الموت بلا اعتراف
كان اليوم التالي في حياة الشياطين الستة حافلًا بالنشاط … فقد أرسلوا تقريرًا إلى رقم «صفر» بمعلوماتهم واستنتاجاتهم، وأرسلوا له محفظة «كوستا» التي نشرت الجرائد اللبنانية نبأ مصرعه … وأرسل لهم رقم «صفر» المفتاح الذي وُجد في جيب الرجل القتيل … وقدمت «إلهام» طلبًا للالتحاق بشركة «النجمة الزرقاء» التي يرأسها «فارس فريج»، وقد وعدهم رقم «صفر» بمساعدتها للالتحاق بهذا العمل.
وانقسم الستة إلى ثلاثة مجموعات للعمل … «إلهام» و«أحمد» لمتابعة تحرُّكات «فارس»، و«باسم» و«ريما» لمنزل قرية «عبده»، و«عثمان» و«زبيدة» للطوارئ والمساعدة.
قضوا جميعًا الليل في المنزل ثم خرج «أحمد» و«إلهام» مبكرين، وأمضى الأربعة الباقون طوال اليوم في الشقة. وفي المساء تحركت سيارةٌ تحمل «باسم» و«ريما» إلى قرية «عبده» ومعهما المفتاح الذي وُجد في جيب الرجل القتيل.
كانا يريدان أن يعرفا، بالاتفاق مع رقم «صفر»، إذا كان المفتاح يناسب باب المنزل أم لا …
وبعد نحو ساعةٍ وصلا إلى القرية الهادئة، وقد هبط الظلام … وتركا السيارة في نفس المكان الذي تركاها فيه أول مرة، ثم سارا على الأقدام في محاذاة البحر حتى وصلا إلى المنزل … ووقفا يرقبانه من بعيد … كان المنزل غارقًا في الظلام … وانتظرا فترة قبل أن يتقدما من المنزل الذي كان بعيدًا عن القرية … بمسافةٍ كبيرة … وتقدما بهدوء تحت ستار الظلام. ومد «باسم» يده بالمفتاح … ولم يستطع أن يمنع نفسه من رعدة سرَتْ في بدنه عندما دار المفتاح في القفل، وانفتح الباب … لقد تأكد حينذاك أن الرجل الذي قُتل كان واحدًا من مجموعة الرجال السبعة التي تتخذ من هذا المنزل مكانًا للاجتماع، فلماذا قُتل؟! ومن الذي قتله؟!
ورغم أنه لم يكن هناك أحدٌ بجوارهما فقد همس «باسم» ﻟ «ريما» قائلًا: ما رأيكِ؟ هل ندخل؟
ريما: إن التعليمات التي لدينا من رقم «صفر» أن نجرِّب المفتاح فقط!
باسم: ولماذا لا نجرِّب الدخول؟ ونرى ما حدث في المنزل … ربما يكونون قد اجتمعوا مرةً أخرى!
وفتح الباب ودخل، وخلفه دخلت «ريما» وأغلقت الباب، ووقفا لحظاتٍ في الظلام يستمعان … لم يكن هناك صوتٌ في المنزل … ومد «باسم» يده يبحث عن مفتاح النور، ولكن قبل أن تصل يده إلى المفتاح كان ضوء قوي قد غمر المكان وبهر عيونهما … وسمعا صوتًا يقول: كنت متأكدًا أنك ستعود!
وعندما ألفت عيونهما النور … رأَتْ «ريما» ورأى «باسم» ثلاثة رجال. كان أحدهم «باغوص» … أما الشخصان الآخران فلم يكن «باسم» قد رآهما بين الرجال الأربعة ليلة الاجتماع.
كان «باغوص» يقف عند آخر درجةٍ من السلم الموصل إلى الطابق الأول من المنزل واضعًا يده في جيبه … أما الرجلان الآخران فكانا يقفان بجوار الحائط كلٌّ منهما في جانب، وقد رفع كلٌّ منهما في يده مسدسًا ضخمًا أشبه بالمدفع.
عاد «باغوص» يقول: كانت حركة بارعة هذه التي قُمتَ بها في القارب. ومن الواضح أنك مدربٌ على حماية نفسك … ولكن أنصحك هذه المرة ألَّا تحاول …
وأشار «باغوص» إلى الرجلَيْن وقال: إنهما من أبرع الرماة ولا أظنُّك ستكون أنت أو صديقتك الظريفة هدفًا صعبًا.
ونزل «باغوص» درجة السلم الباقية وتقدَّم إلى الصالة حيث مائدة الاجتماعات ولاحظ «باسم» على الفور أن المائدة لم يبقَ حولها إلا أربعة مقاعد فقط … فلماذا نقصت المقاعد الثلاثة؟!
كانت «ريما» تفكِّر بسرعة، لقد وقعا في فخٍّ محكم لا فكاك منه … ولاحظَت الشراسة الواضحة على وجهَيْ حاملي المسدسين وأدركَت أن أي محاولةٍ للهرب لن تنجح … وجالَت ببصرها في اتجاه المكان تبحث عن أي احتمالٍ للخروج، ولكن الأبواب والنوافذ كلها كانت مغلقةً بإحكام …
جلس «باغوص» على أحد الكراسي، ودعا «ريما» و«باسم» للجلوس … فجلسا، وقال «باغوص» وقد ضاقت عيناه، فأصبحتا كعيني الثعبان: هذه ثاني مرة نلتقي فيها وأظنك توافقني على أن ذلك لم يتم بالصدفة.
لم يرد «باسم»، فاستمر «باغوص» يقول: وفي نفس الوقت أنت صغير السن فأنت لا تعمل وحدك … ولا بد أن هناك من يستخدمك …
وصمت «باغوص» لحظاتٍ ثم قال، وقد مال بوجهه ناحية «باسم» حتى كان رأساهما يلتصقان: ثم هذا المفتاح الذي فتحت به الباب … لعلك ستقول لي مثلًا إنك وجدته في الشارع …؟!
واعتدل «باغوص» في جلسته وأخذ ينظر إلى «باسم» الذي كان يفكر بسرعة … كان حديث «باغوص» واضحًا جدًّا … ومنطقيًّا جدًّا بحيث لا يمكن اللف أو الدوران معه … وشمل «باسم» المكان ببصره … وكما حدَّثت «ريما» نفسها حدَّث نفسه أيضًا … إنه لا سبيل للفرار مع وجود المسدسَيْن … ومن خلال هذه الأبواب والنوافذ المغلقة … قال «باغوص»: هل ستردُّ؟!
ولدهشة «ريما» رد «باسم» ببساطة قائلًا: إنني أوافقك على كل ما قلت؛ فلقاؤنا الأول لم يكن بالصدفة … وهذا اللقاء بالطبع ليس وليد الصدفة أيضًا … كذلك المفتاح الذي فتحت به الباب لم أجده في الشارع.
ابتسم «باغوص» قائلًا: إنك ولد عاقل بقدر ما أنت شجاع … والآن من الذي يستخدمك؟ من الذي طلب منك مطاردتي أو مراقبتي؟!
مرةً أخرى رد «باسم» بسرعة: هذا ما لن أستطيع أن أقوله لك؟!
أشعل «باغوص» سيجارة ومال إلى الخلف ووضع ساقًا على ساق ثم قال: إنك يا بني لا تعرفني … أقصد لا تعرف حقيقتي … وقليل في هذا العالم من يعرفها … بل إن من يعرفها يحكم على نفسه بالموت … ولكن لا بأس أن تعرف أنني رجل لي نشاطي الخاص … وهذا النشاط يدور حول ملايين الجنيهات. وأنا أدافع عن أموالي بكل وسيلة … ولا أظنني سأتركك تعرض أعمالي … وربما حياتي للخطر … لهذا فإنني أتمنى لك أن تقول الحقيقة … وتقولها فورًا … وإلا فإنني سأنتزعها منك …
ثم ابتسم والتفت إلى «ريما» وقال: أو أنتزعها من صديقتك الصغيرة.
أحس «باسم» بهذه الكلمات وكأنها طعنات تُصيبه في الصميم. لقد كان على استعداد لأن يفعل أي شيء، أو يتحمَّل أي تعذيبٍ بدون أن ينطق بحرفٍ عن حقيقة الشياطين اﻟ ١٣ وزعيمهم السري … ولكن المشكلة هي «ريما» …
وكانت «ريما» ترقب «باسم» … وهو يفكِّر وكانت تعرف ما يفكر فيه … وسرعان ما تدخَّلت لإنقاذه من أفكاره ومخاوفه قائلة موجهةً حديثها إلى «باغوص»: كما أننا لا نعرف حقيقتك أيها السيد … فأنت أيضًا لا تعرف حقيقتنا وأظن أنك تضيِّع وقتك عبثًا إذا تصوَّرت أنك ستنتزع مني … أو من زميلي كلمةً واحدة لا نريد أن نقولها!
رد «باغوص» بكلمةٍ واحدة: سنرى!
ووقف وأشار عليهما بالوقوف، فوقفا … ثم سار وهما خلفه، وخلفهم حاملا المسدسين. وتوقَّف «باغوص» أمام أحد الأبواب المغلقة في الصالة وأخرج سلسلةً من المفاتيح فتحه بواحد منها، ودخل ودخلا خلفه … ووجدا أمامهما غرفة عادية … تذكرت «ريما» أنها دخلتها عندما كانت تبحث عن «باسم»، كان في وسطها مائدةٌ مستديرة، تقدَّم «باغوص» منها ثم أدارها فدارت ببساطة … وانزلقت من مكانها، فوجدا سلمًا ينزل إلى ما تحت مستوى الأرض ونزل «باغوص» ونزلا خلفه وسمعا وهما ينزلان صوتًا كالهدير يأتي من بعيد … وانتهى السلم ومضيا في دهليز نصف مضاء … وقبل أن يصلا إلى نهايته وقف «باغوص» ثم ضغط على ذراع بارزة في الحائط، فدار جزءٌ من الحائط على محوره وبدَتْ أمامهما غرفة متوسطة لا نافذة فيها ولا باب وكأنها صندوق مغلق.
وقال «باغوص»: هذه الغرفة اعترف فيها قبلكم الكثيرون … وأعتقد أنكما ستعترفان إذا كان قد بقي لكما ذرة من العقل … إن هذه الغرفة تحت مستوى البحر، وبها فتحات سرية يدخل منها الماء تدريجيًّا حتى يغمر الغرفة كلها وستغرقان تدريجيًّا وتتعذبان … وأنني أنذركما لآخر مرة … أجيبا عن أسئلتي!
قال «باسم»: وإذا اعترفنا ماذا ستفعل بنا؟ في الأغلب سنلقى مصرعنا بطريقةٍ أخرى كما حدث ﻟ «كوستا».
لم يكد «باغوص» يسمع كلمة «كوستا» حتى التفت إليهما وفي عينيه نظرة كالنار وصاح:
هل تعرفان «كوستا»؟!
ثم خبط رأسه بيده وقال: أنتما إذن اللذان هربا من رجال الشرطة … لقد كنتما تتبعان سيارتنا … ولكن رجال الشرطة قالوا إن أحدكما كان أسمر اللون … أنتم إذن أكثر من اثنين وأنتم أيضًا لستم من الشرطة!
هز «باسم» رأسه قائلًا: هذا سؤال لا إجابة عليه … ولكن لعل ذلك يدلُّك على أننا لسنا وحدنا … وربما كنا أكثر مما تتصوَّر. قال «باغوص»: لا يهمني كم أنتم ما دمتم لستم من الشرطة … إن ما يهمني أن أعرفه هو إلى أي منظمةٍ في هذا العالم تنتمون … ومن الأفضل لكما أن تتحدَّثا!
لم يرد «باسم» ولا «ريما» فأشار لهما «باغوص» بالدخول. وألقى «باسم» نظره خلفه وشاهد الحارسان ينظران إليه كالذئاب المفترسة، فدخل الغرفة ودخلت «ريما» خلفه وحرك «باغوص» الذراع في الحائط … وأخذ الباب السري يمضي في هدوء حتى أُغلق …
وقفت «ريما» و«باسم» في الظلام الكثيف للغرفة صامتَيْن … ثم قال «باسم» هامسًا: إنهم لم يفتشونا …
ثم أضاف: سنتحدث بصوتٍ منخفضٍ … فلا بد أن هناك فتحات يستمعون منها إلينا … ومضت لحظات ثم مد «باسم» يده في جيبه وأخرج بطارية صغيرة أضاءها وبدد ضوءُها الخفيف بعض الظلام المتراكم … وأدار «باسم» البطارية في أنحاء الغرفة، ثم مضى يجس حوائطها … وانحنى على الأرض وأخذ يجس زوايا الغرفة، ثم أماكن التقاء الحوائط بالأرض … وكانت «ريما» تتبعه وبيدها بطارية هي الأخرى، وقالت «ريما»: هذا هو المكان الذي ستتسرب منه المياه …
ثم أضافت: إنها مغطاةٌ بالسلك وممتد بطول الحائط ومن الصعب إغلاقها.
وأشارَتْ إلى فتحةٍ رفيعةٍ مستطيلةٍ في نهاية أحد الحوائط عند التقائه بالأرض.
تحسَّس «باسم» الفتحة الطويلة ثم قال: بل من المستحيل فهي بعرض الحائط كله.
ولم يتم جملته حتى سمعا صوتًا كالهدير … ثم اندفع تيار من الهواء البارد قادمًا من الفتحة تبعه على الفور خيط من الماء قادمًا من الفتحة العريضة أسفل الحائط.
قال «باسم»: لقد بدأ الماء يتدفق …
ريما: كم من الوقت يكفي لملء الغرفة بالماء؟
باسم: لا أدري … إن ذلك متوقفٌ بالطبع على سرعة تدفُّق الماء.
وأخذت المياه ترتفع تدريجيًّا في الغرفة المغلقة.