منزل الغرف المضاءة
كانت ليلة حالكة الظلام … لا يُضيئها إلا النجوم البعيدة … والريح تعصف قادمة من البحر مشبعة برائحة البترول عند شاطئ قرية «عبده» في شمال «لبنان» حيث توجد مصافي شركة البترول العراقية.
وكانت «ريما» الأردنية (أحد الشياطين اﻟ ١٣) تقف بجوار صخرة على الشاطئ ترقب نافذةً مضاءةً في الطابق الأول من أحد المنازل الواقعة على البحر … كانت هي النافذة المضيئة المفتوحة في المنزل كله … فقد كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحًا. وآوى الناس إلى مضاجعهم.
نظرت «ريما» إلى النافذة طويلًا … ثم نظرت إلى ساعتها ذات الميناء المضيء وقالت في نفسها: لقد تأخَّر «باسم» عشر دقائق عن موعده.
وكان «باسم» العضو الفلسطيني في الشياطين اﻟ ١٣ قد تسلَّق مواسير المياه ودخل المنزل منذ ٢٥ دقيقة وكان مقدرًا ألَّا يتغيب أكثر من ربع ساعةٍ فقط، ولكنه تأخر.
وأخذت «ريما» تتذكر المهمة التي كُلفا بها هي و«باسم»؛ فقد طلب رقم «صفر» ترشيح اثنين من الشياطين اﻟ ١٣ لمتابعة شخصٍ معين … واختار الشياطين المجتمعون في بيروت «ريما» و«باسم» للقيام بالمهمَّة.
وظل الزميلان يتابعان الرجل يوميًّا … حتى خرج في هذه الليلة من «بيروت» في سيارته … وتبعه «باسم» و«ريما» في سيارتهما … وظلَّا يتبعانه من بعيدٍ حتى وصل إلى قرية «عبده» واتجه إلى أحد المنازل الواقعة على الشاطئ، وفتح الباب الخارجي بمفتاح معه، وبعد فترةٍ لاحظ الصديقان أن إحدى نوافذ الطابق الأول قد أُضِيئت، وعرفا أن الرجل هناك.
ولم تكن هذه هي الرحلة الأولى للرجل الغامض خارج «بيروت» في الليل … فقد تكرَّرت هذه الرحلات التي كان يقوم بها الرجل بمفرده، ومعه حقيبة سوداء صغيرة لا تُغادر يده … وكان المطلوب من الصديقَيْن … بالإضافة إلى متابعة تحرُّكات الرجل … أن يحاولا الحصول على الحقيبة … أو على الأقل معرفة محتوياتها … ولم يتمكَّن الزميلان خلال خمسة أيام من الوصول إلى الحقيبة؛ فقد كان الرجل يضلِّلهما في كل مرة … وقرَّر «باسم» أن يجرِّب الوصول إليها في هذه الليلة … وقال إنه لن يتأخَّر عن ربع ساعة … ولكن عشر دقائق أخرى مضَتْ دون أن يظهر … وبدأَتْ «ريما» تشعر بالقلق … وعندما مرَّت نصف ساعةٍ دون أن يظهر «باسم» … غادرَتْ «ريما» مكانها ثم تسلَّقت الصخور المنحدرة التي يقع البيت على قمَّتها … ثم قفزَتْ إلى أنابيب المياه بحركاتٍ خفيفةٍ مدربة، وأخذَتْ تصعد بهدوءٍ وبسرعةٍ حتى أصبحت بجوار النافذة المضاءة، كانت النافذة تفتح على شرفةٍ عريضةٍ غطَّتْها الأزهار المزروعة في أوانٍ فخارية … وقاسَتْ «ريما» المسافة بينهما وبين الشرفة … ثم استجمعت قوتها وقفزت … ولكن يديها بدلًا من أن تعلقا بسياج الشرفة أمسكتا بالأزهار … وكادَتْ تهوي فوق الصخور، ولكن لحسن حظها علقت يداها بنهاية السياج، فأمسكت بقوةٍ وأخذَتْ تتأرجح في الفضاء لحظات، ثم استجمعت كل ما في ذراعيها من قوة، وأخذَتْ ترفع جسدها إلى فوق حتى أصبحَتْ في محاذاة الشرفة مرةً أخرى … ثم رفعَتْ ساقها ونزلَتْ فيها … ووقفَتْ لحظاتٍ تستردُّ أنفاسها المتلاحقة وتنصت.
كان «باسم» قد دخل بنفس الطريقة … وشاهدَتْه «ريما» من بعيدٍ وهو يدخل الغرفة، ونظرَتْ «ريما» بطرف عينها داخل الغرفة فلم تجد أحدًا … وكانت النافذة مفتوحةً فلم تتردَّد وخطَتْ إلى داخل الغرفة. كانت غرفة نوم مفروشة فرشًا بسيطًا، وكان واضحًا من ترتيب الفراش أن أحدًا لم يستعمله … وخطَتْ «ريما» بضع خطوات سريعة ووصلت إلى باب الغرفة الذي كان مفتوحًا أيضًا … وأطلَّت «ريما» على دهليز طويل في نهاية سلم ينزل إلى الطابق الأرضي … كانت فيلَّا قديمة … وكانت الصالة الواسعة في الدور الأرضي مضاءة أيضًا … ولم يكن هناك أحدٌ …
بدأت «ريما» تشعر أن شيئًا غامضًا يلف هذا المنزل القديم … فالصمت مطبق، وليس هناك سوى صوت الرياح العاصفة القادمة من البحر …
ونظرت «ريما» يمنةً ويسرة … وعندما تأكَّدَتْ أن لا أحد هناك أسرعَتْ بالنزول إلى الصالة التي بالدور الأرضي … كان في وسطها مائدةٌ مستديرة … وحولها سبعة كراسي وعليها دورق للمياه وبضعة أكواب ومنافض للسجاير نصف ممتلئة … ولم يكن هناك أحد. فتحت «ريما» أحد أبواب الغرف المحيطة بالصالة وأطلَّت داخلها … وكم كانت دهشتها عندما وجدتها مضاءة أيضًا … وفارغة … وفتحت الغرفة الثانية والثالثة … كانت كلها كالغرفة الأولى … مضاءة وفارغة … واستولَتْ على «ريما» نوبة من الغضب والدهشة … ماذا يحدث في هذا المكان؟!
وعاودَت الصعود إلى الطابق الأول، وأخذَت تفتح الغرف بسرعة، وقد تخلَّت عن حذرها تمامًا … ووقفت حائرة أمام آخر غرفة … فما حدث في الطابق الأرضي تكرَّر في الطابق الأول … غرف مضاءة … فارغة …
ووقفت «ريما» وسط الدهليز وصاحَتْ بكل قوتها: باسم! باسم! ولم تسمع ردًّا سوى صوت الرياح المدوية ترجُّ الأبواب والنوافذ … وأخذت «ريما» تجري كالمجنونة وهي تنادي زميلها الذي شاهدَتْه يدخل أمامها … وليس له أثر …
أسرعَت «ريما» إلى باب المنزل الذي كان في الجانب الذي لا يطلُّ على البحر … وحيث كانت تقف سيارة الرجل الغامض ووجدتها تقف مكانها. وزادَت دهشة «ريما» ودار رأسها لقد اختفى الرجل الغامض أيضًا … وأسرعت إلى السيارة … ووجدتها فارغة.
وقفت «ريما» تُحدِّق في الظلام … وقد أحسَّت برعدةٍ تسري في بدنها … ماذا حدث؟ أين ذهب «باسم»؟ وأين ذهب الرجل الغامض؟! لقد رأت الرجل بعينيها وهو يدخل من باب المنزل … ودارت هي و«باسم» حول المنزل حتى شاهدا النافذة المضاءة في الجانب الذي يطلُّ على البحر … وها هو الرجل قد اختفى … وشاهدت «باسم» وهو يتسلَّق مواسير المياه إلى النافذة المضاءة ويدخل المنزل … وها هو قد اختفى … فأين ذهبا؟! والسيارة واقفة مكانها. فكيف اختفيا؟!
لم يكن أمامها إلا حلٌّ واحد … أن يكون بالمنزل غرفٌ سرية … فالمنزل قديم وللمنازل القديمة أسرار … من بينها الدهاليز المختفية، والأبواب السرية، والغرف المسحورة. ولا بد أن «باسم» والرجل الغامض في إحداها.
وعادت إلى المنزل سريعًا … وبدأت تفتيشًا دقيقًا لكل غرفة، فتحت أبواب الدواليب، رفعت الكراسي … نظرت تحت السراير … دقَّت على الحوائط … انحنت على الأرض. ومضَتْ كالقط تدق هنا وهناك … وترفع السجاجيد وتنظر تحتها … فعلَتْ كل ما تعلَّمَتْه في التدريب للبحث عن الأماكن السرية، ولكن لم يكن هناك شيءٌ على الإطلاق. لا دهليز. ولا سرداب. ولا غرف سرية!
احتاجت «ريما» إلى قدرتها كلِّها على ضبط النفس حتى لا تصيح غضبًا وقهرًا … وأخذَتْ تفكِّر بهدوء … إن ما حدث ليس بسحر ساحر … ولا شيء فوق طاقة البشر … كل ما هنالك أن أشياء قد دارَت في هذا المكان لا تعرفها … وأن المكان خالٍ فعلًا … ولا داعيَ لإضاعة وقتٍ أطول … وهكذا انطلقَتْ خارجةً من المنزل … وذهبَتْ إلى سيارة الرجل الغامض وأتلفَتْ بعض أجزاء المحرك حتى تضمن أنه لن يعود إليها ويفر إذا كان مختفيًا في أي مكان … ثم أسرعت إلى السيارة التي قدمت بها هي و«باسم» من «بيروت» وأخذَت تلفُّ في القرية لعلها تعثر على شيءٍ يدلها على المكان الذي ذهب إليه الرجل … ولكن الطرقات كانت مقفرة … ولا شيء سوى الريح تعصف بالشوارع الخالية، والظلام … وأضواء مصافي البترول البعيدة …
وقرَّرَت «ريما» أن تعود فورًا إلى «بيروت» وأطلقَتْ لسيارتها الحمراء العنان فمضَتْ تطير على الأرض … كانت المسافة ١٠٠ كيلومتر بين «بيروت» وبين قرية «عبده» وقطعت المسافة في ثلاثة أرباع الساعة … ثم صعدت مسرعة إلى حيث يوجد مقر الشياطين اﻟ ١٣ في شارع «أحمد شوقي» المطل على خليج «سان جورج» وكان الموجودون جميعًا ساهرين … «إلهام» و«زبيدة» و«عثمان» و«أحمد» وتلقوها بنظرة استفسار، فألقَتْ نفسها على أقرب كرسي، ثم مضت تروي لهم ما حدث منذ غادرت هي و«باسم» مقرهم حتى الأحداث التي جرَتْ في المنزل المضاء المهجور في قرية «عبده».
ساد الصمت الصالة بعد حديث «ريما» العجيب … ثم قالت «إلهام»: سأرسل تقريرًا عاجلًا إلى رقم «صفر» وإن كنت أعتقد أنه قد لا يطَّلِع عليه إلا صباح الغد.
وقامت «إلهام» إلى غرفة اللاسلكي لترسل التقرير … بينما وقف «عثمان» وأخذ يدور في الصالة كالنمر الحبيس … كان «عثمان» يحب «باسم» جدًّا … وكانا زميلَيْن أثناء التدريب ثم التفت فجأةً إلى الأصدقاء قائلًا: لماذا لا نذهب الآن لإعادة تفتيش هذا المنزل العجيب … ثم نقلب القرية بحثًا عن «باسم» … ليس من المعقول أن نجلس صامتين بينما «باسم» مفقود. وبدَتْ على وجهه سحابةٌ من الحزن وأضاف: بل قد يكون الآن في عداد الأموات.
كانت أنظار الزملاء معلقةً ﺑ «عثمان» وهو يتحدَّث فقال «أحمد» بهدوء: إن مصرع واحدٍ من الشياطين اﻟ ١٣ ليس مسألةً سهلةً يا «عثمان» … خاصةً و«باسم» هذا الفلسطيني الصلب القوي لا يمكن أن يُقتلَ في مطاردةٍ بسيطةٍ كهذه.
قالت «زبيدة»: اجلس يا «عثمان» ودعنا نتصوَّر ما يمكن أن يكون قد حدث ونتصرَّف على هذا الأساس.
عادت «إلهام» بعد لحظاتٍ وقالت: لقد أرسلت تقريرًا موجزًا بما روَتْه «ريما» وأتوقَّع بالطبع ألَّا يصلنا ردٌّ قبل الصباح … والآن هل ناقشتم الأمر؟
زبيدة: إنني طلبت منهم حالًا أن نضع تصورًا لما حدث.
فقال «أحمد»: من المؤكد أنه ليس هناك سوى احتمالَيْن؛ الأول أن يكون «باسم» قد اضطر لمغادرة المنزل الغريب خلف الرجل ولم يكن عنده وقتٌ لإبلاغ «ريما»؛ أو أن يكون الرجل قد أوقع به … وفي الحالة الأولى فلا بد أن «باسم» سيتصل بنا بين لحظة وأخرى … وفي الحالة الثانية …
وسكت «أحمد» فأكمل «عثمان»: وفي الحالة الثانية سنسمع أو نعلم أن «باسم» قد عُثر عليه في مكانٍ ما … قتيلًا!
وعاد الصمت يلف المكان … وقالت «إلهام»: «الحقيقة أن هناك احتمالًا ثالثًا!» والتفت إليها الأصدقاء فقالت: أن يكون «باسم» أسيرًا.
عثمان: وهل يستطيع رجلٌ واحد أن يأسر «باسم»؟
إلهام: ممكن في ظروف معينة … ولكن الواضح أن الرجل لم يكن وحده! هل نسيتم مائدة الاجتماعات والكراسي السبعة التي حولها. هل نسيتم منافض السجائر نصف الممتلئة؟!
ريما: هذا ما خطر ببالي بالضبط.
أحمد: معقول جدًّا … ومن الواضح أنهم حضروا إلى المنزل. بينما كانت «ريما» تقف في الجانب الآخر عند شاطئ البحر … ولم تستطع «ريما» أن تسمع صوت وصولهم لأن الريح كانت تهبُّ من ناحية البحر فحملت أصواتهم بعيدًا.
وفي تلك اللحظة سمعوا صفارة جهاز اللاسلكي المتقطعة … وقامت «إلهام» بسرعةٍ لتلتقط الرسالة القادمة من رقم «صفر» … وفي نفس الوقت دقَّ جرس الباب.