يحيى حقي ناقدًا
لقد كنت أعرف يحيى حقي ككاتب قصة، وكنت أتوهَّم أنني أعرفه كإنسان، كما كنت أقرأ له أحيانًا بعض مقالات في النقد وبخاصة نقد القصص، كما اشترك معي أحيانًا في بعض الندوات النقدية، ولكنني أخذت أكتشف مدى جهلي بهذا الكاتب كناقد وكإنسان، عندما أخذت أقرأ في عناية وتأمل وتحليل كتابَه الأخير «خطوات في النقد»، الذي جمع فيه نخبةً كبيرة مختارة من مقالاته النقدية ودراساته الأدبية التي كان قد نشرها في الصحف والمجلات، أو ألقاها في محاضرات عامة منذ سنة ١٩٢٧م حتى يومنا هذا. وإذا بي أكتشف يحيى حقي من جديد، وترتسم له في نفسي صورة جديدة كل الجدة.
ولم يَعُد يحيى حقي في حسي وخيالي ذلك الرجل الهادئ الوديع، البالغ الرقة، الظاهر التواضُع، بل تكشَّف لي عن رجل يجمع إلى كل هذه الجوانب عنفًا دفينًا في الطبع يغلِّفه بغلالة من الحرير، وقوة في الانفعال يكسوها بثوب دبلوماسي رقيق، ومهارة فريدة في فن وخز الإبر على نحوٍ يكاد يخفى على غير ذوي الحساسية المرهفة والفطنة البارعة لأساليب التعبير. وهو إذا كان قد تحوَّل منذ مقالته الأولى في هذا الكتاب عن مجموعة قصص «سخرية الناي» للمرحوم محمود طاهر لاشين، حتى آخِر مقالة فيه عن قصة «المستحيل» لمصطفى محمود، إلى ما يظنه هو نفسه اعتدالًا في اللهجة حين تقدَّم به العمر، فإنه قد ظل مع ذلك يحيى حقي بمعدنه المفطور وطابعه المتميز وشخصيته المتصلة، وما كان له أن يتحول عن ذلك وهو الذي يصارحنا في مقدمة كتابه أنه لم يخرج عن دائرة النقد التأثري؛ أي النقد القائم على الحساسية الجمالية في اللغة قبل كل شيء، بحيث لا ينبغي أن ننسى قطُّ أنه رجل دبلوماسي عريق عندما يقول في نفس المقدمة: «قد ألوم نفسي أو أستسخفها أنْ بدر مني من قبلُ كلامٌ الآنَ أودُّ ألَّا يكون قد خطَّه قلمي بجهلٍ واندفاع وخطل رأي. إنني نادم الآن ومستغفر لربي على اشتطاطي في القسوة على بعضِ مَن تناولتهم بالنقد، وعلى أسلوب وخز الإبر الذي دلس نفسه عليَّ بأنه دعابة مقبولة لا سخرية مرذولة.
وماذا كنت أفعل وأنا وريث دواوين شعر نصفها «قال يمدح»، ونصفها «قال يهجو» … وإنني نشأت ومعاركُ النقد لا تترفَّع عن حدة اللفظ والتجريح، ولكني مع ذلك ألحظ بشيء من الرضا اعتدالَ اللهجة حين تقدَّم العمر؛ لذلك ألتمس أن يصفح عني كلُّ مَن غضب مني، وله الحق، وتأكيدًا للتوبة نشرت في الكتاب ردودَ بعضِ مَن لحقهم بسببي، وعلى غير إرادة مني، انقباضٌ وتعكيرُ المزاج.»
(١) يحيى حقي ناقدًا
يختتم يحيى حقي مقدمة كتابه بأسلوبه الدبلوماسي المعهود؛ قائلًا: «لا أُنكر أنني لم أخرج عن دائرة النقد التأثري؛ فليس في كلامي ذكر للمذاهب، ولعل السبب أنني لم ألتحق بكلية آداب في إحدى الجامعات، لم أدرس النقد دراسةً منهجية تاريخية، ولا يسعدني شيء مثل أن يُفسِح هذا الكتاب مجالَ القول في قيمة هذا النوع من النقد الذي أتقدَّم به للقراء، وهل أدى رسالة نافعة، وهل نجح أو أخفق في اقتراب ولو من بعيد إلى إنشاء مذهب في النقد، وإذا كان قد أخفق فما هي الأسباب.»
والشيء المؤكد هو أن يحيى حقي لم يخفق في إنشاء مذهب في النقد، وإن يكن هذا المذهب ليس تأثريًّا جماليًّا خالصًا؛ فالتأثرية في النقد تجمع بين التفسير والتقييم، حتى لنرى عددًا من كبار النقاد التأثريين العالميين يكتبون نقدهم بعناوين تنمُّ عن منهج التأثر والاستيحاء والتنمية، والإضافة إلى الأعمال المنقودة على نحوِ ما سمَّى جيل لومتر سلسلةَ كتبه في النقد المسرحي بعنوان «انطباعات مسرحية»، وعلى نحوِ ما سمَّى إميل فاجيه سلسلةَ كتبه باسم «مع موليير» أو «مع فولتير»، وليس في نقد الأستاذ يحيى حقي شيءٌ من ذلك، وإنما هو نقد تقييمي في جوهره، وإن كانت أسس التقييم لا تنهض على الحاسة الجمالية وحدها بل يجمع إليها فطنة مرهفة لوظيفة اللغة بعناصرها المختلفة في الأدب، وحاسة قوية بوظائف الأدب الإنسانية العامة والقومية المحلية. وإذا كان يحيى حقي قد برز له اتجاه أصيل خاص في النقد، فهو بلا ريبٍ الاتجاهُ نحو دراسة أساليب التعبير، وضرورة الاهتمام بها في الدرجة الأولى. وجماع الرأي عنده أن الأدب لا يمكن أن يجود ويتفوَّق إلا إذا جاد أسلوبه وتفوَّقت كل عبارة من عباراته، وعنده أن العمل الأدبي عملية خلق وابتكار مستمرين، والخلق والابتكار لا يكملان إلا إذا اجتمعا في المضمون والتعبير معًا، ولقد حلَّل يحيى حقي هذه الحقيقة الكبرى في محاضرة عميقة ألقاها بجامعة دمشق في ٢٥ مايو سنة ١٩٥٩م، ونشرها في هذا الكتاب، واستعرض فيها ما يصيب أدبنا العربي المعاصر من ميوعة وسطحية بسبب عدم سيطرة كتَّابنا على الألفاظ، وتردُّد الكليشهات المنمَّقة في تعبيرهم، ثم يقول: «والخلاصةُ أنه بالرغم من أننا نصرف كلَّ حياتنا في صراع دائم مع الدلالات، ويندر أن يسيطر إنسان على دلالات كل ألفاظ اللغة، بل يكاد يكون هذا مستحيلًا؛ أنادي بضرورة السيطرة على الألفاظ وتحديدها، وعن طريق هذا التحديد وهذه الحتمية والعوامل الأخرى التي ذكرتها نصل إلى العمق. إن تحديد اللفظ هو بذاته تحديدٌ لطرائق التفكير، فإن الإنسان يفكر بواسطة الألفاظ، وكلما تحدَّد الفكر بفضل تحديد اللفظ تحدَّد اللفظ بفضل تحديد الفكر.» وهو لا يدعو إلى هذا المنهج في الكتابة بالفصحى وحدها، بل وفي الكتابة بالعامية أيضًا؛ إذ المنهج واحد، وهو يكره السطحية والابتذال والميوعة في العامية كما يكرهها في الفصحى؛ لأنها نقائض فكرية لا لغوية فحسب.
ويحيى حقي ممَّن يؤمنون بأن أسلوب الرجل هو الرجل نفسه؛ ولذلك يطالب كل كاتب أن يكون له أسلوبه الخاص، ولغته الخاصة، وطرائق تعبيره الأصيلة المبتكرة غير المكررة والمعادة؛ فتراه يصف أسلوب الأستاذ عزيز أباظة الشعري في مسرحيته «العباسة» بقوله: «شعر المسرحية في مجموعه خالٍ من اللمحات العبقرية، ويسير في طريقٍ طالما عبَّدته أقدامُ الشعراء السابقين، ويُخيَّل إلينا ونحن نستمع إلى سَيْل الحكم والأمثال — وهي بضاعة رخيصة جدًّا — أن المؤلف الكريم كتب المسرحية وعينه إلى النظَّارة يستجلب تصفيقهم.» كما يصف أسلوب سعيد العريان وصفًا لا أعرف له مثيلًا في العنف، فيقول في معرض نقده لقصة «بنت قسطنطين»: «ولا أدري لماذا تُذكِّرني ألفاظ العريان بصفي يتيمات الملاجئ أمام جنائز غير المسلمين مؤتزرات بغِلالات بِيض قد مضى على آخر غسل لها زمن غير قليل.» وإن يكن هذا الحكم البالغ القسوة لا يمنع ناقدنا الداهية من أن يقول بسخريته الدبلوماسية المعهودة عن قصة الأستاذ العريان: «والظاهر أن الأستاذ العريان يتهيَّأ للقيام بدور يشبه ما قام به من قبلُ جورجي زيدان في رواية التاريخ العربي، ونحن نتمنَّى له النجاح ونحثُّه على المواظبة، فهو نِعمَ المُدافِع عن تراثنا وأمجادنا، وإني أُكبِر من الفائدة التي يجنيها طَلَبة المدارس من قراءة قصصه، فإنها جديرة أن تهذِّب نفوسهم وتقوِّم ألسنتهم.» ويحق لمثلي أن يسأل ناقدنا الكبير: كيف تستطيع الألفاظ التي تشبه صفي يتيمات الملاجئ مؤتزرات بغِلالات بِيض قد مضى على آخر غسل لها زمن غير قليل؛ أن تهذِّب النفوس وأن تقوِّم الألسنة؟!
ويا ليتني أستطيع أن أستخلص في إيجازٍ جميعَ الأصول العامة التي أوردها يحيى حقي في مقالاته تلك عن علم الأسلوب؛ فيحيى حقي قد وضع في كتابه هذا الأسسَ العامة لعلم جديد يجب أن نُعنى به كلَّ العناية؛ وهو علم الأسلوب على أساسٍ من حساسية جمالية ولغوية وعقلية بالغة الرهافة، وأحسب أنني قد ساهمت بدوري في إرساء أصول هذا العلم الضروري الذي يبرز في أهميته علوم بلاغتنا التقليدية في المقالات والأبحاث التي نشرتها في كتابي «في الميزان الجديد»، وإن كنت قد قصرت هذا المنهجَ الجمالي التأثُّري في النقد على الشعر؛ حيث فضَّلت عندئذٍ الشعرَ المهموس على الشعر الخطابي. وكم أسعد أن رأيت يحيى حقي يمد هذا المنهج إلى القصة أيضًا، فيقول في نقده في مجموعة قصص «سخرية الناي» للمرحوم محمود طاهر لاشين: «يميل الأستاذ طاهر إلى الأسلوب الخطابي، وهو يجب أن يقلع عنه؛ لأن هذا الأسلوب لا يصلح لكتابة القصص؛ فالقصة ليست خطبة بل هي حكاية يسردها لك المؤلف في أُذنك همسًا، وهل وجدت هامسًا يخطب؟ فانظر إلى الأمثلة الآتية لترى كيف كان يمكن تأدية المعنى ذاته بتغيير بسيط: قال في ص٥: «هنالك عند مدرسة الصنائع.» فلو قال توًّا: «عند مدرسة الصنائع» لَكان هذا جميلًا. وفي الصفحة ذاتها: «ومن أين لا أين لهذا السيد ذي اللبدة السوداء.» ولو قال: «فمن أين لهذا السيد ذي اللبدة السوداء.» لَانتهى معناه بدون وجود كلمات لا ضرورة لها.»
إن المؤلف قد تعمَّد إقصاء الألفاظ المألوفة كلما وجد بديلًا عنها ألفاظًا لا تزال كاللآلئ مكنونة في أصدافها، لم تخلُ صفحة واحدة من شرح لأكثر من لفظين أو ثلاثة، كأنما أصبح بين يدينا قاموس جديد هو قاموس عزيز أباظة، فهو يكتب «أيهات ونث» بدلًا من «هيهات وبث»، ومَن فعل فعله لا يسعده شيء أكثر من أن تشيع بين الناس بعض ألفاظه الجديدة، وأرشح في مقدمتها «هسهسات» بدلًا من «شائعات»، ولكن — وأفٍّ من لكن هذه — يخشى من الغلو في الأناقة أن يصل إلى حدِّ قتل الروح؛ لأنها تختنق في الأجواء العليا. الأسلوب كائن حر، أهم مقوماته دفئه وجريان الدم فيه، والأناقة لا تنبعث من قلبٍ ملتهب، بل من دماغ بارد، ولن تجد أصِحَّاء يتأنَّقون في كل مأكلهم.
(٢) تحفُّظات
قلت إنني حاولت أن أُرسي أنا الآخر بعض الأصول العامة لعلم الأسلوب ومنهج النقد الجمالي في اللغة، وإن كنت قد قصرتُ دراساتي التطبيقية على الشعر باعتباره أقرب فنون الأدب إلى المنهج الجمالي، ثم فرحت إذ رأيت الأستاذ يحيى حقي يمدُّ هذا العلم إلى فن القصة أيضًا، ولكنني مع ذلك لا أستطيع بعد أن تطوَّرَ منهجي في النقد من المنهج الجمالي إلى المنهج الموضوعي، بل والمنهج الأيديولوجي أيضًا؛ أن أقرَّ الأستاذ يحيى حقي على قصر منهجه النقدي على علم الأسلوب، وبخاصة في فنون الأدب الموضوعية كالقصة والمسرحية اللتين هدَتْني خبرتي إلى ضرورة الاهتمام في نقدهما بمصادر التجارب البشرية وأهدافها وأصول بنائها الفني العام، حتى لا يقتصر النقد على الجزئيات مُغفِلًا الكليات والأهداف والوظائف والأصول الفنية العامة في البناء والتصوير والتحليل والتشخيص؛ ولذلك لا تراني أُقر الأستاذ يحيى حقي على رأيه عندما يخاطب المرحوم محمود طاهر لاشين قائلًا: «ولكن يسمح لي المؤلف أن أرجوه أن يهتم بجُمَله قبل أن يهتم بالصفحات؛ وذلك لأن معنى هذا القولِ الاهتمامُ بالجزء دون الكل، وقصره على الأسلوب التفصيلي دون نظرٍ إلى العمل الأدبي ككل في بنائه الفني، وفي هدفه أو ثمرته الشاملة.»
ومن الغريب أننا نرى يحيى حقي نفسه تَسُوقه حساسيته العقلية أحيانًا إلى ما يشبه النقد الأيديولوجي؛ حيث تراه مثلًا يأخذ على توفيق الحكيم نزعتَه الصوفية في أهل الكهف، قائلًا:
«هل لنزعات التصوُّف محلٌّ في مصر؟ … إنها في ميدان قتال مادي يستلزم منها أقصى الجهاد، وسلاحها فيه اعتداد بالنفس والتسامي بها والشعور بقيمة هذا الشعب المظلوم المردوم في الطين، قد يكون التصوف مفهومًا في إنجلترا وبلجيكا وفرنسا، فمن ورائه جيوش وأساطيل تحمي الكرامة، ولكنه غير مفهوم في مصر وهي على ما هي من الضعف، فقصة أهل الكهف خَطِرة على شبابنا؛ لأنها تزيح أبصارهم عن هذه الحقائق، فليس كل القراء في ثقافة المؤلف، والنظرة السطحية للتصوف إما شجَّعت التكاسُل والخمول والهروب من المسئولية، وإما خلَّفت أنانيةً فظيعة تقطع صلتها بمَن حولها، على حين أنه لا خلاصَ بمصر إلا على يدِ مجهودٍ مشترك يبذل فيه كلُّ شخص أقصى ما لديه دون نظرة إلى منفعته المباشرة؛ لذلك فإن خلاصة رأينا في أهل الكهف أنها بالنسبة لتوفيق الحكيم نجاح كبير يُهنَّأ عليه، وهي بالنسبة لمصر مؤلَّفٌ مشكوك في فائدته. والذي يطمئننا أنها بطبيعة تأليفها وارتفاع ثمنها لن تتناولها إلا أيدٍ قليلة، وكفى الله المؤمنين القتال.»
وإذا ذكرنا أن يحيى حقي قد كتب هذا المقال عن «توفيق الحكيم بين الخشية والرجاء» في مجلة «الحديث» الحلبية، سنة ١٩٣٤م، وهو يعمل في السلك السياسي في إسطنبول، استطعنا أن نتبيَّن إلى أي حدٍّ يُعتبَر يحيى حقي الجماليُّ المنهجِ رائدًا من روَّاد النقد الأيديولوجي الذي اندفع إليه شباب النقاد بعد ثورتنا الأخيرة، وما أحسب التصوُّف الذي يأخذه يحيى حقي على توفيق الحكيم في «أهل الكهف» إلا مرادفًا لما يسمِّيه نقَّادُنا الجدد بالسلبية والهروب.
ولكني مع ذلك أعود فأقول إن يحيى حقي قد قصر نقده عامدًا متعمِّدًا على علم الأسلوب الجمالي في اللغة، ولن يشفع له في ذلك ادِّعاؤه أنه لم يدرس في كلية آداب، أو لم يتتبع تاريخ المذاهب في الأدب والنقد؛ فقراءاته في كل ذلك تَفُوق بكثيرٍ قراءاتِ كثيرٍ من دكاترة الجامعات، ولكن الطَّبْع غلَّاب، وربما كان في أناقة يحيى حقي كإنسان وكاتب التفسير الصحيح لقصر اهتمامه على النواحي الجمالية، وهو اتجاه رأيته يُسلِمه إلى بعض الأخطاء، أو إلى إغفال عدد من الحقائق الفنية والإنسانية الهامة؛ فولوعه بتفاصيل التعبيرات الشعرية الجميلة عند شوقي مثلًا، نراه يصرفه عن النظر في النواحي الدرامية، عند نقده لمسرحية «مصرع كليوباترا» سنة ١٩٣٠م، بل نراه يُوقِعه في خطأ لا شكَّ فيه، عندما يزعم أن شوقي قد حقَّق في هذه المسرحية هدفَه في الإشادة بالقومية المصرية، فيقول: «ولست أعرف غير هذه القصة كتابًا أو قصيدًا أو نشيدًا وطنيًّا يسمو بالقومية المصرية، ويُزيل الشكوك التي تساور النفوس الضعيفة نحوها، فتبعثها من جديدٍ نفوسًا مصرية تدين بحب مصر.» فهذا رأي لا يمكن أن يستقر عليه ناقدٌ نظَرَ إلى المسرحية ككل، وحلَّل في نفسه الأثرَ العام الذي أحدثته فيها، وهو أثر لا يوحي لنا من قريب أو من بعيد بأنه قد نجح في أن يحملنا على العطف والتعاطف مع كليوباترا كملكة مصرية، وأكبر الظن أنه لو عمد يحيى حقي إلى تحليل شخصية كليوباترا في هذه المسرحية بدلًا من أن يقف عند شخصيات ثانوية كشخصية المضحك أنشو والكاهن أنوبيس، لَانتهى إلى نفس الرأي الذي نقول به، ولكن ما حيلتنا مع يحيى حقي الذوَّاقة الذي يحرص على التوقف عند الجزئيات «ومصمصتها» بدلًا من الإحاطة بالكليات والأصول العامة؛ حيث يقول هو نفسه في نفس المقال: «قدَّمت لك أن الحاشية تروقني قبل الصلب؛ ولذلك — وهو رأي شخصي لك أن توافق عليه أو لا توافق عليه — لا أضع قصةً بالقرب من قلبي إلا إذا تمتَّعت منها بقليلٍ من التلكؤ في مواضع خارجية بعيدة عن المجرى المقصود بُعْدًا ظاهرًا، ولو أنها في الواقع تكون تفاعلًا مستمرًّا بين المؤلف وموضوعه، قد تكشف في كل مرة عن ناحية من نواحي مزاجه وتفكيره، فأنا لا أقف عند منلوجات كليوباترا، ولا مداعبات أنشو، ولا غناء إياس، بل ولا تهمني الحبكة المسرحية ومقدار نجاحها.»
(٣) أصالة يحيى حقي
وعلى أية حال فأنا لا أستطيع أن أزعم أن يحيى حقي ناقد موضوعي، أو أيديولوجي، أو ناقد تطوَّرَ من المنهج الجمالي إلى غيره، ولكنني أؤكِّد مع ذلك أنه في كتابه هذا قد وضع كثيرًا من الأصول العامة لعلم أقره على خطورته وجدواه، وهو علم الأسلوب، أتمنى لو استطاع واضعو كتبِ البلاغة والأسلوب لِطَلَبتنا في مراحل التعليم العام استخلاصَ هذه المبادئ من كتابه وشرحها وتفسيرها وضرب الأمثلة لها، وهم لو فعلوا لَأحدثوا أكبرَ ثورة في عقليتنا العامة وفي نهضتنا الثقافية والأدبية والفكرية المرجوَّة. والداهية يحيى حقي يملك بعد ذلك من حساسية القلب والعقل ما يفضل في نظري كلَّ ثقافة مكتسَبة، بل ويفضل ليسانس الآداب نفسه! وذلك لأن هذه الحساسية موهبة، وما أندر المواهب!