غامض … ومجهول
أخذ الأصدقاء وضع الاستعداد كما اعتادوا كلما دقَّ جرس الباب … وأسرع «عثمان» يفتحه، بينما وقف «أحمد» خلفه في انتظار أحداثٍ غير متوقعة … وما كاد «عثمان» يفتح الباب حتى ارتمى «باسم» بين ذراعيه.
صاح «عثمان»: «باسم»!
ووقف الجميع وأسرعوا إليه … كانت ثيابُه مبتلةً … ووجهه شاحب، وقد بدا عليه الإرهاقُ الشديد … وحدثَتْ حركةٌ سريعة في الشقة … ملابس جافة … فوط ساخنة للتدليك … شاي. وتمدَّد «باسم» على أريكةٍ في الصالة. وأحاط به الأصدقاء بينما أسرع «أحمد» إلى غرفة اللاسلكي … وأخطر «إلهام» بعودة «باسم» لتخطر رقم «صفر» فوجدها منهمكةً في تلقِّي تقرير يبدو أنه طويل.
عندما عاد «أحمد» إلى الصالة وجد «باسم» أحسن حالًا … فقد كان يبتسم وقد انحنت «ريما» تضمد له رأسه. وأدرك «أحمد» أنه مصابٌ … فأسرع يكشف على الجرح الذي كان في مؤخرة رأس «باسم».
قال «أحمد»: كيف حالك الآن؟
باسم: لا بأس!
أحمد: هل في إمكانك أن ترويَ لنا ما حدث أم من الأفضل أن تنام؟
باسم: أفضِّل أن أتحدث الآن.
ريما: ماذا حدث؟ إنني كدت أجن … لقد انتظرتك نصف ساعة ثم دخلت المنزل فلم أجد أحدًا … إلا غرفًا مضاءةً فارغة.
ابتسم «باسم» قائلًا: حدثَتْ أشياء كثيرة!
ووقفت «إلهام» تحمل تقريرًا من رقم «صفر» فقال لها «أحمد»: شيء عاجل؟!
إلهام: فلنسمع حديث «باسم» أولًا.
أخذ «باسم» رشفة من كوب الشاي ثم قال: عندما دخلت المنزل من خلال النافذة المضاءة لم أجد أحدًا فيها وتمهلت لحظات … ثم عبرت الغرفة إلى الدهليز العلوي وسمعت صوت سعال يأتي من أسفل … ونظرت من أعلى السلم فرأيت الرجل الغامض يجلس وحده … كان قد فتح حقيبته، وأخرج منها بعض الأوراق، وأخذ يرتبها … وفي الحقيبة شاهدت مسدسًا ضخمًا به كاتم للصوت … كان الرجل يجلس في دائرة الضوء، وكنت أقف في الظلام فلم يكن في إمكانه أن يراني … وقدرت المسافة بيني وبينه … وقررت أن في إمكاني أن أهاجمه مفاجأةً وأحصل على الحقيبة … ولكن ما كدت أتحرك بهدوء نازلًا السلم حتى رأيت باب المنزل يُفتح بالمفتاح … وظهر رجل وبيده مسدس وبعد قليلٍ ظهر شخص آخر … ثم ثالث … وانضم الثلاثة إلى الرجل الغامض وكان كلٌّ منهم يحمل حقيبة مماثلة لحقيبته السوداء … وتصورت أن عدد الرجال سيصل إلى سبعة بعدد الكراسي التي حول المائدة … ولكن أحدًا آخر لم يدخل.
وبدأ الأربعة يتحدثون فورًا، وكان من الواضح أنه حديثٌ غاضب؛ فقد كانوا يلوحون بأيديهم … ولم يكن في إمكاني أن أسمع جيدًا ما يقولون … فالسلم مرتفع … ولكن بعض الكلمات العالية كانت تصل لي … سمعت كلمة الموت بضع مرات … سمعت كلمة تركيا وجبل طارق، وفرنسا، وإيطاليا، وإنجلترا، ولبنان، ومصر؛ وأسماء أشخاص «فرانشسكو» … و«شتايبر» … و«موريلِّي» … وسمعت أنهم كانوا اختفى منهم ثلاثة.
وصمت «باسم» لحظات ثم مضى يقول: وعرفت اسم الرجل الغامض … اسمه «باغوص».
ردَّت «إلهام» وهي تنظر إلى التقرير: إن اسمه كما جاء في تقرير رقم «صفر» هو «فارس فريج»!
هز «باسم» رأسه قائلًا: إنني متأكد … فقد ظلوا ينادونه باسم «باغوص» طول مدة الاجتماع!
زبيدة: وماذا بعد ذلك يا «باسم»؟
باسم: قررت أن أقرب أكثر لأسمع، فأخذت أنزل السلالم ببطء وانتهيت إلى قرب آخر درجة في السلم … ولكن …
وهز «باسم» رأسه ثم مضى يقول: كانت درجة متآكلة فانكسرت محدثةً صوتًا عاليًا ووقعت على الأرض وفي أقل من ثانية كان الرجال الأربعة يُحيطون بي وقد شهروا مسدساتهم … وصاح «باغوص» أو «فارس فريج» بي، وقد احتقن وجهه: «كيف دخلت هنا؟» … لم أرد فمد أحد الرجال يده وأمسك برقبتي وأوقفني، وعاد «باغوص» يقول: «كيف دخلت؟ من أنت؟» كان رأسي يدور من أثر السقطة … ولكني بالطبع لم أُجب … وأسرع اثنان منهم يفتشان المنزل كله ويفتحان الأبواب ويُضيئان الغرف … لقد كانوا يظنون أن هناك شخصًا آخر معي … وعندما تأكدوا أنني وحدي … قرروا فض الاجتماع فورًا … وجمعوا أوراقهم … وأخذوا يُناقشون مصيري … واستقر رأيهم على أن يأخذوني معهم. كانوا يتحدثون لغات مختلفة؛ فرنسية وإنجليزية وإيطالية … ولكني فهمت … وكانوا قد طلبوا مني أن أستدير وأضع وجهي في الحائط وهم يتناقشون، وفجأةً أحسستُ بضربة قوية تنزل على رأسي … وهويت على الأرض مغمًى عليَّ … قالت «ريما» في ضيق: كل هذا حدث وأنا واقفة أنتظر.
باسم: وعندما أفقت وجدت نفسي في قارب صغير سريع … وأنعشني هواء البحر البارد، فأخذت أفكِّر فيما ينبغي عمله … وقررت أن أظل متظاهرًا بالإغماء حتى أرى أين يذهبون … ولكن الريح حملت لي حديثهم … لقد قرروا التخلُّص مني … وفهمت أنهم ذاهبون إلى باخرةٍ تنتظرهم في عرض البحر … وأنهم سيقضون عليَّ في الباخرة، ثم يُلقونني في البحر!
وسكت «باسم» وكانت عيون الأصدقاء كلها مركزة عليه ثم رشف رشفة من كوب الشاي وقال: وبدأت أفكر فيما يجب عمله قبل أن أصبح طعامًا لسمك البحر الأبيض المتوسط. وفتحت عيني ربع فتحة فقط … ثم نظرت حولي … ووجدتني ملقًى في وسط القارب … ووجدت ساقَيْ رجلٍ بجواري وأدركتُ أنه حارس.
ورشف «باسم» آخر رشفة في كوب الشاي … ثم ابتسم للزملاء قائلًا: إنكم تستمعون لي باهتمام … وكأنكم لم تشهدوا مغامرةً من قبل … وأنتم جميعًا من عتاة المغامرين وقد مرَّتْ بكم مواقف أخطر من هذا!
أضاءت وجهَ «عثمان» الأسمر ابتسامةٌ واسعة كشفَتْ عن أسنانِه البيضاء وقال: قبل حضورك بدقائق قليلة كنا نتحدث عنك … وقد كنت شخصيًّا أعتقد أنك لن تعود … وظهورك حيًّا معجزة تستحق أن نستمع إلى كل تفاصيلها.
أشاح «باسم» بيده قائلًا: لن أضيع وقتكم ودعونا نستمع إلى تقرير رقم «صفر» إنه أهم بالتأكيد من مغامرتنا البسيطة.
إلهام: إن تقرير رقم «صفر» ليس عاجلًا جدًّا.
أحمد: وتقريرك به قدر من المعلومات تهمُّنا يا «باسم» فاستمر!
باسم: سأختصر ما حدث … ببساطةٍ استجمعت قوتي كلها، ثم رفعت قدمَي الرجل وألقيت به في البحر … ثم ألقيت بنفسي خلفه … ولا بد أن من في القارب قد أدركوا ما حدث … فقد انطلقَتْ من الزورق كشافات قوية، وسمعت بعض طلقات الرصاص، ولكني غصت فورًا تحت الماء، وسبحت مسافة طويلة قبل أن أرفع رأسي وأنظر … كان القارب يدور في مكانه وأضواء الكشافات تبحث وشاهدتهم يلتقطون الرجل الذي أسقطته في البحر … وغصت مرة أخرى وسبحت بكل ما أملك من قوة … وظللت أغوص وأصعد فوق المياه حتى ابتعدت مسافة كافية … ونظرت إلى أضواء «بيروت» البعيدة، ووجدت أنني على مسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات، وبالطبع لم يكن أمامي إلا أن أسبح … وظللت أسبح حتى وصلت إلى خليج «سان جورج» … أمام مقرنا، ثم اجتزت الكورنيش جريًا وعدت إليكم … هزَّت «ريما» رأسها قائلة: إن هذا يفسِّر لغز الغرف الفارغة المضاءة … لقد ظننت أنك اختفيت بسحر ساحر!
باسم: لقد اختفيت بسحر «باغوص»؛ فهو رجل عنيف قوي.
إلهام: والآن إلى تقرير رقم «صفر» حتى نتمكن من أن نعد له تقريرًا عن المعلومات التي حصل عليها «باسم» … لعله يهتم بها.
وابتسمت «إلهام» قائلة: وحتى نتمكن من أن ننام بضع ساعات فقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحًا. التقرير: عُثر اليوم على جثة رجل مجهول الشخصية ملقاة بين أشجار الأرز في الجبل … لم يُعثر معه على أوراق على الإطلاق … ومن الواضح أن الجاني أو الجناة قد جردوه من كل ما يدل على شخصيته، ولكن عُثر معه في جيب البنطلون الخلفي على مفتاح … يبدو من ثياب الرجل أنه على درجة كبيرة من الثراء ويغلب على الظن أنه أجنبي. اتضح من أبحاث المعمل الجنائي أن أسنان الرجل قد عولجت حديثًا … ربما في صباح يوم مصرعه … يدور البحث الآن عن أطباء الأسنان؛ فقد يدلنا هذا عن شخصيته. وسأخطركم بكل ما يحدث؛ فقد يكون له صلة ﺑ «فارس فريج».
وقرأت «إلهام» أوصاف الرجل المجهول.
وعندما انتهت «إلهام» من تقريرها قال «أحمد» معلقًا: يبدو أننا سنتعامل مع أشخاص غامضين، أو مجهولين لا نعرف عنهم شيئًا، وذلك أصعب أنواع الأعمال … لقد واجهنا في المغامرات السابقة أشخاصًا خطرين، ولكنا كنا نعرفهم بالاسم والشكل … ولكن هذه المرة الأمر مختلف.
قال «عثمان» وهو يهز كرته المطاطة … وهي سلاح رهيب في يد الولد الأسمر القوي: إنني أيضًا لا أحب هذه المهام … إنني أريد مهمة أجرِّب فيها عضلاتي … وعزيزتي هذه.
وقذف بالكرة في اتجاه «أحمد» الذي أمال رأسه بسرعة قائلًا: قد تحتاج إلى عضلاتك القوية بأسرع مما تتصوَّر.
باسم: سأنام الآن فإنني مرهقٌ جدًّا!
رد الجميع: ونحن أيضًا.
وأسرعت «ريما» و«زبيدة» و«إلهام» إلى غرفهن، وقام «أحمد» إلى غرفة اللاسلكي ليرسل تقريرًا إلى رقم «صفر» بالمعلومات التي عاد بها «باسم» … بينما اتجه «عثمان» إلى الشرفة الواسعة المطلَّة على خليج «سان جورج» وأخذ يراقب الشوارع … وشاهد سيارةً تسير على الكورنيش ببطء … ومضت في طريقها، ولكنه لاحظ بعد دقائق قليلة أن السيارة قد عادَت تمر مرة أخرى قرب المنزل الذي يشغلون الطابق الأعلى فيه …
قال «عثمان» في نفسه: هل هي نزهة بريئة؟! أم أن السيارة تراقب أحدًا؟!
وأخذ «عثمان» يحدِّق البصر من مكانه المرتفع. ومرة أخرى شاهد السيارة تسير على الكورنيش ثم تعود … وقرَّر أن يخطر «أحمد»، وظل واقفًا مكانه يراقب السيارة حتى ينتهي «أحمد» من إرسال تقريره إلى رقم «صفر»، ثم أسرع «عثمان» إلى الصالة. وكان «أحمد» يتجه إلى غرفة النوم، فقال «عثمان»: تعال دقيقة واحدة.
أحمد: ماذا هناك؟!
عثمان: سيارة تتسكع بجوار منزلنا.
وأسرع الاثنان إلى الشرفة ووقفا يراقبان السيارة وهي تتسكع قرب المنزل … ونظر الزميلان أحدهما إلى الآخر وكان واضحًا أنهما متفقان على أن السيارة ليست بريئة تمامًا … قد تكون مرسلةً لمراقبتهم … قد تكون تتجول لأسبابٍ أخرى ليست خاصَّةً بهم … المهم أن يعرفوا ماذا تفعل بجوار منزلهم.