في جزيرة الروضة
– ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!
– إنه جميل يا سيدتي، وليس أجمل منه إلا الجلوس بين يديك والتمتع بحديثك.
– إنكِ تتملقينني يا شوكار ولا تقولين الحق. مَن منا أكثر تمتعًا بصاحبتها: أَأَنا وليس في حديثي إلا المتاعب والمشاكل السياسية، أم أنت وقد وهبكِ الله كل ما تتطلبه الغانيات من الجمال والذكاء ورخامة الصوت ولطف العشرة؟! وأنت في مقتبل العمر وأنا في حدود الكهولة، وقد أناخ عليَّ الدهر بأثقاله ومشاكله.
فخجلت شوكار من هذا الإطراء وبادرت إلى الجواب قائلة: «العفو يا سيدتي، إنك تخجلينني بهذا الإطراء، ومن أكون أنا حتَّى أعد شيئًا مذكورًا بجانب مولاتي شجرة الدر، محظية الملك الصالح — رحمه الله — وأم والده؟! وقد خصك الله بمواهب لم يخص بها أحدًا من البشر سواك. ليس في النساء يا سيدتي امرأة تطمع في بعض ما نلتِه. زادك الله رفعة و…»
فبادرت شجرة الدر إلى قَطْع حديث جاريتها شوكار بأن وضعت يدها على فمها بلطف وهي تبتسم لها، وفي ابتسامها انقباض، وقد أبرقت عيناها من عظم التفكير، ثم تنهدت تنهدًا عميقًا وقالت: «تحسدينني على ما تتوهمينه فيَّ من رفعة القدر؟ من هنا يأتي سبب شقائي.» قالت ذلك وأطرقت وهي مقطبة الوجه، فتهيَّبَت شوكار النظر إليها، ولم تجبها.
وكانت شجرة الدر جالسة على مقعد من الأبنوس، في شرفة بأحد قصور الملك الصالح التي بناها في جزيرة الروضة، تطل على مجرى النيل إلى مسافة بعيدة. وجزيرة الروضة من أجمل جزر النيل بين مصر القديمة والجيزة، وطالما اتخذها الملوك متنزهًا، وقد جعلها مولاها الملك الصالح سريرًا لمُلكه بدلًا من القلعة حيث كان أسلافه يقيمون. وأنشأ في هذه الجزيرة قلعة فخمة عُرفت بقلعة المقياس، نسبة إلى مقياس قديم للنيل، وسموها أيضًا قلعة الروضة أو القلعة الصالحية. وكان في موضع هذه القلعة أبنية كثيرة فيها القصور والمساجد والمعابد، ودور الصناعة لبناء السفن، والهودج الذي بناه الآمر بأحكام الله الفاطمي لجاريته، واشتهر أمره، فهدم الملك الصالح كل هذه الأبنية، وبنى القلعة مكانها، وأنفق عليها أموالًا طائلة، وفي جملة ما بناه قصور ومسجد، نقل إليها العمد والأساطين الصوان والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة، وغرس فيها الأشجار والرياحين، وبنى فيها ستين برجًا شحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأقوات؛ خوفًا من محاصرة الإفرنج؛ لأنهم كانوا على عزم غزو مصر. وبالغ في إتقان تلك الأبنية حتَّى قيل إن الحجر الواحد من أحجارها كلفه دينارًا. وكان يقف بنفسه ويرتب العمل، فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ونساءه وجواريه، وفرَّق فيها مماليكه، وعددهم نحو ألف مملوك. وأنشأ خارج القلعة بناءً عظيمًا جَمَعَ فيه أصناف الوحوش من الأسود والنمور وغيرها.
وكانت شجرة الدر في جملة جواريه، وقد أنجبت ولدًا اسمه خليل، فقربها منه، كما كانت هي على جانب عظيم من الدهاء والذكاء، فنالت نفوذًا عظيمًا عنده، فلما مات في المنصورة سنة ٦٤٧ﻫ. كتمت أمره، وقامت بأمور الدولة، وكانت توقع على الأوامر بتوقيعه خوفًا من الفشل وهم في حرب مع الصليبيين، لكنها أسرَّت الخبر إلى كبار الأمراء، ولا سيما عز الدين أيبك التركماني، وكانت بينه وبينها مودة، فبعث أعيان الأمراء إلى غياث الدين بن الملك الصالح، فاستقدموه من حصن كِيفا وولَّوه عليهم وواصلوا محاربة الصليبيين.
أما شجرة الدر فإنها عادت إلى تلك القلعة وأقامت فيها، وفي خاطرها أشياء لم تُطْلع عليها أحدًا، ورغم ثقتها العظيمة بشوكار لم تفاتحها بشيء منها. وفي تلك الليلة المقمرة جاشت أشجانها وأَرِقت لسبب تعلمه هي ولا يعلمه سواها. وكانت كثيرة الاستئناس بشوكار جاريتها؛ وهي جميلة الطلعة، رخيمة الصوت، تتقن العزف على العود. فلما أرقت دعتها إليها للاستئناس بها واللهو بصوتها. واتَّشحت شجرة الدر بثوب بسيط، والتفَّت بمطرف من الخز، وجلست على الشرفة وأطلت على مجرى النيل، وقد سكنت الطبيعة وهدأ النسيم إلا ما يعبث منه بشعرها المرسل على ظهرها وقد ضمته وأرسلته بلا اعتناء. ولم تحسن ارتداء مطرفها، حتَّى لَيُخيَّل إلى الناظر إليها أنها في شاغل مهم، ناهيك بما في عينيها من دلائل القلق حتَّى يكاد الشرر يتطاير منهما لفرط ما جاش في خاطرها من البلبلة. وهي امرأة ليست كسائر النساء؛ فلها قلب الرجل ومطامع كبار الرجال، إذا عزمت على أمر فلا تبالي ما يقف في سبيلها من العقبات؛ لأنها تذللها بأية وسيلة كانت، كما يفعل عظماء الرجال وأرباب المطامع.
وكانت شوكار جاريتها الخاصة فتاة تركية مثلها، ما زالت في مقتبل العمر، فأحبتها واتخذتها مستودع أخبارها وأسرارها، وإن كانت لفرط دهائها لا تفتح قلبها لأحد أو تأمنه على أسرارها المهمة؛ ولذلك كان كبار المماليك يهابونها ويحسبون لها حسابًا، وقد استولت على قلوبهم تهيبًا وإعجابًا.
•••
خرجت شجرة الدر تلك الليلة من قصر الملك الصالح أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشًا وزخرفًا، ومعها جاريتها شوكار، ومشت في ممر مسقوف يؤدي إلى شرفة تطل على النيل، فجلست على أريكة مغشاة بالديباج المزركش، وجاريتها تعزف على العود وتغني لها أصواتًا تعوَّدت أن تطلب إليها إنشادها، وهي مستغرقة في هواجسها تنظر إلى النيل وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسُّر نور القمر على سطحه، ولولا ما يتخلل بياضه من التموج والارتعاش لم تشكَّ أنه فضة خالصة، أو أنه مرآة صافية، وكانت مراياهم تصنع من الفضة المصقولة بدل الزجاج اليوم.
وكأنها أحست بطول سكونها واشتغالها عن غِناء شوكار، فأجالت بصرها في الفضة المقابلة من النيل في بَرِّ الجيزة، وقد بدت فيها النخيل صفوفًا أرسلت رءوسها في الفضاء كأنها أسراب من العذارى يحملن المظلات وقد وردن الماء، فلما أشرفنَ على ضفاف النيل تهيَّبْن فوقفن خاشعات ينظرن إلى مجراه، وبانت ظلال النخيل في الماء، وأكسبها النيل حركة اهتزازية كأن أولئك العذارى نزلن للاغتسال فارتعدت أجسامهن من البرد أو من الحياء. ووراء النخيل تراءى الهَرَمان كأنهما جبلان وقد انتصرا على طوارئ الحدثان، فأرادت شجرة الدر أن تُوهِم جاريتها أنها سكتت تهيبًا للطبيعة الجميلة فقالت لها: «ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!»
فسُرَّت شوكار لأن سيدتها قد سُرِّيَ عنها، وزادت امتنانًا لمَّا سمعت إطراءها صوتها. لكنها ما لبثت أن رأتها عادت إلى الانقباض وأخذت تشكو من حالها، وإن ما تغبطها عليه من النعيم إنما هو سبب شقائها. فانقبضت نفس شوكار، وألقت العود من يدها، وتقدمت حتَّى جَثَتْ عند قدمي سيدتها، وقبلت ركبتها وقالت: «ما الذي يشغلك يا سيدتي؟ وهل أنت لا تثقين بي، مع أني مستودَع أسرارك، وليس لي شاغل سواك؟»
وشرقت بِرِيقِها من عظم التأثر، فابتسمت شجرة الدر لها ووضعت يدها على رأسها وجعلت تعبث بشعر الفتاة وبوجهها كأنها شاب يداعب فتاة يحبها، وشوكار مُطرِقة يلذ لها ذلك؛ لأنه دليل ارتياح مولاتها إليها، وهان على شجرة الدر أن تصارح جاريتها ببعض هواجسها، وهي تحسبها خالية الذهن من أمرها، وتحسب سرها مكتومًا عنها كل الكتمان، وذلك من الأوهام الشائعة عند أصحاب الأسرار. يكتم المحب حبه، ويلذ له كتمانه، لتوهمه أنه لا يعلم به أحد سوى حبيبه، وقد يكون ذلك الحب حديث الجيران والخدم ليل نهار، وقِسْ على ذلك أكثر الأسرار ولا سيما ما كان منها يتعلق بالعامة، فإنه لا يخفى عليهم، لكنهم يسكتون عنه فيتوهم صاحبه أنه سر مغلق على الناس كافة. وهب أنه يخفى على الجيران، فهو لا يخفى على الخدم والجواري؛ لأن هؤلاء لا شاغل لهم غير استطلاع الأسرار والتوسع فيها والتكهن بما يكون من أمرها، لكنهم في الغالب يشوهون الحقيقة بما تُصوِّره لهم أفكارهم وميولهم.
فكانت شوكار على بينة من هواجس سيدتها وإن لم تُصِبِ الحقيقة تمامًا، لكنها تجاهلت وطلبت إلى شجرة الدر أن تكاشفها بِسرِّها، فقالت لها شجرة الدر: «لستُ أخفي عليك سرًّا كما تعلمين، لكن ما أكتمه ليس مما يهمك الاطِّلاع عليه.»
فقالت: «لا أطلب الاطِّلاع عليه لأنه يهمني، لكنني أطلب ذلك لعلمي أن الإنسان إذا اشتكى ما يكابده لشخص يحبه ويثق به، فإن وطأة ذلك السر تخفُّ عنه.»
فضحكت شجرة الدر على سبيل المداعبة وقالت: «يظهر يا بنية أنك قد جربت الأسرار ولذة المكاشفة.»
فأطرقت خجلًا وقالت: «وليس عندي أسرار أكتمها أو أبوح بها، وليست أسراري مما يصح الاهتمام به. لكني أعرف ذلك عن سواي، فهل أنا مخطئة يا سيدتي؟»
قالت: «كلا، إنك تقولين الصواب. ولكن دعينا من ذلك الآن وأطربينا بشيء من غنائك الرخيم.»
لم تعتبر شوكار ذلك الرفض مقصودًا لأنها قرأت عكسه في عينَي سيدتها شجرة الدر — والعينان أصدق من اللسان — فاستأنفت الكلام قائلة: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، لكني أحب تخفيف قلقك.»
فأحبَّت شجرة الدر أن تكون جاريتها البادئة بالحديث، فقالت لها: «ماذا تظنين سبب قلقي؟»
قالت: «من أين لي أن أعلم ذلك؟ ليس فيما أعلمه من أحوالك إلا ما يوجب السرور والفخر، حتَّى فيما له علاقة بالقلب، أعلم أنك قد نلتِ منه ما لم ينله سواك. إن الأمراء كافة يتمنون رضاك، ويعدُّون الْتفاتك نعمة، ويكفي لاكتساب قلب أحدهم أن تنظري له نظرة رضًا، على أنك في غنًى عن ذلك بموقعك الجميل من قلب مولاي عز الدين أيبك، وهو كبير الأمراء، ويتمنى لفتة منك و…
فلما سمعت شجرة الدر اسم عز الدين تصاعد الدم إلى وجنتيها، وقطعت كلام جاريتها وهي تُظهر عدم الاهتمام وقالت: «ليس هذا الأمر مما يهتم له أمثالي يا شوكار، وإنما هو للفتيات أمثالك.»
•••
وأظهرت شوكار أنها صدَّقَت سيدتها، مع أنها تعلم حق العلم بما بينها وبين عز الدين أيبك التركماني كبير الأتراك من صلات المحبة، ثم حولت كلامها إلى موضوع آخر وقالت: «اصفحي يا مولاتي عن جرأتي واغفري لي خطئي، فلعل شواغلك تتعلق بأحوال الدولة، على أثر وفاة سيدي الملك الصالح، رحمه الله.»
فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «نعم، نعم؛ إنها تتعلق بما نحن فيه من الخطر، والحرب قائمة بيننا وبين الإفرنج في المنصورة وفارسكور.»
فقالت: «ولكن الأخبار الواردة علينا حسنة على ما أعلم. ألم يأتنا الطائر مبشرًا بالنصر، ثم حمل إلينا الرسول خبر انتصار جنودنا على الفرنسيس، وأنهم قتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ملكهم لويس، وحبسوه في دار ابن لقمان … ثم جاءنا رسول يحمل رسالة أخرى، وعليه ثوب ملك الإفرنج نفسه، وهو المخمل الأحمر بفرو سنجابي وقلنسوة من ذهب. وقد زينت له القاهرة زينة لم يسمع بمثلها؟ أم أنت تظنين ذلك غير الواقع؟»
قالت: «بل هو الواقع عينه.»
قالت: «إذن ما الذي يقلقك يا سيدتي؟»
فتنهدت وقالت: «لقد أحرجتِني يا شوكار، فلا بد من إطْلاعك على بعض الخبر؛ إن قلقي ليس خوفًا من الإفرنج، فإن جندنا كلهم أشداء — ولا سيما هؤلاء الأتراك الذين بنى لهم مولانا الملك الصالح هذه القلعة — وقد ظهرت بسالتهم في الحرب التي ذكرتِها، ولكنني أخاف الانقسام بين جندنا من سوء تصرف الملك المعظم طوران شاه!» قالت ذلك وهزت رأسها هز الأسف.
فقالت شوكار: «هل تأذن مولاتي بكلمة، وإن كنت لا أفهم شيئًا من أحوال الدولة ولا شأن لي بتدبير المملكة؟ أظنكم أخطأتم باستقدام هذا السلطان من حصن كيفا وتوليته السلطة، وعندكم من الأمراء من هو أكفأ منه.»
فقالت: «ولكن الناس لا يذعنون للسلطان إلا إذا كان من الأسرة المالكة، أسرة آل أيوب، ولولا ذلك لَهَانَ الأمر. ولو كان طوران شاه هذا عاقلًا لاستقام الأمر، ولكنه غلام جاهل أحمق يشرب الخمر، فإذا سكر فعل ما لا يفعله الأطفال؛ بلغني أنه يصفُّ الشموع في الليل أمامه، ويأخذ السيف بيده ويضرب به تلك الشموع ويقول: «هكذا أفعل بالمماليك البحرية»، يعني مماليكنا الأتراك. وما برح منذ جاءنا — ولم يمضِ عليه شهران — يفضِّل مماليكه الأكراد الذين أتوا معه على مماليكنا، ويعرض بذلك في مجالسه، مع أن النصر في حروب الإفرنج إنما كان بفضل أبطالنا، ولا سيما عز الدين وركن الدين بيبرس وسيف الدين قطز وأمثالهم. فأخاف أن يطول النزاع ويغتنم العدو تفرُّقنا فيكرَّ علينا!» وسكتت لحظة وهي مُطْرقة، ثم بلعت ريقها واستأنفت الحديث قائلة: «ولكنني دبرت تدبيرًا إذا أفلح سَلِمْنا من الخطر!» ثم نهضت، وأظهرت أنها في شاغل خوفًا من أن تستزيدها شوكار بيانًا وهي لا تريد كشف التدبير لها.
أدركت شوكار غرض سيدتها، لكنها تشاغلت بإصلاح العود وهي تنظر إلى النيل، لكنها ما لبثت أن لحظَتْ عن بعدٍ اضطرابَ صفحة الماء، فتطلعت فإذا هي ترى شبحًا كبيرًا سابحًا قادمًا من الشمال، ولم تتمالك حين تبيَّنَتْه أن صاحت: «هذه سفينة قادمة إلينا، لا بد لقدومها في هذا الليل من أمر مهم!»
وكانت شجرة الدر تتشاغل بإصلاح شعرها، فلما سمعت صيحة شوكار التفتت نحو السفينة وصاحت: «هذه عشارية عز الدين، ما الذي جاءنا به يا ترى من الأخبار؟» قالت ذلك وهرولت وهي تلتفُّ بالمطرف، وتبعتها شوكار في مثل دهشتها نحو المرفأ.»
وكان للروضة مرفأ جميل تقف عنده السفن منذ كانت فيها دار الصناعة، ومن هذا المرفأ إلى داخل القلعة طريق مختصر. لكن شجرة الدر — بعد أن دفعتها الدهشة إلى طلب المرفأ — عادت إلى رشدها وتراجعت، وأظهرت أنها ذاهبة إلى الإيوان الكبير الذي كان الملك الصالح يستقبل فيه الوفود والأمراء والوزراء.
كان ذلك الإيوان من أفخر الأبنية، بَذَلَ الصالح جهده في إتقانه وزخرفته، وهو قاعة كبيرة قائمة على أساطين الرخام، وقد زين سقفها بالصور المذهبة والنقوش من النوع المعروف بالمقرنص، وعلى جدرانها كتابة جميلة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع، مما يبهج النفوس ويستوقف الأبصار.
ولم تدخل شجرة الدر هذا الإيوان منذ شهرين وبعض الشهر بعد أن توفي الملك الصالح، فاضطرت لإخفاء اضطرابها أن تنزل إليه، فأمرت بعض الخصيان أن يفتحه ودخلت وشوكار وراءها وقد أدركت قلقها وتوهمت أنها تريد الخلوة هناك، فتراجعت عند الباب وقالت: «أستأذن في الانصراف يا سيدتي.»
قالت: «إلى أين؟» قالت: «إلى حيث تأمرين. وإنما أخاف أن يكون في وجودي ما يثقل عليك.»
فأشارت إليها أن تدخل وقالت: «تعالي يا شوكار، لا ينبغي أن أخفي عليك شيئًا.» فدخلت، وجلست شجرة الدر على سرير من الذهب في صدر الإيوان كان يجلس عليه الملك الصالح، وأشارت إلى شوكار فجلست على كرسي مذهَّب بين يديها، وقد أضيءَ الإيوان بالشموع وظهرت نقوشه الجميلة. وتأملت شوكار في سيدتها وهي جالسة على سرير الملك وضحكت، فلحظت شجرة الدر ضحكها وسألتها: «ما بالك تضحكين يا شوكار.» قالت: «إني مسرورة يا سيدتي من جلوسك هنا، وقد استبشرت به خيرًا. إن هذا المجلس لائق بك!»
فخفق قلب شجرة الدر لهذه البشرى؛ لأنها كانت راغبة في السيادة، وهي أهل لها، لكنها أنكرت ذلك على شوكار، وأظهرت أنها تستبعد هذا الأمر وأنها ليست أهلًا له، وشغلت نفسها باستدعاء قيِّم تلك الدار. فلما حضر أَمَرَته أن يذهب إلى المرفأ، وإذا جاء أحد برسالة فليأتِ بها إليها في ذلك الإيوان.
وجلست وهي تظهر الجَلَد، لكنها كانت على مثل الجمر من القلق. وجلست شوكار بين يديها تُشاغلها بالحديث عما في تلك القاعة من التحف، وما أنفقه الملك الصالح في تلك الأبنية، وهذه تظهر الاهتمام بالموضوع وتقص عليها ما رأته من عناية الملك الصالح بإتقان ذلك البناء.
وبينما هما في ذلك، إذ سمعت شجرة الدر صوت نفير من بعيد، فعلمت أنه إشارة وصول السفينة إلى المرفأ، فخفق قلبها وظهر القلق في وجهها ولحظت شوكار ذلك ولكنها تجاهلته. ولم يمضِ وقت يسير حتَّى جاء الغلام يقول: «إن الأمير ركن الدين بيبرس بالباب.»
فقالت شجرة الدر: «ليدخلْ.»
فدخل شاب طويل القامة، قد تزمل بعباءة تغطيه كله، ثم نزع العباءة فإذا هو جميل الخلقة صبوح الوجه عليه هيبة الشيوخ ونضارة الشباب، لم يتجاوز عمره يومئذٍ ٢٣ سنة، وعليه الدرع والخوذة كأنه في ساحة الحرب التي قَدِمَ منها. فلما دخل حيَّا شجرة الدر تحية لم تُحَيَّ بمثلها من قبل، ففهمت ما عناه لكنها تجاهلت وقالت: «ما وراءك يا ركن الدين؟»
فالتفَتَ يمينًا وشمالًا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فأدركت أنه يحمل سرًّا لا يحب أن يفوه به جهارًا، فأشارت إلى الخدم بالخروج واحتفظت بشوكار، وأشارت إليه أن يتقدم نحوها، فتقدم فقالت: «ما وراءك أيها الأمير الشاب؟ قل ولا بأس من وجود عزيزتي شوكار، بل لا بد من وجودها، فهي التي طالما أعجبت بشهامتك. قل، ما وراءك؟»
فاستغربت شوكار ما روته شجرة الدر عنها من أنها معجبة بركن الدين، ولم تجد باعثًا على ذلك في تلك الساعة فسكتت، واتجهت بكلتيها لسماع ما يلقيه ركن الدين. أما هو فلما سمع قول شجرة الدر عن إعجاب شوكار به التفت إليها فوجدها في غاية الجمال واللطف، وفي عينيها معنًى جمع بين الذكاء والسحر. وكان يسمع برخيم صوتها لأن ذلك كان شائعًا في القصر. لكنه توجه نحو شجرة الدر وقال: «إن ورائي أمرًا ذا بال وخبرًا مهمًّا لا أدري أيَسُرُّ مولاتي أم يسوءها.»
فأجفلت ونظرت في عينيه باهتمام وقالت: «قل ما هو، ولا يهمك ساءني أم سرني، فإني لا أتوقع من هذه الدنيا سلامة.»
فقال: «إن الملك المعظم طوران شاه بن مولانا الملك الصالح قد لاقى أجله في هذا الصباح، وبعثني مولاي الأمير عز الدين أيبك لأنقل هذا الخبر إليك ريثما يصل هو إلى هنا في صباح الغد، ولم يشأ أن يرسله مع الطائر مبالغة في الكتمان، لكنه دفع إليَّ هذه البطاقة الصغيرة مختومة، وأمرني أن أدفعها إليك يدًا بيد.» قال ذلك واستخرج من جيبه بطاقة دفعها إليها.
فلما سمعت شجرة الدر بموت طوران شاه بانت الدهشة في عينيها، لكنها تجلدت وتناولت البطاقة وفضتها، واقتربت من المصباح وقرأتها فإذا فيها: «أما بعد، فإني مسرع في إرسال البشارة بذهاب ذلك الشاب المغرور إلى سبيله، على كيفية يقصها عليك الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري حامل هذه البطاقة إليك. وقد كان لهذا الأمير النصيب الأكبر من العمل في هذا السبيل وهو يستحق الْتفاتك. وعندي خبر آخر سأتلوه عليك في الغد شفاهًا، إن شاء الله.»
قرأت البطاقة لنفسها وعادت إلى مخاطبة ركن الدين كأنها لم تقرأ شيئًا فقالت: «أنت على ثقة من قتل الملك المعظم؟»
قال: «نعم يا سيدتي، كل الثقة.»
قالت: «هل قتل سرًّا؟»
قال: «كلا يا سيدتي، إنه قتل جهارًا.» قالت «مَن قتله؟»
قال: «نحن قتلناه؛ لأنه لم يترك للصالح مكانًا، وقد بالغ في الطيش والهوج، وكرر مغاضبتنا وأسمَعَنا الإهانة، ولم يعجبه المماليك البحريون، مماليك أبيه الملك الصالح، وكلما ذُكروا أمامه استخفَّ بهم، مع أنهم أصحاب السيف حماةُ هذه الدولة، وهم الذين ردوا الإفرنج عن هذه البلاد. وقد صور له طيشه أنه الفاعل لما يريد، وأننا حشرات لا يُعتد بنا، حتَّى بلغنا أنه كان يصف الشموع ويأخذ رءوسها بالسيف ويقول إنه هكذا سيفعل بنا، وقد صبرنا على ذلك، حتَّى بلغنا أن هذا لا يرضي مولاتنا أم ولد الملك الصالح، رحمه الله، فأضمرنا له السوء، فلما كان صباح اليوم جلس في موكبه والأمراء والأكراد وأصحابه بين يديه، ورءوس النواب واقفون أمامه بعصي كُسِيَت بالذهب، كأنه يقول لنا: «إني سلطانكم رغم أنفكم»، فصبرنا عليه حتَّى مضى الموكب وبقي وحده وحضر السماط فجلس عليه على العادة، فتقدم إليه جماعة منا بأيديهم السيوف وضربوه على أصابعه فقطعوها، فقام وهرب ودخل البرج الخشبي، وأغلق عليه بابه، فأطلقنا النار على البرج، فخرج منه وألقى نفسه في البحر وصار يسبح فيه والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول: «خذوا ملككم ودعوني أرجع إلى حصن كيفا»، فلم يُغِثْه أحد. وما زال على ذلك حتَّى قُتل، فكأنه مات حريقًا غريقًا قتيلًا، فأخرجناه من البحر وتركناه على الصعيد وسيبقى كذلك حتَّى لا يعرف له قبر.»
•••
كان ركن الدين يقص خبر مقتل طوران شاه، وشجرة الدر مصغية لا تبدي حراكًا، لكن الاهتمام بادٍ في عينيها، فلما فرغ من كلامه قالت: «مات طوران شاه! رحمه الله، إنه أخطأ في تصرفه ولم يحسن سياسة المُلك الذي أعطيناه إياه. وكل من لا يسوس الملك يخلعه!» ثم نظرت إلى ركن الدين وقالت: «وهل عندك خبر آخر غير هذا؟»
قال: «عندي خبر سيتلوه عليك مولاي الأمير عز الدين أيبك في صباح الغد.»
قالت: «لعله خبر مهم؟»
قال وهو يبتسم: «أظنه كذلك.»
فأدركت شيئًا من مراده لكنها حولت الحديث وقالت: «لم تخبرني عن القُواد الأبطال الذين فتكوا بالملك المعظم. هل أنت منهم؟»
قال: «نعم، إني أصغرهم شأنًا، وقد فعلت ذلك بأمر مولاي الأمير عز الدين.»
فأعجبها تواضعه واحتشامه، فقالت: «أراك تتنصل كأنك تعدُّ هذا العمل جريمة وعارًا، إنه عمل عظيم يحق لك الافتخار به، وقد نجيت البلاد من الخراب؛ لأن هذا المَلِك لم يكن أهلًا للسلطة، ولو طال مكثه في هذا المنصب لجرَّ علينا الدمار، فلا تخف. وقد أنبأني عز الدين ببلائك، وأنا طالما توسمت فيك البسالة والإقدام، وسيكون لك شأن عظيم، فإذا صدق توسُّمي فيك أهديتك أثمن ما عندي.» قالت ذلك ونظرت إلى شوكار وضحكت، فأدركت شوكار غرضها، فغلب عليها الحياء لأنها لم يخطر ببالها حب أحد. وقد كفاها من نعم المولى أن تكون حائزة رضا سيدتها شجرة الدر، فلما سمعت تلميحها تصاعد الدم إلى وجنتيها وأطرقت، وودَّت لو أنها بالنقاب لتغطي وجهها، ولكنها لم تكن تنتقب بين أيدي الأمراء.
أما ركن الدين بيبرس فأعجبه إطراء شجرة الدر شجاعته، وكان يسمع بحسن شوكار ولطفها وجمال صوتها، ولم يكن يتوقع أن يأتي يوم ينالها فيه، فلما رأى شجرة الدر اشترطت في نيلها أن يصدق توسُّمها فيه، لم يدرِ بماذا يجيب، فقال أخيرًا: «أشكر لمولاتي حسن ظنها بعبدها، وأرجو أن أكون أهلًا لثقتها، وفي كل حال إني رهين إشارتها وما تأمرني به، وأفديها بروحي.»
ففرحت شجرة الدر بهذا التصريح؛ لأنها إنما أرادت أن يكون طوع إرادتها لتستخدمه في أغراضها لِمَا رأته فيه من البسالة ورباطة الجأش.
ولما سمعت شوكار جواب ركن الدين أحسَّت بشيء لم تحسَّ بمثله قبلًا، وبأن التأثر في عينيها، وخفق قلبها خفقانًا لم تعرفه من قبل. لكنها أطرقت وظلت ساكتة.
وأما شجرة الدر فقد سَرَّها ما وُفِّقَت إليه من مقتل الملك المعظم؛ إذ هي التي أمرت المماليك أن يقتلوه، ولولا ذلك لم يجسروا على قتله. وقد أغراهم على ذلك عز الدين أيبك حبيبها، وهو كبير قواد المماليك. وكان لركن الدين بيبرس اليد الطولى في هذا العمل، وكانت قد سمعت من عز الدين عن بسالته وتفانيه في طاعته وطاعتها، فأرادت أن تزيد إخلاصه في طاعتها فوعدته بشوكار. فلما لحظت تعلق آماله بها تحركت في مجلسها كأنها أرادت استئناف الحديث، فقالت: «ومتَى يصل إلينا الأمير عز الدين؟»
قال: «أظنه يصل في صباح الغد، وسيأتي معه سائر الأمراء والعسكر، وسيحدث تغيير عظيم في أمور الدولة. وقد حفظ الأمير عز الدين حق هذه البشارة لنفسه وهو كبيرنا ومولانا.»
فضحكت شجرة الدر وهي تنهض عن السرير وقالت: «أظنك نلتَ جائزة حسنة، وإنما أرجو أن تحقق ظني فيك يا ركن الدين.»
فأدرك أنها تصرفه، فتَحوَّل وهو يلتفت إلى شوكار لفتة الوداع وهي لا ترفع بصرها إليه، لكنها رأته ورآها وتفاهم النظران وتناجى القلبان. وما أسرع تناجيهما إذا توافقت الطباع!
خرج ركن الدين وقد شغله ذلك الوعد عن دهشة الخبر الذي حمله من فارسكور إلى القاهرة، وما يرجى أن يحدث من التغيير في أمور الدولة بسببه، سار توًّا إلى برج من أبراج القلعة كان يقيم فيه مع بعض المماليك من رفاقه.