براكودا ٧
كانت فرقة الطوارئ المكوَّنة من «عثمان» و«زبيدة» يجلسان في شرفة مقر الشياطين اﻟ ١٣ في بيروت في انتظار عودة «باسم» و«ريما» … وقد قدرا أن الرحلة إلى قرية «عبده» والعودة منها سوف تستغرق نحو ساعتين … ولكن مضت ثلاث ساعات دون أن يعود «باسم» و«ريما» … وكان «أحمد» و«إلهام» قد خرجا للتخلص من السيارة الحمراء التي نشرت الشرطة أوصافها بعد مصرع «كوستا» … وللقيام بمراقبة مقر شركة «النجمة الزرقاء» في شارع «أستراليا».
قال «عثمان»: أظن أننا يجب أن نتحرك.
زبيدة: فعلًا … لقد تأخَّرا.
وقام «عثمان» مسرعًا، فحمل كرته المطاطة الجهنمية … ونزل الاثنان بعد أن تركا رسالةً إلى «أحمد» و«إلهام» بأنهما ذاهبان إلى قرية «عبده» لمعرفة سبب تأخُّر «ريما» و«باسم».
ركبا سيارة سبور ذات مقعدين … وجلست «زبيدة» إلى عجلة القيادة، وأطلقت للسيارة العنان … وبعد أن خرجا من بيروت المزدحمة، وأخذا طريق الجبل ضاعفت «زبيدة» من سرعة السيارة. وبعد نحو ساعة أشرفا على القرية الصغيرة، وكانا كلاهما يعرف أوصاف المنزل وسرعان ما شاهداه على البعد في الظلام، فأخذا يقتربان في هدوء … وقررا أن يركنا السيارة بعيدًا حتى لا يكتشف حضورهما أحدٌ … واختارا مكانًا بين الأشجار … وكانت مصادفة مدهشة أن اختارا نفس المكان الذي أوقف فيه «باسم» و«ريما» سيارتهما … وقال «عثمان»: هذا يعني أنهما ما زالا في المنزل … أو على الأقل لم يغادرا القرية بعد.
وتسلَّلا معًا تحت الأشجار في اتجاه المنزل … كان غارقًا في الظلام، وقالت «زبيدة»: «يمكننا الدخول عن طريق الشرفة المفتوحة على البحر … كما دخل «باسم» و«ريما» من قبل.» ووافق «عثمان»، وتسلَّقا صخور الشاطئ، وأخذا يقتربان من المنزل وهدير ورزاز الماء يصلان إليهما … ولم يكادا يصلان إلى الممر المؤدي من الشاطئ إلى المنزل حتى شاهدا شبح رجل يتمشى ذهابًا وإيابًا، وأمسكت «زبيدة» بذراع «عثمان» … وأشارت ناحية البحر … كان ثمة ضوء يقترب سائرًا فوق الأمواج. قالت «زبيدة»: قارب؟!
عثمان: نعم … هناك أشخاص قادمون إلى المنزل على ما أظن …
زبيدة: وهل سنقتحم المنزل الآن؟
عثمان: سننتظر حتى يصل القارب ونرى ما يحدث.
وقبعا بجوار صخرة يتابعان ما يجري … واقترب القارب ووقف ونزل شخصان، تحدَّثا مع الحارس المتجول ثم اتجها إلى صخرةٍ تغطيها الأشجار الكثيفة، واختفيا خلفها.
همس «عثمان»: هناك مدخل سري من ناحية البحر. سننتظر لحظاتٍ ثم أهاجم الحارس.
ومضت اللحظات بطيئة، وتحرَّكا معًا، وقال «عثمان»: سأهاجمه وحدي.
وقفز «عثمان» … بخفة الفهد فوق الصخور … ثم زحف على يديه وقدميه في هدوء … ولاحظ أن الحارس يمسك مدفعًا رشاشًا يضعه على كتفه … وفكر «عثمان» أن يستخدم كرته المطاطة الجهنمية … ولكنه خشي أن يُخطئ فريسته في الظلام … وفضَّل أن يلتحم معه … واستجمع قوته ثم قفز في الهواء ونزل أمام الحارس … كان «عثمان» أسمر فبدا كأنه قطعةٌ من الظلام تتحرَّك … وذهل الحارس ثواني قليلةً كانت كافية لتنطلق ذراع «عثمان» في لكمةٍ ساحقة هبطت على وجه الرجل المذهول كالمطرقة … وسقط على الأرض … وأسرع «عثمان» يسحبه جانبًا وأخفاه بين بعض الأعشاب، ثم جرده من مدفعه الرشاش.
كانت «زبيدة» ترقب ما يحدث … وأدركت أن مهمة «عثمان» انتهت عندما أطلق صفيرًا كالوطواط، وهي علامة متفق عليها بين الشياطين. فأسرعت إليه … واتجها ناحية الصخرة التي اختفى خلفها الرجلان اللذان قدما من البحر … وأعطى «عثمان» ﻟ «زبيدة» المدفع الرشاش، وقال: اتبعيني على مبعدة.
أخذ «عثمان» يفحص الأشجار المحيطة بالصخرة باحثًا عن المنفذ الذي دخل منه الرجلان … ولكن عبثًا حاول … فقد كان الأشجار ملتفة بكثافة حول الصخرة لا تسمح بالفحص الدقيق … وكان الظلام سائدًا … ولا شيء يمكن أن يدل «عثمان» على الباب السري الذي نفذ منه الرجلان … وفجأة شاهد «عثمان» جزءًا من الأشجار يرتفع إلى فوق، ثم شاهد شخصًا يبرز أمامه … مرة أخرى استفاد «عثمان» من سمرته، فلم يستطع الرجل مشاهدته … وخطا الرجل إلى الأمام، ثم تبعه رجل آخر وعادَت الأشجار إلى مكانها تدريجيًّا … وأسرع «عثمان» بخفةٍ شديدةٍ يضع غصنًا سميكًا تحت الباب ليبقى مفتوحًا … فقد تأكَّد أن الباب يُفتح من الداخل وليس من الخارج.
سمع الرجلان طرقعة الغصن عندما أغلق عليه الباب فالتفتا … ولاذ «عثمان» بالصمت والهدوء في مكانه محتميًا بالظلام والشجر … وقال أحد الرجلَيْن: لقد سمعت شيئًا يتكسر.
رد الآخر: لعله غصن شجرة وقع … هيا بنا.
عاد الأول يقول: ولكن أين الحارس؟
وأخذ الرجلان يتلفتان حولهما … ثم وضع كلٌّ منهما يده في جيبه وأخرج مسدسًا وقال أحدهما: إنني أشعر بشيءٍ مريبٍ يدور حولنا … هل نعود؟
قال الآخر: إن السفينة في انتظارنا وستقلع بعد قليل … هيا بنا ننادي الحارس … فقد يكون هنا أو هناك …
سار أحدهما في المقدمة … والآخر خلفه … وكانت فرصة «عثمان» … انقضَّ على الأخير ولف ذراعه حول رقبته حتى لا يصيح … ثم هوى بقبضته على رأسه، فتهاوى بين يديه … وفجأةً التفت الأول ليتحدث مع زميله … فلم يجده … فرفع مسدسه إلى الأمام وصاح: فرانشسكو؟!
وامتدت ذراع «عثمان» من الظلام، فرفعت المسدس إلى فوق … ثم انطلقت يده الأخرى لتُصيب فك الرجل … ولكنه أحنى رأسه ليتقي اللكمة … واشتبك الاثنان في صراعٍ عنيف … كانت مهمة «عثمان» الأولى هي إبعاد المسدس عنه ومنع الرجل من إطلاقه حتى لا يلفت الأنظار وهكذا لوى ذراع الرجل بقوةٍ حتى صاح الآخر من الألم، واضطر إلى إسقاط المسدس … وسقطا على الأرض يتدحرجان … ولم تكن «زبيدة» بعيدةً عمَّا يحدث … فاقتربت أكثر، وأعدَّت المدفع الرشاش للإطلاق … ولكنا لم تكن في حاجة إلى ذلك … فقد كان «عثمان» القوي قد استلقى على ظهره، وحمل الرجل على قدميه وقذفه بعيدًا … ثم قفز واقفًا وقبل أن يفيق الرجل من سقطته كان «عثمان» قد أوقفه وأداره حول نفسه عدة مراتٍ بسرعة، ثم بضربةٍ من ضربات الكاراتيه الرهيبة وجَّه إلى رأسه ضربة بقدمه أوقعته كقطعة خشبٍ على الأرض … وسرعان ما حمله «عثمان» وفك رباط رقبته وقيَّدَه به، وكذلك فعل بالآخر …
وعندما رفع «عثمان» رأسه شاهد «زبيدة» تقف فوق رأسه وبيدها المدفع قائلة: إنك لم تترك لي فرصةً للعمل.
رد «عثمان» وقد امتلأَتْ عروقه بدماء المغامرة: ما زال أمامنا عملٌ كثيرٌ وأرجو أن تستمري في تأمين ظهري …
زبيدة: لقد تمرنا جميعًا على عمليات الاقتحام والتأمين … فلماذا لا أتقدَّم أنا للأمام؟
قال «عثمان» مبتسمًا: لأنهم لا يَرَوْنني في الظلام … وهذه ميزةٌ لمفاجأة الخصم.
ووصلا إلى مدخل الباب السري … كان الغصن محطمًا، ولكنه أبقى الباب مفتوحًا … وكان واضحًا أنه يفتح إلى أعلى. ومد «عثمان» يديه إلى فتحة الباب ثم استجمع قوة عضلاته مرة واحدة ورفع الباب الذي أخذ يرتفع تدريجيًّا … بينما «زبيدة» تمد فوهة المدفع في اتجاه الباب بانتظار أية مفاجآت.
ولكن الباب انفتح دون أن يحدث شيء … كانت فتحة ترتفع عن الأرض حوالي متر فقط، فانحنى «عثمان» ونظر إلى الداخل … كان أمامه دهليز طويل مضاء إضاءة خافتة … ولم يكن فيه أحد … وأشار إلى «زبيدة» ودخلا معًا … وحسب التدريبات سار كلٌّ منهما بجوار جدار … وتقدَّما بحذرٍ … وبين فترة وأخرى كانا يقفان ويستمعان … ثم يمضيان حتى وصلا إلى نهاية الدهليز … فوجدا دهليزًا آخر يتقاطع معه … فوقف «عثمان» ملتصقًا بالجدار ونظر … كان الدهليز الثاني أقصر من الأول … وكان ثمة عددٌ من الرجال يفرغون شحناتٍ من صناديق صغيرة ويرصفونها بجوار الجدار … همس «عثمان» ﻟ «زبيدة» بما يرى ثم قال: سننتظر ونرى ما يحدث.
وظلَّا واقفَيْن … وكانت «زبيدة» تفكِّر في نفس الشيء الذي يفكِّر فيه «عثمان»: أين «ريما» و«باسم» في هذه الدهاليز … وما هي هذه الشحنات … هل هي رزم من الأوراق المالية المزيفة … وهل تُعد للترويج في لبنان؟
ومضَتْ فترة وانتهى الرجال من عملهم وسمعهم «عثمان» و«زبيدة» وهم يتحدثون … ثم اختفوا من نهاية الدهليز.
وتقدَّم «عثمان» وخلفه «زبيدة» على حذرٍ إلى حيث كانت الصناديق … لم يكن عليها أي إشارةٍ عمَّا تحوي … وانحنى «عثمان» … على الشحنات المفرغة بجوار الحائط، ولم يكد يمسك لفةً منها حتى قال: متفجرات.
زبيدة: شيء غريب!
عثمان: هل ينوون القيام بعمليات تخريب في لبنان؟
زبيدة: أو ينسفون هذا المنزل حتى لا يعرف أحدٌ ماذا كان يدور فيه؟
عثمان: شيء محتمل … ومعناه موت «ريما» و«باسم» … تحت الأنقاض؛ ولهذا يجب أن نتصرَّف بسرعة.
حيث يقفان … كان هناك سلم يصعد من الدهليز إلى أعلى … ولم يتردد «عثمان» … وأخذ يصعد الدرج على مهل وخلفه «زبيدة». كان في نهاية السلم باب على اليمين … يخرج منه خيط من الضوء، وأصوات أشخاص يتحدَّثون.
وقف «عثمان» وأشار ﻟ «زبيدة» أن تقف حيث هي وأخذ ينصت … كانت ثمة حديث متصل عن عملية معينة اسمها «براكودا» رقم «٧» … وكان أحد الأشخاص يرفع صوته أكثر من الآخرين قائلًا: لقد اخترنا لبنان للعملية رقم «٧» وهي خاصة ﺑ «موريلِّي» … فإذا نجحَت هذه العملية فسوف نقوم باقتسام الأرباح كل على أربعة … بعد أن مات «يوشيرو» و«جافين» و«سلامندر» … وكل واحدٍ من الأربعة الباقين سوف يعطي أعوانه المبالغ التي يستحقونها.
قال رجل آخر: وماذا بعد براكودا «٧»؟
رد صاحب الصوت المرتفع: لقد كان اتفاقنا على سبع عمليات … أتممنا ستة بنجاح وهذه هي السابعة … فإذا شئتم أن نبدأ من جديد فليس عندي مانع وسوف تكون مصر هي المكان الملائم للعمليات الجديدة.
صوت: براكودا أيضًا؟!
صاحب الصوت المرتفع: … سوف نبحث عن اسم آخر … فإنني أعتقد أن «كوستا» كان يعرف بعض الأشياء عن عمليات «براكودا» السبعة. ولعل هؤلاء الشبان يعرفون شيئًا عنها.
صوت: إننا لم نتحدث عن هؤلاء الشبان … من الذي وضعهم في طريقنا؟ وهل هم خطرون بحيث يجب إزالتهم عن طريقنا … أم من الممكن التفاهم معهم؟
صاحب الصوت المرتفع: إنهم في منتهى الصلابة … وها هم اثنان منهم يموتان غرقًا دون أن ينطقا بكلمة واحدة … والمهم بالنسبة لنا أنهم ليسوا على علاقة بالشرطة … ويبدو أنهم ينتمون إلى منظمةٍ من منظمات العالم السفلي تحاول ابتزازنا.
سمع «عثمان» هذا الحوار وأحس بقلبه يسقط بين قدميه … لقد مات «باسم» و«ريما» غريقَيْن ولا بد من انتقامٍ عاجلٍ … وشامل … ورهيب!