شوكار في دار النساء
ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند أبي بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهي في حرب دائمة معه؛ لأنه يريدها لغير الغناء وهي تأبى ذلك، ولا سيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصي عابد البصري رسولها إليه الذي كتبه وهو نافر من سعاية سلافة في شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده تمسكًا بحبها، فكتب إليها كتابًا ضمَّنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب المذكور وهي في حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتَّى أدخلت عابدًا في خدمته لعلها تحتاج إليه في شيء بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذي أعانها في الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال فيه. ثم بعث المستعصم في طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت.
وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التي كانت مرسلة إلى الخليفة واختطفها اللصوص قد وجدت وجيء بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل عمَّن تجمَّع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان في قصور النساء هناك مئات من السراري والجواري على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنَه عن شوكار، وقد اختلفت الروايات في شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها، وغير ذلك مما تُصوِّره المخيلة في مثل تلك الحال.
وكان أكثر النساء اهتمامًا بأمرها المغنيات؛ لأن شوكار قادمة لمناظرتهن في عملهن، فاجتمعن وتحدثن في أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعي في الناس، وبخاصة في ذلك العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث؛ إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمي ولا أدبي، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما همهن كله هذه الأحاديث والمباراة في التبرج لاجتذاب قلوب الرجال.
وأول من لقيَتْه شوكار هناك أستاذ الدار — رئيس الخصيان — أخذت إليه وهو متصدر في غرفته فقبَّلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهي في تلك القصور، وذو نفوذ كبير في الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز في زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها، أمر بتدوين ذلك في أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء.
ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار، وهي كهلة رهلة، قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهي في تلك الدار كالملكة، ليس في الجواري والسراري من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار وهي مطرقة حياءً لكثرة من لقيتهم في طريقها من الخصيان والجواري وقوفًا في الدهاليز والأبواب يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها الفاخر. فمشت نحوها حتَّى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة في مثل تلك الحال، لو تُلِيَت على إنسان لم يألفها لَظَن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيًا في مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا معنى لها، أو أن لها معنًى يناقض أصل المراد بها.
فاستأنست شوكار ونظرت إلى ما في تلك الغرفة من الرياش الفاخر، وتأملت حال أهل ذلك القصر من الرخاء والنعيم، فأوشكت أن تُؤْثِر المقام هناك على الاجتماع بركن الدين. ثم نادها قلبها فأصغت إلى ندائه، ولسان حالها يقول: «ليست السعادة بالرياش والمجوهرات وإنما هي في الحب.» ثم سمعت القهرمانة تنادي بعض الخصيان وتأمره أن يهيئ لمغنية الخليفة غرفة فيها كل أسباب الراحة. والتفتت إلى شوكار وقالت: «تمكثين هنا ريثما تتهيأ الغرفة كما يليق بها، إني في انتظار قدومك من أمد طويل، وقد شُغل بالُنا خوفًا عليك، فنحمد الله على سلامتك.»
فأجابتها شوكار شاكرة وقالت: «إني لا أستحق هذا الالتفات يا سيدتي، ما أنا إلا جارية حقيرة.»
فأجابتها القهرمانة — أو القيِّمَة — وهي تضحك: «أنت تظنينني لا أعرفك قبل الآن، ولكنني أعرفك من عهد بعيد، وأعرف كل شيء عنك، عرفت ذلك من صديقتي قهرمانة الملك الصالح صاحب مصر، رحمه الله. أتعرفينها؟»
فتذكرت سلافة وما بينها وبين سيدتها شجرة الدر من المنافسة، ولم تكن تعرف لها هذه المنزلة لدى قيِّمة قصور الخليفة فقالت: «أظنك تعنين سلافة، نعم أعرفها يا سيدتي ولم أكن أظنها تعرفني.»
قالت: «بالعكس، إنها تعرفك جيدًا، وهي التي لفتت انتباهي إلى رخيم صوتك، وأنك تليقين بمجالسة مولانا أمير المؤمنين، فأشرتُ على مولانا باستقدامك، فطلبك من سلطان مصر كما تعلمين.»
فأحست شوكار بفضل سلافة عليها، ولكنها كانت تفضل الخروج من ذلك القصر، غير أنها نظرت في الأمر من حيث قصدها فقالت: «الحقيقة أن حسن ظن السيدة سلافة مِنَّةٌ كبرى يجب أن أشكرها عليها، ولو عرفت ذلك لشكرتها وأنا في مصر.» قالت: «ويمكنك أن تشكريها هنا.» قالت: «وهل هي هنا الآن؟» قالت: «هي هنا منذ بضعة أيام.»
•••
استغربت شوكار هذه المصادفة، وبان البِشر في محياها، وسبق إلى ذهنها حسن الظن، وتصورت أن وجود سلافة هناك سيكون أكبر تعزية لها ريثما تستطيع التخلص، وخُيِّل لها أن سلافة ستكون عونًا كبيرًا لها في ذلك، فقالت: «لله ما أسعد حظي! أين سيدتي سلافة حتَّى أقبل يدها وأشكر لها صنيعها؟»
قالت: «سترينها بعد قليل، وقد سألت عنك ساعة وصولها من مصر، فأخبرتها عن ضياعك فتأسفت، ولما جاءتنا البشارة الآن بوجودك أخبرتها، ففرحت فرحًا عظيمًا، وهي آتية الساعة … هذه جاريتها قادمة … أين سيدتك يا أقحوانة؟»
فأجابت الجارية: «إنها في غرفتها يا مولاتنا، وقد بعثتني لأدعو القادمة الجديدة إليها لتتمتع برؤيتها، فإنها في شوق إليها.»
فضحكت القهرمانة حتَّى بانت بقايا أسنانها وما يتخللها من الفراغ في أماكن الأسنان المقلوعة وقالت: «هل تريد أن نرسلها إليها لتراها قبل أن يراها أمير المؤمنين؟»
فقالت الجارية: «هذا ما قالته مولاتي، والأمر لك.»
قالت: «لا بأس. إن ضيفتنا شوكار ذاهبة معك لِلِقاء صديقتنا سلافة؛ لأنها في شوق لرؤيتها وتقديم شكرها لها. وقولي لها ألا تطيل المقام؛ فلا بد من إرسالها إلى الماشطة بعد قليل لإصلاح شأنها بحيث يليق بها الجلوس بين يدي مولانا الليلة لسماع صوتها الرخيم، ولا أظنه يصبر على الانتظار إلى الغد. قومي يا شوكار إلى سلافة، وأحب أن تستأنسي بنا وتثقي بي، فإنك كإحدى بناتي.»
فنهضت شوكار ومشت في أثر الجارية أقحوانة، وهي تمر من ممر إلى ممر، والغرف على الجانبين، وشعرت أن في تلك الغرفة أناسًا يتشوقون إلى رؤيتها، نعني الجواري أو السراري، فترى الأبواب بين مفتوح ومشقوق، والرءوس تطل لمشاهدتها ثم ترجع خلسة، حتَّى وصلت إلى غرفة سلافة، فتقدمتها أقحوانة وأعلمت سيدتها بمجيء شوكار. فلما أطلت شوكار على مجلس سلافة، تصاعد الدم إلى وجهها خجلًا وفرحًا؛ إذ شعرت بأن هذه السيدة أرادت الإحسان إليها بإرسالها إلى بيت الخليفة، وإن كان ذلك لم يوافق حالها. فلما شاهدتها سلافة مقبلة نهضت لها وتقدمت لاستقبالها ببشاشة وترحاب زادا الفتاة خجلًا؛ لأنها تعرف منزلة تلك السيدة في قصر الملك الصالح بمصر وقصور المستعصم في بغداد، فأكبرت تواضعها وعطفها وأكبَّت على يديها تريد أن تقبِّلها، فمنعتها من ذلك وهي تقول: «مرحبًا بالعزيزة شوكار، وأشكر الله أن رأيتك في هذا القصر؛ فقد طالما تمنيت لك هذه السعادة. هل أنت مسرورة يا شوكار؟» وأومأت إليها أن تقعد على وسادة بجانبها، فجلست شوكار وهو تقول: «أشكر لك غيرتك وفضلك يا سيدتي. إني في سعادة بحمد الله و…»
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «ولكن ساءني أنهم اختطفوك في أثناء الطريق، واليوم عرفت سبب ذلك، فالحمد لله على سلامتك. كم أنا مسرورة بلقياك، ومهما يكن من حظوتك بالقدوم إلى بغدد والمكوث في دار الخليفة، فإن الخليفة أكبر حظًّا منك بالحصول على مغنية ليس في العراق ولا مصر أرخم صوتًا منها.»
فأطرقت شوكار وعيناها ولسانها ينطقان بالشكر، وقلبها ينكر ذلك الفضل؛ لأنها كانت تُؤْثر البقاء بقرب ركن الدين، ولو في سجن، على وجودها بعيدة عنه في قصر الخليفة.
ولم تكن سلافة تجهل ذلك، لكنها خاطبتها بما قد تتوقعه منها؛ لأن شوكار لم تكن تعلم شيئًا مما دار بين حبيبها ركن الدين وهذه المرأة، ولو علمت الغرض الذي حملها على المجيء إلى بغداد لاقشعر بدنها وكرهت النظر إليها، فإن سلافة قد تركت مصر بعد حديثها مع ركن الدين الذي غادر دارها وقد أغضبها لأنه لم يطعها فيما أرادته منه، فتركته واقفًا ومشت بعد أن رَمَتْه بنظرة كالسهم وقالت: «سِرْ بحراسة الله، سِرْ إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب عبثًا.»
قالت ذلك يومئذٍ وقد أثار بإعراضه نقمتها منه، وانقلب حبها بغضًا، ولكنها رأت أن تتربص عساه أن يرجع إلى صوابه ويتحول عن حب شوكار، وإلا عمدت إلى أذاه. وما زالت تبث الجواسيس لاستطلاع مقاصده حتَّى علمت عزمه على السفر إلى بغداد، فأسرعت إليها لتستقصي أخباره وترى ما يكون من أمره. وكانت قد سمعت بضياع شوكار، فلما عادت وجدتها حية أخذت تفكر في حيلة أخرى، وهي تعتقد أن وجود هذه الفتاة حية يقف في سبيل غرضها. ومن أخلاق هذه المرأة إقدامها على عظائم الأمور، بلا دهاء أو تدبير سابق يضمن نجاحها؛ فإذا خطر ببالها أمر أقدمت عليه.
فلما سمعت شكر شوكار لها، وعلمت حسن نيتها، وأنها لا تعلم بما دار بينها وبين ركن الدين، استسهلت تنفيذ بغيتها، فأظهرت أنها مسرورة جدًّا بلقياها، وخطر لها أن شوكار قد تفضِّل البقاء في دار الخليفة على الاقتران بركن الدين، فأحبت أن تستطلع رأيها في ذلك فقالت لها: «يظهر أنك نسيت مصر وأهلها، لك حق؛ فإن المقيم في هذه القصور بجوار أمير المؤمنين لا تخطر مصر بباله.» قالت ذلك وجعلت تتفحص ما يبدو منها، فتحيرت شوكار بماذا تجيبها، والمحب حريص على سرِّه لا يفشيه إلا لمن يعتقد إخلاصه وصدق مودته، وقد سبق إلى ذهنها أن سلافة تحبها، بدليل سعيها لها في هذه النعمة بما لها من النفوذ في تلك الدار، فتصورت أنها إذا شكت إليها حقيقة حالها فربما ساعدتها على التخلص من بغداد والرجوع إلى مصر، فترددت في الجواب، وبان التردد في عينيها، ولحظت سلافة ذلك فيها فقالت لها: «ما بالك لا تتكلمين يا حبيبتي؟ قولي، يظهر أنك تستحين منِّي أو لا تثقين بي.»
فخجلت شوكار من هذا التوبيخ وقالت: «كلا يا سيدتي، إني أقدر تنازلك حق قدره، ولولا حبك لي لم تسعي لي في هذه السعادة، ولكن …» وسكتت.
فقالت سلافة: «ولكن ماذا يا شوكار؟ ألم أقل لك أنك لا تثقين بي؟»
قالت: «العفو يا سيدتي، لكنني أستحي أن أقول ما في خاطري لئلا تضحكي مني …»
قالت: «أضحك منك؟ لماذا؟ فأطرقت وقد توردت وجنتاها وجعلت تتشاغل بطرف جديلتها تلفها على سبابتها، ثم قالت: «إن الإقامة في هذه القصور تشتهيها كثيرات، وربما حُسِدْنَ عليها، لكنني أفضِّل الرجوع إلى مصر.»
فأظهرت سلافة الاستغراب وقالت: «ترجعين إلى مصر؟! وما الذي خلفتِه هناك؟ إلا أن تكوني مخطوبة لأحد. حتَّى هذا فإنك تجدين بدلًا منه في بغداد، وإذا سمع الخليفة غناءك ومهارتك في ضرب العود، فربما أَصَبتِ نصيبًا لا يتيسر لك مثله في مصر.»
فقالت شوكار بكل بساطة وإخلاص: «ليست السعادة في قربي من الخلفاء ولا بالتزوج من أمير أو شريف، وإنما هي في الحب المتبادل.» قالت ذلك وتورد وجهها حياءً، فحولته إلى ستارة معلقة بالحائط عليها صور بعض الطيور وتشاغلت بالنظر إليها.
فابتدرتها سلافة قائلة: «إذا كنت عالقة القلب ببعض الشبان في مصر فاحذري ولا تنخدعي. قد يكون ذلك الشاب حينما علم بسفرك تزوج غيرك. وهَبِي أنه تزوجك، فليس أسهل على الرجال من الطلاق. لا تثقي بأحد منهم، أقول لك هذا عن اختبار.»
فابتسمت شوكار ابتسام النصر لثقتها بحبيبها وقالت: «إن الشاب الذي أحبه على خلاف ما تقولين، وأنا واثقة من ثباته على حبي. وقد يأتي إلى هذا البلد لإنقاذي.»
فضحكت سلافة باستخفاف لتحمل شوكار على التصريح بما في قلبها، وهزت رأسها هز الإنكار وسكتت، فقالت شوكار، «أؤكد لك يا سيدتي أن خطيبي هو كما أقول لك، ولو عرفتِه لوافقتِني على رأيي.»
فأحبت سلافة أن تتبع الحديث إلى آخره فقالت: «ما اسمه؟» وأخذ قلبها يخفق لعلمها بالجواب قبل سماعه.
فقالت شوكار: «هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، ولا شك أنك تعرفينه، فهل أُلام على حبه؟» قالت ذلك وأبرقت عيناها، وأكبت على يد سلافة تقبلها وهي تقول متضرعة: «بالله يا سيدتي ساعديني، فليس في الدنيا أحد يقدر أن يحقق لي هذه الأمنية سواك. أنت جئت بي إلى هذه المدينة، وأنت وحدك تقدرين على إرجاعي إلى مصر.» وشرقت بدموعها.
وكانت سلافة حالمَا سمعت اسم ركن الدين قد هاجت عواطفها وزادت نقمتها ويئست من النجاح في هذا السبيل، فتظاهرت بالحنان عليها وتلطفت إليها وقالت: «نعم أعرف الأمير ركن الدين، وهو من خيرة الأمراء، وإذا كنت على ثقة من حبه فإني أبذل جهدي في مساعدتك لأني أحببتك كثيرًا ولا غرض لي إلا راحتك وسعادتك.»
فلما سمعت شوكار كلامها اعتقدت صدقه، فاختلج قلبها في صدرها من الفرح وقالت وهي تضحك: «صحيح؟! صحيح ما تقولين؟! ترجعينني إلى مصر؟! شكرًا يا سيدتي، أسرعي في إنقاذي؟» وهمت بتقبيل يدها، فمنعتها وضمتها إلى صدرها تحببًا. ولو علمت شوكار بما يكنُّه ذلك الصدر نحوها لأجفلت وتراجعت، لكنها صدَّقت واعتقدت قرب الفرج.
أما سلافة فقالت: «يصعب إنقاذك سريعًا، وأنت لم يمض عليك يوم بقصر أمير المؤمنين الذي أمر بإصلاح شأنك ليسمع صوتك في هذه الليلة، كوني مطمئنة، إني لا أدخر وسعًا في إجابة طلبك، ولا بد من حيلة أدبرها لك.»
فأحست شوكار بارتياح كثير، وعولت في نجاتها على سلافة، وشكرت الله لالتقائهما.
•••
والتفتت سلافة إليها بلهفة كأنها استدركت شيئًا فاتها، أو أنها وفقت إلى رأي جديد وقالت: «اسمعي يا عزيزتي، إذا لم يكن بد من الرجوع إلى مصر، فالأوفق أن نبدأ بالسعي من هذه الساعة، أما بعد أن يسمع أمير المؤمنين صوتك فسيصبح الخروج صعبًا.»
فتأكد لدى شوكار صدق رغبتها في إنقاذها فقالت: «وما هو الرأي يا سيدتي؟ إني رهينة إشارتك، أفعل ما تأمرين به.»
قالت: «أرى أن تبدئي من الآن فتشكي من صداع في رأسك وألم في حلقك، وأنا أرفع خبر ذلك إلى القهرمانة وأقنعها بصحته، ثم أحتال في نقلك إلى قصر آخر أهداه إليَّ الخليفة لأقيم فيه على مقربة من قصر التاج، ومتَى صرتِ هناك هان إنقاذك.»
فخدعت شوكار بهذا القول، واستبشرت به، ورأت فيه سبيلًا لعودتها إلى حبيبها ركن الدين، فانحنت على قدمَي سلافة تحاول أن تقبلهما وقالت: «شكرًا لك يا مولاتي، شكرًا لك، إني أشعر بالصداع من الآن.» فتناولت سلافة منديلًا عصبت به رأسها، وصفقت فجاءتها أقحوانة وهي تقول: «إن مولاتنا القهرمانة استبطأت شوكار فبعثت في طلبها لأن أمير المؤمنين آتٍ بعد قليل.»
فقالت: «انظري، إنها مريضة تشكو صداعًا شديدًا وألمًا في حلقها، وقد تعبت في معالجتها، فالأحسن أن تعتذر القهرمانة إلى أمير المؤمنين من غيابها ريثما تشفى.» فذهبت أقحوانة إلى القهرمانة بالخبر، فأسرعت هذه لمشاهدة شوكار وهي تقول بصوت جهوري خشن: «كيف ذلك؟ مولاي الخليفة يأتي بعد قليل، وقد قضى زمنًا طويلًا في انتظار هذه المغنية، فكيف تمرض في ساعة وصولها؟»
ولما وصلت إلى غرفة سلافة رأت شوكار مستلقية على الأرض وهي تصيح من شدة الألم وقد تغير لونها، فلم يسعها عند رؤيتها إلا الإشفاق عليها، ونظرت إلى سلافة فرأتها شديدة الاهتمام بها والحنو عليها فقالت لها: «أحب أن أنقل هذه المسكينة إلى دار المرضى ليعودها الطبيب ثم …»
فقطعت سلافة كلامها قائلة: «لا، لا تنقليها إلى مكان، دعيني أهتم بأمرها. دعي ذلك لي …» قالت ذلك وهي تهتم بتغطية شوكار وتلمس جبينها وخديها ثم قالت: «دعي أمرها لي، وإذا اقتضت الحال نقلها، نقلتُها إلى قصري؛ لأن موقعه يساعد على سرعة شفائها.»
فعادت القهرمانة وهي تهيئ الأعذار للخليفة لتخلف مغنيته بعد أن منَّى نفسه بها على أثر انتظاره الطويل للحصول عليها، وقبل وصولها إلى غرفتها جاءها رسول الخليفة يدعوها إليه، فذهبت مهرولة إلى غرفته، فوجدته يعد نفسه للذهاب إلى المنظرة، وقد أخذ يلبس ثياب المنادمة. فلما وقع بصره عليها صاح بها: «أين المغنية الجديدة؟ لقد ظفرنا بها بعد طول الانتظار، والحمد لله. هل جربت صوتها؟ هل أسمعَتْك إياه؟ يقولون إنها أرخم النساء صوتًا وأتقنهن صنعة. قد آن لي أن أستريح من مهام الدولة ومتاعبها، سامح الله أبا بكر، إنه سبب هذه المتاعب كلها.» واسترسل المستعصم في الكلام وهو واقف والخادم يساعده على لبس الغلالة ولف العمامة الصغيرة، والقهرمانة واقفة تنتظر سكوته لتجيبه على أسئلته. فلما سكت قالت: «إن جاريتك شوكار مريضة الآن.»
فصاح فيها: «مريضة! لقد رأيتها اليوم في عافية. متَى مرضت؟»
قالت: «كانت في خير، لكنها أصيبت منذ ساعة بصداع شديد كاد يقتلها، وقد اهتمت جاريتك سلافة بأمرها.»
فقطب المستعصم حاجبيه، وكان الخادم الواقف بين يديه يناوله منطقة من الحرير ليتمنطق بها، فتناولها ورمى بها إلى الأرض، وألقى نفسه على المقعد كأنه يستريح من تعب، وتنهد وقال: «يا لله من سخرية القدر؟ لقد تشاءمت من هذه الجارية، فإنها منذ خروجها من مصر وأمورها معرقلة، ولما ظفرنا بها مرضت، وأخاف أن تكون شؤمًا علينا فيما نحن فيه.» وأطرق لحظة ثم قال: «يا ليتها ظلت عند أبي بكر ولم نغضبه لأجلها، وهل تظنين مرضها يطول؟» قالت: «إنها تشكو صداعًا وألمًا في حلقها، والأمل أن تشفى في يومين أو بضعة أيام. وإذا لم تشفَ فغيرها خير منها، إن الجواري المغنيات كثيرات في خدمة أمير المؤمنين. هل يأمر بتهيئة سواها؟»
قال: «هيئي من شئتِ منهن، إني في حاجة إلى الراحة بعد تعب هذا النهار. هل علمت ماذا جرى لنا اليوم مع أبي بكر؟»
قالت: «إنه غضب لذهاب شوكار من يده، وقد أخطأ لأنه أخذها وهو يعلم أنها محمولة لمولانا أمير المؤمنين. لكنه فعل ذلك بِدالَّةِ الابن على أبيه …» وقد استرضته بهذه العبارة. وهو إنما سألها هذا السؤال ليسمع منها هذا الجواب؛ لأن قلبه ما زال مشغولًا من جهة ابنه، يتنازعه في شأنه عاملان: أحدهما النقمة عليه لأنه تجاوز حدوده وتعدى على حقوق أبيه، والثاني عطفه عليه ورغبته في إرضائه، والعامل الأخير أشد ظهورًا وأكثر تسلطًا على قلبه. وهو يعلم أن تلك القهرمانة تحب أبا بكر، أو هي تعرف حبه إياه، فلا تجيب إلا بما يخفف من غضبه عليه، فسألها ذلك السؤال ولم يكن عنده ريب في اطِّلاعها على ما جرى في جلسة ذلك اليوم، وإن كانت في دار النساء. فأنها كانت كثيرة التدخل في شئون الدولة والاطلاع على ما يجري منها؛ لأن المستعصم كثيرًا ما كان يذكر ذلك بين يديها على سبيل التفاخر، فأصبحت كثيرة النفوذ عنده شأن الدول في عهد انحطاطها.
فلما سمع الخليفة قولها عن أبي بكر سرِّي عنه وقال: «صدقتِ، إنه فعل ذلك بحسن نية، وقد جرأه عليه الداودار، وكان ينبغي لهذا أن يردعه ويقف في وجهه.»
ولم تكن القهرمانة تحب الداودار لأنه جندي خشن لا يحترمها، فلما سمعَت الخليفة ينتقده وافقَته وقالت: «طبعًا كان يجب على الداودار أن يردعه. لكنه يفعل ذلك بِدالَّته على أمير المؤمنين لأنه قائد جنده، وتلك دالة كاذبة؛ إذ يستطيع أمير المؤمنين أن يبدل بداوداره أحسن منه، لكنه لا يبدل بابنه سواه …» قالت ذلك وضحكت إعجابًا بهذا التعبير، وأظهرت أنها تهتم بالخروج لتهيئة جلسة الغناء، فأجابها بضحكة من نوع ضحكتها وقد فهم قصدها، وهي تعني أن يعزل الداودار وقال لها: «ابعثي إلى أبي بكر ليحضر هذا المجلس معنا. عسانا أن نعوضه ونرضيه.» فأشارت إشارة الطاعة وانصرفت.
•••
تركنا مؤيد الدين في داره وقد بعث رسوله إلى هولاكو بعد أن يئس من الإصلاح، على أنه ظل برهة بعد إرسال الغلام وهو غارق في التفكير، تتناوبه الخواطر المتضاربة بين ندم وارتياح، لكن الارتياح كان غالبًا عليه؛ لأنه لم يُقْدم على مخابرة هولاكو إلا بعد تردد طويل. قضى ذلك اليوم ولم يخرج من منزله، ومضت أيام أُخر وهو لا يريد أن يرى أحدًا ولا أن يخاطب أحدًا لعظم قلقه وفظاعة ما أقدم عليه، وازداد قلقه لأن الخليفة لم يسأل عنه، ولم يَدْعُه إليه، فعد ذلك تغيرًا عليه، ففضل البقاء في منزله كالمحاصر ريثما يرى ما يحدث.
وأصبح ذات يوم، فإذا بطارق يطرق الباب، فعرف مِن طَرْقه أنه سحبان، وكان قد طال غيابه هذه المرة حتَّى قلق عليه، فلما رآه مقبلًا رحب به وأشار إليه أن يقعد، ورأى في وجهه تغيرًا فقال: «ما وراءك يا سحبان؟ أراك متغيرًا.»
قال: «وأنا أراك متغيرًا أيها الوزير. ولا عجب إذا رأيتَ فيَّ تغيرًا، فإنا إذا بقينا على رأيك، فنحن متغيرون جميعًا، بل نحن منتقلون إلى الدار الآخرة عما قريب.» قال ذلك وتشاغل بعضِّ شفته السفلى كأنه يفكر.
فأدرك مؤيد الدين أن سحبان ينتقد صبره على المستعصم ومحافظته على ولائه إلى هذا الحد، فضحك وقال: «إن الانتقال إلى الآخرة خير لنا من هذه الدنيا.» قال: «نعم، ولكننا لا ينبغي أن ننتقل قبل أن ننتقم.» قال: «لك عليَّ ذلك.»
ولم يكن سحبان يتوقع سرعة الموافقة، فاستغرب جوابه وقال: «ومتَى؟» قال: «منذ بضعة أيام.»
فدهش سحبان ونهض فجأة متأثرًا وقال: «ماذا تعني؟ أظنك لم تفهم مرادي.» قال: «كيف لا؟ ألم تقصد التخلص من أولئك القوم، ولو استنجدنا عليهم الغرباء؟» قال: «بلى!» قال: «قد فعلت، فاصبر لنرى النتيجة.»
فتلفت سحبان حوله خوفًا من أن يسمعه أحد وقال: «استنجدتَ هولاكو، كتبتَ إليه أن يأتي؟» قال: «لقد فعلتُ ذلك، وكنت أنتظر مجيئك قبل الآن لأخبرك وأرى رأيك …»
فقطع سحبان عليه كلامه وصاح: «وهل لي رأي غير ذلك؟! هذه هي أمنيتي، إذا حصلت عليها لا أبالي إن أنا مت الساعة، وقد جئتك الآن بأمر جديد مهم لكنه لا يقف في سبيلنا.» قال: «وما هو؟» قال: «الأمير أحمد الذي سميناه الإمام، أنت تعلم أنني بعد أن أتيت به إلى هنا أرجعته إلى حيث كان في قصر الفردوس. وكأن القوم أدركوا قصدنا، أو لعلهم علموا بخروجه وارتابوا في حرس قصره، فنقلوه إلى قصر آخر.» قال: «نقلوه إلى قصر باب كلواذي في الجنوب، وأقاموا عليه الحراس وشددوا التضييق عليه.» قال: «هو الآن في كلواذي؟ ولماذا فعلوا به ذلك؟»
قال: «فليفعلوا ما يشاءون، إنه خليفتنا حيثما كان، وهل يصعب علينا إخراجه من سجنه متَى تم لنا ما نطلبه؟! إذا دخل التتر بغداد وقبضوا على هذا الخليفة فستكون أنت معهم فترشدهم إلى الإمام أحمد فيولونه الخلافة. آه ما أجمل ذلك اليوم السعيد! وأسعد منه أن نعيد دولتنا العلوية. هذه هي أمنيتي الحقيقية.»
فنظر مؤيد الدين إليه وهو يغبط فيه ذلك الأمل الواسع والوثوق بالنجاح لأضعف الأسباب. إن صاحب هذا الخلق قد يخطئ ويفشل، لكنه أقرب إلى السعادة من الرجل الحذر الكثير الشكوك الذي يرى السعادة في قبضته ويشك في وجودها. ولذلك استغرب مؤيد الدين سرور سحبان واطمئنانه لا لشيء إلا أن سمع منه أنه وافق هولاكو على القدوم إلى بغداد، وفاتَه ما يعترض نجاح من العقبات، وأنه قد عرض نفسه في هذا لخطر جسيم. ثم رفع نظره إلى سحبان وقال: «وفقنا الله في سعينا على القوم الظالمين.»