لويس عوض
ابتدأت أعرف لويس عوض عن قُرب منذ ربع قرن أو يزيد، عندما جاء من إنجلترا إلى باريس في إحدى الإجازات الدراسية ليُقيم بعض الوقت مع زملائه مبعوثي الجامعة الذين يدرسون في فرنسا، وتوثَّقت بيننا العلاقة، لازَمَني ولازَمْتُه طوال إقامته في باريس وكلما عاد إليها، ثم بعد عودتنا من الخارج للعمل في الجامعة أولًا، وفي الصحف والمجلات والكتب ثانيًا.
ومن المؤكَّد أن أهم عوامل التجاوُب بيني وبين لويس عوض كان الظمأ المشترك للمعرفة، وإحساسنا لأننا لم نسافر إلى أوروبا لنبحث عن هذه المعرفة في بطون الكتب وحدها، وإلا لَاستقدمنا الكتب وما احتجنا إلى تحمُّل مشاقِّ الغربة؛ ولهذا أذكر أنني لم أنفق وقتًا كبيرًا في إرشاد لويس عوض إلى ما سألني عنه عند زيارته الأولى لباريس عن المراجع الفرنسية التي تعالج موضوع «لغة الشعر»، الذي كان يدرسه عندئذٍ للحصول على درجة جامعية فيه، بينما أنفقت الوقت كله في إشراكه معي في تأمل ودراسة مشاهد الحياة وأساليبها ومعالم الماضي التي خلَّفتها الحضارة الفرنسية على صفحة باريس، وأمكنة الوحي والإلهام فيها. ولقد علمت من لويس ومن بعض الأصدقاء أنه كان قد دوَّن هذه الذكريات في كتاب كبير، ولكنه ظل مخطوطًا حتى ضاع منه، وكم أسفتُ لضياعه وكأنني فقدت جزءًا من نفسي.
وأنا لا أقصُّ هذه الذكريات الخاصة لمجرد التسجيل أو إرضاءً لمشاعري، بل أقصُّها لأنها تدل على أن المنحنى الفكري والعاطفي لصديقي لويس لم يتغير منذ أن عرفته لأول مرة، وأعني به الاتجاه نحو الفهم والمعرفة والتفسير، فإذا كان لويس قد انتهى به الأمر إلى أن يتخصَّص في النقد الأدبي والفني ويحترفه مثلي، فإن الطابع الذي يلازم نقده هو الطابع التفسيري الذي يقوم على الفهم والمعرفة، بحيث لا أتردَّد في أن أضعه في حركة النقد المعاصرة داخل مدرسة النقد التفسيري — إن لم يكن ممثِّلها الصحيح — في حين قد أضع نفسي بين مدرستَي النقد التفسيري والنقد التقييمي، بسبب المعارك العديدة السافرة التي خضتها ودعوت فيها إلى قِيَم ومفاهيمَ تحمَّسَ لها ضميري الإنساني أو الفني، بينما يؤثر صديقي لويس في نشر المعرفة والتفسير والفهم دون حاجة إلى قتال صريح في سبيل قِيَم أو مفاهيمَ معينة.
ذلك لأن النقد كما هو معلوم تفسيرٌ وتقييم وتوجيه للأدب والفن، وهو في ذلك يُعتبَر الوجه الآخر للأدب والفن من حيث إنهما أيضًا تفسير وتقييم وتوجيه للحياة، وإذا كان التراث العالمي قد عرف مدارس وتقسيمات أخرى للنقد كتقسيمه إلى تأثُّري وموضوعي وتاريخي واعتقادي، فمن المؤكد أن تقسيمنا له إلى تفسيري وتقييمي وتوجيهي، وهو الذي يمثِّل المرحلةَ القائمة اليومَ لا في بلادنا وحدها بل في العالم أجمع؛ لأن هذا التقسيم هو الذي تستوجبه مذاهبُ الفكر والأدب والفن التي تتصارع اليومَ في العالم كله، وتنبعث عنها شعارات الأدب الهادف والأدب الصدى والأدب القائد وما إليها من شعارات.
والذين يتهمون حركتنا النقدية المعاصرة بالتخلُّف إنما يُثبِتون تخلُّفَهم عن متابعة هذا النقد وفهمه وتمييز اتجاهاته ومدارسه، التي نستطيع أن نزعم أنها قد وصلت اليومَ إلى خير المستويات العالمية.
ويكفينا أن نستطيع في هذا الصدد تمييز ثلاث مدارس نقدية كبيرة يمثِّل كل واحد منها أحدَ الاتجاهات الثلاثة السائدة في النقد، بل وأن نُسجِّل لنقَّادنا أنهم لم يتعمدوا مجاراة هذه المدارس العالمية ولا تقليدها والخضوع الأعمى لتعاليمها، وإنْ كنا بالبداهة لا نُنكِر تأثُّرَ نقادنا المثقفين بالتراث العالمي كله، قديمه وحديثه، وبتيارات الفكر والفن فيه، سواء في ذلك تراثنا العربي أم التراث الأجنبي، ولكن دون أن يمنعنا ذلك من أن نُقرِّر أن هذه المدارس النقدية قد تشقَّقت وتشعَّبت نتيجةً لثقافةِ كل ناقد وتاريخِ تكوينه الروحي والاجتماعي، وطريقة إحساسه بحاجات عصره ومجتمعه وشعبه، وإدراكه لمدى التطور الذي طرأ على العقلية العامة لأمتنا وعلى ذوقها الجمالي، ثم استجاب لكل ذلك على النحو الذي يتَّفق مع تكوينه الخاص ومزاجه المتميز ووضعه في الحياة.
وليس من شكٍّ أن الفصل الحاسم بين هذه المدارس النقدية الثلاث غير ممكن ولا معقول؛ فالتفسير قد يكون وسيلةً أو مرحلةً لتقييم العمل الأدبي، ثم لتوجيه الأديب أو الفنان نحو ما هو أفضل وأنفع وأكثر جمالًا وتأثيرًا، ولكننا مع ذلك لا نُخطِئ إذا قلنا بانفصالِ هذه المدارس النقدية بعضها عن بعض تبعًا لغلبة هذا الاتجاه أو ذاك على هذه المدرسة أو تلك، وباستطاعتنا أن نميِّز في سهولةٍ هذه المدارسَ في إنتاج نقَّادنا المعاصرين؛ فأولئك الذين ركَّزوا اهتمامَه نحو توجيه الأدب والفن إلى الحياة والمجتمع، وبخاصة على أساس التفكير الاشتراكي وفلسفة الحياة الجديدة التي ارتضيناها، وهم مَن نادوا بفكرة الأدب الإيجابي الهادف؛ أي الأدب القائد للحياة، وعابوا السلبية والغيبية والرومانسية الهاربة، ثم أولئك نادوا بضرورة تحمُّل الأدب أو الفنان لمسئوليته، وطالبوه بأن يلتزم؛ أيْ أن يوحي بوسائله الفنية الخاصة بالرأي أو الاتجاه الذي يرتضيه فيما يعرض من تجارب الحياة ومشاكلها ومشاكل شعبه ومجتمعه، كل هؤلاء النقاد لا نخطئ إذا أدخلناهم في مدرسة النقد التوجيهي، وإن كان نقدهم التطبيقي لا يخلو بالبداهة من تفسير وتقييم للأعمال الأدبية والفنية التي ينقدونها.
وأما مدرسة النقد التقييمي، وهو تقييم قد يكون تأثُّريًّا جماليًّا خالصًا كما قد يكون موضوعيًّا علميًّا أو شبه علمي، فقد كانت لنا فيه مشارَكة، وإن كنا قصرنا نقْدَنا عندئذٍ على مجال الشعر على نحوِ ما هو واضح في كتابنا «الميزان الجديد»، ثم نشر الأستاذ يحيى حقي مجموعةً صالحة من مقالاته النقدية التي كتبها منذ سنة ١٩٢٧م حتى سنة ١٩٦٠م في كتابه الجديد «خطوات في النقد»، وإذا بمجموع هذه المقالات أو معظمها ينطق بأنه ينتمي إلى نفس المدرسة التقييمية، وأنه لا يقف بها عند حدود الشعر الذي تقفز فيه القِيَم الجمالية إلى مكان الصدارة، بل يمدُّها إلى أسلوب التعبير اللغوي في كافة فنون الأدب، بما فيها القصة والمسرحية الشعرية أو النثرية، حتى لنحسب أن يحيى حقي قد نثر في هذا الكتاب الأصولَ العامة لما يمكن أن نسمِّيه بعلم الأسلوب.
وها هو الدكتور لويس عوض يقدِّم لنا في كتابه الجديد «دراسات في أدبنا الحديث» مجموعةً من الأبحاث والمقالات العميقة، التي تُبيح لنا أن نُدرِجه في مدرسة النقد التفسيري، بل وأن نعتبره من أكبر روَّادها المعاصرين.