الضرب تحت الحزام
كان على «عثمان» أن يتخذ قرارًا سريعًا … هل هو الهجوم حالًا على المجموعة التي في الغرفة؟ هل هو الانتظار؟ هل هو العودة بالمعلومات إلى مقر الشياطين وإخطار رقم «صفر» والاتفاق مع الشرطة اللبنانية؟
إن اقتحام الغرفة وبها عدد لا يقل عن خمسة أشخاص ليس مهمة مضمونة النتائج، والعودة إلى مقر الشياطين قد يعطي الفرصة لهؤلاء بالهرب أو الاختفاء عن الأنظار … ورغم الآلام الهائلة والغضب الهائج الذي كان يعصف ﺑ «عثمان» فقد قرَّر أن ينتظر لحظاتٍ أخرى قبل تحديد الخطوة التالية.
سمع أحد الرجال يقول: أعتقد أن الرجلَيْن قد وصلا الآن إلى السفينة، وأنها أبحرَت وفي إمكاننا أن نذهب إلى «بيروت»؛ فقد ضقت ذرعًا بالبقاء في هذا السجن.
ضحك بقية الرجال وسمع «عثمان» أصوات قيامهم، فأسرع ينزل السلم، ومعه «زبيدة»، واختفى تحت السلم وهو يفكر بسرعة فيما ينبغي عمله … بينما وقفت «زبيدة» وقد وضعت يدها على زناد المدفع في انتظار تطورات الأحداث.
كان تفكير «عثمان» منطقيًّا: «فلا بد أن الرجال سيتركون حراسًا في المكان.» وفي إمكانه مع «زبيدة» أن يتغلب عليهم … وأن يعرف … وأحس بالدم يندفع إلى رأسه … إنه يريد أن يعرف كيف مات «ريما» و«باسم».
مرَّت فترةٌ طويلةٌ دون أن يظهر أحد في الدهاليز التي لم يشك «عثمان» أنها تحت مستوى البحر … وأنها قديمة منذ بناء المنزل، ولكنها تستخدم الآن لأغراض مثيرة للشبهات … وقرَّر «عثمان» أن يتحرك. وخرج هو و«زبيدة»، وعادا للصعود على السلم حتى وصلا إلى باب الغرفة المضاءة و«زبيدة» شاهرة مدفعها … كان في الغرفة رجلٌ واحد، قد وضع أمامه على المائدة مسدسًا، ووضع قدميه على المائدة، وذراعيه خلف رقبته، مستلقيًا في هدوء.
نظر الرجل إلى «زبيدة» كأنها شبحٌ قد أتى من عالمٍ خرافي … ثم أخذ يتمالك نفسه ويمد يده للوصول إلى المسدس، ولكن «زبيدة» صاحَت به: أنصحك ألَّا تفعل.
وفي تلك اللحظة مرق «عثمان» من الباب ووقف أمام الرجل وقال: إننا نريد اختصار الحديث معك … لنا صديقان دخلا هنا منذ نحو أربع ساعات … ونحن نريد الوصول إليهما … وأي محاولةٍ للإنكار …
وصمت «عثمان» فقال الرجل وهو يبلع ريقه: لقد ماتا.
عثمان: وأين هما؟
الرجل: في غرفةٍ تحت الأرض تمتلئ بمياه البحر بواسطة رافعة معينة …
عثمان: إذن هيا فورًا.
وقام الرجل، ودهش «عثمان» للبساطة التي أجاب بها … ولكن الرجل كان يفكر في شيءٍ آخر … فقد كان هناك ثلاثة حراس آخرون في المنزل … أحدهم قريب من غرفة الموت، وسيكون من السهل التغلُّب على هذين الفتيين سريعًا.
ومشى الرجل أمامهما … كان ضخم الجسم، متثاقل الخطو … وسار خلفه «عثمان»، وقد دس المسدس الذي أخذه من فوق المائدة في حزامه … وأمسك بكرته الجهنمية في يده … وسارت خلفه «زبيدة» شاهرةً المدفع … ونزلوا السلم. ثم أخذوا الاتجاه الآخر للدهليز … واستطاع «عثمان» أن يميز بأذنَيْه المرهفتَيْن أنهم قريبون من البحر … فقد كان صوت هديره واضحًا وكان يتدفَّق تحتهم … ثم لاحظ أيضًا أن الرجل يبطئ في خطوه، وأنه يسعل باستمرار … رغم أنه لم يكن يسعل من قبل … وأدرك على الفور أن الرجل يحاول أن يُعطي إشارة لشخصٍ ما … فمد يده وأمسك الرجل من ذراعه وجذبه إلى الخلف … وكانوا قد اقتربوا من انحناءةٍ في الدهليز … وتقدَّم «عثمان» بهدوءٍ والتصق بالحائط، ونظر … كان ثمة حارسٌ يتمشَّى في الجانب الآخر من الدهليز وينظر في ساعته … واستعد «عثمان» وأدار كرته المطاطة الجهنمية بضع مراتٍ في يده، ثم مرق إلى مدخل الدهليز وأطلق الكرة كالقنبلة، فأصابت الرجل في وجهه وسقط على الأرض … وفي تلك اللحظة سمع خلفه صوت صراع … فالتفت ووجد «زبيدة» والرجل مشتبكَيْن في صراع عنيف كل منهما يحاول الوصول إلى المدفع الذي يبدو أنه سقط لسبب لا يعرفه من «زبيدة»، كان في إمكان «عثمان» أن يتدخل، ولكنه اكتفى بالمشاهدة … وكان يرقب أثر التدريب العنيف الذي مروا به جميعًا في الكهف السري … وسرعان ما استطاعَتْ «زبيدة» أن تقفز برشاقةٍ إلى فوق … ثم تصنع من ساقيها مقصًّا على رقبة الرجل الذي سقط على الأرض وقد احتقن وجهه … وأخذت «زبيدة» تضغط، ولكن «عثمان» أشار إليها أنهما في حاجةٍ إلى الرجل ليدلهما على مكان «باسم» و«ريما» حيث غرقا.
وعادَت «زبيدة» إلى الوقوف … وأمسكت بالمدفع، ولم يكن الرجل في حاجة إلى تهديد؛ فقد وقف يلهث محاولًا استرداد نفسه، وقد أدرك أنه إزاء خصمَيْن عنيدَيْن. وقالت «زبيدة»: لقد انتهز فرصة مراقبتي لك وأنت تقف إلى مدخل الدهليز وضرب المدفع من يدي … وأشارت إلى كدمةٍ حمراء على ذراعها.
كان الوقت الذي يمضي ثمينًا جدًّا … وكان «عثمان» يدرك ذلك … فقد يكون الرجل قد أخطأ التقدير و«ريما» و«باسم» لم يغرقا … أو قد وصلا إلى حد الغرق ولم يموتا. كانت آمالًا خافتة … ولكن «عثمان» كان متمسكًا بها من أجل صديقيه.
سار الرجل أمامهما في الدهليز … ووصلوا إلى حيث كان الحارس الذي ضربه «عثمان» بكرته التي لا تخطئ … وكان منطرحًا على وجهه … وشاهد «عثمان» الذراع … التي بالحائط وأدرك كل شيء فصاح بالرجل: هذه الذراع … هل تفتح بابًا على البحر يسمح بدخول المياه في الدهليز والغرف التي به؟
لم يُجب الرجل … لقد كان يأمل أن يتغلَّب بقية الحراس على هذَيْن الشابَّيْن … ولم يكن على استعدادٍ الآن للإجابة … ولم ينتظره «عثمان» وانقض على الذراع يُديرها إلى الناحية الأخرى … وسرعان ما انفتح الباب، وانطلقت منه المياه هادرة تجري في الدهليز كالثعبان … وخاض «عثمان» المياه غير مبالٍ، ولكنه قبل أن يصل إلى الغرفة، شاهد «ريما» و«باسم» تقذفهما المياه المتدفقة خارج الغرفة.
انقض «عثمان» على «باسم» ورأى وجهًا غريبًا يطالعه … وجه شخص ميت ولكن الأنفاس ما زالت تتردد في صدره … ثم نست «زبيدة» واجبها في مراقبة الرجل وأسرعت هي الأخرى إلى «ريما» … كان وجهها منتفخًا … ولكن أنفاسها الواهنة ما تزال تتردد …
صاح «عثمان»: «باسم»!
وصاحت «زبيدة»: «ريما»!
كانت لحظات لقاء مؤثرة … وكان «باسم» و«ريما» مُجهدَيْن ولم يكن هناك وقتٌ للحديث، لقد هرب الرجل، وتوقَّع «عثمان» على الفور أن هجومًا سيقع فورًا … فترك أمر العناية بالصديقَيْن إلى «زبيدة» وأسرع إلى طرف الدهليز … وكانت المياه ما تزال تتدفق وقد ارتفعت إلى نحو ربع متر في الدهليز.
لم يكن «باسم» ولا «ريما» قد أُصِيبا بأي شيءٍ سوى الإجهاد وهما يُقاومان الغرق، ويُحاولان الطفو فوق المياه التي ملأت الغرفة … وقد استطاعا التمسُّك بالحياة حتى اللحظات الأخيرة، وقالت «ريما» وهي تحدث «زبيدة»: … عندما فتحتما الباب كنت قد بدأت أحس بقواي تخور … وبالإغماء، وأنني أغوص في المياه …
أسرع «باسم» يلحق ﺑ «عثمان»، وسرعان ما ظهر الحراس يحملون المدافع الرشاشة … كانوا ثلاثة ومعهم الرجل الذي كان مع «عثمان» و«زبيدة» … وكان «باسم» قد أخذ المدفع من «زبيدة» … قبل أن يبتل بالمياه، وكان ممتلئًا غيظًا وسخطًا رغم إحساسه بالوهن، فلم يتردد وأطلق مدفعه في وجوه الرجال الأربعة … أما «عثمان» فقد أطلق كرته الجهنمية وسقط أحد الأربعة، ثم أخرج المسدس من حزامه، وأخذ يطلقه …
سقط اثنان من الحراس في المياه … وبقي الرجل الذي هرب وأحد الحراس … وكانت المياه المتدفقة تخل بتوازن الجميع، فبدوا وكأنهم يرقصون في المياه … وأدرك «عثمان» أن التصويب من بعدٍ مع هذا الاهتزاز لن يُجدي، فاندفع بجوار الحائط، وتبعه «باسم» فأدار الرجلان ظهريهما لهما وأسرعا بالفرار … ولكن الصديقَيْن كانا أسرع وأخف، فاستطاعا اللحاق بهما، وقبل أن يلتفت الحارس الذي يحمل المدفع الرشاش، كان «باسم» قد انقضَّ عليه ووجَّه له لكمةً أسقطَتْه في المياه، ثم انحنى عليه ورفعه … وضرب رأسه في الحائط ضربةً واحدةً سقط على إثرها، أما «عثمان» فلم تكن مهمته متعبة … فقد قفز في الهواء على الرجل الضخم وركب على كتفيه، ثم أدار وجهه وضربه ضربةً واحدة، بسيف يده على عنقِه فسقط كالثور المذبوح في المياه.
قال «باسم» وهو يبتسم لأول مرة في تلك الليلة: إنني لم أشفِ غليلي بعد من هؤلاء الأشرار … فقد أسروني مرتين … ولا بد أن أرد لهم الصاع صاعين مهما كانت الأسباب.
قال «عثمان»: إن المياه ستغمر المكان، هيا بنا.
وكان «ريما» و«زبيدة» قد لحقتا بهما … وأسرع الجميع يغادرون المنزل … ثم استقل «عثمان» و«ريما» سيارة، و«زبيدة» و«باسم» سيارة، وانطلق الجميع في طريقهم إلى بيروت.
كانت الليلة حالكة الظلام … ولكن السيارتان مضتا بسرعةٍ كبيرة … كان عند الأربعة من المعلومات ما يستحقُّ أن يصلَ فورًا إلى رقم «صفر» خاصةً صناديق الديناميت … واحتمال أن يكون هناك عمليات تخريب … وأخذت «ريما» تروي ﻟ «عثمان» ما حدث عندما دخلت غرفة الموت: أدركت أنني انتهيت فعلًا؛ فقد كانت المياه ترتفع في الغرفة بسرعة مخيفة … وفي البداية حاولنا أن نسد الفتحة العريضة … ولكن كان ذلك مستحيلًا … وبدأت المياه ترتفع بسرعةٍ وأخذنا أنا و«باسم» ننظم تنفُّسنا … كنا نريد الاحتفاظ بأعصابنا ثابتة … وكل نسمة هواء يمكن أن نتنفَّسها … وقد أفادنا ذلك كثيرًا … ولولاه لغرقنا قبل أن تصلا أنت و«زبيدة» بمدةٍ طويلة …
وسكتت «ريما» لحظات ثم مضَتْ تقول: إن «باسم» ولدٌ ممتاز … لقد كانوا يتحدثون إلينا بالميكريفونات لإغرائنا بالحديث عن حقيقتنا … وإلى أي المنظمات ننتمي … وأعترف لك أني فكرت أحيانًا أن أعترف … فقد كان نَفَسي يضيق وكنت أحس بالموت يتسلَّل إلى جسدي … ولكن «باسم» ظل صامدًا … وعندما أوشكت على الإغماء، وأحسست أن النهاية تقترب، مددت يدي إليه وأمسكت به في الظلام فأخذ يشد على يدي مشجعًا.
قال «عثمان»: إن القضية كما أعتقد أكبر مما نتصوَّر بكثير … إنها عملية تزييفٍ خطيرة تشمل عملات دول كثيرة … من بينها «لبنان» ومن بعدها «مصر» ولعل بعد «مصر» بقية الدول العربية.
وفي تلك اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان … ظهر في وسط الطريق أمام السيارة المسرعة جِذْع شجرة ضخم يسد الطريق … وضغط «عثمان» على الفرامل بكل قوته وتبعته «زبيدة» في السيارة الثانية … وانهمر الرصاص عليهم من جانبي الطريق.