّر اختلاف نفس الأدب في عصر عن عصر، وفي بيئة عن أخرى، وبالمثل يفسِّر اختلافَ أديب عن آخَر. وإذا كان طه حسين قد استخدم هذا المنهج في رسالته عن «ذكرى أبي العلاء المعري»، فمن المؤكد أنه قد صدر في ذلك عن «دور كيم» أو «ليفي بريل»، اللذين لا نعرف لهما أو لغيرهما من علماء الاجتماع الفرنسي قولًا في مناهج الدراسة الأدبية، وهم لا يعنون بالأدب إلا كمرآة للمجتمع، ويفسِّرون الحياة الاجتماعية مستعينين بالأدب لا مستعينين بالحياة الاجتماعية.
هذه ترجمة وليست بترجمة؛ لأن الترجمة يغلب أن تكون قصة حياة، وأما هذه فأحرى بها أن تُسمَّى صورة، وأن تكون ترجمة ابن الرومي صورةً خير من أن تكون قصة؛ لأن ترجمته لا تخرج لنا قصة نادرة بين قصص الواقع أو الخيال، ولكننا إذا نظرنا في ديوانه وجدنا مرآة صادقة، ووجدنا في المرآة صورة ناطقة لا نظيرَ لها فيما نعلم من دواوين الشعراء، وتلك مزية تستحق من أجلها أن يُكتَب فيها كتاب.
ومع ذلك فإننا نظلم العقاد أيضًا إذا قلنا إنه يهمل التاريخ؛ فهو يخصِّص الفصل الأول من كتابه عن ابن الرومي لدراسة عصره؛ أي القرن الثالث للهجرة، وحالة الحكومة والساسة ونظام الإقطاع والحالة الاجتماعية والفكرية والشعر والدِّين والأخلاق في ذلك العصر، كما نراه يكتب بعد ذلك كتابًا بأكمله باسم «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي»، ويهتم بإظهار أهمية البيئة في دراسة هؤلاء الشعراء في مقدمة هذا الكتاب؛ حيث يقول:
«أثرُ البيئة في شعرائنا الذين ظهروا منذ عهد إسماعيل وقبل الجيل الحاضر هو موضوع هذه المقالات، ومعرفةُ البيئة ضروريةٌ في نقد كل شعر، في كل أمة في كل جيل، ولكنها ألزم في مصر على التخصيص، وألزم في جيلنا الماضي على الأخص؛ لأن مصر قد اشتملت منذ بداية الجيل إلى نهايته على بيئات مختلفات لا تجمع بينها صلة من صلات الثقافة غير اللغة العربية التي كانت لغة الكاتبين والناظمين جميعًا، وهي — حتى في هذه الجامعة — لم تكن على نسق واحد ولا مرتبة واحدة لاختلاف درجة التعليم في أنحائها وطوائفها، بل لاختلاف نوع التعليم بين مَن نشئوا على الدروس الدينية ومَن نشئوا على الدروس العصرية، واختلافه بين هؤلاء جميعًا وبين مَن أخذوا بنصيب من هذا ومن ذاك؛ فالبيئة الإنجليزية أو البيئة الفرنسية في العصر الحاضر واحدةٌ من حيث اللغة والثقافة، أو تكاد تكون واحدةً في جميع المدارس وجميع الأنحاء، لا اختلاف فيها بين أديبَيْن مثقفَيْن إلا كما يكون الاختلاف بين المهندس والطبيب، أو بين الرياضي والمشترع، وإلا كما يكون الاختلاف بين الأمزجة والملَكات والمزايا النفسية، ولكن هؤلاء جميعًا يعيشون في مرحلة واحدة من مراحل الثقافة، وفي جو واحد من أجواء الأدب والمعرفة العامة، وأما في مصر «الجيل الماضي» فقد كان من أدبائها مَن درس في باريس ونشأ على نشأة أهل الآستانة، ومنهم مَن درس في الجامع الأزهر ونشأ في قرية من قرى الصعيد، وكان منهم مَن شبَّ في حِجر الحضارة، ومنهم مَن شبَّ في قبيلة بادية كالقبائل التي كانت تجاور المدائن في صدر الإسلام، وكان منهم مَن اطَّلع على أعرق الأساليب العربية، ومنهم مَن كانت لغته في نَظْمه لغة الأحاديث اليومية، لا تزيد عليها إلا قواعد الإعراب … إلخ.»
وما نظن أن طه حسين قد قال عن البيئة وأثرها في الأدب والأدباء، أو درس بيئة أبي العلاء أكثر مما درس العقاد بيئةَ ابن الرومي وعصره، وكل ما هنالك لا يعدو اختلاف النِّسَب في الاعتماد على هذه الدارسة في تفسير أو تعليل الإنتاج الأدبي لهذا الشاعر أو ذاك؛ فالعقاد صاحب الفلسفة الفردية يعتمد على شخصية الأديب في التفسير والتعليل أكثر مما يعتمد طه حسين صاحب المنهج التاريخي، وكلاهما فيما نؤكد قد أصاب بعض الحق ولكنه لم يُصِب كلَّ الحق؛ فالبيئة والعصر والجنس أو العنصر لا يمكن أن تُفسِّر وحدها الإنتاجَ الأدبي، كما أن شخصية الأديب وطبعه ومزاجه لا تكفي أيضًا، وإنما تصل إلى ما يقارب التفسير الصحيح عندما نحاول أن نتبيَّن طريقَ تفاعُل شخصية الشاعر أو الأديب مع بيئته وعصره؛ فالأديب العصبي أو العاطفي — أو ما شاء صديقنا الأستاذ الدروبي من نماذج وأنماط — لا يمكن أن يسلك في أدبه مسلكًا عصبيًّا أو عاطفيًّا إلا إذا كان في بيئته وعصره ما يثير عصبيته أو عاطفته.
ومسألةُ النماذج والطبائع وتقسيماتها النظرية مسألةٌ تقاتلتُ حولها طويلًا مع زميلي الأستاذ محمد خلف الله صاحبِ كتاب «من الوجهة النفسية: في دراسة الأدب ونقده»، وقد أنكرتُ إقحامَ النماذج النظرية التي يخطِّطها علما النفس والنظريات السيكولوجية على دراسة الأدب ونقده، مؤكدًا أن وظيفة النقد الأساسية هي البحث عن الأصالة الفردية للأديب أو الشاعر، وأن البشر لا يمكن أن ينطووا في الحياة تحت نماذج؛ لأنه ليس هناك إلا أفراد، وبخاصة في المستوى الممتاز، وإذا كانت أوراق الشجرة الواحدة لا يمكن أن تتطابق، فكيف نريد أن يتطابق أفراد البشر!
كما عارضت كل هروب من النقد الأدبي الصحيح إلى الدراسات النفسية أو التاريخية، فالأدب في رأيي فنٌّ لغوي جميل، وتجب العناية بناحية الجمال اللغوي في الأدب ومدى صدقه في ارتباطه بالحياة الفردية والاجتماعية على السواء، وإن كنت بالبداهة لم يخطر ببالي أن أدعو الناقدَ إلى الانصراف عن متابعة كل فروع المعرفة التاريخية والاجتماعية والنفسية، وأضفت الفلكية ذاتها، على نحوِ ما يستطيع مَن يريد أن يطالع في كتابي «في الميزان الجديد»، ولكن على أن تكون كل هذه المعارف كالضوء الداخلي الذي يشع من نفس الناقد فيُعِينه على استخلاص أصالة الأديب الخاصة، ولكن في غير إقحام لهذه المعرفة على الأدب ونقده؛ لأن الأدب منبع لكل تلك المعارف، لا فئران تجارب يُجرِي عليها الباحثون في علم الاجتماع أو علماء النفس أو غيرهما تجاربهم القاتلة، وذلك هو ما استقر عليه كبار أساتذتنا الذين تعلَّمنا عليهم في الجامعات العالمية؛ فقد أخذنا عنهم أن لكل فرعٍ من فروع الدراسة منهجَه الخاص النابع من طبيعته والمنطبق على مادته الأولية، وهي اللغة في حالة الأدب وقيمتها الجمالية ومدى ارتباطها بالقِيَم الإنسانية، وإنني لَأذكرُ أنني قد وجدت عونًا ساحقًا في تلك المناقشات عند الأستاذ العالمي المنقطع النظير «جوستاف لانسون» في الفصل المفصَّل الرائع الذي كتبه عن «منهج البحث الأدبي»، وقد ترجمتُه إلى اللغة العربية، ونشرته دار العلم للملايين في بيروت بعنوان «منهج البحث في اللغة والأدب»؛ إذ يضم الكتاب فصلًا آخَر عن منهج البحث في اللغة للأستاذ الآخَر «أنطون ماييه».
والأستاذ «لانسون» في حديثه عن منهج البحث في الأدب ينتقد في شدة منهج «تين» التاريخي؛ لأنه يراه عاجزًا عن تفسير كل شيء عندما نرى أن أديبَيْن ينشآن في عصر واحد وبيئة واحدة، بل أسرة واحدة أحيانًا ككورني الكبير وأخيه، وشينييه وأخيه، ومع ذلك ينبغ أحدهما في الأدب وتشرق صفحاته، على حين يتفه الآخر وتكبو كلماته، كما ينتقد أيضًا إقحام النظريات العلمية على الدراسة الأدبية، على نحوِ ما فعل الناقد الفرنسي «برونتيير»، عندما أخذ يُطبِّق نظرية التطور الداروني على دراساته الأدبية، فيزعم مثلًا أن المواعظ الدينية هي التي تطورت فأنتجت المذهب الرومانسي، وأمثال ذلك من تعسُّفات، بل ينكر «لانسون» على مؤرخي الأدب استخدام منهج البحث التاريخي العام، مميزًا بين تاريخ الأدب والتاريخ العام؛ لأن تاريخ الأدب يدرس ماضيًا مستمرًّا في الحاضر ودائم التأثير فيه، بحكم أن الأعمال الأدبية دائمة الحياة والتأثير بفضل ما فيها من قِيَم إنسانية وجمالية باقية على الزمن، على حين أن التاريخ العام يدرس ماضيًا منقطعًا لا يؤثر فينا اليومَ بطريق مباشر.
وعندما نستقري الدراسات الأدبية التي ظهرت في الفترة الأخيرة من حياتنا، نرى أن الدراسات التي انحرفت عن المنهج الأدبي المتكامل قد خرجت في الغالب الأعم عن مجال الأدب ودراسته إلى مجالات أخرى قد تكون نافعة في ذاتها، ولكنها لا تدخل في الأدب ونقده ودراسته، ولعل هذه الحقيقة قد كانت أوضح ما تكون في الدراسات التي صدرت عما يسمونه بالمنهج النفسي أو النفساني، سواء في ذلك منهج علم النفس أو منهج فن النفس كما يقول الشيخ محمد خليفة التونسي، وإذا كان المجال لا يسمح بعرض ومناقشة النتائج المتعسفة التي أقحمها بعض الدارسين على شعر ابن الرومي وتطيُّره، وأبي نواس ونرجسيته وعُقَده النفسية أو مزاجه العصبي، فإننا نتساءل بوجه عام عن جدوى هذه الدراسات في الأدب ونقده ودراسته كفن لغوي جميل، كوسيلة من وسائل تهذيب البشر ورفع مستواهم الروحي والذوقي والإنساني والفردي أو الاجتماعي، وهي دراسات أقصى ما نخلص به منها إذا اعتدلت ولم تتعسَّف، صورٌ نفسية لبعض الأدباء السابقين، ولكنها لا تُجدي كثيرًا في تذوُّق أدبهم والتأثر به والإفادة منه أو من جيده في تربية نفوسنا.
وهكذا نخلص إلى أنه لا المنهج التاريخي بكافٍ في تعليل الأدب وتفسيره ولا المنهج النفسي، وإنما المنهج السليم هو البحث عن طريقة تفاعُل شخصية الأديب مع الظروف التاريخية؛ فظروفُ الشدة والاضطراب قد تصيب أديبًا بالعزلة والانطواء، كما قد تُصيب آخَر بالتمرد والثورة أو السخرية والتهكم، كما أن أي لون من ألوان البشر قد لا يكون في أحداث عصره وبيئته ما يستثير هذا الاتجاه أو ذاك في نفسه. وفضلًا عن كل ذلك، فليست هناك أنماط من البشر، وإنما هناك أفراد يجب على الباحث الكشف عن أصالة كل منهم المميزة، حتى ولو كانوا أميل إلى نمط نظري خاص. ثم إن الأدب فوق ذلك، وقبل كل ذلك، فنٌّ لغوي جميل، وقِيَم إنسانية واجتماعية، ووسائل حياة يجب البحث عنها لا الاقتصار على رسم صورة لصاحبها، وهذا هو ما حاولنا أن نضيفه إلى اتجاهات النقد والدراسة الأدبية في نهضتها الحديثة، وصدرنا عن هذا الاتجاه فيما نشرنا من كتب ومقالات.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نخلص من دراستنا للأستاذ عباس محمود العقاد بأنه قد كان أقرب إلى النقد الأدبي، وأدخل في صميمه في معاركه النقدية منه في دراساته الأدبية، وأن أثره الكبير القوي قد كان في المعارك الأدبية التي قادها، والدعوات التجديدية التي دعا إليها ووجَّه نحوها في قوة وعزم وصلابة تجعل من نقده ما يشبه الملاحم في عنفها وضراوتها، وهما عنف وضراوة يلوح أن منطق المرحلة كان يستوجبهما، إذا كان التقليد والبهرجة والوسائل الخارجة عن مجال الأدب والفن تطغى على الميدان وتحاول تكميم الأفواه وحبس دعوات التجديد والانطلاق.
وأما عن كتب السِّيَر والعبقريات العديدة التي كتبها الأستاذ العقاد، فمن الواضح أنها أدخل في كتب التاريخ منها في الدراسات الأدبية؛ ولذلك نراها خارجة عن مجال بحثنا هذا، وإن تكن في ذاتها مما يستحق الدراسة طبعًا، لا سيما وأن الأستاذ العقاد قد صدر فيها عن المنهج نفسه؛ فهو يرسم صورة نفسية لعمر أو لعلي أو للحسين أو لمحمد أو لعيسى، على نحوِ ما يرسم صورًا نفسية لأبي نواس أو لابن الرومي، مع اختلاف الوظائف والأدوار التاريخية ومجال العمل والإنتاج في المجموعتين.
خاتمة
هذا هو الأستاذ عباس محمود العقاد ناقدًا، حاولنا أن نلم بأطراف نظريته العامة في الحياة وفي الأدب وفي النقد، وهي نظرية واسعة متشعِّبة، واضطررنا إلى أن نُنحِّي عنها كل ما لا يدخل في الأدب ونقده ودراسته دخولًا مباشرًا حتى لا يطول بنا الحديث، ولقد وافقناه على بعض آرائه وخالفناه، ولا نزال نخالفه في بعضها الآخر، ولكننا نحمد له دائمًا أنه شاعر وقصَّاص وناقد وأستاذ باحث أصيل، وهو فوق كل هذا، وقبل كل هذا، من أعلام الفكر المعاصرين الذين يستثيرون دائمًا القارئ ويدفعونه إلى مناقشته الرأي إذا استطاع، وإن يكن الزمن قد سار سيرته فأصبح العقادُ اليومَ في طليعة المحافِظين المتزمتين، بعد أن كان في طليعة دعاة التجديد وأنصاره الدافعين دائمًا إلى الأمام.