في بغداد
بلغت بغداد أقصى عمرانها في أيام المأمون، حتَّى امتدت أبنيتها وبساتينها إلى نحو ١٦٠٠٠ فدان. وقد كانت مدنًا متلاصقة.
وهي واقعة في الجانب الغربي لنهر دجلة، ولا تزال المدينة التي بناها المنصور هناك باقية بشكلها المستدير.
أما في زمن روايتنا، في القرن السابع للهجرة، فقد تبدل حالها وانتقلت أكثر عمارتها إلى الجانب الشرقي من حيث قصور الخلافة. وامَّحت مدينة المنصور، وتدهورت حالتها الاجتماعية بعد أن كانت في القرون الأولى من بنائها؛ أم المدائن، ومهبط التجارة، ومجتمع العلماء والشعراء، وموئل طلاب الثروة والجمال. على أنها بعد أن ضعف شأن الخلافة فيها، تسربت إليها الدسائس وقامت الفتن بين أهلها، وأهمها الشقاق بين أهل السنة والشيعة، فلم تكن تمضي سَنَة لا يقع فيها بين الطائفتين قتال تتوسط الحكومة في شأنه. وكانت هذه سنية، فكان الضغط يقع غالبًا على الشيعة، وكانوا يقيمون في الكرخ والكاظمية وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك توليهم مصالحها وتعهد إليهم في تدبير شئونها.
وكان هذا الشقاق سببًا في سقوط بغداد ودخولها في حوزة التتر على يد هولاكو، وذلك طبيعي في تاريخ الدول. وإذا تدبرتَ أسباب الانقلابات السياسية التي تنتقل بها السيادة من دولة إلى دولة، وجدتَ معظمها يرجع إلى انقسام أبناء البلاد فيما بينهم بالمشاحنات الدينية أو الأغراض السياسية، حتَّى يستولي القنوط على الفئة الضعيفة إذا غُلبت على أمرها، فتستنجد بالغرباء ليأخذوا بناصرها، ثم لا يزالون يتحينون الفرص حتَّى تصير الدولة إليهم. وتكاد لا تجد انقلابًا سياسيًّا في تلك العصور يخرج سببه عن نحوِ ما تقدم.
•••
وكان على دجلة جِسران موصلان بين شرقي المدينة وغربيها، وكلٌّ منهما مبني من أخشاب مفروشة على سفن مستديرة الشكل، وأهمها منصوب بين حي قصر عيسى والرصافة، ينتقل عليه الناس والدواب.
وكان على ضفاف دجلة في البر الشرقي قصور الخلفاء وأهم أبنية بغداد، وأشهرها قصر التاج والقصر الحَسَني، والمدرسة المستنصرية — التي بناها المستنصر بالله والد المستعصم بالله الذي تدور في زمانه حوادث هذه القصة — والمدرسة النظامية، وقصر الريحانية، وقصر الفردوس. وأقربها من طرف الجسر الشرقي قصر لا اسم له كان يقيم فيه مؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم، وكان من أهل الكفاءة والدهاء، ولكنه كان نصوحًا مخلصًا يرى ما في الدولة من الاضطراب ويبذل جهده في النصح للخليفة وتنبيهه إلى ما يعود بالصلاح عليه وعلى الدولة. وكان المستعصم ضعيف الرأي لكنه حسن الظن بوزيره، فكان يصغي لنصائحه في أكثر الأحيان.
غير أن ذلك لم يكن ضامنًا للخير منقذًا من الخطر؛ لأن الرأس إذا كان مختلًّا اضطربت سائر الأعضاء، ويغلب في مثل هذه الحال أن ينقاد إلى المتملقين وذوي الأغراض من أهل الدولة أو العصبية، فيغتنموا فرصة ضعفه ويعيثوا في الأرض فسادًا لإرواء مطامعهم، وهو لا يسمع فيهم لومًا ولا يصغي إلى انتقاد.
تلك كانت حال المستعصم في ذلك الحين، حتَّى أصبح ألعوبة بين أيدي أعوانه ورؤساء قصوره؛ لأنه كان منغمسًا في الترف شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة، وكان ندماؤه وأعوانه منهمكين معه في الملاذِّ لا يرجون له صلاحًا.
وزاد الطين بلة أن هولاكو التتري حفيد جنكيز خان كان قد أسس دولة عرفت بدولة أيلخان، أو مغول الفرس، فلما استقر له الأمر في فارس طمع في بغداد، وأخذ يستعد للحملة عليها. فاتفق أنه وهو يحارب الإسماعيلية في فارس ويحاصر قلاعهم، كتب إلى المستعصم يستنجده، وأراد هذا أن ينجده، فمنعه أمراؤه من ذلك مخافة أن يكون قصد هولاكو الخديعة لتخلو بغداد من الرجال، فيملكها بسهولة. ثم فتح هولاكو تلك القلاع وبعث إلى المستعصم يعاتبه، فأشار عليه الوزير ابن العلقمي أن يسترضيه بالهدايا والأموال، فأطاعه وأخذ في تجهيز هدية من الجواهر والمماليك والجواري، فاعترض الداودار — قائد الجند — وطعن في نية الوزير وقال: «إنه يروم تسليم الدولة إلى التتر.» فكف الخليفة وأرسل هدية يسيرة. فغضب هولاكو وبعث إلى الخليفة أنه لا يرضيه إلا إذا أتى هو بنفسه للاعتذار، أو أن ينيب عنه الوزير أو الداودار، فأرسل إليه أناسًا لم يقبل هولاكو نيابتهم، واتخذ ذلك ذريعة للحملة على بغداد.
ولم يدرك المستعصم حقيقة غرضه، ووقع ابن العلقمي في حيرة من أمره، فكان يكثر التفكير في مصير هذه الحال، ويرى الخطر محدقًا بالدولة فينصح ويحذر بلا جدوى. وكانت رسل هولاكو تأتيه سرًّا تحمل إليه كتب التحريض على الخروج إليه أو مطاوعته في تسليم بغداد، ويعده الوعود الكثيرة. وهو يتردد ويصبر لعل الخليفة يصغي لنصحه، وكان إذا لقي المستعصم وخاطبه في ذلك، وعده أن يعمل برأيه ثم لا يلبث بعدُ أن يفارقه حتَّى يرجع عن وعوده بما يدسه بعض الأعوان من الدسائس على ابن العلقمي ويتهمونه بالخيانة لأنه شيعي.
وكان كبار الشيعة من الجهة الثانية يحومون حول ابن العلقمي يَشْكون إليه ما يقاسونه من الاضطهاد والعسف من ابن الخليفة، حتَّى أصبحوا لا يأمنون على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم يقيمون في الجانب الغربي من بغداد، وأكثرهم في الكرخ والكاظمية، وابن العلقمي يخفف عنهم ويعدهم خيرًا، لكنه كان يتجنب الاجتماع بهم جهارًا خوفًا من وقوع الشبهة عليه، فلم يكن يأذن لأحد منهم أن يزوره إلا خلسة؛ لأن جواسيس المستعصم مبثوثون حوله يعدون عليه أنفاسه.
•••
أصبح ابن العلقمي ذات يوم وقد عظم الأمر على نفسه، ونفر من العمل وهو لا يرى فيه مصلحة له ولا للدولة، فاعتكف في منزله، وكان في قصره شرفة مرتفعة تطل على دجلة والجسر والرصافة والكرخ جميعًا، كان قد بناها لهذا الغرض، فصعد إليها وأمر الخدم ألا يزعجوه كأنه مريض لا يقدر أن يقابل أحدًا.
صعد إلى الشرفة وقد التفَّ بعباءة خفيفة واعتمَّ بعمامة صغيرة، وكانت الشرفة كالمصطبة أو المنظرة عليها الوسائد والطنافس وبعض أدوات التسلية لمن شاء من زائريه، وبينها رقعة من شطرنج موضوعة على وسادة فجلس بجانبها، وكانت هذه اللعبة كثيرة الشيوع في بغداد، تلذ لأصحاب العقول المفكرة، ولا سيما الذين يهتمون بالسياسة ويحتاجون إلى الحيل العقلية، وهو يومئذٍ في تردد واضطراب، فأخذ ينظر في تلك الرقعة ويتسلى بنقل أحجارها على سبيل التجربة، فلم تجد نفسه راحة في ذلك.
فانتقل إلى دكة في صدر المنظرة تطل على بغداد، وكان الجو صافيًا فألقى نظره إلى تلك المدينة التاريخية يخترقها نهر دجلة المبارك، وعلى ضفتيه العمائر من القصور والمدارس والمستشفيات والمساجد والحمامات والبساتين والترع والجسور والطرق والدروب والأسواق، مما يشغل الخاطر. واستحضرت ذاكرته تاريخ بناء هذه المدينة، وسبب بنائها منذ خمسمائة سنة ونيف، ومَن توالوا عليها من الخلفاء، وما تقلب عليهم من الأحوال، وما بلغت إليه في أيام الرشيد من أسباب الحضارة، يوم كانت عاصمة الإسلام في أقطار الأرض، تجبى إليها الأموال من معظم العالم المعمور، من تركستان إلى المحيط الأطلانطي، ويتوافد إليها ملوك الأرض يخطبون ود صاحبها ويتزلفون إليه.
ثم صدمته فجأة نكبة البرامكة، وما كان من ذلهم بعد عزهم، وهم أصحاب الفضل الأول في تلك الحضارة، وما عقب ذلك من الفتنة بين الأمين والمأمون ومَن قتل في سبيلها من الأنفس؛ إلى آخر ما حدث من تقلبات السياسة حتَّى صارت الدولة العباسية إلى التقهقر.
وبينما هو يفكر في كل هذا إذ سمع لغطًا في داره كأنه لجاج وجدال، فأصغى فسمع رجلًا يطلب أن يقابله والخدم يقولون له: «إن مولانا الوزير في شاغل عن المقابلة.»
فاستأنس بذلك الصوت وظن أنه يعرف صاحبه، فجذب حبلًا بجانبه متصلًا بالطبقة السفلى من القصر، فدق جرسًا هناك — وهي إشارة الاستدعاء عندهم — فجاءه غلام من غلمانه، فسأله سبب الضوضاء فقال: «إن رجلًا غريبًا يطلب أن يرى مولانا، ولم يصغِ إلى قولنا.»
فقال: «قد سمعت صوته وأظنني عرفته، لا بأس من إدخاله.»
فعاد الغلام بعد قليل ووراءه رجل عليه ثياب الفرس ووجهه فارسي، فحالمَا رآه مؤيد الدين عرفه فرحب به وقال: «مرحبًا بسحبان.»
فأكب سحبان على يد الوزير يهم بتقبيلها، فمنعه الوزير من ذلك وصافحه وأجلسه بجانبه، وأمر الخادم بالانصراف وقال: «منذ متَى جئت؟» قال: «جئت بغداد مساء أمس يا سيدي.»
قال: «من أين أتيت؟» قال: «من القاهرة.» قال: «أذكر أني رأيتك هنا من عهد غير بعيد.»
قال: «نعم يا مولاي كنت هنا وسافرت ثم عدت، حين نفدت بضاعتي لأشتري سواها، وتعبُ السفر لا يهمني كثيرًا.»
فابتسم مؤيد الدين وقال: «انقطعتَ للتجارة يا سحبان؟»
فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «وهل ترى فائدة من سواها أيها الوزير؟»
فأدرك ابن العلقمي أنه يشير إلى الوزارة التي هي عمله، فقال: «صدقت، لا فائدة من سواها، ولا خير في أعمال الحكومة، حتَّى الوزارة، فإن صاحبها متعب القلب بلا فائدة، مضت أيام الوزارة الحقيقية و…» وسكت كأنه خاف التصريح بما في خاطره، فقال سحبان: «الوزارة أرقى مناصب الدولة، والوزير هو صاحب الحل والعقد، لكن يشترط أن …» وبلع ريقه وسكت وهو يُخرج منديله ليتشاغل به.
فقال مؤيد الدين: «ماذا يشترط يا صاحبي؟ هل تحسب وزير اليوم كما كان في صدر هذه الدولة؟» فقطع سحبان كلامه قائلًا: «بل ينبغي أن يكون اليوم أقدر منه في تلك الأيام لضعف الخلفاء.»
فهز مؤيد الدين رأسه وقال: «ولكن هؤلاء الضعفاء لا يسمعون نصيحة؛ لأنهم يصغون إلى خدمهم وخصيانهم.»
قال: «أليس عندك علاج لهذا الضعف يا سيدي؟» قال ذلك وبان الجد في عينيه، فقال مؤيد الدين: «وأي علاج تعني؟» قال: «أعني علاج هذا الضعف، هذا الرجل عضو فاسد، والجراح يشير بقطع العضو الفاسد لئلا يجرَّ الفساد إلى سائر البدن.» وحدق في وجه الوزير يستطلع رأيه.
فأكبر ابن العلقمي هذه الجسارة بين يديه، فنظر إليه نظر المنكر العاتب، وقبل أن يقول كلمة تصدى سحبان وقال: «إنك تعد قولي جسارة أو وقاحة، سمِّه كما تشاء، ولكنني أقول ما أشعر به، ونحن مشتركان في الأمر، وبِيَدنا مفاتيح النصر لا ينقصنا غير الحزم، تَشبَّهْ إذا شئت بخلفاء صدر هذه الدولة وكفى.»
فالتفت مؤيد الدين إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعهما أحد، ثم نظر إلى سحبان قائلًا: «لا أوافقك على ما تقول، ولم أفهم ما تشير إليه.»
قال: «أُجلُّك عن أن يفوتك مرادي، ولكنك ترى من السياسة أن تتجاهل، إني أشير إلى ما فعله الرشيد بجعفر، ألم يقتله ويقتل البرامكة لأنهم شيعة، ولأنه خاف أن يكون منهم سوء على سلطانه، وقد أساء بقتلهم إلى دولته وإلى نفسه. أما أنت فإذا انتقمت للشيعة بهذا الحزم فإنك تنجي هذه البلاد من الخراب.»
فاستعظم مؤيد الدين هذا التصريح وقال: «دعنا من هذا الكلام يا صاحبي؛ إذ لا فائدة منه، وأرى أنك متألم من أمير المؤمنين أو بعض أهله فأردتَ …»
فقطع سحبان كلامه قائلًا في تأثر ظاهر: «كلا، لا أقول ما أقوله عن غضب أو نقمة، وليس بيني وبين هؤلاء علاقة شخصية، لكنني غضبت لقومي وملتي، غضبت للنفوس التي تُقتل والأعراض التي تمزق لا لشيء سوى حبها للإمام علي وسائر أهل البيت.»
ولم يكن مؤيد الدين أقل منه غضبًا ونقمة، لكنه كان حذرًا متأنيًا فقال: «خففت من حدتك يا سحبان، ودعنا الآن من هذا الحديث، إن الأمور مرهونة بأوقاتها.»
قال: «لا أرى وقتًا أنسب من هذا، إن هذا الأمر إذا كان مرهونًا بوقت فهذا هو وقته. اسألني وأنا أجيبك.»
قال: «لا أجهل ما يجول في خاطرك، لكنني لا أرى هذا وقته.»
قال: «لا أظنك فهمت مرادي تمامًا، عندي مشروع آخر غير الذي تعرفه، غير هولاكو …»
فلما سمع الوزير هذا الاسم أجفل لأنه ما برح نصب عينيه منذ أشهر، وهو سبب تردده، فقال: «ما هو؟»
قال: «أشكر لك إصغاءك يا سيدي، الأمر الذي عندي يوصلنا إلى المطلوب رأسًا؛ أعني أننا نحيي الدولة العلوية في بلد ظل مقر العلويين نحو مائتي سنة.»
فقال: «أظنك تعني مصر، أين نحن منها؟ وقد تسلط عليها الأتراك و…»
قال: «أنا أعلم منك بحالها؛ لأني جئت من هناك أمس، وأنا لا أسافر وأجيء للتجارة، لكنني أريد حياة قومي ونصرة الأئمة المظلومين. أنا في مصر منذ أعوام، وقد عرفت دخائلها، وهي في يدي كما أشاء.»
فضحك ابن العلقمي وقال: «ما أوسع أحلامك! وما أكثر أوهامك! كيف خيل لك الغرور هذا، حتَّى توهمت مصر في قبضة يدك، وهي فوق ذلك سُنية المذهب، ورجال دولتها كلهم من الأتراك السُّنيين؟»
قال: «أنا أعلم ذلك يا سيدي، ولكنهم منقسمون على السيادة، وطالب السيادة الآن رجل حازم ناقم على السلطان الحاضر في مصر؛ لأنه ساءه بأمر له ارتباط بقلبه، فهو يبذل جهده في غرضنا، وهو ناقم أيضًا على خليفتك هذا لأنه أخذ خطيبته منه، ولا يلبث أن يأتي للانتقام، فإذا ساعدناه على قتل هذا الخليفة وبايعناه سلطانًا على مصر، أطاعنا في إعلان الخلافة الفاطمية بمصر، فنعود إلى عزنا ونتخلص من هؤلاء الظالمين.» وأبرقت أسرته كأنه نال ذلك فعلًا، فقد كان من أهل الخيال وأصحاب الأوهام الذين يستسهلون الصعب ويتوهمون وقوع المحال، إذا تصور أحدهم أمرًا يتمنى حدوثه تذرع إلى تصديقه بأوهى الأسباب، وأغضى عما يعترضه من العقبات أو يحول دون الحصول عليه من الموانع الطبيعية، وهذه الفئة من الوهميين كثيرة، وبخاصة في بلاد المشرق. ولعل الفرق بين النجاح والفشل إنما هو في تقدير الحقيقة حق قدرها والاحتياط للحوادث قبل وقوعها.
أما مؤيد الدين فإنه كان من أهل التدبير والحزم، ينظر في العواقب ويتدبرها ولا تأخذه الأوهام، ولولا ذلك لم يصل إلى منصب الوزارة في دولة مذهبها غير مذهبه، وبين قوم يكرهون الشيعة ويفتكون بهم. فلما سمع كلام سحبان استخف برأيه، وبخاصة لأن ابن العلقمي لم يتطوح بمطامعه إلى هذا الحد، لعلمه بعجز الشيعة عن النهوض، ولكنه كان يكتفي بأن يبدل خليفة بخليفة، فلم يشأ أن يفاتح سحبان بهذا الأمر وعمد إلى الاختصار في الحديث فقال: «سننظر في ذلك في وقت آخر.»
فأحس سحبان بما يضمره من احتقار رأيه، فقال: «يظهر أنك لم تكترث لقولي، أو لعلك استبعدته، ولو عرفت الأسباب التي عندي لوافقتني.»
قال: «نعم يا صديقي، رأيت مطمعك بعيدًا يكاد يكون محالًا.»
وكان سحبان يحترم رأي مؤيد الدين، فقال: «إذا كان رأيي ضعيفًا فأسمِعني رأيًا خيرًا منه، أم أنت ترى أن نبقى في هذا الذل إلى الموت ونحن سكوت؟»
قال: «كلا، لا ينبغي أن نبقى كذلك، لكن علينا أن نفكر ونقيس ونحتاط لا أن نرمي الكلام على عواهنه ونطلب المحال.»
قال: «إذن يا سيدي ما هو الممكن من ذلك، وما هي الطريقة للنجاة؟»
قال: «لقد أحرجتني واضطررتني للكلام يا سحبان، ولم أكن أحب التصريح بما في خاطري الآن، فأعلم أننا نحن الشيعة لا ينبغي لنا أن نطمع في إعادة دولتنا اليوم؛ لأن الأسباب لا تساعدنا على ذلك، ولكن لا بد من أن يأتي يوم يتمكن فيه أبناؤنا منه. أما الآن فيكفينا تغيير هذا الخليفة الضعيف المشتغل باللهو والغناء بخليفة عاقل حازم ينصفنا؛ هذه هي الخطة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا.»
فأطرق سحبان وهو يعمل فكرته، وقد استصغر نفسه واستضعف رأيه، وكان مع قربه من التوهُّم سريع التقلب سهل الانقياد، فاستصوب رأي ابن العلقمي، وقال: «صدقت يا سيدي، إنك في الحقيقة وزير مدبر عاقل. قل لي ما هي المعدات التي أعددتها لتنفيذ هذا المشروع؟»
فنهض مؤيد الدين وهو يظهر أنه ملَّ الحديث، أو أنه لا يريد التصريح بأفكاره لسحبان، ووجه التفاتةً إلى جسر بغداد القائم على السفن المستديرة، فإذا هو يعج عجيجًا بالناس على غير المعتاد، وقد تزاحمت عليه الأقدام، وأكثر المشاة يركضون كالهاربين من حرب، فلم يستطع أن يتبين الوجوه، لكنه توسم في الأمر شيئًا مهمًّا، والتفت نحو سحبان فرآه أكثر منه دهشة، وكان أحدَّ منه بصرًا، فصاح: «ألا ترى يا مولاي؟ ألا ترى؟ هؤلاء أجناد الخليفة لعلهم عائدون من حرب يجرُّون وراءهم الأسرى والسبايا.»
فقال وقد أجفل: «وأي حرب؟»
قال: «لا أدري، ولكنني أرى جندًا وهذه راياتهم أمامهم، وإذا صدق ظني فأني أرى راية الداودار في مقدمتها، وقد ذكرني ذلك بما كنت أراه من تعدي هؤلاء الأجناد على قومنا في الكرخ والكاظمية.»
فحدق مؤيد الدين في المارة فلم يستطع أن يتحقق شيئًا، وإذا هو يسمع ضوضاء في داره أشبه بالعويل منها بالصياح، فأطل من نافذة تشرف على فناء الدار، فرأى جماعة من النساء يبكين ويعولن وقد تلطخت أثوابهن بالدماء والتراب، ومعهن شيخ أحنى ظهره الكبر وهو يتوكأ على عكاز ويبكي، فتفطر قلبه لهذا المنظر، ولكنه لم يعرف القوم، وكان سحبان واقفًا بجانبه ينظر إلى الدار، ولم يكد يتفرس قليلًا حتَّى صاح: «وا أبتاه!»
فأجفل ابن العلقمي وقال: «من هذا؟ لعله أبوك؟»
قال: «هو أبي يا سيدي، أعهده مقيمًا في الكرخ بسلام وأمان، ماذا جرى له؟» قال ذلك واستأذن في النزول، فنزل ومؤيد الدين في أثره.
ولم يكد سحبان يصل إلى الدار حتَّى سمع أباه يقول: «أين الوزير، أن مؤيد الدين؟» ولما وقع بصره على مؤيد الدين صاح فيه: «أنت وزيرنا ويصيبنا ما أصابنا؟ إذا كان ذنبنا أننا نحن أهل البيت الكرام، فقد قبلنا العقاب على الرأس والعين، والله يجزي كل نفس بما فعلت.»
وكان سحبان قد وصل إلى أبيه وقال له: «أبي ماذا جرى، ماذا أصابكم؟ كيف خرجتم من البيوت على هذه الصورة؟»
فالتفت الشيخ إلى ابنه، ولمَّا تبينه ألقى عصاه وأكبَّ عليه وقبَّله، وأخذ في الشهيق والبكاء وقال: «ولدي سحبان؟ أنت هنا؟ متَى جئت؟ آه يا ليتك جئت عندنا قبل مجيئك إلى هنا. لا، بل أراك أحسنت بابتعادك عنا لئلا تصاب بما أصيب به إخوتك.»
فاقشعر بدنه وقال: ««إخوتك»؟ ماذا أصابهم؟ من فعل بكم ذلك؟» قال: «ألا تعلم ممن تأتي مصائبنا؟ إنها تأتي من …» والتفت حوله وهو خائف وعيناه يغشاهما الدمع وقال: «أنت تعلم ممن.»
فقال: «لعل هؤلاء الجنود المارين على الجسر كانوا عندكم.»
فصاح: «إننا هاربون منهم، وجئنا إلى هنا نلتجئ إلى مولانا مؤيد الدين.» والتفت إلى الوزير وقال: «آه يا سيدي، أنقِذنا من هذا العذاب، أخرجنا من هذا البلد.» والتفت إلى سحبان وقال: «إنك تفر من هذه المصائب كل سنة وتنجو بنفسك وتتركنا وإخوتك في هذا الخطر. يا إلهي متَى نخلص من هذا العذاب؟»
فأجابه سحبان وهو يرتعد من الغضب: «عن قريب إن شاء الله.»
والتفت إلى مؤيد الدين فرآه واقفًا يسمع ويتجلد، وقد أومأ إلى النساء أن يدخلن دار الحريم، ونظر إلى الشيخ وتلطف في خطابه وقال: «تفضل يا عماه واجلس هنا، خفِّف ما بك وقص عليَّ ما جرى.»
قال ذلك وقعد وأقعد الشيخ بين يديه، وسحبان واقف لا يريد أن يجلس من شدة الغضب، فأخذ الشيخ يقص حديثه فقال: «أنت تعلم يا مولاي حالنا مع هؤلاء القوم، وكيف يناوئوننا ويعذبوننا ونحن صابرون ننتظر الفرج، لكنهم لم يرتكبوا مثل ما ارتكبوه هذه المرة من القتل والسبي، فإنهم لم يُبقوا على الأموال والأعراض.» وغص بِرِيقه وشفتاه ترتعشان، فتشاغل بالبحث عن عصاه.
فتأثر مؤيد الدين من منظره، ونظر إلى سحبان فرآه يمسح عينيه ويخجل أن يراه الناس باكيًا، فتجلَّد وأخذ يخفف عن الشيخ فقال: «يا عماه، هون عليك، لكل شيء نهاية، والله مع الصابرين. ثم ماذا جرى؟» قال: «لا تسألني يا بني عما جرى فإنه يفتت الأكباد، يكفي ما ترونه.» وجعل يمسح عينيه، وأنامله ترتجف، فأجابه سحبان: «قد تعودنا هذه الشدائد منهم، ولكن …» فقاطعه أبوه قائلًا: «لا، لا، ها أنا ذا قد أدركت الشيخوخة في هذا البلد مع هؤلاء القوم، وشاهدت نكبات عديدة ليس فيها واحدة مثل هذه؛ كانوا يعتدون على بعض المارة أو يتهمون بعض الرجال بأمر يسوغون به لأنفسهم مصادرة ماله أو إهانته، أما الآن فإنهم دخلوا المنازل بلا حجة ولا سبب، وداسوا مخادع النساء، وارتكبوا الفاحشة وقتلوا الأطفال. دعني لم أعد أستطيع الكلام، ولا أبالي إذا مت، وإنما أطلب من الله أن يبقيني حيًّا لأرى زوال هذه الدولة.» ثم أسرع تنفسه وأوشك أن يغمى عليه، فرشُّوه بالماء، وبادر ابنه إليه فأعانه حتَّى أدخله غرفة استراح فيها، وذهب توًّا إلى دار الحريم وكلف بعض الخصيان أن يجمعه بأخته، وكانت مع النساء. فجاءت وهي تبكي وتندب وقد قطعت شعرها، فقال لها: «أخبريني يا صفية ماذا جرى لكم؟ هل أصيب أحد منكم بسوء؟ أين إخوتك؟
فضربت كفًّا بكف وقالت: «لا أدري هل هم أحياء أم أموات؟ ويلاه! أين كنت فلم تشاهد المذابح؟ إنهم دخلوا مخدعي وأوشكوا أن يمسوني، أعوذ بالله …»
فاقشعر بدنه من هذا التعبير، ولم يَرَ بدًّا من التجلد بين يديها، فقال: «الله منتقم يا أخية، وسوف ينتقم من القوم الظالمين.» وتحول إلى الدار فلم يجد مؤيد الدين هناك، فسأل الخدم عنه فقالوا إنه في حجرته يلبس ثيابه، فعلم أنه عازم على الذهاب إلى قصر الخليفة في هذا الشأن، فسره أنه غضب وود ألا يفلح في مهمته لعله يعمل بمشورته ويعزم على التخلص من هذه الدولة.
وذهب إلى أبيه فرآه قد صحا واستراح، فجلس إليه وأخذ يخفف عنه ويسأله عن تفصيل ما جرى، فلم يزدد إلا دهشة وغضبًا لما سمع، لكنه أخذ يهون على أبيه بأنه سينتقم له، وإن الله لا بد أن يبيد الظالمين، ونحو ذلك من عبارات التعزية، وقد تعودها الشيعة في بغداد لكثرة ما توالى عليهم من الإحن.
•••
لبس مؤيد الدين قلنسوته وقباءه الأسود، ثم ركب بغلته إلى قصر التاج ليرى الخليفة ويشكو إليه ما فعله جنده مما لا يحتمل، والغلام يركض بين يديه. فمر بالمدرسة المستنصرية والقصر الحسني حتَّى وصل إلى قصر التاج، فدخل بساتينه والخدم يوسعون له. فلما وصل إلى بابه الأكبر تَرجَّلَ ودخل مسرعًا، والغضب بادٍ في محياه، حتَّى إنه لم يحسن رد التحية على من لقيه في طريقه من الخاصة.
فلما بلغ باب العامة مشى الحرس بين يديه، فسأل صاحب الباب عن الخليفة، فقال: «إنه جالس في منظرة المسناة، فهل أستأذن لمولاتي الوزير؟» قال: «هل هو وحده هناك؟» قال: «عنده بعض الخاصة والمغنين.» فشق عليه ذلك لأنه طالما فكر فيه وتكدر منه، فقال له: «استأذن لي عليه، أو قل له إني أحب لقاء أمير المؤمنين حيثما يشاء.»
فذهب الغلام وعاد وهو يقول: «لا يرى أمير المؤمنين بأسًا من دخولك إلى المنظرة.» فلم تعجبه هذه الدعوة لأنه كان يحب أن يراه على حدة، لكنه لم يَرَ بدًّا من الطاعة، فدخل من دهليز إلى دهليز، والخصيان يوسعون له حتَّى أطل على المنظرة، وهي كالعريش أو «الكشك» تشرف على دجلة، فوقها قبة من الخشب مزخرفة بالنقوش والتذهيب الجميل. وأرض المنظرة مفروشة بالبسط الثمينة عليها الرسوم البديعة، وفوق البسط الوسائد المطرزة، وفي وسط المنظرة مائدة عليها ألوان الفاكهة والحلوى، والمستعصم في صدر المكان قد اتكأ على مرتبة عالية كالسرير، وعليه ثوب أبيض مذهب يشبه القباء، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك، وكأنه يتعمد بذلك تقليد زي الأتراك. وكان المستعصم أسمر اللون، مسترسل اللحية، رَبعة القوام، لا بالطويل ولا القصير، ظاهر الحياء، لين الكلام، سهل الأخلاق، إلا أنه ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموع فيه. وبين يدي المنظرة دجلة يجرى وفيه الزوارق المعدة لركوب الخليفة متَى شاء.
فاستعاذ مؤيد الدين من هذه المقابلة، وود لو أنه لم يأتِ في تلك الساعة، لكنه لم يسعه إلا إلقاء التحية بالاحترام اللائق، فأشار إليه المستعصم أن يجلس على وسادة بالقرب منه وقال: «مرحبًا بوزيرنا الهمام.»
فتأدب في الجواب وتقديم الاحترام، والتفت إلى الحضور فلم يجد بينهم من يحترم مجلسه أو يعتد بوجوده، وإنما هم طائفة من خاصة الخليفة العائشين في داره، وقيِّم القصر، وأستاذ الدار، ويعرف بالصاحب، وله قدر كبير عند الخليفة ويدعى له على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وقلما يظهر للعامة، اشتغالًا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار ومراقبتها والتكفل بها وتفقدها ليلًا ونهارًا.
وما كاد الوزير يجلس حتَّى أشار الخليفة إلى المغني أن يعيد ما غناه، وراح يظهر طربه الشديد، متجاهلًا ما يقتضيه منصب الخلافة من الوقار، وكان أعوانه يعرفون ذلك فيه فيعده بعضهم لطفًا وظرفًا، ويعده الآخرون ضعفًا وتهاونًا، وهذا هو رأي مؤيد الدين فيه، على أنهم أجمعوا على حسن طوية الخليفة، ولعل ذلك من أسباب ضعفه التي جعلت سبيلًا لأرباب الدسائس إليه.
•••
كان مؤيد الدين يسمع الغناء وهو مطرق يفكر فيما جاء من أجله، وينتظر أن يسأله الخليفة عن شأنه. فلما أتم المغني دوره التفت المستعصم إلى الوزير وقال: «هل سمعت أشجى صوتًا وأرق نغمًا؟ أن هذا اللحن يطربني كثيرًا، وهناك لحن آخر قريب منه لم أجد من يجيده في بغداد، وقد بلغني عن مغنية في دار سلطان مصر تجيده فبعثت في استقدامها لكنها لم تصل إليَّ.» قال ذلك وسكت وقد انقبض وجهه، ثم استطرد قائلًا: «وكنت معتزمًا أن أبعث إليك منذ أيام لأخبرك بذلك، وأستعينك في البحث عن هذه المغنية؛ لأني على ثقة من أنها وصلت إلى بغداد، لكن بعض اللصوص أخذوها من الركب الآتي بها من مصر، فهل تبحث عنهم؟» فأشار مؤيد الدين مطيعًا وقال: «لا بد من البحث عن كل لص ومعاقبته؛ إذ لا يليق أن يتجرأ أحد على جريمة في أيام مولانا أمير المؤمنين أيده الله.» وأحب أن يتطرق إلى ما جاء من أجله، فتصدى له أستاذ الدار وقال: «أن تجرؤ اللصوص على خطف مغنية محمولة لمولانا أمير المؤمنين لَأمر لم يسمع بمثله، وهو يدل على ضعف سلطة الحكومة وقلة هيبتها في عيون الناس، وكان المرجو من الوزير — حفظه الله — ألا يترك سبيلًا إلى مثل ذلك.»
فوقع هذا الكلام وقوع السهم في قلب مؤيد الدين، ولم يُطِقْ صبرًا على السكوت عنه، وعلم أن الأستاذ الخصي يريد أن يظهر لدى مولاه في مظهر الغيور على مصالح الدولة، فاستثقل ذلك منه، وعدَّه جسارة خارجة عن حدود اللياقة في مجالس الخلفاء، فالتفت إليه وقال: «صدقت يا أستاذ، لا ينبغي أن يقع مثل ذلك، وتَبِعَتُه تُلقى على الوزير إذا كان الأمر راجعًا إليه، فإن أرواحنا فداء أمير المؤمنين في الذَّب عن الدولة وبذل الجهد في طاعته، ولكن هذه الأمور وأمثالها تقع أحيانًا ولا حيلة للوزير في دفعها.» ثم حوَّل بصره إلى المستعصم وقال: «وكثيرًا ما يقع هذا ونتلافاه بدون أن يبلغ إلى سمع مولانا أمير المؤمنين، حتَّى الجند فإنهم يرتكبون أمورًا لا يليق بهم ارتكابها، ولا أدري هل يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم.» قال ذلك وتغير وجهه، وظهر للخليفة أنه يحمل شكاية يريد إيصالها فقال له: «لا ينبغي أن يقع شيء من ذلك إلا بإذن منا أو من وزيرنا أو من أستاذ دارنا. وهل وقع شيء من هذا القبيل قريبًا؟»
قال الوزير: «أرفع إلى سمع مولاي أمير المؤمنين أن جماعة من أهل الكرخ أتوني الساعة وفيهم الشيوخ والنساء يبكون ويندبون، وقالوا إن شرذمة من الجند نزلوا عليهم ونهبوا منازلهم وقتلوا من وقف في طريقهم وارتكبوا الفاحشة وغير ذلك.»
فتصدى أستاذ الدار وقال وهو يهز رأسه هز الاستهزاء: «أهل الكرخ؟ أهل الكرخ تعودوا هذه الشكاية فلا يمضي عام أو شهر إلا سمعناها منهم.»
فاستقبح مؤيد الدين تعرضه ووقاحته، واستغرب اعتراضه، فقال وهو يخاطبه: «تعود أهل الكرخ الشكوى لأن الجند تعودوا أن يؤذوهم و…»
فقطع الأستاذ كلامه وقال: «وإن لم يؤذوهم، فإنهم يحبون الشكوى. هذه عادة الشيعة.» ونظر إلى الحضور وضَحك ضِحك الاستخفاف.
فأثر ذلك في خاطر ابن العلقمي تأثيرًا سيئًا جدًّا، وحول وجه عن الرجل وهو يقول: «لم أكن أظن أحدًا يجسر على هذا القول في حضرة مولانا أمير المؤمنين.» وسكت.
فتصدى المستعصم للكلام وقال: «لا أستحسن ما جرى بينكما، ولا حق للأستاذ أن يتكلم بهذه اللهجة، فإذا اشتكى أهل الكرخ أو غيرهم فعلينا أن ننظر في شكواهم وننصفهم.» ووجه خطابه إلى مؤيد الدين وقال: «ماذا جرى أيها الوزير؟»
فاتجه هذا نحو الخليفة وقال: «بلغني يا مولاي أن شرذمة من الجند سطت على الكرخ في هذا الصباح وأمعنت في أهله قتلًا ونهبًا، وقد رأيت جماعة من المصابين وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال فلم أشأ أن أفعل شيئًا قبل أن أستطلع رأي مولاي.»
فقال الخليفة وهو يُظهر الاهتمام: «إن هذا منوط بالداودار قائد الجند، فينبغي أن نسأله عما بعثه على ذلك، لعل له عذرًا.» وصفَّق فجاء الحاجب، فأمره أن يستقدم الداودار حالًا.
وعاد الخليفة فأشار إلى المغني أن يعود لغنائه، واقترح عليه لحنًا غناه وهو يعزف على العود، فطرب الجميع، إلا ابن العلقمي؛ فإنه كان يغلي من الغضب وهو يتجلد.
وبعد قليل جاء غلام وقال إن الداودار بالباب، فأمره الخليفة أن يذهب به إلى دار العامة ينتظر حضوره. ثم نهض وأشار إلى الحضور بالانصراف، وأومأ إلى الوزير أن يتبعه، فسار في أثره نحو دار العامة، وهي قاعة الاستقبال الخاصة بالأعمال.
ودخل الخليفة أولًا غرفة الألبسة، وجاء صاحب الثياب فألبسه ما تعود لبسه إذا جلس لمقابلة الناس: العمامة الكبرى والجبة وغيرهما. ثم أقبل على دار العامة من باب داخلي، وهي مفروشة أحسن فرش بالستائر والنمارق والأرائك، يقلدون بها ما كان من أسباب البذخ في صدر الدولة العباسية. فلما دخل الخليفة القاعة جلس على سريره، وأومأ إلى ابن العلقمي أن يقعد، ثم أمر الحاجب أن يدخل الداودار. وكان ابن العلقمي قد سري عنه، فدخل الداودار وألقى التحية ووقف متأدبًا، فقال له الخليفة: «يقول وزيرنا — حفظه الله — إن الجند سطوا على الكرخ وقتلوا ونهبوا؛ هل أنت عالم بذلك؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وتقول نعم؟ وكيف أذنت بوقوعه؟»
قال: «فعلته بأمر من مولاي الأمير أبي بكر نجل مولانا أمير المؤمنين.»
قال: «إذا قال لكم أحمد — أبو بكر — اقتلوا الناس قتلتموهم بلا سبب.»
قال: «لم أسمح بإرسال الجند إلى الكرخ بلا سبب، لكن مولاي أبا بكر قال إن جماعة من أهل الكرخ خطفوا جارية من جواريه وخبئوها عندهم، فذهبت للبحث عنها عند صاحب الشأن فمنعونا من الدخول وجردوا علينا السلاح، فأمرني الأمير بالدفاع والتفتيش، وقد فعلت.»
فقال الخليفة: «ذهبتم للتفتيش عن جارية أُخذت من بيت أحمد فقتل بسببها عشرات من الناس، فلوا فعلت مثل فعلكم بسبب الجارية المغنية التي أُخذت مني لَحدث مثل هذا وأعظم منه. إن هذا لا يليق بنا. أين أحمد؟»
فأجابه الداودار: «أظنه في قصره يا مولاي.» فقال: «ادْعُه إليَّ حالًا.»
فلما شاهد مؤيد الدين غضب الخليفة على ابنه استبشر بنجاته من تطاوله وتدخله في أمور الدولة، ونظر إلى المستعصم فرآه مطرقًا والغضب يتجلى في وجهه، لكنه لم يتبين من ذلك الغضب حزمًا وعزيمة — وتلك كانت علة الخليفة — لم يكن ينقصه حسن القصد، وإنما كان ينقصه الحزم. فظل مؤيد الدين صامتًا مطرقًا حتَّى دخل الحاجب وأنبأ بمجيء الأمير أحمد، فأمر الخليفة بدخوله.
•••
دخل أبو بكر، وهو شاب في مقتبل العمر، قد أخذه الغرور، تمازج حركاته خيلاء لا تظهر إلا على الأدمغة الفارغة، ولا سيما في أوائل الشباب؛ فقد كان في حوالي السنة العشرين من العمر، وتلك هي سن الغرور في كل شاب؛ إذ يتوهم صاحبها أنه بلغ الكمال في كل شيء؛ إذا مشى حسب الناسَ ينظرون إليه إعجابًا بجماله أو بسالته، وإذا قال قولًا توقع أن يكون له وقع الوحي على القلوب، فإذا آنس منهم فتورًا أو احتقارًا غضب وأنحى عليهم باللائمة ورماهم بالجهل أو الحسد لأنهم بخسوه حقه، وبأنهم إنما فعلوا ذلك تقليلًا من فضله. ونحو ذلك من غرور الشباب.
فإذا كان ذلك شأن الشباب على اختلاف طبقاتهم، فكيف بأبناء الملوك والخلفاء الذين لا يسمعون إلا التحبيذ والإطراء؟ وبخاصة إذا كان في الشاب خفة وصغار مثل أحمد هذا الذي زاده غرورًا أن أباه أطلق سراحه من محبسه على غير المعتاد عند الخلفاء قبله، فأصبح لذلك لا يحسب للعواقب حسابًا، بل هو لا يدرك حقائق الأمور، وإنما يهمه أن تنفذ كلمته وينال مشتهاه مهما يكلفه ذلك.
دخل أبو بكر وألقى التحية، وتلفت يمينًا وشمالًا فوقع بصره على مؤيد الدين، فنظر إليه باحتقار، ومؤيد الدين لا يبدي ملاحظة. وقعد أبو بكر قبل أن يأذن له أبوه في القعود فقال له المستعصم: «يا أحمد أنت أمرت الداودار بالهجوم على أهل الكرخ؟»
فأجاب وهو يبتسم نكاية في مؤيد الدين: «نعم يا أبي.» قال: وكيف ذلك؟ ولماذا؟» قال: «لأن جارية من جواريَّ هربت من قصري واختبأت في منزل أحدهم، ولا شك أنهم حملوها على الفرار وخبئوها، فبعثتُ من يأتي بها فشتموا رسولي وضربوه، فأمرت الداودار أن يؤدبهم فتمردوا عليه، فاضطر — للدفاع عن نفسه — أن يضربهم وقد فعل، وما المانع من ذلك؟»
فقال المستعصم: «المانع أنه لا يليق أن تحدث مذبحة يُقتل فيها عدة رجال من أجل جارية، وأنت تعلم أن في قصورنا ألوفًا من الجواري، فلو طلبتَ مني عشر جوارٍ بدل الجارية لكان ذلك أهون عليَّ مما أسمعه، والجواري كلهن سواء.»
فاعتدل في مجلسه وهو يصلح منطقته بدلال وأنفة وقال: «إذا كانت الجواري سواء، وفي قصورنا ألوف منهن، فما الذي حمل أمير المؤمنين على أن يبعث في طلب جارية من سلطان مصر.»
وكان مؤيد الدين يلاحظ ما يتقلب على وجه المستعصم من الملامح ليرى ما يكون تأثير قول ذلك الغلام فيه، فإذا به لما سمع اعتراض ابنه غلب عليه ضعف العزيمة وعمد إلى الاسترضاء وقال: «أنا لم أطلب تلك الجارية من سلطان مصر إلا لتفردها بغناء أصوات لا يستطيعها سواها، وأما …»
فقطع أحمد كلام أبيه بكل وقاحة واستخفاف وقال: «وما أدرك أن تكون جاريتي هذه غير ممتازة بمناقب لا توجد في سواها؟ وما أجدرني أن أقتدي بوالدي وهو أمير المؤمنين، قدوة سائر المسلمين.»
فحمل المستعصم هذا القول محمل التهكم، وخجل من أن يسمعه أمام مؤيد الدين والداودار ولا يرد عليه فقال: «أهكذا تجيبني يا أحمد؟ وهل يحق لكل واحد أن ينال ما يناله أمير المؤمنين؟ إن عملك هذا لا يرضيني.»
فهز أحمد رأسه وقال: «يكفي أن يرضيني أنا. وهل أعمال أبي ترضي كل إنسان؟ لا يُطلب من المرء أن ترضي أعماله كل الناس.»
وبعد أن كان المستعصم قد صرح بإنكاره تهكم ابنه حمله ضعفه على المغالطة، وتناسى تهكمه فابتسم وقال: «وبعد تلك المقتلة هل ظفرت بالجارية؟»
قال: «كلا، ما زالت مختبئة، ولا بد من العود إلى البحث عنها.»
قال: «لا يا ولدي، لا تبحث عنها هكذا، وسأكلف أنا وزيرنا مؤيد الدين أن يتحرى عنها حتَّى يقف على مكانها ويعيدها إليك.»
فنظر أبو بكر إلى مؤيد الدين لحظة ثم حول وجهه عنه نحو الداودار وقال: «إذا لم يقف على مكانها فنحن نقدر على إخراجها من مخبئها، ولو كانت في جيب الوزير أو بين أهله.» ثم نهض وقال: «أستأذن سيدي الوالد في الانصراف الآن لأني على موعد مع بعض القواد للخروج إلى الصيد.» وخرج ولم ينتظر إذن والده، وأومأ إلى الداودار أن يتبعه فتبعه، والمستعصم ينظر إلى ابنه وهو خارج وقد بان اليأس في وجهه، ثم حول بصره إلى مؤيد الدين وتنهد وقال: «صدق القائل: «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض».» ودمعت عيناه.
فأطرق مؤيد الدين وهو يتعجب من ذلك الضعف، ولبث في انتظار خطاب الخليفة حتَّى سمعه يقول: «يا مؤيد الدين، إنك وزيري وموضع ثقتي، وقد رأيت ما أظهره أحمد من الاستخفاف بقولي، وأظنني أخطأت بإطلاق سراح أولادي، فخالفت بذلك تقاليد أجدادي. لو كان أحمد كما كان أبناء الخلفاء قبله لكُنَّا في غنًى عما نحن فيه.» وتشاغل بإصلاح لحيته، فلم يشأ مؤيد الدين أن يخوض في هذا الموضوع خوفًا من تغلب عاطفة الحنو في نفس الخليفة مما قد يحوِّل غضبه إليه، وبخاصة أنه يعلم ضعفه من جهة ابنه هذا. فقال المستعصم: «نطلب من الله أن يهدي هذا الغلام إلى صوابه، أنت أب تعرف قلوب الآباء، فأتقدم إليك أن تساعدني في البحث عن جارية أحمد، وأن تعوض على أهل الكرخ خسائرهم. وإني آسف لما وقع وعسى ألا يتكرر.» ثم تنحنح وهمَّ بالنهوض وهو يقول: «لا يبرح من بالك أيضًا أن تبحث عن الجارية شوكار، المغنية التي استقدمناها من مصر وخطفها اللصوص قرب بغداد.»
فنهض مؤيد الدين وطأطأ رأسه طائعًا وقال: «إني عبد أمير المؤمنين، وفَّقني الله في خدمته، ولكنني …»
فقطع الخليفة كلامه قائلًا: «أنا أعلم أن أحمد لم يكن ينبغي له أن يقول ما قاله، لكنه لا يزال شابًا قليل الاختبار، ولا يلبث أن يهتدي إلى الصواب.» وتحوَّل كلٌّ منهما في طريقه.
•••
خرج مؤيد الدين بن العلقمي من قصر التاج وركب بغلته عائدًا إلى قصره وهو غارق في التفكير، تتنازعه عوامل مختلفة، لكن الخوف متغلب عليها كلها.
ولما دنا من قصره رأى في موقف الدواب بغلتين إحداهما بغلة سحبان، وقد عرفها، والثانية لم يكن قد رآها من قبل، فتقدم غلامه إلى الباب وقرعه، ففتح على سعته ودخل مؤيد الدين ببغلته إلى مدخل الباب وترجَّل هناك، فتناول الغلام زمام البغلة وساقها إلى مكانها، ومشى مؤيد الدين وكان البواب يسرع بين يديه، فقال له: «من هو صاحب البغلة الأخرى المربوطة هنا؟»
قال: «إن صاحبتها امرأة جاء بها سحبان من وقت قريب، وهو في انتظار مولانا الوزير في الشرفة.»
قال: «قل له يأتي إلى غرفتي، من هي المرأة التي معه؟»
قال: «لا أدري يا سيدي، لكنه بعد خروجك أخذ أباه وأخته إلى الكرخ ثم عاد الساعة ومعه هذه المرأة وأظنها جارية.»
وكان مؤيد الدين قد دخل غرفته وأهل بيته يعلمون أنه إذا دخلها لا يدخل عليه أحد إلا بإذن خاص، وسأله الطاهي: هل يريد الطعام فقال: «هيئ لي مائدة مختصرة أدخلها إلى هنا، وليأتِ سحبان للأكل معي.»
ودخل فبدَّل ثيابه، ولم يكد يفرغ من اللبس حتَّى جاء سحبان وفي وجهه أمارات البِشْر، وكان قد فارقه واليأس غالب عليه، فاطمأن مؤيد الدين بعض الشيء، وابتسم ابتسامًا لم يتعد شفتيه وقال: «ما وراءك يا صاحبي؟» قال: يظهر أنك غضبت مما شاهدته في قصر التاج، ليس عند القوم ما يفرح.» وابتسم.
فقال مؤيد الدين: وهل عندك شيء يفرح يا سحبان؟ بالله قل إن صدري قد ضاق مما أراه وأسمعه. تَقدَّمْ كُلْ معي.»
فأتى على دعوته وتناول سكباجة وتشاغل بتقطيعها وهو ينظر إلى وجه الوزير ويقول: «لديَّ خبر يسرك ويوجب استغرابك ودهشتك.»
ومال مؤيد الدين إلى استطلاع ذلك الخبر، فتوقف عن المضغ وقال: «ما ذلك؟ قيل لي إنك جئت ومعك امرأة، من هي؟» ثم عاد إلى المضغ.
فضحك سحبان وبادر إلى قطعة من السكباجة أدناها مِن فيه وهو يقول: «هي طلبة الأمير أحمد، وهي الجارية التي فتك بأهل الكرخ من أجلها.»
فقال: «كيف ظفرت بها؟ الحمد لله على ذلك قد خلصنا من شر هذا الغلام، أين كانت؟»
قال: «كانت مخبأة عند جيراننا، وأختي عالمة بذلك، لكنها كتمته واحتملت الخطر من أجل كتمانه كما علمت، لأنها رأت الجارية تكره أن تعود إلى أحمد هذا، فلما جرى ما جرى وعدت أمس مع أهلي، قصت عليَّ أختي خبر هذه الجارية وأرتني إياها، فأتيت بها إلى هنا.»
قال: «حسنًا فعلت؛ لأن الخليفة ألحَّ في التوصية بأن نبحث عن هذه الجارية ونعيدها إلى ابنه حذر طيشه، وقد حيرني هذا الوالد بضعفه وحنوه.»
فقال سحبان: «لكن الجارية لا تريد أن تعود إليه.»
قال: «هي وشأنها، نحن ندفعها إلى الخليفة ونتخلص من تبعة أمرها.»
قال: «إنها أشد كرهًا للخليفة، ولا تريد أن يعرف بوجودها هنا.»
قال: «وكيف ذلك؟ لم أسمع أن الجواري يرفضن التقرب من الخلفاء.»
قال: «لهذه الجارية شأن خاص لا يعرفه أحد في بغداد سواي.»
قال: «لله أنت! ما أكثر ما تعرفه!
قال: «لا أعرف ذلك لذكاء خاص أو لكرامة أو ولاية، ولكن الأسفار تعلِّم الإنسان أشياء كثيرة.» قال: «وما علاقة ذلك بالأسفار؟» قال: «إني رأيت هذه الجارية بمصر وعرفت حديثها، وهو ذو شجون، لو عرفته لتولتك الدهشة من غرائب الاتفاق.»
فازداد رغبة في الاستطلاع وقال: «قل يا سحبان، لا صبر لي على الإطالة.» قال: «ألم تسمع شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصر وخطفت قبل وصولها إلى قصره؟ إنها هي هذه الجارية نفسها.»
قال بدهشة: «هي نفسها الجارية التي فرت من ابنه إلى الكرخ؟» قال: «نعم يا سيدي هي بعينها، هي شوكار جارية شجرة الدر التي سمع الخليفة برخيم صوتها وجودة صنعتها على العود، فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه. وقبل دخولها بغداد سطا عليها بعض الناس بحجة أنهم قادمون من قصر الخليفة لحملها إليه وفروا بها. وتحدث أهل بغداد بذلك زمنًا ثم سكتوا، وكان الباعث على ذلك السطو أن أبا بكر لما سمع بالجارية القادمة إلى أبيه رأى أنه أَولى بها، فبعث من قِبله أناسًا أخذوها من القادمين بها بدعوى أنهم آتون من قصر التاج لاستقبال مغنية أمير المؤمنين، فلما صارت في أيديهم أخذوها إلى قصرٍ أعده هذا الشاب لمثل هذه الحاجة، وكان أهل قصر التاج في انتظارها. ثم علموا أنها أخذت خلسة لكنهم لم يعلموا أين هي، وما زالوا يجهلون ذلك إلى الآن.»
فاستغرب مؤيد الدين وقاحة ذلك الشاب وقال: «وماذا فعلت شوكار بعد ذلك؟ ألم تستطب مقامها عند هذا الشاب؟»
قال: «إن هذه الفتاة لا يطيب لها المقام في غير مصر؛ لأنها مخطوبة لأمير من أمراء المماليك.»
قال: «مخطوبة؟ وبعث الخليفة يأخذها من خطيبها؟»
قال: «لم يعلم الخليفة أنها مخطوبة، وإنما يعلم أنها جارية شجرة الدر الملكة السابقة، وأنها تحسن الغناء، فطلبها من السلطان الجديد فلم يسعه مخالفة الأمر.»
قال: «من هو خطيبها؟» قال: «هو ركن الدين بيبرس البندقداري.» قال: «ركن الدين بيبرس؟ إنه بطل باسل ورجل حكيم، اجتمعتُ به مرة في مصر ونحن شابان وتكاتبنا غير مرة، إني أعرفه شجاعًا لا يصبر على الضيم، فماذا هو فاعل؟»
قال: «إنه يكاد يتَّقد غيظًا، ولا أخفي على مولاي أنه أسرَّ إلى أمر هذه الجارية وأنا في مصر، وقد تعجلت السفر إلى بغداد في سبيل خدمته، لعلي أقف على خبر خطيبته، وكان قد جاءه كتاب منها تنبئه فيه باختطافها من رجال الخليفة، ولم تكن تعرف من اختطفها، وربما جاء هو بنفسه للبحث عنها.»
فأطرق مؤيد الدين مدة وهو يفكر في حال ذلك الخليفة وابنه، وفي اشتغالهما باللهو عن المُلك وقال: «هل تظن ركن الدين يأتي إلى بغداد؟»
قال: «لا يبعد أن يأتي، والآن إذا أذنتَ فلتبقَ شوكار عندنا ريثما يأتي هو أو نكتب إليه عن نجاتها وننتظر رأيه فيها.»
قال: «وكيف استطاعت الفرار من قصر أبي بكر وهي غريبة هنا؟»
قال: «ساعدها على ذلك خصي كان في خدمتها يعرف أهل المنزل المجاور لمنزلنا، فحملها إليه بحيلة، ولما علم أبو بكر بذلك جاء الكرخ كما علمت، لكنه لم يستطع الوقوف على خبرها، ولما علمتُ اليوم بوجودها أتيت بها إلى هنا لأرى رأيك فيها.»
فأخذ مؤيد الدين يفكر فيما سمعه وهو حذر يقظ، فخاف أن يكون في بقاء تلك الفتاة عنده باعث على سوء الظن به، لعلمه بوجود الجواسيس حوله فقال: «انظر يا صاحبي، إن أمر هذه الفتاة أهمني كثيرًا، وقد فرحت بنجاتها من الأسر، وأحب استبقاءها، لكني لا أرى أن تبقى في منزلي.»
فبادره سحبان قائلًا: «صدقت، وأنا لا أطلب ذلك، وإنما أستشيرك في الأمر، وأحب أن يعلم بيبرس أن نجاتها كانت على يدك، وهو قائد عظيم ننتفع برأيه وحزمه في الأمر الذي تكلمنا فيه، ولا بد من الوصول إليه. إن هذا القائد وعدني وأنا في مصر أنه يستطيع أن يقلب هذه الحكومة ويقتل الخليفة ويقيم لنا الدولة العلوية الشريكة بمصر، وعند ذلك …»
فأسكته مؤيد الدين بالإشارة وهمس في أذنه قائلًا: «لا تتطرف في أفكارك يا أخي، دعنا من التخيلات إلى الممكنات.»
فتعجب سحبان من إنكاره ذلك عليه لأنه كان يعتقد إمكانه، ويعتقد أن ركن الدين وعده به، مع أن ركن الدين لم يبدِ في هذا الشأن غير السكوت. ولكن سحبان كان كثير التعويل على الأوهام فيبني من الحبة قبة، بينما مؤيد الدين كان على عكس ذلك، فلما أنكر عليه قوله اضطر سحبان إلى السكوت والتظاهر بالاقتناع وقال: «هب أن أملي بعيد، ألا ترى في مجيء ركن الدين نفعًا لنا؟»
قال: «قد يكون حضوره نافعًا لنا إذا أحسنَّا استخدامه، ولا محل للكلام في ذلك الآن.»
فقاطعه قائلًا: «ما لي أراك لا تجد محلًّا للكلام. هب أنني وافقتك على رأيك، واكتفيت بإبدال خليفة بخليفة؛ ألا يجوز أن نبحث في هذا؟
قال: «يجوز يا صاحبي، وتراني في حيرة من أمر هذا الخليفة؛ تارة أراه معتدلًا يمكن إصلاحه، وآونة أقطع الأمل في إصلاحه. سنفكر في ذلك.»
قال: «افرض أن المستعصم هذا يمكن إصلاحه، أترى الإمام أحمد بن الظاهر أهلًا ليقوم مقامه؟»
فبغت مؤيد الدين لهذا الاقتراح؛ لأنه طالما فكر فيه ولم يخطر له أحد سوى الإمام أحمد أهلًا له، لكنه لم يكن ليبوح به لأحد، فلما سمع اقتراح سحبان أجفل وظهرت البغتة في عينيه، وزادتا لمعانًا وقال: «لا بأس به، لكنه محبوس في قصر الفردوس كما تعلم ولا سبيل إليه.»
قال: «متَى تم رأينا على أمر لا يقف الحبس في طريقنا، وإنما أطلب إليك أن تصرح لي برأيك، يكفيني منك تكتما، إن التكتم حسن لكنه إذا زاد على حده يفشل صاحبه. قل لي ألا ترى الإمام أحمد أهلًا ليقوم مقام المستعصم.»
قال: «إنه نعم الخلف، ولكن دون الوصول إليه خرط القتاد، وسننظر في الخطوة الأولى، وأفِّضل إصلاح حال المستعصم؛ لأن ذلك يغنينا عن التغيير والتبديل.»
قال: «وأنا أدعوك إلى إصلاحه.» وتحفز للنهوض وقال: «أما تريد أن ترى شوكار وتأذن لها في تقبيل يدك؟»
قال: «لا بأس من ذلك، وإن كنت أرى أن تسرع بإخراجها من هذا المنزل.»
قال: «تقبِّل يدك وتذهب حالًا.» ونهض ومشى ثم عاد ومعه شوكار، وكانت قد تغيرت سحنتها من فرط ما قاسته من العذاب والهموم، فلم يفرج همها إلا في ذلك اليوم لما رأت سحبان وطمأنها على ركن الدين، وأنه بعثه للتفتيش عنها، وأصبحت تتوقع سرعة الرجوع إلى مصر أو وصول ركن الدين إلى بغداد. فلما دخلت على مؤيد الدين أكبت على يده تقبلها، وقد غلبها البكاء وبللت كفه بالدموع، فاجتذب يده من يدها وقال: «لا باس عليكِ يا بنية، لا تخافي، إن أمير المؤمنين لا يظلم أحدًا، وإن الله لا يتخلى عن أحد.»
فأطرقت برأسها حياءً وهي واقفة وقالت: «أحمد الله الذي وسَّط هذا الشهم في إيصالي إليك، وأنا لا أطلب شيئًا غير إرجاعي إلى مصر.» وغصت بِرِيقها.
فقال مؤيد الدين: «ستعودين في خير إن شاء الله.» وتحرك من مقعده ونهض، وأومأ سحبان إلى شوكار أن تتبعه، وودع مؤيد الدين شاكرًا ومشى، فتبعته شوكار، فأسرع إلى إخفائها في منزل لبعض أهله في الكاظمية.