مطاردة في الفجر
نزل «أحمد» و«عثمان» مسرعَيْنِ إلى الشارع … حمل «أحمد» معه مسدسه، بينما اكتفى «عثمان» بكرته المطاطة الجهنمية … وكانت السيارة المتسكعة قد مضت إلى طرف الشارع فوقفا في مدخل أحد البيوت يراقبانها … كانت الشوارع خاليةً تمامًا في هذه الساعة المتأخرة من الليل … وكانت الريح ما زالت تعصف، والبحر هائج، يلقي برذاذ المياه على الكورنيش الواسع.
وأخذ «أحمد» و«عثمان» يتحدثان … هل يهاجمان السيارة، أم يكتفيان بمراقبة مَنْ فيها … وكان في ذهن كلٍّ منهما الأوصاف الكاملة للرجال الأربعة الذين شاهدهم «باسم» في منزل قرية «عبده» … فهل أحد ركاب السيارة منهم، ولماذا حضروا إلى هذا المكان؟ هل عرفوا مكان «باسم»؟ وكيف؟
أسئلة كثيرة كانت الإجابات عليها كلها متوقفة على اللحظات القادمة … وعادت السيارة تقترب منهما … ولم يكن في استطاعة من في السيارة أن يراهما، وهما مختفيان في مدخل العمارة. ومرَّت السيارة أمامهما … كان فيها رجل واحد … يرتدي معطفًا قد رفع ياقته فوق رقبته … وقبعة أسدل حوافيها على وجهه … كان من الصعب عليهما تبيُّن ملامحه.
ومضت السيارة، وتجاوزتهما … وقال «عثمان»: ما رأيك؟
أحمد: لا أدري في الحقيقة ما ينبغي عمله … ولست أعتقد أن لهذا الرجل صلةً بحوادث الليلة.
عثمان: ولكن هذا التسكُّع بالسيارة يبعث على الريبة.
أحمد: من يدري … أقترح أن نذهب لإحضار سيارةٍ من «الجراج» … وسنراقب فترة أخرى؛ فإن الفجر قد اقترب، ولا أعتقد أنه سيستمر في تسكعه، وفي إمكاننا عندما يقرر الانصراف أن نتبعه في سيارتنا ونعرف أين يُقيم … وبعدها نستطيع معرفة حكايته.
أسرع «عثمان» إلى «جراج» العمارة التي يقيمون فيها، حيث توجد مجموعة سيارات خاصة بهم واختار سيارة سريعة ذات مقعدين، وانتظر حتى شاهد السيارة التي يركبها ذو القبعة تبتعد في جولتها. ثم أسرع إلى «أحمد» … وركن السيارة أمام العمارة التي كانا يختفيان في مدخلها.
وقف الصديقان لحظات. وعادت السيارة تمر أمامهما … وفجأة ظهرت سيارةٌ من أحد الشوارع الجانبية وانحرفت إلى الكورنيش، ثم مضَتْ مسرعة، وسرعان ما كانت السيارة المتسكعة تتبعها، وفي لحظاتٍ كان الصديقان يقفزان إلى سيارتهما، وينطلقان خلف السيارتَيْنِ اللتين كانتا تجتازان الكورنيش بسرعةٍ رهيبة.
تولَّى «أحمد» القيادة، فأبقى مسافة مناسبة بينه وبين السيارة التي أمامه … ومضت السيارات الثلاث تخطف الكورنيش خطفًا … ولم يكن في ذهن الصديقين شيءٌ معين سوى أنهما مشتركان في مطاردةٍ لا يعرفان كيف تنتهي.
كانت السيارة المتسكعة صفراء، وكانت السيارة الأمامية سوداء، وكانت سيارة «أحمد» و«عثمان» حمراء … فبدت السيارات الثلاث وكأنهم شريط ملون يلتوي على الكورنيش في الفجر، واستمرَّت المطاردة المثيرة من «مينة الحصن» إلى «جادة باريس» … والعجلات «تزيق» على الأرض من فرط السرعة … ثم انحرفت السيارة السوداء إلى كورنيش «دي جول» وانحرفت وراءها السيارة الصفراء … وقبل أن تنحرف سيارة الصديقين هي الأخرى … سمعا صوت طلقات رصاص تدوي … وصوت صدام … وعندما انحرفت سيارتهما إلى كورنيش «دي جول» كانت السيارة الصفراء مقلوبة على ظهرها … وما زالت عجلاتها تدور … ولم يكن للسيارة السوداء أثر.
أوقف «أحمد» السيارة ونزل الصديقان مسرعين … وكان صوت طلقات الرصاص والصدام قد لفت أنظار بعض سكان البيوت المجاورة … وسمعا صوت سيارة شرطة تأتي من بعيد … وأسرع «أحمد» إلى سائق السيارة … كان نصفه الأعلى منطرحًا خارج السيارة … وقد سقطت من جيبه محفظةٌ لم يتردَّد «أحمد» في التقاطها ووضعها في جيبه … ووصلت سيارة الشرطة … وتجمع عددٌ من الناس … وأشار «أحمد» إلى «عثمان»، فانسحب في هدوء فلم يكونا على استعداد للدخول في سؤال وجواب مع الشرطة.
واستقلَّا سيارتهما وابتعدا … ولكنهما سمعا في تلك اللحظة أحد رجال الشرطة ينادي عليهما … فتردد «أحمد» … ثم أطلق للسيارة العنان … وعندما تحركت سيارة رجال الشرطة خلفهما … كانا قد اختفيا عن العيون …
فضَّل «أحمد» ألَّا يذهب إلى مقر الشياطين في شارع «أحمد شوقي» مباشرةً، فوضع السيارة في جراج عمومي، وفي غفلةٍ من حارس الجراج، استبدل «عثمان» أرقام السيارة بأرقام أخرى موجودة دائمًا في سيارات الشياطين اﻟ ١٣ للتمويه.
كانت «بيروت» تستقبل الصباح والصديقان يجلسان على أحد المطاعم الصغيرة يفطران ويتناولان الشاي … وقال «عثمان»: ألَا نبحث في المحفظة عن شخصية هذا الرجل؟
أحمد: ليس الآن … بعد أن نعود إلى المقر.
وبعد أن شربا الشاي استقلَّا تاكسيًا إلى شارع مجاور لمقر الشياطين ثم سارا على الأقدام حتى العمارة.
وجدا «إلهام» ما زالت مستيقظةً وعلى وجهها أمارات القلق، ولم تكد تراهما حتى قالت: أين كنتما؟!
وأسرعت إلى «أحمد» ثم توقَّفَت وقد ظهر على وجهها الوسيم علامات الخجل، قال «أحمد»: رحلة بسيطة على الكورنيش في الفجر.
إلهام: إن رقم «صفر» لا يهدأ … لقد أرسل تقريرًا آخر منذ ساعةٍ تقريبًا!
أحمد: وماذا في التقرير؟!
إلهام: إنه عن «فارس فريج» أو «باغوص» كما يسمِّيه «باسم».
ومضت «إلهام» إلى غرفة اللاسلكي وعادَتْ بملف التقارير الأخضر … ثم فتحته ومضَتْ تقرأ: … هذه كل المعلومات التي وصلتنا عن «فارس فريج» … إنه مهاجر لبناني قضى أغلب عمره في البرازيل حيث كوَّن ثروة ضخمةً من تجارة البن، ثم ذهب إلى اليونان حيث اشتغل بعمليات النقل البحري، وأصبح يملك أسطولًا ضخمًا من السفن، وقد حضر إلى «بيروت» ليفتتح فرعًا لشركة النقل البحري فيها مع عددٍ من الشخصيات اللبنانية … ويصل رأسمال الشركة إلى بضعة ملايين من الليرات.
قال «عثمان»: الذي لم أفهمه حتى الآن لماذا طلب رقم «صفر» مراقبته … إن المعلومات التي أوردها التقرير لا تدل على أن للرجل نشاطًا يستحقُّ المراقبة؟!
قالت «إلهام»: لقد رد التقرير على هذه النقطة. ومضت تقرأ: … لقد طلبت منكم مراقبته؛ لأن جزءًا من النقود التي دفع منها حساب الفندق الذي نزل فيه كانت مزورة … وكلها من فئة المائة دولار!
عثمان: هذا يوضِّح بعض الأمور … ويعني أننا وراء عصابة تزييف …
أخرج «أحمد» المحفظة من جيبه، فقالت «إلهام»: ما هذا؟ هل كنتم في مهمة نشل؟
أحمد: تقريبًا … ولكننا سنُرسل هذه المحفظة إلى رقم «صفر» بعد الاطلاع على محتوياتها!
ويجلس الثلاثة حول مائدة مستديرة في وسط الصالة … وكانت الشمس قد أشرقت واستيقظ بقية الشياطين.
وفتح «أحمد» المحفظة وبدأ يُخرج ما فيها … جواز سفر باسم «كوستا. ج. ليونادس» يوناني الجنسية. ٤٥ سنة … المهنة مخبر سري خاص … أوراق نقدية … عملات مختلفة. أوراق خاصة. صورة صغيرة لرجلٍ شرس الشكل.
وكان بقية الشياطين قد انضموا إلى الثلاثة … «باسم» وقد عادت إليه حيويته … و«ريما» … وعندما أمسك «باسم» بالصورة صاح: هذه صورة أحد الرجال الأربعة … إنه المدعو «موريلِّي» على الأغلب.
قال «أحمد»: إذن فإن «كوستا» … على علاقةٍ ما بمجموعة الرجال السبعة … ولكن ما هي العلاقة بين مخبر سري خاص ورجال الأعمال هؤلاء؟
عثمان: عصابة تزييف … ومخبر يتحرَّى عنهم …
أحمد: ولكن عصابات التزييف عادةً من اختصاص رجال الشرطة الحكوميين … إن المخبر السري الخاص عادةً ما يستأجره الأفراد … ولا تستأجره الحكومات.
سادَتْ لحظة صمت ثم عاد «أحمد» يُخرج بقية الأوراق … كانت هناك خريطةٌ صغيرة تشمل فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، وحوض البحر المتوسط … ولاحظ «أحمد» أن هناك علاماتٍ بالقلم على بعض المناطق … ولاحظ أن بعض هذه العلامات في المياه خاصة في خليج «بسكاي» الذي يقع في شمال إسبانيا.
قال «أحمد»: إن هذه الخريطة تذكِّرنا بما قاله «باسم» من أحاديث الرجال الأربعة؛ فأسماء الدول التي سمعها «باسم» … واردة كلها تقريبًا على هذه الخريطة … ومن المؤكد إذن أن «كوستا» كان خلف نفس الرجال الذين شاهدهم «باسم» في المنزل المهجور.
ريما: إن المعلومات في هذه القضية متباعدة، ومتناثرة، وغامضة. وأعتقد أننا يجب أن نُعيد ترتيب هذه القصة كلها حتى يمكن وضع تصور عام لما نفعله.
ساد الصمت لحظات ثم قال «أحمد»: إذا سمحتم لنا بأن ننام بضع ساعات؛ فقد نستطيع بعدها أن نستعيد نشاطنا وأن نجلس في حلقة بحث نتمكن خلالها من جمع خيوط هذه القضية.
في مساء ذلك اليوم جلس ستةٌ من الشياطين اﻟ ١٣ وأمامهم كل المعلومات والتقارير لفحص الموضوع كله.
وقال «أحمد»: سنرتب الحوادث … لا كما وصلت إلينا … ولكن كما نتخيَّلها حتى تكون الأمور أكثر وضوحًا … وصمت قليلًا ومضى يقول: هناك سبعة رجال يقومون بنشاطٍ غير قانوني … وفي الأغلب هو تزييف … وهناك مخبر خاص يتابعهم … وحضر هؤلاء الرجال إلى «بيروت» ربما بهدف ترويج ما معهم من نقود … وطلب منا رقم «صفر» مراقبة أحدهم وهو «باغوص» أو «فارس فريج» واستطاع «باسم» و«ريما» أن يتابعاه إلى منزلٍ في قرية «عبده» حيث عرف «باسم» بعضَ أسماء الرجال السبعة.
ومن ناحيةٍ أخرى كان «كوستا» يُراقب نفس الرجال … ولكنهم استطاعوا الإفلات منه بعد إطلاق الرصاص عليه … هل الصورة واضحة؟!
إلهام: هناك أسئلة … منها مثلًا الرجل الثري القتيل الذي أرسل لنا عنه رقم «صفر» تقريرًا … والذي عثروا في جيبه على مفتاح … هل لهذا الرجل علاقة بالقضية؟
عثمان: وهذه الإشارات الموجودة على الخريطة التي عُثر عليها في محفظة «كوستا» ماذا تعني؟!
أحمد: وهناك أسئلة أخرى … ولكن الحقيقة أن السؤال الذي يهمني أكثر … هو كيف سنشتبك مع مجموعة الرجال هذه؟!
إلهام: عندي اقتراح!
والتفت الشياطين الستة إليها فقالت: لماذا لا يحاول واحدٌ منا أن يلتحق بالعمل في شركة «باغوص»؟ إن وجود واحد منا هناك سيجعلنا أقدر على الاطلاع على ما يدور في هذه الشركة من نشاط … هل هو نشاط قانوني أم غير ذلك؟!
وهز الشياطين الستة رأسهم موافقين.