خلع شجرة الدر
أصبح أهل القاهرة يتهامسون عن رسولٍ قادم من عند أمير المؤمنين العباسي وقد نصب فسطاطه خارج القاهرة، وأخذوا يتكهنون فيما عسى أن يكون كُنْهُ رسالته؛ إذ يندر أن تأتي رسالة من الخليفة العباسي، إلا إذا كان هناك أمر مهم من عزلٍ أو تولية.
وكان الرسول حين أشرف على القاهرة قد بعث أحد رجاله ينبئ القواد والأمراء بقدومه ليرسلوا مَن يستقبله كما هي العادة احترامًا للرسالة التي يحملها من خليفة الرسول. ولم يمضِ كثير حتَّى ضجت المدينة وغُصَّت الشوارع بالمارة والوقوف، ولا سيما في الشوارع الممتدة من باب النصر إلى القلعة حيث يمر الرسول. واستعد الأمراء والقواد في القلعة للاجتماع وسماع الرسالة عند تلاوتها، وأكثرهم يظن أنها تتعلق بسلطنة شجرة الدر، والأرجح عندهم أنها تثبيت لها في المنصب كما تعودوا فيمن ولوهم من السلاطين. وتقاطر الأمراء والقواد إلى الإيوان، وفي مقدمتهم عز الدين أيبك وغيره من الأمراء البحرية، إلا ركن الدين؛ لأنه كان غائبًا في دمياط. أما شجرة الدر فقد كانت على سريرها في صدر الإيوان، وعليها ثوبها الملكي الذي لبسته يوم الاحتفال بتوليتها منذ ثلاثة أشهر ومعها شوكار، وكانت هذه حزينة لغياب ركن الدين، فإنها كانت تود حضوره.
أما سلافة فكانت أعلم الناس بفحوى تلك الرسالة؛ إذ جاءها رسول خاص من قيِّمَة قصر الخليفة المستعصم بالله كان مرافقًا لرسول الخليفة، وقد أنبأها أن الرسالة تضمنت خلع شجرة الدر عن سلطنة مصر، فكاد قلبها يطير فرحًا، وأحبت إبلاغ ذلك إلى عز الدين، وكان يتردد عليها في أثناء هذه المدة، وقد تحابَّا وبلغ خبرهما إلى شجرة الدر فاستاءت، لكنها كظمت غيظها، فلما علمت سلافة بقدوم رسالة الخليفة، بعثت إلى عز الدين فجاءها، فقالت له: «بلغني أنه جاءكم رسول يحمل كتابًا من أمير المؤمنين، ما هو فحواه يا ترى؟» قال: «لا أعلم.» قالت: «وما ظنك أن يكون فحواه؟» قال: «قلت لك إني لا أعلم، فهل أنت تعلمين؟»
فضحكت وقالت: «نعم أعلم، وقد قلت لك عن فحواه منذ ثلاثة أشهر، ألا تذكر؟» فأطرق وهو يفكر، فتذكر حديثها الأول معه يوم جاءته إلى القلعة، وذكرت له يومئذٍ أن الخليفة لا يسلم بسلطنة شجرة الدر، فقال: «أظنك تعنين حديثنا عن شجرة الدر؟» قالت بتهكم: «نعم عن ملكة المسلمين!»
قال: «أذكر أنك تنبأت أن الخليفة لن يوافق على توليتها، فهل جاء الرسول بهذه المهمة؟» قالت: «نعم جاء بهذه المهمة، وفحوى رسالته خلْع هذه المرأة عن المُلك.»
فأدهشته هذه المفاجأة لأنه لم يكن ينتظرها، واستغرب اطِّلاع سلافة على ذلك الخبر قبل كل إنسان، والرسول لم يدخل القلعة بعد، والكتاب ما زال في حقيبته، فقال لها: «كيف عرفت ذلك؟»
فضحكت وقالت: «عرفته وتنبأت به قبل حدوثه، لعلمي أن تلك التولية لا ترضي أمير المؤمنين. والآن كن حازمًا، واعلمْ أن الرأي الذي ذكرته لك منذ ثلاثة أشهر هو الرأي الصواب. هل تذكره؟»
فظهرت الدهشة على عز الدين، فشعر بضعفه بين يدي تلك المرأة، وفكَّر فيما تطلبه منه، فتذكر أنها أشارت إليه يومئذٍ أن يولي أحد أبناء الأيوبيين ويكون هو مدير المملكة والوصي على العرش، ثم يغتنم الفرصة ويستقل بالسلطنة بعد أن تستقر قدمه فيها فقال: «نعم أذكره، لكن ما هو السبيل إلى إتمامه؟ ومن هو الغلام الأيوبي الذي يمكننا تنصيبه؟»
قالت: «متَى بلغتم إلى هذا الأمر، فأنا أدلك على من يصلح لذلك.»
قال: «قولي الآن فربما لا تسنح الفرصة بإعادة النظر.»
قالت: «صدقت. أتعرف موسى بن صلاح الدين بن مسعود بن الكامل؟» قال: «نعم أعرفه، لكنه غلام لم يجاوز الثامنة من عمره.»
قالت: «لو كان في الخامسة لكان أصلح لما نريده. هذا الغلام هو أَولى الأيوبيين بهذه السلطنة، ومتَى كنتَ أنت الوصي عليه كان كل شيء إليك.»
قال: «ولكن من يضمن لي الوصاية عليه؟»
قالت: «أنا أضمنها لك، بشرط ألَّا تُظهر ضعفًا، وأن تكون أنت المقترح لسلطنة موسى هذا، وإتمام ذلك عليَّ.»
قال: «وهل تحضرين الاحتفال معنا؟» قالت: «أحضر مع النساء من وراء الستر.» فودعها وخرج من عندها وقد ملكت عقله بعد أن ملكت قلبه. ولما وصل إلى القلعة، وجد الأمراء في انتظاره وكانت شجرة الدر أكثرهم قلقًا على غيابه، فقد علمت بغيابه وهي وراء الستر، وكان قلبها دلها على تنافر بينهما. ومكثت تنتظر وصول الرسول وتلاوة الكتاب وهي لا تعلم ما هو مخبوء لها.
•••
كانت الجماهير تموج في ساحة القلعة منذ صباح ذلك اليوم، وجاء الخبر بوصول الرسول، فتقدم الحاجب لاستقباله حتَّى دخل الإيوان، ووقف الأمراء على الجانبين، وشجرة الدر فوق سريرها وراء الستر ومعها شوكار. وقد لحظت هذه اضطراب سيدتها وخوفها فأخذت تخفف عنها وتطمئنها وتداعبها وهي تتجلد وتصغي لما يدور من الحديث في الخارج، ثم سمعت عز الدين يقول: «أيها الأمراء، هذا رسول مولانا الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله حفظه الله، ومعه كتاب من الخليفة سيتلوه علينا، فاسمعوا له وأضمروا الطاعة لما يحويه؛ لأنه من خليفة الرسول ﷺ.» فصاح الجميع: «نحن مطيعون للرسول وخليفته.»
من أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أمراء الجند والوزراء في مصر، السلام عليكم، وبعد، فقد بلغنا أنكم ولَّيتم أمركم شجرة الدر، جارية الملك الصالح، وقلدتموها أمور الدولة، وجعلتموها سلطانة عليكم، فإذا لم يكن عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا لنرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله ﷺ: «ما أفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة».»
ولم يفرغ القارئ من تلاوة الكتاب حتَّى ضج الناس وعلت الضوضاء، ولا تسل عن شجرة الدر وما أصابها لما سمعت ذلك، لكنها كانت عاقلة حازمة، فلما سمعت أمر الخليفة وعلمت أنه لا مندوحة لها عن العمل به، تجلدت وأومأت إلى الحاجب أن يزيح الستر المنصوب بينها وبين المجلس، فأزاحه والْتَفَتَ الناس نحو السرير وتهيبوا، ولبثوا ينتظرون ما يبدو من شجرة الدر بعد تلاوة الكتاب، فإذا هي تقول: «يا معشر الأمراء، قد سمعتم ما أمر به أمير المؤمنين، وطاعته فرض على كل مسلم. قد صدق — حفظه الله — فإن النساء لا يصلحن للسلطنة، وأنا لم أقبل هذا المنصب إلا عملًا برأيكم أيها الأمراء والقواد ورغبة في استقرار الأحوال بعد اضطرابها، أما الآن وقد استقرت الأمور وسمعنا رأي مولانا الخليفة، فإني أخلع نفسي وأطلب منكم أن تختاروا من ترونه ليتولى هذا الأمر، وأنا أول من يخضع له.»
فاستحسن محبوها هذا التنازل منها؛ لأنه دل على كبر نفسها وسعة عقلها، ولم تستحسنه سلافة؛ لأنها كانت تحب أن تتردد فينزلوها كرهًا، على أنها فرحت بخلعها. ولما فرغت شجرة الدر من قولها، خرج صوت من وراء حجاب يقول: «لا نقبل علينا سلطانًا ليس من سلالة آل أيوب.»
ولم يعرف الأمر مِن أين خرج الصوت، لكنه عبر عن شعور كثيرين، فأمَّنوا عليه وصادف هوًى من نفوسهم؛ فقد كان أكثر المصريين عند تولية شجرة الدر غير راضين عن توليتها، ويطلبون تولية رجل من آل أيوب، لكنهم أذعنوا خوفًا من الجند، فلما خُلعت وسمعوا صوتًا يقترح ما يشعرون به، أجابوا بالموافقة ولو لم يعرفوا المقترِح. وعلا الضجيج، وكان الصوت الغالب اختيار سلطان من آل أيوب. فتوجهت الأنظار نحو كبير الأمناء هناك، وهو عز الدين أيبك، كأنهم يستشيرونه، فقال: «إن مولاتنا شجرة الدر قد برهنت بتنازلها عن الملك على أنها مخلصة لمولانا أمير المؤمنين، وأنها حريصة على حقوق المسلمين، ونحن لم نولِّها هذا المنصب إلا لأنها والدة المرحوم خليل من سلالة الأيوبيين، أما الآن فما علينا إلا اختيار أحد أمراء تلك السلالة، وأعلم أن منهم مولانا موسى بن صلاح الدين بن مسعود لكنه صغير السن.»
فقاطعه حامل الكتاب قائلًا: «لا يضره صغره، فإنك وصيه وقائد جنده ومدبر أموره، فما رأيكم أيها الأمراء؟»
فصاحوا جميعًا: «هذا هو الصواب، لا نرى أصوب منه.»
فاستغرب عز الدين ذلك من صاحب الكتاب وهو قادم من بغداد، وكيف عرفه ورشحه لهذا المنصب. فلما سمع مصادقة الجمهور وقف ساكتًا، فقال حامل الكتاب: «بما أنكم قد أقررتم تولية موسى بن صلاح الدين، فلنفعل ذلك الآن، وقد دفع إليَّ مولانا أمير المؤمنين شارات السلطنة لأُلْبِسَه إياها.»
قال ذلك وأشار إلى بعض رجاله فدفع إليه حقيبة كالصندوق، فأمره ففتحها وفرش ملاءة وأخذ يستخرج ما في الصندوق ويضعه فوقها، والناس ينظرون، فكان أول شيء استخرجه خلعة سوداء، هي شارة بني العباس، ثم عمامة سوداء، وأخرج طوقًا من ذهب للعنق، وقيدًا من ذهب للرِّجل، فلما صارت كلها على الملاءة قال: «هذه شارات السلطنة، فأْتوني بالسلطان موسى بن صلاح الدين لنلبسه إياها؛ فقد أوصاني أمير المؤمنين ألا أخرج من مصر إلا وعليها سلطان من آل أيوب.»
فسارع عز الدين إلى إحضار موسى، ولم تمضِ مدة قصيرة حتَّى جيء به، وهو طفل في الثامنة من عمره، فألبسوه تلك الشارات على قدر الإمكان، ونادوا به سلطانًا على أن يكون عز الدين أيبك وصيًّا عليه ومدبرًا لأمور الدولة بالنيابة عنه.
كل ذلك وشجرة الدر على سريرها ترى وتسمع، فلما فرغوا من تنصيب السلطان الجديد وأَرْخوا الستار عليها تنفست الصعداء وأكبت على كتف شوكار وأخذتا في البكاء، وشوكار تتجلد وتقول: «هلمِّي يا سيدتي نذهب إلى غرفتك لئلا نفتضح.»
فأطاعتها، ومشتا نحو الغرفة، ولما وصلتا إلى هناك أخذت شوكار تخفف عن سيدتها، وهذه تتأوه وتتنهد، وأخيرًا قالت: «لا أعلم سبب هذا التغيير، ولكنني أحسنت بالتنازل من تلقاء نفسي. ولا تظني أني آسفة على اعتزال هذا المنصب الشاق، وأنتِ أعلم الناس بما كنتُ أشكوه من ثقال أعبائه. ويكفيني أني أول امرأة تولت الملك في الإسلام، وأنتِ الآن تَعْزِيَتِي الوحيدة.»
فلم يعجبها قولها لأنها أصبحت تفضِّل أن تكون تعزية ركن الدين، فسكتت، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «إنما أتأسف لأني لم أبقَ على كرسي الملك حتَّى ينال ركن الدين ما هو أهل له من الرتب العالية، لكنه سينالها من سواي، ولو كان هنا اليوم لنال شيئًا، وربما كان هو المختار للوصاية.»
فانقبضت نفس شوكار عند سماع ذلك، وتأسفت لفوات الفرصة، لكنها عادت إلى إطراء سيدتها وقالت: «إنما يهمني يا سيدتي أن تكوني سعيدة.»
قالت: «إني سعيدة بك يا شوكار كما تعلمين، والحمد لله على أن تخلصت من أعباء الملك. لقد ذقتها فلا أحسد أحدًا عليها ولا أتمنى أن أعود إليها.»
قالت شوكار: «صدقتِ يا سيدتي؛ لأني رأيتك منذ توليتِ السلطنة قلقة الخاطر، وكنتِ قبلها منشرحة الصدر، فلنَعُدْ إلى ذلك. متَى يعود ركن الدين يا ترى؟»
قالت: «سيعود قريبًا، إنه حالما يسمع بهذا التغيير يأتي، ومتَى أتى نلتِ ما وعدتُك به.» فأطرقت وسكتت.
•••
تولَّى الأمرَ موسى بن صلاح الدين، ولقبوه بالملك الأشرف، وناب عنه في تدبير الأمور عز الدين. ولقد أحسَّ هذا أن ما ناله في هذا اليوم كان الفضل فيه لسلافة؛ فلما انصرف القوم كان أول شيء عمله أنه ذهب إلى منزل سلافة، فرآها جالسة جلوس الملك الظافر وهي تضحك لنجاح مهمتها، فلما دخل ألقى التحية فقالت: «كيف رأيت أيها الأمير؟ ألم تكن سلافة عاقلة تفهم سرائر الأمور؟»
قال: «صدقتِ والله، إنك جئت بالمعجزات. ألا تخبرينني كيف استطعت الاطِّلاع على هذه الأمور قبل وقوعها؟»
قالت: «أما وقد علمتَ صدق مودتي لك، فلا أُخفي عليك أني أنا السبب فيما رأيته من التغيير والتبديل؛ بسبب صداقتي لقيِّمة قصر الخليفة المستعصم بالله، فإني كتبت إليها كتابًا ترتب عليه ما رأيت، ولكنها اشترطت عليَّ أمرًا ضمنتُ لها تنفيذه ولم أحدِّثْك عنه من قبلُ، لعلمي أنك لا ترى مانعًا من إمضائه.»
قال: «وما هو؟» قالت: «أتعدني أنكَ فاعلُه؟»
ففكَّر فيما عسى أن يكون طلبها، وخاف أن يكون فيه ما يسوءه، لكنه لم يسعه إلا الطاعة فقال: «إني فاعل ما تريدين.»
قالت: «هذا كتاب قيِّمَة القصر تقول فيه إن مولانا أمير المؤمنين بلغه أن فتاة رخيمة الصوت تتمتع شجرةُ الدر بغنائها، وقد طلب أن ترسل إليه حالًا؛ لأن أمير المؤمنين مغرم بالغناء، وقد ضمنتُ لرسول الخليفة أن أرسل معه جارية شجرة الدر هدية للخليفة.»
قال: «لعلك تعنين المغنية شوكار؟» قالت: «نعم، إياها أعني، فماذا ترى؟»
قال: «هذا هيِّن عليَّ، وأظنه يَسُرُّ الجارية لأنها ستنتقل من خدمة ملكة مخلوعة إلى قصر خليفة عظيم.»
فأعجبها قوله «ملكة مخلوعة»، وابتسمت وقالت: «ولا يخفى عليك أن إرضاء الخليفة لا بد لك منه الآن، وأنك ستحتاج إلى رضاه عنك إذا أحسنتَ التدبير وصرت سلطانًا مستقلًّا. أظنك فهمتَ مرادي.»
فأومأ برأسه أنه فهم كل شيء، وأسرع إلى النهوض وأشار إليها مودِّعًا وهو يقول: «ائذني لي في الانصراف للقيام بهذه المهمة.»
قالت: «سِرْ يحرسك الله، ولا تنسَ أن الرسول سيسافر غدًا، ويجب أن تكون معه شوكار.»
وسار عز الدين إلى القلعة متنكرًا، وكان في أثناء الطريق يفكر في سلافة واقتدارها، وقد شعر بفضلها عليه، ورأى أنه لم يكن أمينًا في حب شجرة الدر، ولكنه اغتفر لنفسه ذلك بما كان قد داخله من الشك في أمرها مع ركن الدين بالأمس، وكان يجب أن يؤجل مقابلة شجرة الدر إلى الغد ريثما يهدأ روعها، لكن إلحاح سلافة بعثه على سرعة مقابلتها.
فلما دخل القلعة صار توًّا إلى منزل شجرة الدر، وكانت جالسة في غرفتها مع شوكار، وقد أخذت هذه تعزف على العود وتغنيها لتخفيف ما بها. ولما أقبل عز الدين على باب الدار سمع صوت العود فأشار إلى الحاجب أن يخبر شجرة الدر بقدومه.
ودخل الحاجب وأنبأها بذلك، ولكن عز الدين لم ينتظر جوابها بالإذن، بل دخل توًّا بما له من الصداقة، فلما أقبل على الغرفة رأى شجرة الدر بثياب المنزل، وقد عصبت رأسها بعصابة مزركشة أرادت بها تخفيف صداع ألمَّ برأسها على أثر ما كابدته في ذلك اليوم، فلما رأته داخلًا تثاقلت في النهوض وهي تتألم من الصداع، ولم يكن الصداع وحده سبب تثاقلها، لكنها كانت قد شعرت بتغير قلبه وتحول محبته، ولم يَفُتْها أمر سلافة وتردده إليها قبل خلعها، وتأكدت تغيُّره في ذلك اليوم لأنها كانت تراقب حركاته، وعلمت أنه ذهب إليها عقب انفضاض المجلس في حين كان ينبغي له أن يبادر إلى لقائها هي لكي يؤانسها ويخفف عنها، وهذا ما كانت تتوقعه لو كان باقيًا على عهده معها؛ فلما رأته داخلًا انقبضت نفسها واختلج قلبها في صدرها عتبًا وغيظًا.
أما هو فأسرع إليها وهي تتحفز للوقوف وقال: «اجلسي يا سيدتي، لا حاجة إلى وقوفك، إني أراك مريضة، ماذا أصابك؟»
فعادت إلى مقعدها وهي تصلح العصابة وتلتفُّ بالمطرف وتكمش كأن البرد يتمشى في عروقها، وظلت ساكتة، فقعد عز الدين على كرسي بين يديها وقال: «أظنكِ مصابة بالصداع الذي كان يتردد عليك أحيانًا.»
فقالت: «إنه صداع شديد لم أُصَبْ بمثله من قبل، لا أراك اللهُ مثلَه يا عز الدين، وحماك من غوائله.»
فلم يعجبه قولها، وأدرك أنها تعني شيئًا تضمره، فقال: «لا ينجو أحد من الصداع يا شجرة الدر، وليس هو مما يؤبه له، ولا يلبث أن يزول.»
قالت: «إنه يختلف عما تعوَّدْتُه قبلًا، وتغيير العادة صعب، أليس كذلك؟» وظهر العتب في عينيها.
فأدرك مرادها لكنه تجاهل وقال: «إن الإنسان لا يتعود الأوجاع، فإذا عاودته رآها في كل مرة جديدة كأنه لم يذقها من قبل. ولو علمتُ أنك مصابة بالصداع لأسرعت إليك قبل هذه الساعة.»
قالت: «لا تشغل بالك بهذه الملكة المخلوعة، وأنت الآن في شاغل بأمور الدولة وغيرها.»
قال: «وهل تظنين أمور الدولة تشغلني عن شجرة الدر، وقد كان يجب أن أبادر إلى تهنئتكِ بالنجاة من أثقال هذه المهام. وأعجبني منك ما أظهرته في هذا الصباح من رباطة الجأش وسعة الصدر، وقد أحسنتِ في كل ما صدر منكِ فلم تتركي لأمر الخليفة بالخلع قوة أو أثرًا.» وتنحنح وبلع ريقه وقال: «والحقُّ يقال؛ إن ذلك الأمر إذا كان له أثر فإنما يكون أثره موجهًا إلينا، أو إليَّ خاصة؛ لأننا ألجأناك إلى قبول السلطنة، ولم يدُرْ في خَلَدنا أن يكون ذلك مخالفًا لإرادة أمير المؤمنين.» فلم يعجبها منه ذلك المنُّ عليها بأنه هو الذي جعلها ملكة فقالت: «أنتم أخطأتم بالاقتراح وأنا أخطأت بالقبول. على أن نزولي عن عرش المُلك لم يترك أثرًا كبيرًا في نفسي بقدرِ ما ترك …» وسكتت وهي تنظر إليه نظر العتاب.
فعلم أنها تشير إلى تغيره، فبادرها وقال بلهفة: «أخاف أن يكون قد داخَلَكِ شكٌّ في صداقتي و…»
فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا. لم يداخلني شيء، ولكنني تعلمت أن الإنسان لا ينبغي أن تغرَّه ظواهر الأمور دائمًا، والذي أراه الآن أن نترك العتاب ونروِّح خواطرنا بلحن نسمعه من شوكار.» والتفتت إلى شوكار، وكانت قد وضعت العود بجانبها، فتناولته وأصغت لما تأمرها به سيدتها فإذا هي تقول لها: «أنت يا شوكار تعزيتي الوحيدة الآن، ولا أخاف تغيُّرك. غَنِّينِي لحنًا محزنًا.» قالت ذلك وتلألأ الدمع في عينيها.
فتأثر عز الدين من منظرها، خصوصًا بعد ما رآه من تعلقها بشوكار وهو قادم ليأخذها منها؛ فظهرت البغتة في وجهه، لكنه تشاغل بسماع الغناء، وهو يُظهر أنه يسمع، والحقيقة أنه وقع في حيرة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، والوقت لا يساعده على تأجيل مهمته، وقضى برهة وهو يفكر في حيلة ينتحلها للدخول في الموضوع وطلبِ شوكار منها. فلما فرغت شوكار من الغناء الْتَفَتَ عز الدين إلى شجرة الدر وهو يبتسم وقال: «يظهر أنك انقطعت عن كل شيء إلى شوكار، أليس في قصرك من يحسن الغناء سواها؟»
قالت: «لا أعني الغناء فقط، وإنما أعني أنها تؤانسني، وأعتقد أنها تحبني، ولا أخاف أن تتحول عن محبتي.»
فأدرك عز الدين ما تعنيه من تغيره عليها، لكنه صمم أن يصل إلى مراده فقال: «ولكن ليس من الحكمة أن تعلقي آمالك بها إلى هذا الحد، أنا آتيكِ بمغنية أحسن منها متَى شئت.»
فقالت: «لا، لا أريد سواها.»
فقال: «الأفضل أن تطلبي سواها.»
فقالت وكأنها أحست بما يضمره: «هل تنوي أن تسلبني هذه التعزية أيضًا؟» قال: «لم أكن أحسب لها هذا المركز لديكِ، ولولا ذلك لما وافقت على أخذها.»
فأجفلت وصاحت: «أخذها؟ من يأخذها مني؟ لا، لا، إنها جاريتي وأُعزُّها معزة البنين. لا أسمح بها لأحد أبدًا.»
فتشاغل بحك عثنونه بسبابته وهو مطرق ثم قال: «صدقت، يحق لك أن تحرصي عليها وألا تسمحي بها لأحد، ولكن الإنسان لا يَقْدر أن يفعل ما يشاء دائمًا. ولا سيما إذا كان الطالب لا يمكن رد طلبه.»
فنهضت ونظرت إليه بدهشة وقالت: «من طلبها؟ قل يا عز الدين.»
قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن طالبها أعظم رجل في المسلمين.» فقعدت وقالت: «أظنك تعني المستعصم بالله أمير المؤمنين؟ أما كفاه خلعي عن المُلك حتَّى يطلب جاريتي؟»
قال: «يسوءني أني لا أرى مندوحة عن إجابة طلبه وهو أمير المؤمنين ونحن تحت رعايته، وهو خليفة الرسول ﷺ.»
قالت: «وكيف طلبها؟ ومن جاء ليأخذها؟»
قال: «رسول الخليفة حامل كتابه، وقد رأيته بالأمس.»
فتناثر الدمع من عينيها رغم إرادتها، والتفتَتْ إلى شوكار فرأتها مطرقة ساكتة ودموعها تتدحرج على خديها، فأثر منظرها في نفسها وهاج غضبها وقالت: «هل وافقتَه على ذلك يا عز الدين؟»
قال: «وهل في الإمكان رد طلبه، وقد رأيت أمره نافذًا فيما هو أعظم من ذلك؟»
فوقفت وأخذت تمسح عينيها بمنديلها وهي تكاد تتميز من الغيظ، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «ولكن هذه الفتاة مخطوبة.»
قال: «لا أعلم، وإنما عليَّ أن أنفذ طلب أمير المؤمنين، فإذا كانت لأحد حاجة فليطالب بها أمير المؤمنين.» قال ذلك ونهض وقد ظهر الإصرار والجد في حركاته، ثم قال: «فلتستعدَّ شوكار للسفر غدًا صباحًا، واعلمي أنها ستسافر معززة مكرمة لأنها طلبة أمير المؤمنين ولا خوف عليها.»
وخرج عز الدين، ولم يكد يبلغ الممر حتَّى سمع بكاء شوكار وشهيقها لكنه تغافل وأوصى الحرس هناك أن يراقبوها لئلا تفر خلسة في أثناء الليل.
وقد أحسن عز الدين بهذه الوصية لأن شجرة الدر كانت قد عزمت على أن تمهد لشوكار سبيل الفرار، فلما رأت استحالة ذلك عظم الأمر عليها، وتمكنت البغضاء من نفسها، وأصبح همها التخفيف عن شوكار والتهوين عليها، وتجلدت أمامها وبيَّنَت لها أن ذلك الأمر لا مناص من الطاعة فيه، ولكنها ستبذل جهدها في إنقاذها، وأكدت لها أن ذهابها لا خوف منه.
أما شوكار فكان أكبر همها أن ترى ركن الدين وما يكون إحساسه بعد أن يسمع ذلك الطلب، وما الذي يبدو من غيرته أو فتوره. ولكن لا سبيل إليه وهو بعيد، والوقت لا يساعد على استقدامه في ذلك الليل، فاستسلمت وتوكلت، ولم يكن ذلك في عُرف تلك الأيام شيئًا عظيمًا؛ لِمَا تمكن في نفوس الناس من امتياز الخلفاء والأمراء، وأن أولئك الجواري مثل سائر المتاع لا إرادة لهن ولا رأي، وعليهن الاستسلام لما يطرأ عليهن في الانتقال من سيد إلى سيد. ولولا خوف شوكار من أن تخسر ركن الدين لكان انتقالها إلى بيت الخليفة مما يحسدها عليه كثيرات، ومع ذلك لم يكن لها أن تختار.
وفي صباح اليوم التالي حملها بعض الخصيان إلى معسكر رسول الخليفة بعد أن ودَّعَت مولاتها وداعًا مؤثرًا، لكن شجرة الدر أكدت لها أنها لن تنساها، ولا بد من أن تقترن بركن الدين، فسافرت إلى بغداد وقلبها في مصر.
أما شجرة الدر فقد شق عليها فراق شوكار كثيرًا، لكن غضبها من عز الدين إنما كان سببه الغيرة من سلافة، وحدثتها نفسها أن تلك الجارية هي سبب مصائبها. وقد نقمت على عز الدين خيانته المضاعفة؛ فقد خانها في قلبها وأحب سواها، وخانها في منصبها فلم يُبدِ اعتراضًا على خلعها وهو قائد الجند وصاحب القوة الفعالة، فاضطرت إلى الإذعان لحكم الزمان؛ إذ لم تَرَ وسيلة إلى غير ذلك.
على أنها تذكرت ركن الدين وهو آتٍ عما قليل إلى القاهرة، فكيف تقابله؟ وماذا تقول له؟ وكان هو حين بلغه ما حدث من الانقلاب في القاهرة قد سارع إليها، فوصل عقب سفر شوكار، وجاء إلى شجرة الدر قبل مقابلته عز الدين، فأخبرته بما جرى ولا سيما في شأن شوكار، وأكدت له أنها بذلت جهدها في إقناع عز الدين ليبقيها فأبى، وبالغت في وصف قحته وفظاظته لكي توفر صدره عليه.
وكان ركن الدين ما زال بثياب السفر، فعظم عليه الأمر، وقام في خاطره لأول وهلة أن عز الدين فعل ذلك نكاية فيه ليحرمه من شوكار، لكنه كان رابط الجأش واسع الصدر حريصًا على سرِّه، فلم يُجِب بكلمة واحدة مع أن الغضب بدا في عينيه، وكانت شجرة الدر تلاحظ ذلك فيه فتعيد الشكوى، وتتوقع أن يقول قولًا يشفي غليلها، ولا يشفيه إلا أن يتوعد عز الدين بالقتل؛ لأن حبها له قد تحول إلى كره بعد ظهور خيانته.
وبعد حديث طويل وهو ساكت ملَّت سكوته، فقالت: «ما بالك يا ركن الدين؟ لعلك سررت بذهاب شوكار من يدك كما سررت بذهاب الدولة مني؟ وكلاهما من فعل ذلك الخليفة الخليع؟!»
فعظم عليه ذلك التعبير الجريء عن الخليفة فقال لها: «وأي خليفة تعنين؟»
قالت: «أعني المستعصم، صاحب بغداد، الذي استعظم أن يتولى أمر المسلمين امرأة ولم يستعظم أن يتولاه رجل ساقط الهمة ضعيف الرأي مشتغل باللهو والقيان وسماع الغناء.» قالت ذلك وقد بان الغضب في عينيها، وتاقت نفسها إلى معرفة وقْع هذا القول في نفس ركن الدين، فوجدته لم يزدَدْ إلا إطراقًا وسكوتًا.
ولو أوتيت قراءة الأفكار لعلمت أن سكوت ذلك الأمير أدلُّ على غضبه من الكلام وأنفذُ لغرضه من السهام. وقد تنازعته عوامل كثيرة كل واحد منها يقيمه ويقعده، وقامت في نفسه أمور لو اطَّلعَت عليها شجرة الدر لشُفي غليلها وخفَّت نقمتها؛ لأنها كانت تستحثه على المسير ذراعًا وهو يريد أن يمشي ميلًا أو فرسخًا.
فلما رأته ما زال ساكتًا أشكل عليها أمره فقالت: «تكلم يا ركن الدين، تكلم، لقد ضاق صدري من سكوتك، لعلك لم تصدِّق قولي؟ تمهل، إني سآتيك برجل يعرف هذا الخليفة حق المعرفة، وقد جاء من بغداد أمس، اسأله ينبئك عن أفعال ذلك الخليع. اجلس وأنا أبعث إليه الساعة.»
فقعد وهو يلاعب شاربيه ولحيته بيده ويوشك أن يقتلع شعرهما بأنامله من فرط التأثر وهو لا يشعر. وبعد قليل دخل البغدادي، وحالمَا رآه ركن الدين عرفه وناداه قائلًا: «سحبان.»
فصاحبت شجرة الدر: «قد أنطقك الله بعد طول السكوت، الحمد لله، الفضل في ذلك لسحبان — حفظه الله — قل يا سحبان، ما الذي تعرفه عن المستعصم صاحب بغداد؟ ولا تَخَفْ من التصريح، فإن ركن الدين صديقنا، قل ما قلته لي البارحة.»
•••
وكان سحبان قد عاد عن المهمة التي بعثته فيها سلافة وقضاها كما تريد، فلما جاءها وقص عليها ما فعله لم يجدْ منها إقبالًا، ثم لحظ تردد عز الدين عليها ورأى الجفاء منه أيضًا، فتحول حبه لسلافة إلى بغض، ونقم عليها وعلى عز الدين. وهو ناقم على تلك الدولة برمتها لأنه شيعي من أهل بغداد، وقد برحها فرارًا من ظلم العباسيين واضطهادهم الشيعةَ بحيث لم يَعُد في إمكانه الصبر على الضيم هناك، فجاء القاهرة منذ بضعة أعوام، واجتمع بمن فيها من الشيعة، فتشاكوا فيما بينهم وهم صابرون مرتقبون سنوح الفرصة لعلهم يستطيعون أن يستعيدوا الأمر للعلويين كما حدث في أيام الفاطميين. وكان سحبان ذا ثروة وتجارة واسعة، وقد أحب سلافة فكلفته بتلك المهمة، فلما عاد شق عليه تغيُّرُها، ولم يجدْ خيرًا من أن يثير غضب شجرة الدر عليها وعلى العباسيين وعلى سلطانهم بمصر جملة، وهو يعلم أنها قريبة الإصغاء إليه لما هي فيه بسبب زوال منصبها وخيانة عز الدين لها. فقابلها بصفة تاجر، وكانت تعرفه كما تعرفه سلافة، وأظهر أنه قادم من بغداد بسلع جديدة تليق بها، وتَطرَّق في الحديث حتَّى هاجها على الخليفة، وأكد لها خيانة عز الدين، فكتمت ذلك حتَّى جاء ركن الدين فقصت عليه ما عرفته، ولأجل التثبت استقدمت سحبان، فلما رآه ركن الدين بَشَّ له ودعاه إلى الجلوس، فقالت شجرة الدر وهي تضحك: «كيف فارقت أمير المؤمنين يا سحبان؟»
فقال: «فارقت رجلًا لا هم له إلا سماع الغناء والاشتغال بالطعام والشراب والنساء.»
قالت: «وكيف ترى دولته؟»
قال: «إني أخاف على دولته من أهلها، إن لم أَخَفْ عليها من المغول؛ فإنهم أوشكوا أن يحملوا عليها والناس خائفون. أما الخليفة فلا يهمه غير الطرب واللهو، وإذا ظل على هذه الحال فالدولة ذاهبة لا محالة.»
فضحك ركن الدين وقال: «هل تذهب دولة العباسيين؟ قد سمعت أصحاب الأخبار يؤكدون أنها تبقى أبد الدهر ولا يمكن أن تخلو الأرض منها.»
قال: «لكن الواقع أنها ذاهبة لا محالة.»
قال: «وهل تخلو الدنيا من خلافة؟»
قال: «كلا يا مولاي.»
قال: «فمن أين نأتي بالخليفة؟ ومن يثبت سلاطيننا على مصر؟»
قال: «ألا يصح التثبيت إلا إذا كان من العراق؟ ألا يصح أن يكون من مصر؟ ألم تكن مصر هذه خلافة زاهية منذ أقل من مائة سنة؟ ألم تكن أحسن حالًا وأوسع جاهًا؟ و…»
فلم يصبر عليه ركن الدين حتَّى يتم كلامه فقال له: «أظنك تعني دولة الفاطميين، ولكن أولئك من الشيعة.»
فقال: «وما ضر أنهم شيعة؟ أليسوا مسلمين من قريش؟ وإنما الفرق أن الخلافة يكون مركزها في هذه البلاد؛ فيزداد عمرانها، وتتسع تجارتها، وتعمر أساطيلها، وتمتد فتوحها، وتصير العراق إمارة من إماراتها بدلًا من أن تكون صاحبة الأمر عليها.»
وكان سحبان يتكلم وركن الدين شاخص إليه مستغرق في تتبع كلامه ليستطلع حقيقة ما يكنُّه ضميره، وهو يعلم غرض الشيعة، فصدق من كلامه ما يوافق غرضه، ولم يبدِ ملاحظة ولا صرَّح بما جال في خاطره وما زاد على قوله: «لقد أفدتنا يا سحبان جزاك الله خيرًا.» ونهض يريد الانصراف، فنهض سحبان واستأذن وانصرف، وقد أدهشه سكوت ركن الدين وتكتمه، وقال في نفسه: «إنه رجل لا يؤمَن جانبه.»
أما شجرة الدر فلم تكن أقل دهشة من سحبان، فلمَّا خرج قالت: «يا ركن الدين قد آن لك أن تتكلم، ولا أزيدك شيئًا على ما سمعته عن تضعضع العباسيين في بغداد ولا عن حال السلطنة المصرية، فإن سلطانها غلام سنه ثماني سنوات، والحكومة كلها في يد الوصي عليه؛ عز الدين.»
قالت ذلك وهي تتميز من الغيظ.
قال: «أراكِ غاضبة على عز الدين، لعلك غضبت لأنه سمح بإرسال شوكار إلى الخليفة لتكون عنده في جملة المغنيات.»
قالت: «نعم، هذا هو سبب غضبي الرئيسي، ولي على عز الدين أمور أخرى تخصني.»
فقال: «وهل ذهبت شوكار راضية؟»
قالت: «كلا، إنها ودعتني باكية وهي تذكر ركن الدين، وأوصتني أن أقول لك إنها باقية على حبك لا ترضى عنك بديلًا ولو كان الخليفة نفسه، وأنا أكدت لها أنك لن تتخلى عنها. إن البطل ركن الدين سيكون ركنًا قويًّا لنا، أعني أنا وهي؛ لأني أصبحت الآن وحيدة، وهذا عز الدين قد شغل بسواي وبمنصبه ونسي الصداقة. ولكن لا بأس ليكن كما يشاء والله مع الصابرين.»
فقال ركن الدين: «إذن شوكار ما زالت على حبها لي؟»
قالت: «نعم، ولا شك عندي أنك ستتفانى في سبيل إنقاذها والانتقام لها. لكن قل لي ما رأيك فيما ذكره سحبان من حيث الخلافة الفاطمية؟»
قال: «لم يعجبني قوله. إن الرجل يطلب خلافة شيعية، وهذا لا يصح ولا يليق بنا. ولكنني لم أُجِبْه سلبًا ولا إيجابًا. ولا أقول شيئًا الآن على كل حال، بل أترك ذلك إلى حينه والأمور مرهونة بأوقاتها. أستأذنك يا سيدتي.» قال ذلك ونهض خارجًا فشيَّعَته شجرة الدر قائلة: «في حراسة الله.»